Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

(وش) النكسة

مازحني أخوالي وخالاتي كثيرًا بأحداث يوم مولدي:
- أنتِ (وش نكسة).
أجبتهم بتحدٍّ:
- ولدت بعدها.
- قطعتِ النور عن السويس كلها.
أغمضت عيني كالهائمين عشقًا:
- لأني أحب الشموع.
أعلوا قوة تحديهم لدموعي:
- قتلتِ كتيبة جيش الجزائر كلها.
دون رفض لكلمة (قتلتِ)، أجبت:
- حظهم جميل، يا لِحَظِّهم؛ ماتوا شهداء.
تنبأ لي خالي الأصغر الأحب إلى قلبي المهندس العبقري وبطل الشطرنج والرسام، بشخصية قوية، ثورية، ولسان طويل.

* * *

احتجاج

بعد مولدي بأيام، هاجر أهل مدن القناة مضطرين، لاشتداد القصف اليومي، والانهيار الكامل لمساكنهم وبيوتهم، دفن أسفلها الكثير من الشهداء، قصفوا مصانع البترول، اشتعلت منطقة الزيتية، تعالت النيران لثلاثة أيام، تلونت سماء السويس بلون الجحيم المستعر، تلاه سواد دخان خانق حزين حجب السماء.
كاد شبح الموت أن يأكل أبي في أثناء غارة جوية، قُذِفت القنابل على رؤوس أهل السويس، ارتدت إحداها مصطدمة بسقف سيارة تابعة للشئون الصحية يستقلها أبي لقضاء مأمورية، انفجرت بعيدًا أمامهم في الشارع الخالي، للآن تتجدد دهشة أبي كلما تذكر مرددًا:
- سبحان الله، ما هي إلا أعمار مكتوبة.
دخل أبي لمديره، طلب المواقفة له على النقل وإلا سينقطع عن العمل، اضطر مديره للموافقة إكرامًا لطفلته المولودة؛ أنا.

* * *

التغريبة الأولى

اختار أبي أن يكون تهجيرنا الإجباري إلى مدينة المنصورة عاصمة محافظة الدقهلية، تقطن عائلته بإحدى قراها، سبقه جدي حتى لا يفارق ابنته الكبرى (أمي) والمتزوجة الوحيدة في بناته، تبعه أبي بعد أن طالت حرب الاستنزاف، وأصبحت السويس شبه خالية تمامًا إلا من المقاومة الشعبية وأطقم الأطباء والتمريض، ودّع المُهَاجرون بلادهم باكين، محترقين بنار فراق الأهل والأحبة، أرضهم، بيوتهم، استقلوا القطار أو سيارات النقل إلى مجهولٍ يخشونه، وأناس غير أناسهم، غُربة لا يعرف مرارها إلا من ذاقها.
قصف العدو كثيرًا من السيارات الخارجة من السويس؛ حصدهم متراصّين على الطريق خلف بعضهم، اضطروا للسفر في غبشة الفجر أو وقت المغرب لصعوبة الرؤية للطيران وقتها.
استقلت أمي ونسوة أسرتها القطار، استقل أبي سيارة النقل تاركًا كل الزجاج الخاص بالسفرة وغرفة النوم مستندًا إلى حائط لعدم وجود مكان بالشاحنة، انطلقت مني صيحة دهشة بعد سنين عند عودتنا أن وجدناه كله سليمًا؛ دون خدش، رغم تحطم النوافذ.
انهمرت دموع أمي كلما شاهدت نشرة أخبار السادسة والتاسعة على القناة الأولى في التلفاز ورأت صور البيوت الخربة إثر الدانات والقنابل، لصغر سني، وعدم وجود ذكريات لي في السويس، لم أقدر ألمها حق قدره وقتها، لكني تجرعتها عند مفارقة خالاتي وصديقاتي عند العودة إلى السويس، بكت أمي فرحًا بالعودة، وأنا أبكي حزنًا للفراق، ظللت لسنوات، أعيش بجسدي في السويس مهاجرة بروحي إلى المنصورة، أعيش بذكريات اللهو واللعب في جنبات بيت جدتي مع خالاتي، والشارع مع صديقاتي، وأبناء العم في طهواي.
هنا تبدلت الكراسي بين أبي وأمي؛ كان أبي يحيا بالسويس بينما روحه مهاجرة حيث قريته؛ وها قد عاد لها، أما أمي ككل المهاجرين، تركت روحها أمانة لدى السويس، تحوم حولها كل يوم تبلغها بكم الدمار من طائرات العدو، تنعي لها الشهداء الأبطال، وتعود حزينة حيث الجرحى والدماء.
* * *

