darbovar

شارك على مواقع التواصل

وفي الغرفة المجاورة كان أستاذ "حسن" يبدِّل ثيابه، ويتمنى لو أنه يستطيع استبدال همومه هي الأخرى، فهو مثقل بأعباء لم يعد بمقدروة حَملها، ولا يستطيع الإفصاح عنها
زوجته تفرغ الحقائب وتقوم بترتيب الغُرفة، و تتفقده بنظراتها المستتِرَة من حين لأخر، لكنها لا تستطيع النطق بأي كلمة، فملامح وجهه تبث الرعب، وتطلق قذائف لهب حارقة .
وبعد دقائق من الصمت امتلأت خلالها رأس هذا الزوج بالأفكار والهموم ، نظر إلى زوجته بوجهٍ عبوس ولسانٍ سليط وقال لها: اخلصي يا ست انتِ، فين البيجامة عايز أغير هدومي ؟
الزوجة متوترة وقد أربكها استعجاله، فقالت له بلسان الخوف: حاضر والله بشوفها اهو، بس مش عارفة راحت فين
تقوم بتفقد الحقائب، حقيبة تلو الأخرى وقد أكسبها انفعاله مزيداً من التوتر، فلم تعد تعلم عن ماذا تبحث، فهي تمسك البيجامة في يدها ومازالت مستمرة في البحث عنها
فنظر إليها بعيونه الغاضبة، وصب عليها شُحنة من غضبه المتراكم داخل صدره في محاولة للتنفيس عن نفسه
فقال لها: بصوت صارخ انت بتعملي ايه يا هانم ..! البيجامة في إيدك وانتِ قاعدة تلفي حوالين نفسك زي السكرانة ..! هاتي الزفت خليني أنام.
تنتبه الزوجة أن البيجامة في يدها، فتذهب إليه مسرعة وتقول له: معلش والله، مش عارفه راسي فين، معلش يا أخويا
نظر إليها بسخط لا يتناسب مع حجم الموقف أبداً، ولكنه يتناسب مع حجم الغضب والهَم الذي يملؤ قلبه ويسكُن عقله
ثم ألقى بجسده على الفراش في محاولة بائسة للنوم، ذلك النوم الذي قد بدى عزيزاً، فأصبح سلعة غالية في هذا اليوم، فقد امتنع النوم على هذا القلب المشحون بالهموم، وهرب من تلك الرأس المعبئة بالأفكار
زوجته أرادت النجاة بنفسها من تلك النظرات الغاضبة التي تخترقها من حين لأخر بلا داعي، فقالت له: أنا هخرج أكمل تجهيز البيت، عايز حاجة أجيبهالك ؟
لم تكن الزوجة ترغب في عمل أي شيء إلا النوم، ولكن لا مكان لها في هذا الجحيم الذي تشتعل فيه النيران، ولذلك كانت تسعى للهروب منه
قال لها: لأ مش عايز حاجة، أنا هاحاول أنام شوية، أنا تعبان من السفر وبقالي يومين ما نمتش، ونبهي على البهايم اللي بره دي إني مش عايز أسمع صوت
قالت له والتوتر يسيطر على كلماتها: حاضر .. حاضر، ربنا يعينك انت تعبت الأيام اللي فاتت دي كلها مش بس اليومين دول، ربنا يعديها على خير
تخرج الزوجة من الغرفة مُحمَّلة بالأعباء والهموم التي ورثتها من زوجها، وأُضيف لذلك الإرث، قلة النوم وشُحنة الغضب التي أفرغها فيها زوجها
لتخرج هي الأخرى لتبحث على شخص أخر لتُفرغ فيه شحنات الغضب التي يمتلؤ بها صدرها، فتلك الشُحنات يتم تفريغها من الشخص الأقوى للشخص الأضعف، فهذا هو دستور تلك الغابة
فعندما خرجت الزوجة من غرفتها وجدت في وجهها "أمل" تلك الفتاة المسكينة فقالت لها: انت لسه ما نضفتيش أوضتكم ليه ؟
هتقعدي فيها طول اليوم يا بغله ..!
ردت عليها بصوت مكتوم: أنا بنضف أهو، والله الشقة فيا تراب كتير ومقفولة من زمان أوي
فقالت لها والدتها في عصبية وغضب: الشقة هي اللي فيها تراب كتير، ولا انت اللي بليدة وخايبة ؟، أنا عارفه من الأول إنك زي البغلة على الفاضي، لازم أنا اللي أعمل كل حاجة ، ما أنا الخدامة بتاعتكم.
