Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

بينما كان سرجون هاربًا من جحافل العدو في مدينة الحدباء، يمضي ويترقب، رأى من بعيدٍ اثنين من الجنود التابعين للعدو! فتراجع عنهما قليلًا نحو الغابة المجاورة، واختبأ خلف إحدى أشجار الجوز الكبير القديمة، والتي يوحي شكلها بأن عمرها قد تجاوز عشرات السنين.
اقترب من مكانه الجنديان اللذان كانا يمزحان كثيرًا، وأصوات ضحكاتهما كان يسمعها بأذنيه لأنها قريبة جدًّا منه! لقد تمكن منه الخوف، وسكن بين أحداقه القلق، ليضع كفيه على فمه، وكأنه يلملم بعض أنفاسه!
كان يتمتم بصلواته المسيحية، ويقول لنفسه مخاطبًا ربه: "يا ألله أنقذني هذه المرة لأجل صوفيا وابني يوسف، يا ألله أعلم أنني قد أخطأت كثيرًا، ولكنني سوف أكون رجلًا صالحًا إذا ما أنقذتني من هؤلاء".
وفي أثناء دعواته وابتهالته كانا يقتربان منه أكثر فأكثر.
وفي أثناء ذلك كانت الغابة تزخر بالكثير من الطيور والفراشات، والجو كان غائمًا تتخلله أمطار خفيفة.
ورغم هذا المنظر الجميل إلا أن أصوات الطائرات الحربية كانت ترتفع فوق الغابة، وكانت تقترب منه أيضًا أصوات الدبابات وعربات الجنود! وهو في تلك الظروف القاسية لم يكن يحمل معه سوى مسدس صغير فيه بعض الطلقات النارية، إضافة إلى صورة زوجته وابنه يوسف.
استعرض شيئًا من شريط حياته في تلك اللحظات الصعبة، فاستحضر احتفاله مع زوجته صوفيا بمولد ابنهما يوسف، وتذكر عندما جلب له الألعاب، وجلب لها قلادة جميلة تحمل تاريخ ارتباطه بها، حيث كانت مصاغة من معدن الفضة، وتشبه العملة النقدية. وكانت منقسمة إلى نصفين؛ نصف عنده، ونصف عندها، وقد كتب على كل نصف اسمه "سرجون"، والآخر اسمها "صوفيا" وتاريخ الزواج أكتوبر، 17/10/2013 ميلاديًّا.
في تلك اللحظات التي سافر بها نحو مخيلته الجميلة، شعر بالأمان وهو يمسك بقلادة زواجه، وتذكر صوفيا التي احتفظت بالقلادة في صندوق مجوهراتها الثمينة.
وفي خضم تلك اللحظات الجميلة شق صوت الطائرة المدوي سكونه، فاستيقظ على الواقع المرير الذي يعيشه في تلك اللحظات.
وعندما نظر من خلف تلك الشجرة العجوز وجد الجنود ما زالوا في أماكنهم! ولكنهم لم ينتبهوا لوجوده حتى ذلك الوقت.
كان خلف تلك الغابة الكثيفة جبلٌ مرتفعٌ وتضاريسه وعرة، نظر إليه، ووجد بأن عطشه يدفعه دفعًا نحو التحرك والبحث عن الماء، حتى لو سبب ذلك فضح أمره. فبدأ بالتحرك شيئًا فشيئًا حتى وجد عينًا تبرق مياهها الصافية تحت جنح الظلام، فتنفس الصعداء رغم تيبس حلقه خوفًا، وعطشًا، وجوعًا.
ومن محاسن الصدف أنه كان يحمل معه حافظة ماء صغيرة تسمى عند أهل العراق "زمزمية"، فملأها بالماء، وشرب حتى تضَلَّعَ وارتوى، وعادت له الحياة.
ابتعد بمسافة أطول عن جنود العدو الذين يتربصون به السوء والقتل!
وبدافع الجوع أيضًا وجد طيرًا بعد محاولات من البحث، ولكنه كان بحاجة ماسة إلى إشعال نار لطهيه، وتم ذلك، إذ استغل بعض الأشجار الكثيفة، وأشعل خلفها نارًا صغيرة لكي لا يراه أحد.
