مرشَّحة الصُّدفة
الساعة الرابعة مساءً.. يوم الأربعاء، السادس من آب، عام 2039.
يعود شهم إلى بابل بعد مكالمة هاتفية مقتضبة من والديه، يطلبان حضوره بإلحاح، يدخل إلى البيت وأمارات الاضطراب بادية على سحنته، حال البيت بائس، وأشياء كثيرة تغيرت منذ أن غادر إلى بغداد لغرض الدراسة قبل عدة شهور، حديقة المنزل المزهرة صارت أرضًا صلدة لا تنبت فيها إلا الحشائش الشوكية الضارة، الأثاث هاجمه الإهمال.
ينادي عليهم لا جواب لكلماته إلا الصدى المجبول بالخوف والذعر، يدخل غرفتَيهما، يجدهما منتحرين شنقًا، تركا تلك الرسالة التي ظل صداها متشظيًا في تلافيف دماغه الطري ذي الواحد والعشرين ربيعًا:
" لم يعد يسعنا البقاء، الأمر يفوق الاحتمال، لن نكون أسرى للشيطان.. بُنَي إذا وصلتك رسالتنا، اترك المنزل واهرب.. "
البشر تملَّكهم الهوس الانتحاري، يعانون من تغيرات مزاجية حادَّة، يترنَّحون من القمة إلى الهاوية، من شغف النشوة إلى حضيض الاكتئاب، هذه هي الحالة العشرون بعد الألف من حالات الانتحار التي حدثت في خلال شهرٍ واحدٍ هذا العام في مختلف أرجاء الكرة الأرضية بعد أن قررت الدول المتقدمة أن تبني مدنًا ضخمة وذكية على شكل عوامات عملاقة تجوب المحيطات والبحار هربًا من اليابسة التي صار العيش فيها محفوفًا بمخاطر جمَّة، المسطحات المائية تزدرد الجزر والسواحل بنَهم وشراهة، مدن اختفت بالكامل ومدن أخرى جرفتها السيول والأعاصير المدمِّرة، لم تبقِ منها إلا الأطلال والذكرى، الطبيعة أعلنت ثورتها العارمة واحتجاجها على ما لحق بترابها وسمائها من دمار أحدثته وساخة الإنسان وملوِّثاته.
يحزن شهم كثيرًا لفراقهما، يقيم مأتمًا، يتلقى العزاء بموتهما، يعرض المنزل للبيع تنفيذًا للوصية، لم يحصل على مشترٍ، يداهمه الوقت، يؤجل الموضوع، يعود إلى بغداد ليكمل دراسته في كلية الهندسة.
*****
تمزق غلافنا الجوي وصارت سياط الشمس تخترق ثقوبه من غير حُجُب، تجلد من يعيش على هذا الكوكب الهرِم، الكل بات على صفيحٍ ساخنٍ، سقطت بيوت الأسكيمو الثلجية على رؤوس ساكنيها فلم يعد هناك قطب متجمد شمالي. ذابت جباله الثلجية وارتفعت مستويات المسطحات المائية عشرات السنتيمترات. آلاف الكائنات الحية انقرضت بعد أن تقطعت بها السبل وفقدت قدرتها على التكيف مع الوضع الجديد.
وعلى الرغم من أن الأطباء يكتشفون كل يوم عقارًا جديدًا متطورًا يطيل من عمر الإنسان وكاميرات متناهية في الصغر وباهظه الثمن، تسبح في جسم الإنسان، تكتشف الخلايا السرطانية في بداية تكوينها، إلا أن الفايروسات والأوبئة تتطور لتصبح أكثر فتكًا بالناس المنقسمين ما بين فقراء يقطنون اليابسة المليئة بالأمراض والموت بالجملة، يتصارعون على فتات ما تبقى من خيرات الأرض، وأغنياء يسكنون البحار، يعانون من العزلة والكآبة توقًا لرؤية المناظر الخلابة.
كان عام 2039 سيئ الطالع على العراق وباقي الدول الريعية التي يعتمد اقتصادها كليًّا على النفط، والتي تداري فشل سياساتها بزيادة التصدير، حتى أصبح العرض أكثر من الطلب، كما تنوعت مصادر الطاقة وحلت الطاقة المتجددة بديلًا ناجعًا لهيمنة النفط والغاز على الأسواق كما حدث مع الفحم من قبل.
