Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

زُهرة وعبد الله والاحتلال


كان ما يواسي زُهرة في مرقدها ويخفّف عنها آلامها ذكرياتها وأسرار؛ نعمْ ذكرياتها، كانت تتذكّر طفولتها وكيف كانت تلعب في حديقة أبيها وتقطف الأزهار، كانت تعشق لمس الزهور البيضاء لِما فيها من نقاءٍ وصفاءٍ، وزراعة زهور الفاوانيا التي تتميّز بلونها البنفسجيّ، وتُزرَعُ في منتصف فصل الخريف، كما أنّها كانت تعشق ركوب الخيل والاهتمام بها. وعندما بدأت ملامحُ البلوغ بالظهور عليها وأصبحت مثل كلّ الفتيات تحلم بفتى أحلامها، صارت تحلمُ بفارسٍ طويلِ القامة، شجاعٍ، مغوارٍ، وبأن تُرزَقَ بعشرة أبناءٍ لتُحسنَ تربيتهم وتجعلهم فرساناً بأخلاقٍ نبيلةٍ وشجاعةٍ لا مثيلَ لها تجعلهم لا يهابون الموت.
كانت زُهرة تبتسمُ وهي تتذكّر أوّلَ مرّةٍ رأتْ فيها محمّداً وهي في التاسعة من عمرها؛ كان وسيماً، ويمتطي خيلاً أبيضَ، وقد كان صديقَ أخيها الوحيد أحمد. وكانت تضحكُ حين تتذكّر كيف تقدّم للزواج منها وهي في سنّ العاشرة، وكيف أنهُ جعل الخطبة والشبكة والدخلة كلها في شهر واحد فقط، معللٍ ذلك بأنهُ لا يريد إضاعة يوم مِن عمرهِ بعيداً عنها وتستمرُّ في الإبحار في بحر الذكريات... محمّدٌ كان لها الزوجَ والحبيبَ والصديقَ، وبعد وفاة أبيها وأخيها في الحرب خصوصاً.
تذكّرت عندما حملت بـأوّل أبنائها إسماعيل وهي ما زالت فتاة الحادية عشرة، وتذكّرت حبَّهُ المجنون لأسرار التي أشعلت في قلبه نيران العشق والاشتياق، ولكنّه لم يستطع أن يكتفي برؤيتها من بعيدٍ فقط، أو أن يكتفي بكتمان مشاعره بين أوراقه، فأصرَّ على التقدّم لها، وخطبَها كي يخطَّ لها سطورَ الغزل، ويرسم معها لوحةً عنوانُها: "غداً أجمل".
أسرار التي لطالما عاشت تائهةً بين التمنّي والدعاء وبين طول غياب حبيب قلبها، كانت تُمضي ليلَها لا تملُّ ولا تكلُّ وهي تكتب رسائل الشوق، وتعبّر عمّا بداخلها من طموحاتٍ ورغباتٍ تريد أن تحيا بها مع حبيبها وزوجها الموعود، لكنْ للأسف؛ ما كلُّ ما يتمنّاه المرءُ يدركه، فما كادَتْ تستمعُ بلحظات السفر في الخيال حتّى عادَتْ إلى أرض الواقع لتحتضن جثمانَ مَنْ سلبَها قلبها وقد رحل من دون استئذانٍ؛ رحل ليتركها محطّمةً من دون حاضرٍ تحياه ومن دون مستقبلٍ ترجوه. وإذا بعبدِ الله يدخلُ على أمّه فينتشلها من ملاذ ذكرياتها.. تغزّلَ بها كالمعتاد، ثمّ اقتربَ منها لكي يقبّل يدها ورأسها ويطلب منها الرضا، فهو من تبقّى لها بعد أن خسرت فرسانها الأحد عشر.
كان عبد الله يحبُّ أن يداعب بطن أمّه، وكان دائماً يضع رأسه على حجرها، ويتكلّم مع أخيه وكأنّه يعلم أنّها ستُرزَقُ بولدٍ. قال لها: "أمّي ادعي لي بالاستشهاد، فسوف نشنُّ غارةً على الأعداء، وأتمنّى أن يكون النصر حليفنا".