وبعد أن شرب الماء، وتناول الطعام، شعر بأنه في حاجة ماسة للنوم، ولكنه أول ما وضع رأسه على الأرض، وهيأ نفسه للمنام هطلت المطار؛ فبدأ يبحث عن مكانٍ مناسب، فوجد كهفًا في سفح الجبل المجاور، اقترب منه بكل تردد ووجل وقلق، وعندما دخل إلى الكهف، استلقى في مكان مناسب للنوم واضعًا سترته كوسادة تحت رأسه. ولأنها المرة الأولى التي ينام فيها داخل كهف، فلقد داهمه التوتر جدًّا فكان بسكينه يحث الأرض، حتى شعر بشيء ما فأوقد النار بواسطة (الولاعة)، أو (القداحة) كما تسمى في العراق، ليرى نقشًا هندسيًّا مربعًا تتوسطه عقرب قد رفعت ذنبها إلى الأعلى!
تذكر حينها جده حينما كان يحدثه عن بعض كنوز الحضارات القديمة والعريقة في أرض الرافدين المجيدة.
وبينما هو كذلك داهمه النعاس، وأخذه النوم خلسة ليمضي في رحلة نومٍ عميقٍ لم يوقظه منه سوى شعاع الشمس الذي تسلل إلى جانبٍ من الكهف. ولكنه كان مضطرًّا إلى أن يبقى داخله، أو بجواره لكي لا يراه رجال الشرطة.
وبينما هو سارح في أفكاره عاد النسر إلى عشه - القريب منه - ليطعم صغاره!
لقد شكل ذلك النقش القديم الذي رآه قبل منامه في الكهف حافزًا له لكي يشرع في الحفر لعله يجد شيئًا، وقد كان!
ففي بدايات الحفر الأولى وجد ثلاث قرب، وبعد أن أخرجها ونفض الغبار عنها وجد في القربة الأولى: عملة نقدية ذهبية!
ووجد في الثانية: لفائفَ من الجلد مدورة الشكل!
ووجد في الثالثة: لوحًا مكتوب عليه بعض الطلاسم التي لم يستطع قراءتها.
حاول فك اللفائف التي وجدها في القربة الثانية إلا أنه لم يستطع فك سوى لفافة واحدة، ليجد فيها قطعًا من الجلد مكتوب عليها كتابات قديمة لم يفهمها!
وضع كل شيء وجده في جيوبه، وقضى طوال يومه قرب الكهف قلقًا متربصًا جميع المخاطر التي تحدق به!
كان يأكل ما يجده في الغابة من تمر وثمار، بعضها ناضج، وبعضها غير ذلك، حتى داهمه الليل لينام.
وفي أثناء نومه رأى رؤيا شاهد فيها شخصًا شكله غريب؛ فهو بحجمٍ صغيرٍ جدًّا وكأنه ربع إنسان! وكان يحدثه بصوتٍ مرعب، ويقول له: انهض فمصير العالم بين يديك!!
ولم يكتفِ بمرة واحدة؛ إذ كررها عليه ثلاثًا مؤكدًا له بأنه شاب حيوي، وكاشفًا له بأن إكسير الشباب حوله موجود في تلك العبارات المكتوبة بلغة قديمة، ناصحًا له بأن يقرأها جيدًا.
وبين له في الحلم أيضًا بأنه يحمل معه أسرار المستقبل في تلك اللفائف الجلدية لمائة عام قادمة، مؤكدًا له بأنه إذا فتحها سيعرف ماذا يجري في العالم!
كان سرجون مذهولًا وهو يتابع أحداث هذا الحلم! حاول أن يسأله عما ورد في الحلم، ولكنه تلاشى واختفى!! لينهض فزعًا من حلمه، ويخرج اللوح الصغير منطلقًا في محاولة القراءة.
شعر وكأن الكتابة تترجم أمامه! وكأنه يسمع صوتًا يأمره بالذهاب إلى بلد الغرائب وتحديدًا إلى منطقة الأمل! وهناك سوف يجد رجلًا كبيرًا في خربة قديمة، وسيعطيه الرجل شرابَ العنب المعتق القديم، والذي ورثه من أجداده قبل مئات السنين! وأكد عليه بأنه ما إن يفتح قارورة العنب يشربها فورًا لكي لا يذهب مفعولها!