يعاني العراق الأمرَّين؛ فمرة يتأثر بأحداث داخلية وإدارة رعناء، وتارة يتأثر بما يحدث حوله؛ فالعالم لم يعد كما كان سابقًا، حتى بات على شفا مسغبة بعد أن ذهبت الحكومات المتعاقبة بخيراته الوارفة من باطن الأرض ومن فوقها. لم يبقَ سوى بضعة براميل نفط، وبنى تحتية خاوية على عروشها أضنتها الحروب والاقتتال والفتن. الناس في مهب الريح، باتوا يسيرون بخطوات ثابتة إلى الوراء غارقين في مستنقعات الفقر والفاقة. دجلة والفرات أصابهما التيبس التام، وازدادت العواصف الترابية وارتفع مستوى التصحُّر وكأن العراقيين دُفنوا في مقبرة جماعية وهم أحياء.
كل تموز الشمس تجلد الكادحين بسياطها اللاهبة وتجبرهم على الخروج اعتراضًا على الفشل في إدارة الدولة ومواردها. الخدمات في تراجعٍ مستمرٍ، ونظام الدولة محصور ما بين المحاصصة المقيتة ومقت المحاصصة. التظاهرات تتبعها تظاهرات أكبر منها وكأنها أمواج مكسيكية تتكسر على ضفاف غول الفساد العظيم وانقضاض الهمجية على مقاليد الحكم، التغير لا يتناسب مع حجم التضحيات والدم المراق، الثكلى لا يشفي غليلها إصلاحات الحكومة العرجاء، واليتامى لا تعوضهم معونة الدولة البائسة عن رحيل آبائهم برصاص هم يدفعون ثمنه، المليونية الحاشدة عام 2031 أجبرت الحكومة على إجراء بعض التعديلات البسيطة في النظام السياسي فالحكم تحول من برلماني إلى رئاسي يتيح الحق لأي شخص قد تجاوز عمره الثلاثين ربيعًا ويجد في نفسه الكفاءة والمقبولية لأن يترشح لهذا المنصب.
السباق إلى الرئاسة يكون على مرحلتين. كل شيء يتم في المرحلة الأولى إلكترونيًّا، يطرح كل مرشح برنامجه الانتخابي على الشعب عبر منصة إلكترونية أعدت لهذا الغرض، يجرى بعده الاقتراع الإلكتروني، ينتقل المرشحون الأكثر شعبية إلى المرحلة الثانية التي تكون فيها المنافسة شرسة، ويستخدم فيها كل أنوع الأسلحة حتى المحرمة دوليًّا.
في هذه المرحلة الحرجة تجري عدة مناظرات للتعرف أكثر على المرشحين وبرامجهم، يواجه المرشح منافسه وجهًا لوجه ويطرح عليه الأسئلة مباشرة للإطاحة به وإظهار نقاط ضعفه.
في السنوات الأخيرة، اكتسبت المناظرة أهمية كبرى في تحديد بوصلة العراقيين في اختيار الرئيس عبر الاقتراع العام في البلاد كل أربع سنوات.
في انتخابات عام 2032 فاز الرئيس أبو زيدون بعد أن حشدت الأحزاب المتنفذة مؤيديها بالترهيب والترغيب، حصد الأغلبية الساحقة وتفوق على منافسيه على الرغم من أن الناس خرجوا عليه متظاهرين ومعربين عن امتعاضهم من طريقة إدارته المنبطحة والخنوعة للدولة.
أبو زيدون يتقن فن التكيف، ويعده هو مقياس الذكاء، يعد الحرباء أشد ذكاء وحكمة من الأسد على الرغم من أنها تعيش في بيئة قاسية جدًّا لكنها تكيفت مع محيطها في حين يعاني الأسد من الانقراض وسيلحق قريبًا بركب القائمة الطويلة من الحيوانات المنقرضة. ما هي فائدة الاعتراض على كل شيء ولعب دور المعارض المتمرد في بلد يسير بالمقلوب، والقوانين فيه معكوسة، وخزائن البلد مشرعة على مصراعيها لمن يجيد استغلال الفرص؟
بهلوان يرقص على الحبال المتعددة، مرة تجده يصلي في الصف الأول ويدعو الله باكيًا منتحبًا، ومرة تجده يخرج في عيد العمال مع جماهير الحزب الشيوعي مناصرًا ومؤيدًا لمطالبهم المشروعة.