فتأتي "إلهام" مسرعة لتقطع الطريق على أمها قبل أن تنفجر فيها هي الأخرى، كانت تريد أن تنجو بنفسها من هذه القذائف الموجهة فقالت لها: أنا والله يا ماما نضفت الدولاب وفضيت الشُنط وكنت لسه جايه عشان أساعد "أمل"
ولكن لم تنفعها هذه المحاولة، فالأم مُخزَّنه بِشحنة غضب ولابد من تفريغها، فلا يعنيها إن كنت مُقَصِّر أم لا، المهم هو تفريغ الشُحنة، فنظرت إليها بوجه مشتعل، وقالت لها: والله انتو هتجيبولي جلطة، ربنا ياخدكم وأرتاح منكم
لم تكتفي الأم بذلك فمازل هناك المزيد من الغضب، فماذا تفعل ؟
نعم الآن دور الذكور، تدخل إلى غرفتهم فيستقبلها "محمود" بابتسامة بلهاء قد رُسمت على وجهه، قبل أن تختفي خلف دموعه التي نزلت لمواساة خده الذي زينته صفعة من يدها الحنون
ثم قالت لهم في غضب: انتو ما نضفتوش أوضتكم ليه، عايزين الخدامه تيجي تنضفها ليكم ؟
يتوراى "محمود" عن الأنظار مواسياً لخده، هذا الخد المسكين مَصَب الصدمات وحامل الأوزار
والآن قد حان دور الشَحط "محسن"، هكذا تناديه والدته ليس لسبب محدد فقط لأنه أكبر الذكور
فقالت له: وأنت يا شَحط، انت لسه ما غيرتش هدومك ولا فرشت سريرك ليه، قاعد من ساعتها بتهبب ايه ؟
"محسن" وقد أرهبته صفعة "محمود"، فَرَدَّ عليها في خوف قائلاً: حاضر والله حاضر، أنا كنت هغير دلوقتي
لم تستخدم يدها هذه المرة، فالشرار المنبثق من عينها كافي لأن يحرقه، دون مصافحة خده
أما الآن جاء الدور على مِسك الخِتام وعصفور الزمان وحارس الأكوان وموقظ الأحزان، "مصطفى" باشا
استبقها "مصطفى" بنظراته وعاجَلَهَا بكلماته قبل أن تنطق بأي كلمة وقال لها شوفي يا ماما أنا عارف الدخول المفاجيء ده ليه ، وعارف العصبية والضرب اللي من غير سبب ده، وحفلة الرعب دي سببها ايه
دي ولا عشان التنضيف ولا عشان نغير هدومنا ولا عشان أي حاجه من دول
أنا عارف إن كل الغضب والإنفعال ده، عشان حقكم اللي ضاع في المنصورة بسبب عجزكم وقلة حيلتكم اللي مش قادرين تواجهوا نفسكوا بيه
فطبعاً بابا حاول يهرب من عجزه بإنه يفش قهره فيكي، وصب كل غضبه عليكي، وأنتي بقى جايه تفرغي غضبك وغضبه فينا، هو ده القانون بتاعكم
يلا تعالي إضربيني ألَمِين، وادعي عليا إن ربنا ياخدني عشان ترتاحي، على أساس إنك كنتي مرتاحه قبل ما تخليفني أنا واخواتي
ترتبك الأم من هذا الرد المفاجيء، لم تعتاد أن تسير الأمور بهذا الشكل، فهي تدخل تضرب وتسب وتخرج في أمان
فلماذا تغير السيناريو في هذا اليوم، ما هو الجديد، ما الذي حلَّ بهذا الفتى !
ولكنها لم تستسلم وحاولت أن تستعيد عافيتها سريعاً، لتتمكن من السيطرة على الموقف من جديد
فصَبغَت وجهها بصبغة مخيفة، لترهب بها ذلك الطفل، ثم قالت له صارخة: اخرس يا قليل الأدب، انت الوحيد اللي مش متربي في ولادي ربنا ياخدك ويريحني منك يا حيوان
فنظر لها ساخراً وقال لها: يعني الكف اللي نزل على وش محمود ده، كان عشان متربي، والشحط التاني والبغلة اللي بره، هي دي أسامي الدلع لولادك المتربين المحترمين، أُمَّال لو مش محترمين كنتي عملتي فيهم ايه ..!
