الرواية
استيقظَتْ من نومِها، فتحتْ عينيها بصعوبة بالغة وكأن أحدهم وضع كومة أحجار على جفنيها، لا تعلم كم الساعة الآن، ولِم المكان مُظلم؟ تجد نفسها ملقاة على الأرض، عارية، لا شيء يدثرها، بالكاد تفتح عينيها لترى ما حولها، ضوء خافت، الغرفة كلها مرايا تغطي الجدران، تقف في ذهولٍ من أمرها، تنظر إلى جسدها العاري بالمرآة، تقترب ببطء نحو المرايا لتجد جسدها مكتوبًا عليه أرقام كثيرة، لكنها لا تتذكر أي شيء، ما الذي جاء بها إلى هنا؟ ومن خلع عنها ثيابها، وكتب على جسدها تلك الأرقام العديدة أو التواريخ كما تبدو؟!
تتحسس جسدها العاري لتجدها محفورة بشكل غائر وليست مجرد كتابة.
لا تفهم أي شيء، ولا تستوعب ما يحدث، صداع شديد وآلام بالظهر، تريد أن ترتدي بعض الثياب، تبحث في الغرفة عن أي شيء ترتديه، لا يوجد إلا خزانة صغيرة قصيرة بضلفة واحدة ودرج يبدو أنه بمفتاح.
تذهب إليه، وبينما هي منهمكة في فتحه إذ تسمع صوت باب يفتح ويغلق سريعًا، تذهب لترى من هناك، لتجد أشياء مُلقاة على الأرض، والباب قد أُغلق، ملابس وأوراق وبعض الأطعمة وكشاف وساعة وأدوية.. بدأت ترتدي ثيابها، وكان المقاس مضبوطًا، تناولت القليل من الأطعمة، شربت بعض المياه، أخذت عقارًا مهدئًا، كُتِب خلف العلبة "للصداع"، فتحت الكشاف كي تستطلع المكان إن كان هناك باب آخر، وطبعًا كانت على يقينٍ من أنها مراقبة من خلف إحدى المرايا بالغرفة، أخذت تتحسس الحائط بيديها المرتعشتين، كان مبطنًا بالإسفنج ويغطيه قماشٌ ناعمٌ من القطيفة، مما كان يبعث لديها شعورًا بالراحة، كانت تعلم أن لن يكون هناك مخرج، ولكن كانت تتعلق ببعض الأفكار البالية، وكأن كل شيء قابل للتفاوض حتى أفكارها الساذجة. من الخوف وكثرة التفكير بدأت تشعر بدوار في رأسها لتقع على الأرض مغشيَّةً عليها.
تركض بسرعة عارمة والخوف يتصيد لها الأخطاء لتتعثر في أفكارها وأسئلة ليست لها إجابات.
من الذي يلحق بي؟
لماذا أهرب؟
ومِمَّن؟
لتجد سيارة تقف وتفتح لها بابها الخلفي، وفي ظلمة السيارة تسمع صوتًا من الداخل: اصعدي سريعًا.
صعدتْ السيارة بلا تردد بعد سماعها طلقات نارية من بعيد، تجلس مترددة، تنظر عبر الزجاج الخلفي للسيارة، تبتعد عن رجالٍ يرتدون ملابس يبدو أنها زي عسكري وطرابيش وبنادق غريبة، يبدو أنها قديمة الصنع، انتبهتْ أيضًا للسيارة فلم تكن منتبهة لها، إنها سيارة قديمة الطراز، تسأل نفسها بتعجب: في أي عصر أنا؟
توقفتْ السيارة أمام قصر له أسوار عالية وباب حديدي ضخم، بعد دقيقةٍ واحدةٍ فتحت أبواب القصر، دلفت السيارة للداخل وتوقفت أمام الباب الرئيسي للقصر، فتحت الخادمة الباب، البهو واسع وممتلئ بالتحف والصور الزيتية الضخمة، وأنوار الثريا المتدلية من السقف الثانيِ للدور العلوي المفتوح على الدور السفلي، جعلت المكان باهرًا وأنيقًا.
جلست وأنا كلي حيرة. لا أعلم إلى أين سيقودني مصيري. سمعت صوت فتاة صغيرة من الأعلى تنزل درجات السلم مسرعة، مهللة، تسأل: "هل عدت يا جدي؟ اشتقت إليك.
رجل على مشارف الستين، لديه لحية بيضاء، الشيب يعلو مقدمة الرأس، كبعض النباتات التي تنمو بشكل عشوائي وغير مرتب. يحتضن الطفلة بحنو وحب ويطبع على وجنتيها قبلة سريعة، يخرج من مكتبه متجهًا نحوي، نظرت إليه نظرة حيرة، وأتساءل: من أنا؟ ومن أنت؟ ومن كان يطاردني؟
دون أن أتفوه بكلمة واحدة، قال لي: يا هدى، نشاطك السياسي سيلقي بكِ في المعتقلات والسجون، ودفاعك عن المرأة وحريتها طريق لن تجنِي منه إلا التعب والمعاناة، أنتِ هدى شعراوي، لا تقضي على اسمك.
إذن أنا هدى شعراوي؛ ناشطة سياسية، أدافع عن قضايا المرأة. حمدت الله أنني لم أكن سارقة أو خائنة يبحث عنها البوليس السياسي ويطاردها.
قطع حبل أفكاري حين قال لي: أعلم أنك منهكة وتودين الراحة بعد قطع مسافة كبيرة في السفر. اصعدي مع الخادمة وستدلك على غرفة بها كل ما تحتاجين، تصبحين على خير.
صعدت للغرفة، كانت واسعة بها سرير مريح مرتب بطريقة أنيقة، يوجد بالغرفة حمام شخصي.
وجدت ملابس أيضًا مريحة، بعد الاستحمام دخلت تحت الأغطية الوثيرة الدافئة، نمت بلا تفكير.