لم تستطع زُهرة النطق، والدمعةُ تفرُّ من عينيها، وقلبُها يصرخُ بـِ: "لا وألف لا؛ لقد خسرت أبنائي وأنت من تبقّى لي". ولكنْ هيهات! كيف تمنعُه وهي من ربَّتْ فيه روح الشجاعة والفداء؟ وجعلتْهُ فارساً مدافعاً عن دينه وتاريخ أمجاد أجداده؟
ابتسم عبد الله، وقبّلَ يدها، ونظر إلى عينيها، وأطال النظر كأنّه يعلم أنّه لن يراها مرّةً أخرى، فقد كان قلبه مشتّتاً حزيناً، فهو يعلم بمرض أمّه ومعاناتها من جرّاء فقدانها إخوته، ويدركُ كبرَ سنّ أبيه الذي يُكِنُّ في داخله كلَّ أنواع الألم. وكان أمرُ رحيله أكثرَ ما يُثْقِلُ كاهلَه، فمَنْ سيرعاهما من بعده؟ قطعَ والدُهُ حبل أفكاره، وقال له: "ارحلْ يا بنيَّ؛ لِيكن الله معكم وينصركم، ولا تخشَ شيئاً فإنّ الله معنا".
مرّت أيّامٌ وأسابيعُ وزُهرة تنظر إلى الباب، وقد مرَّ على حملها أكثر من ستّة أشهرٍ. فجأةً شعرت بضيقٍ وغصّةٍ في قلبها وارتعبت خوفاً، حينها رأت الباب يُفتَحُ ببطءٍ، ومحمّدٌ يدخلُ منه وعيناه مغرورقتان بالدموع.
ساد الصمت طويلاً، وبلغت القلوب الحناجر.
*****

وصيّة زُهرة


مضى أكثر من شهرين والصمتُ يُخيّم على منزل محمّدٍ، ولا يقاطعه سوى صوت المطر والرعد والرياح، وساد الظلام وأبى أن يفارق المكان، وكان يُزاحم سوادَ اللّيل وهجُ البرق معبّراً عن غضبه من غدر الزمان.
جلس محمّدٌ على طرف الأريكة يتأمّلُ ملامح رفيقة دربه، وسرحَ بخياله.. تذكّرَ كيف كان يتسارع نبض قلبه عندما رآها أوّل مرّةٍ وهي تقطف الأزهار في حديقة أبيها، قد لفتَهُ جمالها وطول شعرها الذي يصلُ إلى آخر قدمَيها، وشدَّه بياض بشرتها واحمرار وجنتيها وحَوَر عينيها الساحرتين، وبالرغم من أنّها كانت صغيرةً جدّاً، فقد كانت دائمةَ الابتسامة، شديدةَ الحياء، سريعةَ البديهة، تتّسمُ بالفطنة والذكاء، وكان فارقُ العمر بينهما كبيراً لكنّه لم يأبهْ به.
لا يعلم أَكان بسبب المشاعر التي اجتاحت كيانه بلا مقدّماتٍ، أم بسبب حكمتها وهدوئها اللّذَينِ لا يوحيان بعمرها الصغير، فقد كانت زُهرة بالنسبة له كالقنديل الذي أضاءَ حياته في أثناء رهبة الاحتلال، كانت الزهرةَ الوحيدةَ التي يفوح عبيرها في أرجاء مزرعته، كانت نسمةَ الأمل الباقية في زمنٍ امتلأ باليأس. وكلّما تذكّر كيف كان يدعها تسبقه في سباق الخيل كان يبتسم، فقد كانت ضحكتُها مصدرَ سعادته الملهمة، كيف لا وهي من جعلت قلبه ينبض؟ جعلت بيته داراً ومقرّاً للسعادة والفرح؟ كيف لا وهي من أنجبت له أبناءه وأحسنت تربيتهم؟
كان يبتسم دائماً من عبارتها؛ "أنا أمٌّ لفرسانٍ تهتزُّ لصداهم أركان الجبال". كان حلمها أن ترى أحفادها يملؤون المزرعة، وكانت تحيكُ ثوبَ الزفاف لكي تقدّمه هديّةً لأسرار، الفتاة التي اختارها قلب ابنها إسماعيل قرّة عينهما لكي تكون شريكة حياته. لكنّها للأسف؛ لم تنعم بهذه الأمنية، فأصبحت خاوية المشاعر، وأصبحت عيناها عينَين ساجيتَين لا تريانِ سوى ما يراهُ ضريرُ البصر، فموتُ أبنائها أذبلها، وحطّم فؤادها، وقتل جميع آمالها، حتّى غزا الشيب شعرها بالرغم من صغر سنّها.
