Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

هجرة فوزي ركس

دهاليز سراديب، أقبية، مخازن ضخمة، أنهار جارية لا تتوقف، ينابيع لا تنضب يمتلكها هذا الشقي المسمى بالعقل الباطن، العجيب في الأمر هو طريقة اختياره للذكرى المناسبة لحياتنا اليومية، لا تعرف في أيّ مكانٍ فيها سوف يخبئك، ولا في أيّ واحدٍ منها سيُغرقك، نعتقد أنه اختيار عشوائي، والواقع أنه سر لا يبوح به لأحد.
لاحت ابتسامة حب وإجلال لذكرى (عمو) فوزي ركس!
سمعتني أسأل عقلي الممتلئ بالضجيج:
- أي شيطاني العجيب؛ من أين أتيت بذكرى ذلك الرجل؟ ولماذا هو وليس غيره؟
أجابني:
- إنه المطر الغزير، وهو أمر غير اعتيادي في السويس؛ قد يمر العام وتمطر مرة أو اثنتين؛ بكثافةٍ بسيطة، أو دون مطر نهائيًّا، عكس المنصورة؛ سماؤها دَيمَة دائمة، وربما ما رأيته من مشاهد ظلم مؤلمة طوال النهار، ثم في التلفاز ليلًا بنشرة الأخبار.
لم أقتنع بإجابته، لا بد أنه حديثي مع صديقةٍ عن فلسفة الهجرة وأنواعها، يحسب الكثيرون ومنهم صديقتي أن الهجرة مكانية فقط؛ مثل هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام.
قلت لها:
- إنما الهجرة بالنفس والقلب إلى حيث تريد الحياة وما نتمناه؛ من حبٍّ أو مالٍ أو منصب، يتجسد حلمنا أمام أعيننا دائمًا عكازًا نتوكأ عليه للمرور من ضيق الحياة الحالية إلى رحابة الأماني، يحوِّل خشن الظروف لشيء محتمل، يُمكّننا من التحمل لتحقيق ما هاجرنا من أجله، الهجرة دومًا سعي وراء حلم، يعطينا الطاقة للعمل وبذل الجهد لتحقيقه.
سألتني وهي تمصمص شفتيها متعجبة من كلامي:
- والكابوس؟
- الكابوس كجزرة علقت أمام عيني حصان جائع يجري في سباق، يهاجر لحلمه للاستمتاع بأكلها، لو هجرها لمات من الجوع كما يعتقد، لكنه مهما أسرع تسبقه الجزرة دائمًا ولا ينولها.
ما إن نطق لساني بمعنى هجرة النفس حتى انهمرت أمطار الذكريات على فؤادي.
أعاني نسبيًّا مما يسمى بالذاكرة المفرطة، يا لها من معاناة أن تتذكر أحداثًا من سنّ مبكرة، تعيش آلامها وتسترجع مرارها مرارًا وتكرارًا، وقد تجتمع عليك مع آلامٍ أخرى تشبهها، وتسير الأمور للأسوأ؛ متحدة مع هرم عمري النفسي، أهبط غريقة في أعماقها، لكني أسعد بطفو الفهم الأعمق للمواقف وتفسيرها.
عقلي الباطن يعمل بشكل آلي خبيث، وإن تميزت بهذه الصفة السيئة في مواقف بسيطة، من استيعاب للمواقف والشخصيات ووفرة رصيد الحكايات، لكنه المنغص لحالتي النفسية دائمًا، يجبرني على الهجرة إلى ذكرياته المخزنة، أختنق به؛ ولا أملك مفاتحه، ليس بمقدوري أن آمره بالعمل أو أوقفه.
يغلبني ذلك الحزن غير المبرر، وهو في الوقت نفسه مقبولٌ جدًّا لنفسي الباكية على أوقات سعيدة مضت ولن تعود؛ وغاضبة؛ من ضياع أو تبدد وربما تلف أو هجرة أحلام جميلة لم تتحقق.

* * *

دكتور جورج

اضطر الجيران للاستعانة بقابلة للمساعدة، لكنها فشلتْ في إخراجي لنور الحياة وإنهاء عذاب أمي من ولادةٍ متعسرة، لعدم وجود مواصلات اضطر جدي للمشي خمسة عشر كيلو مترًا، من منطقة الملاحة حيث سكنه، لإحضار الطبيب جورج من مساكن مدينة السماد، لتوليد أمي، تأخرا كثيرًا، مشيا من بين دبابات الجيش المصري المختبئة من طيران العدو أسفل الشرفات، وحول البناية، حضرا أخيرًا في المساء، دلفا من الباب الرئيسي.
الكهرباء مقطوعة عن المدينة، وزجاج النوافذ مطليّ باللون الأزرق، لمنع تسرب الضوء للخارج، فلا تستدل الطائرات المعادية لأهداف تقصفها.
اجتهد الطبيب على ضوء الشموع لوقتٍ طويلٍ لإخراجي وكأني من البدايات ملتصقة بماضيّ، خائفة من الخروج لمستقبلٍ مخيف، ينتظرها عالم مزدحم بالحرب مخضب بالدم، أجبرني على الخروج، خلعني من رحم أمي، بصوتٍ يضاهي فسخ خشب ملتصق، غضبت من آلة السحب؛ أحدثتْ جروحًا بوجهي وجبهتي، عنيدة أنا.. أبيتُ الحياة؛ كتمتُ أنفاسي، ضربني، عذبني بوضعي في ماءٍ ساخنٍ يليه ماء بارد، طال ألمي، تنازلت عن كبريائي؛ صرخت وبكيت، رغمًا عني دخلت أنفاسي إلى صدري وخرجت، تعجبتُ لسعادتهم الغامرة، اغتظت؛ صرخت أكثر.

* * *
نشرات الأخبار


في اليوم التالي؛ حملني أبي وجلس في الشرفة، استمع لنشرة أخبارٍ على موجة إذاعية أجنبية، بعد اكتشاف كذب الإعلام المصري، تغذيت مع لبن أمي على سماع النشرات الإخبارية وقراءة الجرائد والشغف بمعرفة أحوال العالم، تتوقف حياتي مع ثورةٍ هُنا، يصيبني الأرق لانفجارٍ هناك، يتملكني الفزع لانفجار بركان هنالك، أو لفيضان يغرقني حتى لو في بلاد السند، حمَّل الجميع أبي مصيبة تنشئتي متفاعلة مع أحداث العالم ومآسي البشرية، والحقيقة أنه جينٌ وراثي ورثته منه.

* * *
جيش الجزائر


فزعوا لصوت طيران قريب؛ اعتقدوا بالموت المحقق؛ نطقوا الشهادتين، صرختْ جدتي، احتوت خالَتَيّ الصغيرتين، اندفع أبي من مجلسه ليحميني بالداخل، باتفاق غير منطوق لم يتوجه أحد للمخابئ القريبة تعاطفًا مع الوالدة التي لا تستطيع الخروج، ارتج المكان، انفجارات متتالية صمت آذانهم، أتى العدو كالجراد على زهور الكتيبة، قصف طيرانهم كتيبة جيش الجزائر المتمركزة على بُعد خمسة كيلو مترات.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.