واصل إصغاءه لذلك الهاتف الخفي، الذي قال له أيضا: إن ذاك الرجل المسن سيفسر له كل تلك العبارات الموجودة في اللفائف الجلدية إلا أنه عالِمٌ في الجيولوجيا وعلم الفلك.
وأكد له بأن اللوح الذي في يديه يحمل رموزًا تتضمن رقم الشارع، والحي، والدار! قائلًا له: "لقد رفع الغطاء عنك، ألقِ نظرة على الحروف"، وعندما مد لها بصره وجدها تحولت إلى اللغة التي يتقنها! وإلى الأرقام التي يعرفها! ليعرف حينها عنوان الرجل العجوز بشكل واضح.
خرج النسر قبله من الكهف ليحلق عاليًا في السماء، ثم خرج سرجون بعده، وقد حمل معه كل ما وجده، ناشدًا الخلاص من الحالة التي هو فيها.
تذكر حينها كيف اقتحم الأشرار منزل أهله أثناء جلبه للماء، وعندما عاد إلى المنزل وجدهم قد أطلقوا النار على أبيه وإخوته وأردوهم جثثًا هامدة!!
ومن هول الصدمة قفز على آخرهم وضربه بدلو الماء، وقتله، وغنم سلاحه وهرب.
وكان يشعر حينها بالغرابة! فهو لم يقتل نملة فكيف قتل بشرًا سويا، ولكنه كان يُطمْئن نفسه بأنه قتله دفاعًا عن نفسه، وانتقامًا لقتل أهله.
أسبلت تلك الذكريات دموعه، ولكنه منّى نفسه بمستقبل أفضل، فدعا ربه، وواصل سيره متوغلًا في أدغال الغابة، ووسط حقول الذرة وجد سيارة تنقل بعض الخشب والصناديق والقش، فلوح لها بيديه.
وعندما توقفت السيارة سأله سائقها الذي كان في منتصف العمر أشعث الشعر، وأحمر البشرة عن وجهته التي يريد.
فرد عليه سرجون بأنه يريد الذهاب خارج الحدود!
فسأله السائق عن جواز السفر.
فرد عليه بأنه لا يحمله معه! ولكنه وضّح له بأنه يستطيع الاختباء تحت حمولة المركبة.
فوافق الرجل بشرط أن يمنحه سعرًا مناسبًا، فتذكر العملة الذهبية التي كان يحملها معه. ورغم استغرابه من نوعية العملة وافق السائق، وبدأت الرحلة في طريقٍ وعرة.
كان سرجون في أثناء ذلك متوترًا من فشل العملية والقبض عليه، حتى لاحظ السائق ذلك فسأله عن السبب.
ليجيبه بأنه يشعر ببعض التعب!
فبادر السائق بسؤال آخر عن سبب وجوده في غابة نائية.
وحينها استجمع سرجون تفكيره لكي يجيب الرجل بإجابة مقنعة، خصوصًا أنه شك في إمكانية أن يكون السائق منتميًا لجماعات متطرفة! ولذلك أجابه بسؤاله عن وقت الوصول للحدود.
فرد عليه بأنهم سوف يتأخرون بعض الوقت لأنه سيسلك طريقًا آخر لا يعرفه الكثير!
عندها قلق سرجون، وبادره بسؤال: هل يمتلك جواز سفر أم لا.
فرد عليه بأنه لا يملك جواز سفر؛ لأنه يعمل في تجارة الأسلحة التي كان يأتي بها من تركيا إلى العراق، مستعينا في ذلك بأفراد من كردستان العراق.
وبينما كان سرجون يتأمل الطريق الوعر جدًّا فتح السائق كيسًا وأخرج منه بعض العصائر والسندويتشات، ولاحظ السائق أن سرجون كان يأكل بنهم!! فعلق عليه بأنه لا يسابقه أحد، وبإمكانه الأكل ببطء!
شعر سرجون بالخجل ولكي يبدده طلب منه تشغيل الراديو للتسلية، وفي أثناء استمتاعهما بأغاني المغني التركي "إبراهيم تاتلس"، تذكر زوجته صوفيا عندما كان يستمتع بصوته معها.