ذات يومٍ كان محمّدٌ يتأمّل زُهرة، وإذا بها فتحت عينها، وهمست بصوتها الخافت الناعم:
- محمّدُ حبيبي؛ ما زلت هنا؟
- نعم يا حبيبتي، وهل من مكانٍ أفضل من الجلوس بجوارك وتأمّل جمالك؟
ابتسمت زُهرة ابتسامةً علاها عناء السنين، وقالت:
- يا محمّدُ؛ سامحْني وادعُ لي؛ إنّني أشعر أنّ جسدي سيرحل، ولكنْ ثِقْ بأنّ روحي وقلبي سيمكثان معك.
- زُهرةُ؛ أرجوك لا داعي لهذا الكلام، فأنا لا أقوى على فراقك، فأنت الحياة.
- حبيبي محمّد؛ أرجوك لا تحزن، فأنت من وهبَني الابتهاج، أنت من جعلَني أحيا كلّ يومٍ والبسمة تملأ وجهي، أنت من علّمَني كيف أتذوّق طعم الحياة، أنت من كبرتُ على يده، أنت من جعلَ منّي أجملَ امرأةٍ وأنثى وأمٍّ.
- حبيبتي؛ أرجوك لا تجهدي نفسك وارتاحي... إنْ شاءَ الله عمّا قريبٍ سنُرزَقُ بمولودٍ، وستكونين له أروعَ أمٍّ، وستعلّمينه فن الكتابة وركوب الخيل.
- يا حبيبي وزوجي؛ أرجوك اسمعْني، وأرجوك حقّقْ لي آخر أمنيةٍ؛ أنت تعلم كم كنت مشتاقةً لأداء العمرة، وكم كان حلم حياتي أن أعيش وأدفن بجوار سيّد البشريّة صلّى الله عليه وسلّم... أرجوك يا محمّدُ ارحلْ من هنا، وخذْ طفلنا واجعله يعيش حياته في سلامٍ وأمانٍ. سمِّهِ أحمدَ أسوةً بأخيه الذي مات قهراً على إخوته، سمِّهِ أحمدَ لأنّه من خيرة الأسماء، واجعلْهُ يتعلّم القرآن في رحاب بيت الله، ودعْهُ يدعو لي عند روضة حبيبي رسول الله.
قال محمّدٌ وعيناه امتلأتا بالدموع: "لا تقولي ذلك حبيبتي، سوف نذهب جميعاً لأداء العمرة، وسوف تزورين حبيبنا رسول الله".
أغمضت زُهرة عينيها، وغطّت في سباتٍ عميقٍ من تعب الحمل. ثمّ أتت أسرارُ مستأذنةً المكوثَ بجوار والدة حبيبها لكي تشمّ رائحته فيها، وتراه في عينيها، وتسمع صوته في حديثها وهي تروي لها قصّة مجده وبطولاته. أتت لتكون عنوان الوفاء حتّى بعد رحيله، وتساعدها في عنائها وتلبّي احتياجاتها.
فجأةً دوّى صراخٌ في كلّ أرجاء المنزل؛ "يا محمّدُ؛ أنجدْني سألدُ... يا محمّدُ؛ أرجوك، فَلْتأتِ بأمّ أحمد... أرجوك".
تجمّدت أسرار في مكانها؛ لا تعلم ماذا تفعل! فأمسكت بيدها والخوف سكن قلبها محاولةً أن تهدّئ من ألمها. وذهب محمّدٌ مسرعاً إلى بيت جاره أبي أحمد ليستدعي أمّ أحمد، فهي من أشرفت على ولادة جميع أبنائه.
جلس محمّدٌ في ردهة منزله، وقد طال انتظاره كأنّ ساعة الدهر توقّفت، وكان صوت آهات زوجته ورفيقة دربه يدوّي في أذنيه كالرصاص، بل كان الرصاصُ أرحمَ عندما مزّقَ جسده. كان قلبه يخفق بشدّةٍ، وإحساس الخوف والرعب قد تملّكه، فهو في أضعف حالاته رغم قوّته وشجاعته في ساحات القتال.