نظريته هذه طبقها من جديد وفاز في انتخابات عام 2036، الكل كان يشيد بأدائه الحكومي باستثناء الشعب العراقي الذي بُحَّ صوت شبابه من أجل التغيير، لكنه أذهل الجميع عندما خرج معهم وشارك في التظاهر ضد حكومته وناشد من ساحة التحرير بتنفيذ جميع مطالب المتظاهرين؛ فقد كان فعلًا هو الشيء ونقيضه، يتلوَّن مع المزاج العام ويخلق الفوضى ويصدِّر الأزمات ليبقى ويستمر بالبقاء. أجرى جراحة بسيطة للدستور ورفع الفقرة التي تحدد عدد ولايات الرئيس ليمهد لرئاسة ديمقراطية مدى الحياة. أصبح الطريق معبدًا ليقطف ثمار الدربكة التي أحدثها ويفوز من جديد في الانتخابات المزمع إجراؤها عام 2040.
*****
- "سيداتي آنساتي سادتي:
اليوم المنازلة الكبرى والفتكة البكر.. اليوم أكون أو لا أكون.. اليوم والأيام القليلة المقبلة ستكشف لنا الرئيس الجديد، اليوم نفتتح وعلى بركة الله مناظرة المرشحين لرئاسة جمهورية العراق لعام 2040، بين الرئيس السابق أبي زيدون والمرشحة الشابة الدكتورة أنهار".
تصدح المقدِّمة هند بصوت جهور وهي ترفع الستار عن فعاليات المناظرة المفصلية والحاسمة لكشف النقاب عن ملامح القائد المقبل للبلاد.
تُعرِّف أطراف المناظرة، تبدأ بأبي زيدون، تصفه بالسياسي المحنك وحامي الدستور، درأ بحكمته كثيرًا من المخاطر عن العراق في خلال فترة حكمه، برعايته الأبوية وبساطته حاز على المقبولية، وتوافقت عليه الكتل السياسية التي تمثل جميع أطياف المجتمع، ذلل العقبات وخفض حُمَّى الصراعات والتناحر وقرَّب وجهات النظر بين أصحاب القرار من الطبقة السياسية. سعى لكسر شوكة الإرهاب والعمليات الإجرامية ورفع شعارات عديدة لمكافحة الفساد المستشري في الدولة.
- رحبوا معي بالسيد أبي زيدون.
تتابع بحماس وهي تصفق ترحيبًا به مع الجمهور، الذي يقف أغلبه إجلالًا لهذا السياسي المخضرم. أحد الحاضرين يهتف:
- نموت.. نموت ويبقى أبو زيدون..
والعوام تردد خلفه:
- نموت.. نموت ويبقى أبو زيدون..
تدخلت هند لتفرض الهدوء في القاعة، تستدير نحو "أنهار"، تقدمها بصوت أقل حماسة، امرأة أربعينية حاصلة على الدكتوراه في هندسة إدارة المشاريع من جامعة ليون الفرنسية، وناشطة في حقوق المرأة ومنظمات المجتمع المدني.
تعمل حاليًا أستاذًا مساعدًا في جامعة بغداد، لديها عدة بحوث في مجالات هندسية مختلفة، تطمح إلى تطبيق ما تعلمته من طرق الإدارة الاحترافية للمشاريع والبرامج الرشيقة عمليًّا؛ لتوجيه بوصلة الدولة نحو مصاف الدول المتقدمة. سجلت براءة اختراع في تطوير جهاز يسهم في إنقاذ الأطفال من الغرق. الطلب على هذه الأجهزة أصبح مطردًا بعد أن بنت الدول المتقدمة مجمَّعات سكنية عائمة فوق الماء لدرء ارتفاع منسوب المسطحات المائية المرعب الذي بات يهدد اليابسة جمعاء بالغرق الوشيك.