ومع نغمات الموسيقى الجميلة سافر بخيالاته بعيدًا حينما تذكر لقاءه الأول بها في رحلة سياحية في إسطنبول، ووسط مياه البوسفور الزرقاء الصافية التي كانت تشبه عينيها لتسلب قلبه من اللحظة الأولى.
فتقدم لخطبتها من أبويها اللذيْن كانا معها على ظهر السفينة! واللذين استغربا من سرعته في القرار! حيث لم يعرفاه إلا قبل ساعة واحدة فقط!
فرد عليهما بأنه حينما تشرق شمس النصيب فلا شيء يمنعها.
تذكر حينما تواصل معهما بعدها، وحينما تمت مراسم الزواج على الطريقة التركية بكل سهولة، ودون شروط معقدة.

ولكنه عاد للواقع بنهاية الأغاني التركية! ليخبره السائق بأنهما دخلا إلى الأراضي التركية، واتضح له أنهما اقتربا من القرى التي ينشدها، بعد أن مر في طريقه على 17 قرية عراقية.
وقد لفت نظره بعض الأشخاص الذين كانوا يحملون قطعًا مختلفة من الأسلحة، وعندما سأل السائق طمأنه بأنه يعرفهم، فهم أفراد من حزب العمال الكردستاني سواء كانوا على الأرض، أم في الطائرات.
كان سرجون يتأمل ملامح الطريق، ويرى القرى على جوانبه، وينظر إلى رعاة الأغنام والأشجار الوافرة، لقد رأى كل شيء حتى ناقلة البترول عند اقترابهما من معبر إبراهيم الخليل الحدودي، حيث سلكا طريقًا آخر غير رسمي لكي لا يراهما رجال الشرطة.
وعندما دخل إلى تركيا تنفس الصعداء فرحًا واستبشارًا، وضرب كفه بكف السائق كتعبير عن سعادته بالوصول إلى "ديار بكر" وهي "كردستان" تركيا التي يقطنها خليط من (القوقاز والأرمن والأكراد)، وقليل من العرب، وبعض (الكلدان والأتراك).
واصل المسيرة حتى وصل إلى الطريق المؤدية إلى "غازي عنتاب" حيث ترجَّل من السيارة، وشكر السائق كثيرًا، ومضى في طريقه!
لم تكن تركيا غريبة عليه، فهو يتقن لغتها جيدًا، فأمه تركمانية عراقية.
وفي طريقه رأى رجلًا مسنًّا يرتدي الزي التركي التقليدي، فسأله عن محطة الحافلات، وصعد إلى الحافلة التي لم تكن كبيرة حيث تستوعب اثني عشر راكبًا فقط، وفي أثناء الرحلة نام قليلًا ليوقظه أحد الركاب عند وصولهم إلى "غازي عنتاب".
ثم قرر بعد ذلك الذهاب إلى كنيسة (فوكاني) في حي (شيحلر) في منطقة (نزيب)، وهي كنيسة قديمة عمرها يقارب أربع مائة عام، حيث صلى فيها، وأقام بعض الطقوس المسيحية.
وانطلق بعد ذلك باحثًا عن القلعة التي يسكنها الناسك الذي شاهده في نومه الذي كان في الكهف، تلك الرؤيا التي جعلته يشعر بالطمأنينة كلما تذكرها!
ثم تذكر أخويه يوسف وهارون اللذيْن وأدهما أشرار التطرف في مقتبل حياتهما!
وتذكر أيضًا أمه التي كانت مواظبة على الصلاة، وتطلب من الله السعادة، والقدر الجميل له ولإخوته.
لقد سافر بذكرياته بعيدًا حينما لاحت له ذكريات أبيه في الآفاق، أبوه الذي كان يعمل في مهنة النجارة، وكان يصطحبه معه في طفولته إلى ورشته الصغيرة حيث كان يساعده بكل شغف، فتعلم منه نجارة الكراسي والأرائك. وكان أبوه هو من نجر له غرفة نومه في بيت الزوجية، ولذلك كان كلما نام مع زوجته صوفيا على السرير دعا لوالده.