وقف مكتوف الأيدي أمام آلام حبيبته، وما كان له سوى الدعاء، فرفع يديه إلى السماء يدعو... إنّ خسارته لأبنائه قد دمّرته، وأثقلت كاهله، وأصبح الوهن في قلبه ولسانه وعظامه.
عمَّ الهدوءُ في الأرجاء، وكاد قلبُ محمّدٍ يقفُ، وإذا بأمّ أحمدَ قادمةٌ إليه وفي يدها طفلٌ، وقد كسا وجهَها الحزنُ، وامتلأت عيناها بالدموع. فسارعَ محمّدٌ بسؤالها قائلاً: "طَمْئِنيني يا أمَّ أحمدَ؟ كيف حالُ زُهرةَ؟ إنْ شاءَ الله هي بخيرٍ؟".
لم تقوَ أمُّ أحمدَ على الكلام، فقد كانت الدموع تنهمر من عينيها، والحزن اعتلى وجهها، ومرارة الألم أشجت صوتها. ثمّ نطقت بصعوبةٍ: "إنّا لله، وإنّا إليه لراجعون".
*****


معاناة الرحيل

"أحمد.. أحمد؛ لا تركضْ بسرعةٍ، وعُدْ إلى القافلة".
جلس محمّدٌ على طرف صخرةٍ يستظلُّ بظلّ شجرةٍ ليرتاح قليلاً من تعب السفر، فقد كانت الطرق وعرةً غيرَ معبّدةٍ، كما كان على الحافلات أن تقف بعد حينٍ لكي يرتاح السائقون والركّاب من طول فترة الجلوس لمسافاتٍ طويلةٍ، حيث كانت مقاعد الباصات حينها قاسيةً وغيرَ مريحةٍ.
كان يتفقّدُ سيفه المخبّأ داخل ملابسه، المقرّب إلى قلبه الذي ورثه عن جدّه، والذي بفضله أصبح من أفضل المبارزين بالسيوف. كانت رحلتهم إلى إسطنبول طويلةَ المسافة والزمن، وكانت مليئةً بالأهوال والمجازفات لكثرة قطّاع الطرق، وذلك لتواجد أهمّ خطّ نقلٍ لتجارة الحرير.
تأمّل محمّدٌ ابنَهُ الذي أصبح وريثَهُ الوحيدَ وكلَّ مَنْ تبقّى له في هذه الدنيا، وهو مَنْ أوصَتْهُ به حبيبة قلبه في آخر أيّامها، وقد اختارت اسمَهُ.
"آهِ يا زُهرة! كم اشتقتُ إليكِ!".
عاد محمّدٌ بشريط ذكرياته إلى الوراء فدمعت عيناه، واعتصر الألمُ قلبَهُ إذْ تذكّرَ يومَ فراق زُهرة، فقد كان فراقها الضربةَ التي قصمت ظهره، وأماتت قلبه، والأسوأ من ذلك أنّ اليأسَ تملّكَهُ.
تذكّر كيف وجد بين يديه طفلاً ينوح باكياً، لا يعلم أكان يبكي لاحتياجه الحليبَ أم لفقدانه أمَّه! وتذكّر كيف انهارت أسرار خطيبة ابنه الراحل، وظلّت تبكي، وتنوح، وتردّد: "لا ترحلي يا خالتي؛ أنتِ من تبقّى لي لأحيا ذكرى حبيبي".
كاد محمّدٌ أن يستسلم لليأس، لكنْ من رحمة الله عليه أنْ رزقَهُ أحمدَ في وقتٍ أصبحت فيه الحياة بالنسبة له لا شيء، لا واقع، لا مشاعر، لا وجود.. فمَنْ كانت تُسعده في الدنيا، وتُشعره أنّه أعظمُ رجلٍ في الحياة، ومَنْ جعلته أباً للفرسان الشهداء، رحلَتْ.. وللأسف أخذت معها كلَّ ما يملكه من عزّةٍ وشموخٍ وكبرياء، أخذت معها قلبه وأحاسيسه ومشاعره، أخذت روحه التي كانت تنبض باسمها، حتّى حلمه رحلَ برحيلها.
