darbovar

شارك على مواقع التواصل

ترك الحاج كرار المعمل، فجلست على مقعدي أتأمل ما حدث.
- سألني مساعدي: ما الذي سنفعله الآن؟
- لم تكن لدي إجابة واضحة، قلت له وأنا أغمض عيني في محاولة للاسترخاء: سنحتسي بعضا من الشاي الساخن.
كان الطريق نحو حل أية معضلة تواجهني يبدأ دائما بخطوة ثابتة هي أن أصنع لنفسي كوبا من الشاي الساخن المضاف إليه بعض من أعواد القرنفل أو أوراق النعناع, استغرق الأمر بضع دقائق قبل أن يكرر مساعدي سؤاله من جديد: ماذا سنفعل الآن؟, نظرت إليه هذه المرة بعينين لامعتين وابتسامة يملؤها خبث ثعلب مكار فهم منها ما كنت أقصده؛ ففي كل مرة كان يتعطل فيها الجهاز أو نقوم بتطويره كان يقوم هو بدور فأر التجارب الذي تقاس عليه كفاءة الجهاز ومدى صلاحيته للعمل من جديد.
بطواعية تامة ترك مساعدي مقعده متوجها نحو السرير وهو يقول: أمري إلى الله.
طلبت منه أن ينام هذه المرة كما لو كان في سريره بالمنزل، ثم قمت بتوصيله بجهاز رصد وقياس اضطرابات النوم وأنا أردد على مسامعه - مازحا - باقي مقاطع أوبريت الليلة الكبيرة