وفي عمق الذكريات الجميلة استيقظت في أعماقه الذكريات الحزينة، حينما تذكر الأوغاد الذين أسدلوا الستار على سعادته وسعادة أسرته! وقلبوا حياتهم رأسًا على عقب! ويتنهد حينها طويلًا داعيًا عليهم بالهلاك.
شعر بالاختناق وهو يتذكر أهله ومدينته الصغيرة، مضى قدمًا بخطوات ثقيلة، وأنفاس متعبة في شوارع "غازي عنتاب"، حيث وجد الكثير من العرب السوريين؛ حيث أصبحت المدينة تلك الحدودية نسخة من مدينة حلب السورية في أسواقها، وشوارعها، وتجَّارها وتجار حلب يشتركون في طريق الحرير التجاري.
كان وصوله إلى الحدائق المجاورة للقلعة قبيل غروب الشمس، ودخل إلى القلعة التي كانت الإضاءة فيها شبه منعدمة! ووجد غرفة صغيرة مظلمة تشتعل في داخلها شمعة! ولمح فيها رجلًا عندما تفحص النظر في ملامحه وجده ذات الرجل الذي رآه في المنام! حيث كان هو الكاهن الروسي (راسبوتن) الذي حدثه عنه جده في الطفولة! فكان يروي له عنه قصصًا لا يستوعبها العقل! منها أنه فتن النساء في زمانه، وتلقى أربع رصاصات، وسم من الأسرة الحاكمة، ولكنه رغم كل ذلك لم يمت! واختفى من روسيا بعد أن أُلقيَ في المياه المتجمدة في "سيبيريا" ولكنه نجا! رغم أنه ظل في غيبوبة لفترة طويلة، ولكنه بعد استيقاظه ونجاته من كل تلك المشاكل أصبحت لديه قوى ربانية خارقة في الشفاء!
كان معنى اسمه (رابوستين) الفاجر، وذلك بسبب علاقاته الجنسية الفاضحة! حيث كان ضخم الجسم، وعريض الصدر، وله ذراعان قويتان جعلت الإناث تنجذب إليه بمجرد نظرة واحدة من عينيه التي تخترق أعماقهن فينجذبن إليه. حتى إن الرجال كانوا لا يستطيعون التحديق في عيونه طويلًا فينحون رؤوسهم أمام تلك القوة الخفية التي تشع من عينيه!
وحينما بلغ (رابوستين) الثلاثين من عمره كان قد تزوج وأصبح أبًا لأربعة أطفال، ولكن كان لديه ولع كبير بالخمر، وسرقة الجياد التي كانت - وللغرابة - سببًا في تحوله حينما اتهموه بسرقة حصان! فاضطر للهروب من القرية، وسكن في أحد الأديرة النائية، واتخذ صفة الرهبانية التي ألزمته بعد ذلك طيلة حياته.
ثم رحل عن قريته، وأصبح مسافرًا سائحًا في الكون، وخلال رحلته لم يغتسل أو يبدل ملابسه لفترات طويلة! وكان يرتدي قيودًا حديدية ساعدته لكسب بعض الأنصار خصوصًا من ذوي النفوذ!
ليجد نفسه قد أصبح تحت تأثير طائفة غير شرعية تعرف باسم (خليستي) تعمل في الممارسات الجنسية الشاذة!
ووصل به الأمر إلى أنه أصبح يؤمن أن الفرد إذا ارتكب بتعمد ذنبًا يكون أكثر قربا من الله بشرط أن يتوب لله توبة نصوحًا.
حتى إنه ادعى في إحدى المناسبات أن السيدة مريم العذراء ظهرت له! وحثته على مساعدة العائلة الملكية الحاكمة في (سان بطرسبورغ)! وهذا ما جعله يكوّن علاقات مع أعلى طبقات المجتمع.
وسرعان ما تكونت صورته في موسكو على أنه مرشد روحي أو رجل مقدس، وترك انطباعًا لدى الإمبراطورة (أليكساندرا) إذ اقتنعت تمامًا بقدرته على انقطاع النزيف الذي أصاب (أليكس) وريث عرش روسيا المصاب بمرض سيلان الدم المزمن.