تنكمش أنهار خلف منصتها مرتبكة لا تعي خطورة ما هي مقدمة عليه، تحس عيون الحاضرين تطاردها، تبتلع شهيقًا عميقًا ثم تزفره بحدَّة، تحاول ضبط إيقاع أنفاسها المرتعشة، لتغدو ربيطة الجأش لا تفزع، تنظر إلى أبيها الذي يرسل لها بين الحين والآخر رسائل مكدَّسة بالحب ومعجونة بالطمأنينة، لكن وجوه باقي الحاضرين واجمة، ترمقها بنظرات شزِرة، ملامح عدم الرضا كانت بادية على سيماهم، لم تحُز مؤهلاتها على إعجابهم، بعضهم يرى أن المرأة لا تصلح إلا لخدمة زوجها وأولادها، شعرها الكستنائي المتطاير من غير حجاب يعد حصانًا مارقًا متمردًا على الأعراف والدين ويجلب العار لصاحبته مهما اجتهدت وثابرت، حتى المتفائل منهم يراها مجرد طفلة دخلت إلى مكانٍ مخصصٍ للبالغين، وجبة دسمة عاجلًا أم آجلًا سيلتهمها طباخو السياسة في البلد.
المجتمع تختلط فيه الأمزجة والتيارات، سواد الناس هنا يضعون مقاسات دينية للرئيس الجديد، لا يهمهم ما يحمل من الشهادات، أو ماذا يمكنه أن يقدم، تبقى سيرته الذاتية مجرد حبر على ورق ولا تساوي شيئًا أمام زبيبة الصلاة أو المسبحة ذات خرز الكهرب الضخمة وخاتم العقيق اليماني، حتى وإن سرق صاحبها أو باع الوطن بحفنة من اليوان الصيني.
تتقدم هند خطوات واثقة إلى الأمام كعارضة أزياء، ممشوقة ومثيرة، لتقدِّم لجنة التحكيم التي تتألف من ثلاثة قضاة مشهورين، مهمتهم إدارة جلسات المناظرة ومراقبة الحوارات، وتوضيح بعض المواد القانونية كلما دعت الحاجة لذلك. ولهم الحق في تأجيل المناظرة إلى موعدٍ آخر. رئيس اللجنة القاضي شرف الدين، قاضي المحكمة العليا، متجهم الوجه، أصلع يلبس نظارة سميكة العدسات. يعرف بالصرامة والشدة، يصدر حكم الإعدام على المتهمين المدانين من غير أن ترمش له عين وكأنه يشرب قدح ماء بارد.
تعرض لأربع محاولات اغتيال، نُفِّذ آخرها في صبيحة اليوم الذي أطلق فيه حكم الإعدام على صهر أحد قادة الكتل التي تحكم وتسرق فوق القانون، سيارة مُظَلَّلة اعترضت طريق القاضي في وضح النهار وسط الشارع، فتح الملثمون النار عليه وعلى سائقه، السائق قضى والقاضي نجا على الرغم من الطلقة التي أصابت ذراعه الأيمن وأحالته إلى عضو ميت، ملتصق بجسده لكنه غير قابل للحركة، يشير بيده اليسرى إلى هند لتمنح المتبقي من الوقت إلى الرئيس وأنهار.
المناظرة في جلستها الأولى بروتوكولية مقتضبة، تقتصر على تقديم السيرة الذاتية للمرشَّحين وكلمة مختصرة يلقيانها على مرأى ومسمع من كل التواقين إلى حكومة تنصفهم.
الفقراء يتأملون تغير الحال، والمهجَّرون يدعون الله جهارًا مرارًا أن يهدي ولاة الأمر ليلتفتوا إلى حالهم ويعيدوهم إلى ديارهم، المتظاهرون المرابطون جزعوا وهم يهتفون بالتغير لكن التغير لم يأتِ منذ عقود طويلة، تتغير الموضة والملابس وحال الدولة لا ينصلح وكأن الثروات نقمة على الناس، تحيلهم إلى مستهلكين، تقتل الرغبة في الإبداع وتزيد مطامع السُّراق والمختلسين وتكالب الدول على البلد.
يتنحنح أبو زيدون ثم يسترسل في خطبته:
-"بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب الأرباب ومسبِّب الأسباب.. والصلاة والسلام على محمد خير المرسلين وعلى آله وصحبه المنتجبين.
أما بعد؛ -يتوسط القاعة ثم يكمل ارتجاله بدون ورقة تساعده- فإني نذرت عمري من أجل شعبي، وتحملت الصعاب من أجلكم، لكن البلاء لا ينفك يُنزل علينا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، لقد هجرنا قرآننا وتركنا ديننا، وصارت شوارعنا مليئة بالعاريات الكاسيات والرجال المتشبهين بالنساء والنساء المتشبهات بالرجال.