"يا عريس يا صغير ...
علقة تفوت ولا حد يموت ...
لابس ومغير ...
وهتشرب مرقة كتكوت"
اتجهت بعدها إلى غرفة الرصد أرقب ما ستظهره الشاشة بلهف شديد، ولأشد ما كانت حيرتي حين رأيت أن كل شيء هذه المرة كان يسير بشكل طبيعي جدا وبصورة تقليدية معتادة، فهذا رسم المخ يظهر الموجات (ألفا) التي اعتدنا رؤيتها أثناء مرحلة اليقظة، وهذا السجل الكهربي للعينين وعضلات الفك يظهران بشكلهما المعتاد و المتعارف عليه، مرت دقائق معدودة بدأ رسم المخ بعدها يظهر الموجات (ثيتا)، يبدو أن مساعدي بدأ يستسلم للنعاس فعلا، ذهبت إليه في الغرفة المجاورة، مررت طرف مفتاحي على باطن قدمه فانتبه.
- قلت له: انهض بسرعة واستدع حالة أخرى لنتأكد من سلامة الجهاز.
مضى يوم كامل، قمنا خلاله بتجربة الجهاز على ثلاث حالات مختلفة، تأكدنا بعدها من سلامته ودقة نتائجه، ثم رأينا أن نقوم باستدعاء الحاج كرار مرة أخرى لإعادة فحصه.
اتصل مساعدي بأحد أبنائه يبلغه بضرورة قدوم الحاج كرار إلى معمل اضطرابات النوم لإعادة الجلسة مرة أخرى, أخبره الإبن أن الحاج كرار مسافر في الوقت الحالي وأنه سوف يعود بعد أسبوع وسيخبره بذلك حال عودته.
وبالفعل وبعد أسبوع قدم الحاج كرار إلى وحدة أبحاث اضطرابات النوم، لم تتغير هيئته الخارجية لكنه كان يبدو أكثر توترا وقلقا، كما كان كثير الالتفات لكل ما حوله، سريع الانفعال لأي صوت أو حركة، وكعادته أصر على أن يظل ممسكا بكتابه طوال فترة نومه، لم نتجادل معه كثيرا هذه المرة فقمنا بإجراء عملية التوصيل بسرعة وحذر ثم توجهنا إلى غرفة الرصد لمتابعة النتائج.
"يبدو أن المشكلة في رأس هذا الرجل و ليست في الجهاز" هكذا قال مساعدي وهو يرقب الموجات على شاشة الحاسوب وقد رسمت بنفس النمط الغريب الذي ظهرت به أول مرة، قلت له: قم بتسجيل التفاصيل كاملة حتى يتسنى لنا إرسالها إلى أحد الخبراء في الخارج؛ فربما نجد عنده تفسيرا مقنعا لما يحدث.
وبالفعل بدأنا عملية التسجيل, استمرت الموجات تأخذ شكلها الغريب والمتناسق قرابة الساعة الكاملة، ظل الأمر هكذا حتى سمعنا صوت ارتطام مفاجئ لشئ ما على الأرض، لم تظهر الكاميرا لنا شيئا واضحا.
هرولت أنا ومساعدي نحو الغرفة المجاورة نحاول اكتشاف ما حدث.
- صاح مساعدي: استغفر الله العظيم، لقد سقط المصحف من يده على الأرض.
كان الكتاب الذي يمسكه الحاج كرار قد سقط على الأرض وتناثرت أوراقه، بدأ مساعدي يلملم الأوراق واحدة تلو الأخرى ثم توجه إلى غرفة المكتب محاولا ترتيبها تحت ضوء مصباحه الساطع، ألقيت نظرة سريعة على الحاج كرار تأكدت أنه يغط في نوم عميق، ذهبت بعدها إلى غرفة الرصد أرقب النتائج, لم أصدق ما تراه عيني، بدأت الموجات التي تظهرها شاشة الحاسوب تتغير لتأخذ شكلها المعتاد والمتعارف عليه, صحت وأنا أمسك رأسي: يا إلهي ما هذا الذي يحدث! أيكون كل هذا بفعل الكتاب؟
تزاحمت الأسئلة في رأسي وتوقف بي الزمن للحظات، لاحظت بعدها أن السجل الكهربي للمخ بدأ يظهر استعداد الحاج كرار لليقظة، كانت الكاميرا هي الأخرى توضح أن حركته في السرير بدأت تزداد شيئا فشيئا, وها هو ذا الآن يستيقظ بشكل كامل، سمعت صوته من الغرفة المجاورة وهو يصيح: الكتاب! الكتاب! أين ذهب الكتاب؟.
أسرعت إليه محاولا تهدئته, أخذت أنادي على مساعدي لكن عبثا جاءت كل محاولاتي فلا هدأ الحاج كرار ولا رد علي مساعدي, مر وقت ليس بالقصير قبل أن يدخل مساعدي وهو يحمل الكتاب بين يديه، اقترب من الحاج كرار ثم قال له مهدئا: ها هو ذا كتابك قد عاد إليك.
لم يمهله الحاج كرار الفرصة كي يتم جملته فاختطف الكتاب من يده وهو يصرخ: اتركوني و شأني، دعوني أرحل، دعوني أرحل. لم يمكن باستطاعتنا رفض طلبه، فقمنا بفصل الأسلاك بشكل سريع وتركناه يمضي إلى حال سبيله.
مرت بعدها فترة طويلة من الصمت قطعها مساعدي بسؤاله: ما الذي جرى؟, أخبرته بما حدث, فقال لي وهو يخرج هاتفه المحمول: كنت سأخفي عنك ما صنعت لأني شعرت بأنه عمل غير أخلاقي، لكني أرى الآن أن أطلعك عليه فربما يكون فيه فائدة.
بدأ مساعدي يعرض علي بعض الصور التي التقطها لصفحات الكتاب بكاميرا هاتفه المحمول.
- قلت له: فهمت الآن سبب تأخرك في غرفة المكتب.
-قال: في الحقيقة لم أستطع مقاومة جمال هذه المخطوطات وروعة زخارفها؛
فعزمت على تصوير أكبر قدر منها.
-قلت له: دعنا إذا نفحص هذه الصور بدقة وروية؛ فربما أوصلنا عشقك للتصوير
إلى شيء ما.
كان علينا أن نقوم أولا بنقل كل الصور التي التقطها مساعدي لصفحات ذلك الكتاب من ذاكرة هاتفه المحمول إلى جهاز الحاسوب حتى يتسنى لنا إجراء عملية الفحص سويا بشكل أكثر دقة.
قمنا بعرض كل صورة على حدة ثم قمنا بتدوين ما استطعنا استنباطه من جمل و فقرات على قصاصات ورقية صغيرة، كانت معظم الصور تظهر صفحات صفراء بالية وكأنها طبقات من الجلد المدبوغ أو ورق البردي رسم عليها بخط أشبه بالكوفي الشطرنجي كلمات ذات أحرف عربية غير منقوطة, تمكنا بصعوبة من قراءة ست صور منها.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.