لقد أصبح مستشارها الشخصي المؤتمن على أسرارها، ويزورها في القصر في وقتٍ محددٍ من كل أسبوع، حيث بزغ نجمه في روسيا، وكثر أعداؤه، فأصبح البعض من خارج حدود القصر يراه يحيا حياة الخمر والعربدة والدعارة! ولذلك وشوا به للبلاط الملكي الذي قام بتكليف شرطة سرية لتعقبه.
وبذلك كان محاصرًا بالخطر من كل مكان! لدرجة أن البعض حاول قتله، وبالفعل فلقد طعنته إحدى العاهرات في خاصرته، وأثناء علاجه نشبت الحرب العالمية، وجلبت نكبة كبيرة على بلده.
ولقد كتب (راسبوتين) للإمبراطور رسالة حذره فيها من القتل، وتنبأ له بأنه إذا قُتل أي شخص من أفراد العائلة فلن يبقَى أي منهم خلال عامين! ولكن إذا قتل أحد من أفراد الشعب فسوف يطول حكمه!
تمت دعوته بعد ذلك للقصر بحجة أن (إيلينا) أجمل امرأة في البلد تريد مقابلته، وبينما كان ينتظر لقاءها قدم له أحدهم كعكًا وشرابًا فيه سمّ يكفي لقتل عشرة أشخاص!
ولم يكتفوا بذلك إذ دخل أحد الأمراء وأطلق النار عليه وظن أنه مات، وعندما اقترب منه ليتأكد من ذلك أطبق عليه الشيطان حتى كاد أن يؤدي بحياته، لولا أن أحد حراسه سمع صراخه، ودخل وأطلق النار مجددًا على (رابوستين)، ثم رموه في البحر لكنه لم يمت! وظهر قرينه في قلعة "غازي عنتاب"!
وهذا القرين هو الذي التقى به سرجون في إحدى غرف القلعة، فسلم عليه وجلس بجواره ليتحدث سرجون عن اللفائف التي وجدها في الكهف، وعن الرؤيا التي شاهدها في منامه، وعن دورها في مجيئه للكاهن بعد وصية الرجل له في المنام.
وبعد أن رأى الكاهن تلك الطلاسم واللوح المحفور باللغة القديمة التي جاء بها سرجون، أخبره أنه يملك في يديه إكسير الشباب!
فتساءل سرجون عن كيفية ذلك.
فرد عليه الكاهن بأن لديه شراب العنب المعتق وعمره مئات السنين، وبأنه سوف يقرأ هذه الطلاسم على ذلك الشراب ويجب أن يشربه كله!

فكر حينها سرجون في تلك المفاجأة، وأخذ وقتًا للتفكير في الأمر، فقال له الكاهن:
- لا تخف يا بني، سوف يطول عمرك، وتبقى شابًّا للأبد.
وبعد أن شعر الكاهن بارتياح سرجون لتلك الخطوة، نهض وفتح صندوقًا قديمًا في زاوية الغرفة، وأخرج منه كيسًا من القماش القديم، فيه قارورة من الزجاج تحتوي على شراب أحمر اللون. ثم رفعها، وفتحها وبدأ يتلو الطلاسم على ذلك الشراب، ويكرر نفس الجملة عدة مرات، ثلاث مرات كرر نفس العبارة.. ثم أعطاها لسرجون وشربها كاملة بشكل متقطع. ثم أخرج ما تبقى من صفائح الجلد، حيث شرع الكاهن في قراءة الطلاسم بصوت مرتفع، وكررها عدة مرات وذكر اسم سرجون عند قراءة الطلاسم، وبعد أن أكمل القراءة أخبره بأنه سوف تظهر له بعض الإشارات عن المستقبل القريب والبعيد للأمم، ولكنه سوف يفقد جزءًا من ذاكرته.
وعندما عرف سرجون ذلك اعترض، ولكن الكاهن قال له:
- "قضي الأمر".
فبكى بسبب ذلك سرجون على حظه السيئ، فلم يعد يتذكر إلا اسمه، وأشياء قليلة أخرى.