هيبة الميري

ازدحمت المساكن بمهاجري مدن القناة، لم يجد أبي سكنًا مناسبًا، ظن كما الجميع أن مدة الحرب شهور مثل العدوان الثلاثي 1956؛ وافق على سكن في منطقة شعبية، كان أبي وأمي الموظفين الوحيدين في المنطقة كلها وليس حارة عبد الجابر فقط؛ وقت أن كان للموظف الحكومي هيبة، محسود ممن حوله على (الميري).
* * *

غسيل و"مكوه"


كانت الإجازة الأسبوعية للعاملين في الدولة والمدارس يوم الجمعة فقط، ليتحول يوم الخميس في حياة المرأة العاملة ليوم مشهود، فبدلًا من التنزه خُصّص للغسيل والتنظيف.
تأتي "سوريا" بعد الغداء مباشرة؛ تضخ الجاز لفونية الوابور من مضخة جانبية، تنتشر رائحة الجاز معطية الإذن ببداية الجهاد الأسبوعي، تلقي عليه عود الثقاب المشتعل؛ يعلو اللهب ثم ينتظم في ضجيج كريه، تعجبت أنه محبب للبعض.
مُنِع عني وأخوتي الاقتراب من الطرقة أمام الحمام، حيث تعلو (البستلة) حمالة الوابور ذات الأربع قوائم، تضع سوريا الماء والصودا الكاوية (البوتاس) ومسحوق الغسيل (سافو) أو (رابسو) مع صابون مبشور بمبشرة مخصصة في البداية؛ في (البستلة)، تقلبه بعصا مخصصة، بعد غلي الماء تضع الملابس والملاءات البيضاء المنقوعة منذ الأمس بعد عصرها، تُقلب من آنٍ لآخر.
بعد إتمام عملية الغلي يُفرك ببعضه يدويًّا في إناء من الألومنيوم أو النحاس واسع مستدير يسمى (طشت) مرةً بعد الأخرى بعد تغيير ماء الغسيل والشطف بالماء يوضع قليل من مادة زرقاء اللون تسمى (زهرة) في ماء قليل ويعاد شطف الغسيل الأبيض فيها لتكسبه لونًا أبيضَ ناصعًا ثم العصر وأخيرًا النشر في الشرفة، ثم تبدأ غسل الملابس الملونة مرة ثم الأخرى بعد تغيير الماء دون غلي.
تعاملت النسوة آنذاك مع عملية النشر بنظامٍ خاصٍّ لا يصح تغييره، على الحبال الأمامية تُنشر الملابس الداخلية الرجالي المخاطة من قماش البفتة البيضاء، لم نعرف وقتها ملابس داخلية ملونة، يليها الفانلات الداخلية القطنية البيضاء أيضًا، ثم المناشف والملاءات البيضاء، ثم الملابس الملونة، سألتُ سوريا:
- لماذا الأبيض أولًا وليس الألوان؟ أُفَضِّل الألوان.
شهقت وخبطت بكفها على صدرها:
- لأجل الجيران (تجرسنا) ويقولون "يخفون غسيلهم لأنه مُصفر غير نظيف".
يلي الغسيل مسح وتنفيض الشقة كلها.
في اليوم التالي؛ الجمعة، يوم كي الملابس، وهي مهمة يتولاها أبي.
يعلو ضجيج الوابور ثانية، يوضع فوقه المكواة الحديدية، بجواره كوب الماء يضع منه أبي في فمه ثم يبخه على الملابس ثم يفردها بالمكواة الساخنة، ولا أستوعب حتى الآن كيف كان يضبط حرارتها دون مؤشر ولا يحرق الملابس.
أرقب أبي يكوي مريلتي المدرسية ثم قمصانه ثم أثواب أمي بعنايةٍ تامة، أما بذلاته الشتوية من حظ المكوجي.
ومع سيرة النظافة هذه لا يمكن أن أنسى استحمامي وأخوتي اليومي صيفا، ونصف الأسبوعي شتاء فكانت من مهمات أبي مثل مذاكرة الدروس وحل الواجبات.
* * *
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.