الأم تقف عاجزة أمام تلك القذائف الذي يطلقها هذا الولد الغريب
فقالت له بصوتها الذي حبسه البكاء: والله لما يصحى أبوك هاخليه يشوفله حل معاك عشان أنا معدتش قادرة عليك يا واطي
تخرج الأم منهارة، وعيناها قد إمتلأت بالدموع، بسبب الحقيقة التي واجهها بها هذا الولد المُتعِب قاذم الإلغام، فالحقيقه دائماً ما تُؤلم،
ولكن هذه الحقائق لا يقف الناس أمامها كثيرا بل يذهب الجميع ليتوارى خلف ستار قديم متهالك، يتم ترميمه بإستمرار، فيتركون الحقيقة الظاهرة أمامهم، ويرتكنون إلى سوء الأسلوب
فدائما ما يتغافل الناس عن العبارات وصحتها، ويذهبوا إلى الحديث إلى أنه ما كان يجب أن تتحدث مع الأكبر منك سناً بهذه الطريقة
احترام فارق السن مهم أكيد، ولكن هناك إعتبارات كثيرة يجب وضعها في الميزان قبل الإحتكام إلى فارق العمر، وحتى الإسلوب السيء والإسلوب الحسن، هذا أمر نسبي، لا يمكن حسمه بشكل قاطع
ولكن الإختباء خلف تلك الحيلة البلهاء، هو حيلة من لا حيلة له، وما أكثرهم
فأصحاب تلك الحيل يملؤن جنبات الأرض، ولهم أتباع ومناصرين يدافعون عنهم بدون وعي، فأمثال هؤلاء يفتقرون لأسبط أسس الحكمة.
ولذلك فقد انبرى "محسن" في تلك اللحظة ورافقه "محمود" للانتقام من "مصطفى" فقد نسيا الإهانة الموجهة إليهما، وأخرجا سيوفهما وأعلنا الحرب على هذا المجرم الذي تسبب في بكاء والدتهم
فَهُم خريجي نفس المدرسة، مدرسة اللا حكمة واللا منطق
مدرسة الخنوع والاستسلام والضعف، مدرسة العجز والسلبية وقلة الحيلة، مدرسة الاستضعاف والاحتكام لقانون القوة، تلك المدرسة التي تخرج منها أغلب البشر، ولم ينجو إلا القليل
وقبل أن ينقضا عليه، جاء إليهما دعم خارجي، من إخوانهم في تلك المدرسة، جاءت "أمل" "وإلهام" لمعاونتهما في الانتقام من "مصطفى"، فقد إرتكب جريمة يستحق عليها الرَجم حياً
السبب الظاهر لتلك الحملة الشرسة هو الانتقام للأم المكلومة، التي أبكتها الحقيقة التي خرجت من فم هذا السفاح
ولكن حقيقة الأمر خلف هذا الانتقام والغضب الموجه لهذا الولد الصغير، لم يكن إلا إستمرار لمسلسل الاستضعاف،
الذي يُعطي الحق للقوي أن يصَب غضبه على الأضعف منه، فهذا هو قانون الغابة التي يعيشون فيها
والأسباب المُعلنة ما هي إلا مُسَوِّغات لإراحة الضمير ليس أكثر
فنظرت له "أمل" غاضبة وقالت له: انت قولت ايه لماما زعلها كده ؟
لم ينتظر "محسن" إجابة هذا السؤال، وقرر مصادرتها وإصدرا الحكم مباشرة، فقال لها: ده عَيِّل قليل الأدب
تبنَّت "إلهام" الحكم الصادر من "محسن" وقالت له: ما ينفعش اللي انت عملته ده يا مصطفى ومهما حصل ما ينفعش تقل أدبك على ماما، دي خارجه منهاره خالص، حرام عليك كده
ثم يأتي "محمود" ليطالبه بالاعتذار عن تلك الجريمة التي لم يتم التحقيق فيها من الأساس، فالحكم تم إصداره بناء على دموع الأُم بقرار من "محسن"
فقال له معنفاً: انت لازم تروح تتأسف لها دلوقتي
نظر إليهم "مصطفى" وهو يتأمل وجوههم العابسة، وأخذ يتفقدهم بعناية شديدة وهم يكررون تلك الجُمل السابقة، ويستبدلونها فيما بينهم بطُرق مختلفة
ظلَّ ينظر إليهم وسرح في تلك الوجوه مجهولة المعالم، مطموسة الهوية، كان يتفحصهم في صمت، لم يكن يُريد أن يجرحهم بكلماته
فهو يعلم أنهم تكالبوا عليه، ظناً منهم أنه عصفور صغير يسهل النيل منه، ولكنهم لم يدركوا أن هذا العصفور الصغير يمتلك مخالب، قادرة على انتزاع الأرواح من بين الضلوع
ولذلك كان مشفق عليهم، فجلس ينظر إليهم وكل ما يدور في خاطره مقولة "الضرب في الميت حرام"
تركهم يكيلون له الإتهامات والنصائح والمسبات، وذهب إلى فراشه، يمارس هوايته الجديدة في المراقبة والرصد واستخلاص الحكمة من تلك المواقف،
فدخل إلى عالمه الخاص، ذلك العالم الذي يعيش فيه منفرداً، ذلك العالم الذي لا يشاكره فيه أحد من سكان هذه الأرض، فضلاً عن هذه الأسرة.
ترك لهم الساحة ليتمكنوا من تفريغ مشاعر الغضب التي تم شحنهم بها
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.