يتنهَّد ويزفر حسرة ثم يقول:
- من يُرد لهو الدنيا فلينتخب غيري فأنا رجل أمسك على ديني كالماسك على جمرة، الطريق معي صعب والمخاطر جسام، أعداء الأمة يتربَّصون بنا، الصهاينة يفعلون الأفاعيل ويحيكون الدسائس..
ترتفع نبرة صوته ويصرخ: لكن عزَّ من قال:
ﱩ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﱨ ، أعدكم إن انتخبتموني فسوف نعبر إلى بَرِّ الأمان وتنجلي الغيمة الدكناء، بلادنا ستكون مقبرة الأعداء والمتربصين بكم سوءًا..
كما أعدكم أني سوف أكمل ما بدأت، أغلق الملاهي ودور النجاسة والفجور، وأبني ألف حسينية وألف جامع يصدح فيها ذكر الله، سنتقاسم كسرة الخبز معًا لكن لن نركع إلا لله".
يقاطع القاضي شرف الدين كلمة أبي زيدون:
- دولة الرئيس، أستميحك عذرًا، يرجى الالتزام بالوقت، وقد تجاوزت الوقت المخصص لك..
يرمقه بنظرة تنبئ عن عدم الرضا ويعود أدراجه نحو منصته، يقفز أحد الحضور هاتفًا:
- إن لم تفز يا فخرنا، سأفجر نفسي وعيالي وسط أعدائك يا سيدي المفدَّى..
يُهرع رجال الأمن صوبه، يقيدون حركته ويأخذونه خارجًا.
ترجع هند لتفرض الهدوء في القاعة، وتسمح لأنهار أن تلقي كلمتها، تقف وتقول بصوت متهدِّج:
- "مرحبًا..
أنا في الحقيقة.. لم أعتد بعدُ على أجواء السياسة والخطب الرنَّانة والمؤثرة على الرغم من مئات المحاضرات وعشرات البحوث..
أنا....".
يقاطعها القاضي شرف الدين:
- لا نكاد نسمع، لو رفعت صوتك أكثر، سيكون أفضل.
يلتفت أبو زيدون إلى أحد مساعديه ويضحك ضحكة فيها كثير من الخبث.
- نعم، سيادة القاضي..
رفعت صوتها بتكلُّف حتى بانت عروق رقبتها وتابعت:
-"يبدو أن الخُطب السياسية تختلف عن البحوث العلمية الدقيقة التي تصاغ كلماتها بحيث لا تقبل التأويل، أما حديث السياسيين، ومنهم السيد الرئيس، ففيه كثير من الطرق المتعرِّجة والجمل الفضفاضة المبهمة التي تقبل التفسير على أكثر من وجه دون أن تقيِّد صاحبها بأي التزام..
ما معنى: "نعبر إلى بر الأمان" و"الأعداء يتربصون بنا"؟ هكذا يطمس أي مقياس أو مؤشر لقياس نجاح الدولة أو عدم نجاحها؟
من أجل مَن نرضى بالذل ونقبل بكسرة الخبز وبلدنا يملك هذا الخير كله؟!
نحن نحترم حرية المعتقد ونحترم مقدساتنا ونعتز بها، لكننا يجب أن نؤسس لمنظومة دقيقة تقدِّر حرية الاعتقاد وتنبذ من يتلفَّف بعباءة الدين ويسرق باسمه، مثلما نميِّز الحشائش التي تنمو في حقل الورود المزهِرة.
أنا أحمل طموحًا لوضع أسس دولة المواطنة، دولة تحترم كل الأديان ولا تميز بين مواطن وآخر على أساس اللون أو المعتقد، لا حصص ولا محاصصة".
تأخذ نفسًا عميقًا وتكتسب ثقة أكبر، تغادر منصتها ويعلو صوتها: "نجاح الحكومات وفشلها يقاس بالمؤشرات، كم أصبحت نسبة الفقر؟ كم أصبحت نسبة الأمية؟ كم أصبحت نسبة البطالة؟ كيف هو حال الاقتصاد قبل أن يمسك الرئيس الفلاني زمام الأمور وبعد أن أمسك؟ أما ورعه وحسبه ونسبه فلا يُشبع الجياع ولا يشغل العاطلين".