خرج سرجون متوترًا من القلعة يبحث عن ذاكرته في شوارع المدينة، ليعرف بصعوبة أنه في "غازي عنتاب"، وعندما فتش جيبه وجد القطع الذهبية، فاطمأن أكثر فأكثر على ذاكرته.
وذهب إلى محل الذهب وباع جنيهات منها، وبدأ يخطط للذهاب إلى إسطنبول كأكبر مدينة اقتصادية في تركيا، حيث اشترى تذكرة القطار، وحقيبة صغيرة وضع فيها بعض أغراضه الشخصية، والاحتياجات الضرورية من الملبس، وشفرات الحلقة، وفرشاة الأسنان.
واشترى هاتفًا ثم ركب في القطار واستقله نحو إسطنبول التي وصلها بعد ساعات، وكأنه وصل إلى مدينة الحلم.
كانت إسطنبول صاخبةً ومزدحمةً، ومليئةً بالجنسيات المختلفة، واللغات المتعددة، بدت منارات مساجدها مدهشة الجمال، وكأن تاريخها القديم العريق يتحدث.
وما أجمل (البوسفور) حينما يشقها بجماله الساحر!
وما أروع الجسر المدهش الذي يحلق فوقه بروعة متناهية!
وما أروع أسواقها الشعبية الرائعة مثل (جراند بزار)، وهو سوق السلاطين الذي يجد فيه قاصده كل ما يريد!
استأجر شقةً صغيرةً قريبةً من شارع الاستقلال، ومن بعض المعالم السياحية، وبدأ يقرأ في الإنترنت عنها؛ لأنه قرر العيش طويلًا فيها.
استجمع قوى ذاكرته باحثًا بين أعماقها عن أهله وأسرته، خصوصًا أنه فقد جزءًا منها بعد لقائه بالكاهن.
كانت شقته في الطابق الرابع من ذلك المبنى القديم، وهي عبارة عن غرفة واحدة، ومطبخ صغير وحمام بإطلالة جميلة على شارع حيوي وصاخب. لذلك فقد كان ينهض من نومه على أصوات السيارات، وجلبة الأشخاص لأن الكل يعمل في عربات (الكستنا واكواز) الذرة المشوية التي جعلت رائحة الشوي تسكن أنفه! حتى عانى من عطاس شديد.
كان سرجون يتناول إفطاره في مطعمٍ قريبٍ من منزله، وفي ذهابه وعودته لاحظ رجلًا كبيرًا معه فتاة شقراء في منتصف العشرينيات، وكان الرجل يتكئ على عصاه، ويتحدث معها وكأنها بنته. وعندما رآه سارحًا فيهما، ناداه المسن، وبعد أن رحب به، قال له باللغة التركية (اوتور) يعني بها أن عليه الجلوس بجواره، وجلس سرجون وناوله القهوة التي يريد، ثم سأله المسن عن سبب ارتياده للمطعم منذ فترة.
فرد عليه بأنه ارتاح فيه.
كان سرجون سعيدًا بالحديث معهما خصوصا سوزي الفتاة التي ترافق المسن، والتي كانت جميلة وهادئة، وصوتها عذب يشبه صوت الموسيقى الجميلة، والتي عرف أنها ابنته وليست زوجته، مما جعله يزداد فرحًا وسرورًا.
عرض عليه المسن أن يعمل معه كمشرف على مطعمه بمرتب 1700 ليرة بالشهر، واتفقا على أن يباشر العمل بداية من اليوم التالي في السابعة صباحًا، وكل يوم سيستمتع في المطعم بثلاث وجبات مجانية.
عاد إلى منزله لا تحمله أقدامه من فرط السعادة، فالعمل جاء دون جهود كبيرة، ولذلك فقد تواصل مع مالك العمارة التي يقطنها، ووقع معه عقد إيجار لمدة عام كامل.
ثم شرع في تنظيف الشقة، واشترى كل الأغراض والنواقص التي يحتاجها بكل سهولة، لأنه يقطن في قلب منطقة الأسواق.
بعد ذلك جهز ملبس العمل التي منحت له من صاحب المطعم، وكانت تجمع بين ألوان البني والأبيض، إضافة إلى بطاقة المطعم التي زينتها صورته، واسمه، ونوعية الوظيفة التي يقوم بها.
*****
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.