عاش محمّدٌ قرابة السنتين في عزلةٍ تامّةٍ، وكانت حياته بين مزرعته وبين تربية ابنه الوحيد الذي أتى إلى الحياة يتيماً محروماً من عطف الأمومة ومن إحساس الأخوّة، ليس له سوى أبيه وأسرار التي ما زالت تأتي كلّ يومٍ لترعاه، وتُعدَّ الطعام له ولأبيه.
كان محمّدٌ في حالة يأسٍ ووهنٍ وعجزٍ ممّا أصابه من فراق الأحبّة، ولكنْ كان عليه أن يستجمع قواه ليلبّي وصيّة حبيبته التي فارقت الحياة بلا استئذانٍ، فبدأ في الاستعداد للرحيل، وكم كان هذا القرارُ صعباً عليه! كيف يترك منزله الذي عاش فيه كلّ ذكرياته؟ كيف يرحل بعد كلّ هذا النضال والكفاح وبعد كلّ هذه الخسارة؟ كيف يرحل ويترك أرضه وتاريخه وقلبه؟
بدأت القافلة بالتحرّك، وقد كانت وجهةُ محمّدٍ إلى مكّةَ، لكنْ كان يجب عليه أن يرافق قافلةً تجاريّةً تحمل البضائع، فقد كانت بلاده غنيّةً ومعروفةً بتجارة النحاس والفضّة وبأفخر أنواع الحرير.
لم يعلم محمّدٌ أنّ إسطنبول مدينةٌ جميلةٌ، أجواؤها رائعةٌ وضبابيّةٌ في فترة الصباح خصوصاً، وصوتُ الأذان فيها يعلو سماء المدينة ويملأ كلّ مكانٍ. بُهِرَ محمّدٌ عندما زار جامع أيّوب سلطان الذي بُنِيَ بعد فتح القسطنطينيّة بخمسة أعوامٍ، وهو أوّلُ مسجدٍ بناه المسلمون في إسطنبول بعد الفتح، ويضمُّ قبرَ الصحابيّ أبي أيّوب الأنصاريّ (رضوان الله عليه).
واستمتع هو وابنه أحمد عندما زارا المعالم السياحيّة الأخرى، ومنها آيا صوفيا وقصر الباب العالي الذي اتُّخِذَ مقرّاً للحكم العثمانيّ لفترةٍ امتدّت أربعمائة سنةٍ، كما فرحَ أحمدُ وهو يأكل الحلويّات في منطقة تقسيم المعروفة في وسط المدينة.
وُفِّقَ محمّدٌ في بيع الحرير، فقد كانت بضائعه من أجود الأنواع، وساعده في ذلك ابنُ عمّه عبد الله الذي يعيش في إسطنبول منذ فترةٍ طويلةٍ من الزمن.
حاول عبد الله مراراً وتكراراً أن يُقنعَ محمّداً بالاستقرار، وأن يقضيَ ما تبقّى له من عمرٍ في إسطنبول، خصوصاً أنّ الشعبَ التركيَّ كان في حالة سعادةٍ ورضاً تامٍّ بسبب تأسيس الدولة التركيّة حينها على يد القائد مصطفى أتاتورك الذي هزمَ الجيش اليونانيّ، وأخرجه من الأراضي التركيّة، وجعل البلاد تعيش في استقرارٍ وأمانٍ. لكنّ محمّداً أبى ذلك وبشدّةٍ، فثمّةَ وصيّةٌ على عاتقه، وأيّة وصيّةٍ؟ وصيّة حبيبة قلبه.
*****


روحانيّة أداء العُمْرة

بدأ محمّدٌ بترتيب أغراضه استعداداً لأداء العُمرة، وكان يخشى أن ينسى شيئاً من مستلزمات السفر، إذْ كان في السفر الكثيرُ من المشقّات والمخاطر بين الدول وقد كانت تثيرُ الرعبَ في قلوب المسافرين، فالرحلةُ طويلةُ المسافة تمرُّ بدولة سورية التي كانت غيرَ مستقرّةٍ بسبب الاستعمار الفرنسيّ رغم أنّها أعلنت استقلالها في عام ألفٍ وتسعمائةٍ وعشرين، لكنّ فرنسا لم تعترف بهذا الاستقلال. ثمّ تمرُّ بدولة الأردن وقد كانت إجراءاتُ التنقّل بينهما صعبةً ومعقّدةً، ومن ثمّ تدخلُ في أرجاء الجزيرة العربيّة الحارّة التي لم تكن بها خدماتٌ كثيرةٌ.
وكان أكثر ما يحمل همَّهُ ابنه أحمد الطفل الذي لم يتمَّ الأربع سنواتٍ من عمره، فهو يحتاج إلى طعامٍ وإلى راحةٍ، إذْ لم ينعم بها إلّا قليلاً في أثناء المكوث في إسطنبول. لكنّ اللّهفةَ لأداء العمرة وزيارة حبيبنا رسول الله هوّنَتْ عليه من المعاناة والمشقّة الشيءَ الكثيرَ.
وقف أحمدُ يتأمّل الكعبة لوقتٍ طويلٍ، وكان قلبه ينبض بشدّةٍ، ولم يكن يعلم لماذا. بكى محمّدٌ كثيراً في أثناء الطواف حتّى امتلأت لحيته البيضاء الطويلة بالدموع، وكان جلّ دعائه لحبيبته التي تركته وبقيت روحُها بلا جسدٍ، فكم كان يتمنّى لو أنّها كانت معه!
بعد الانتهاء من أداء العمرة جلس محمّدٌ وأحمدُ لأخذ قسطٍ من الراحة، فقد كان الجوُّ شديدَ الحرِّ من وهج أشعّة الشمس ممّا جعلهما يشعران بالعناء والعطش والجوع، لكنّ التأمّلَ في بيت الله أذهبَ عنهما كلّ تعبٍ وظَمَأ.
فجأةً سمع محمّدٌ رجلاً يناديه، وإذا به إبراهيمُ أحدُ أقدم أصدقاء طفولته الذي لم يرَهُ منذ زمنٍ طويلٍ جدّاً. وبعد التحيّة والسلام الصادق قال إبراهيم:
- ما هذه الصدفة الجميلة يا محمّدُ؟ منذ متى أنتَ في مكّةَ؟
- أهلاً، أهلاً يا صديقي إبراهيم.. في الحقيقة وصلنا مكّةَ قبل ساعاتٍ، لكنّنا لم نستطع النوم من اللّهفة لأداء فريضة العمرة.
- تقبّل الله منكما، ما شاء الله! مَنْ هذا الطفل الوسيم؟
- إنّه آخرُ مَنْ تبقّى لي من أبنائي ووريثي الوحيد من زوجتي رحمها الله.
صُدِمَ إبراهيمُ بالإجابة، فصمتَ احتراماً للموقف المؤثّر، ثمّ قال: "أسألُ اللهَ الرحمةَ لهم جميعاً". ومن ثمَّ دعا محمّداً وابنَه إلى وليمة العشاء في منزله.
لبّى محمّدٌ دعوته، وذهب مع ابنه إلى منزله، وفي أثناء اللّقاء سأله إبراهيم:
- هل أتيت إلى مكّة لأداء العمرة فقط، أم لديك خططٌ مستقبليّةٌ يا محمّد؟
- في الحقيقة، يا إبراهيمُ، إنّني أتيت لأداء العمرة، ولكي أحقّق وصيّة ورغبة زوجتي بأن أستقرّ في المدينة المنوّرة؛ رغبةً وحبّاً في جيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
- ما شاء الله يا محمّد! خيرُ قرارٍ؛ أتمنّى لك التوفيق فيما ترجوه. لكنْ دعنا نذهب في رحلةٍ إلى مدينة الطائف لكي نزور أصدقاءنا القدامى، ولكي ترتاح من عناء السفر الطويل الذي استغرقت فيه عدّة أشهرٍ، فمعظمهم يعيشون حاليّاً هناك. أنت تعلم أنّ الطائفَ مدينةٌ جميلةٌ، وتمتاز بأجوائها الباردة، فهي مدينةٌ مرتفعةٌ فوق الجبال.
- إنْ شاءَ الله يا صديقي إبراهيم، ولكنْ دعْنا نستمتع هذه الأيّام بروحانيّة الكعبة والصلاة فيها، فزيارةُ مكّةَ حلمُ كلّ إنسان يعتنق الديانة الإسلامية.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.