تختم كلامها: سئم الجميع من تردي الوضع ويرغبون في التغيير، إذًا لماذا لا نغيِّر؟
*****
يعود شهم إلى بغداد، يحاول جاهدًا التوفيق بين تعليمه وتدارك فاجعة وفاة والديه، يذهب إلى مقهى البيروتي، يمضي أغلب وقته هناك، لا صديق ولا خليل، يدخن السيجارة الإلكترونية، يذاكر بعض مواد الهندسة الصعبة، يشرد عقله كل مدة، يحدق في رواد المقهى، بعض الشباب يحاولون تعلم تناول الطعام باستخدام الأعواد الصينية كنوع من أنواع الترف والإتيكيت. نتائج الحرب العالمية الثالثة أفرزت هيمنة الصين وحلفائها على مقدرات العالم وانتعش طريق الحرير الجديد، صارت ثقافتهم وديانتهم محط اهتمام العالم وأصبح التنين الصيني حاضرًا في كل احتفال.
يعيد نظره نحو كتابه، يراجع دورة حياة المشروع وطرق اختيار المشاريع الناجحة، يخزن المعلومات في دماغه. التعليم لم يعد صعبًا كالسابق، الشرائح الإلكترونية عالية الدقة باتت تزرع في دماغ الإنسان، تسمى "العقل الافتراضي المساعد"، وتحتوي على كم هائل من المعلومات، كما يمكن تحديثها وإضافة معلومات أخرى. الأغنياء هم الأسعد بهذا الاكتشاف المبهر فقد زال عنهم عناء المذاكرة والتحضير بعد أن وضعوا شرائح بسعات كبيرة ومواد أصلية لا تتفاعل مع الجسم البشري، في حين يضع عامة الناس شرائح تتراوح ذاكرتها ما بين ثمانية إلى ستة عشر (جيجا بايت) تكفي لتخزين بضع عشرات من الكتب وبعض الذكريات الضرورية.
يزيح منهج الدراسة من أمامه، يخرج من حقيبته ديوان "منزل الأقنان" للشاعر بدر شاكر السياب، يسحب بشراهة دخان سيجارته كأنه يتعاطى جرعة من المهدئات، يتلذذ بتلك القصائد العتيقة، يعتقد أن القصيدة كالنبيذ يزداد جودة كلما تعتق.
يهرب فكره مع قصيدة "سِفْر أيوب"، تراوده أحلام اليقظة، يمتزج ألم القصيدة بآلامه، تتلبد غيوم ماطرة، تثقل مخيلته، يظهر طيف من نور، بريق أمل يشق العتمة، يكسر أمواج اليأس العاتية، إنه طيف أنهار، أستاذة إدارة المشاريع في كلية الهندسة، يعشقها من غير أن يبوح لها، الحواجز تحاصر حبه الموءود قبل الولادة، فاتنة ومتعلمة ومتزوجة ولديها عائلة في غاية الروعة، لكن يا لهذا الحب الأعمى، لا يميز بين المعقول واللا معقول، بين الحياة والانتحار.
يجر ورقة بيضاء، يكتب بيت شعر، يمسحه، يضع رأسه بين يديه، يتعرق، تنثال عليه الأفكار الدافئة، يحولها إلى حبر مقفَى على ورق، بضعة أبيات بدائية الصنع، يفرغ فيها إرهاصاته ونوازعه، يوقف بلسع النار جرحه النازف، ثم يكسر قلمه، لا يستطيع البوح لأحد بما يعانيه، يلملم أغراضه المبعثرة، ينكب عائدًا نحو الأقسام الداخلية في الجامعة.
*****
تجلس أنهار منزوية في مكتبها، تحدِّث منهج جمعيتها الخيرية التي تُعنى بمحاربة التلوث والقضاء على أسبابه المتعددة. نظَّمت مع عدد من الناشطين والناشطات وقفات احتجاجية طالبت بسن قوانين تحافظ على البيئة وتحد من تلوثها.
الحكومة صماء بكماء عن أنين الطبيعة وتدهور مناخها، فتداري فشلها وعجز أذرعها التنفيذية باستخدام القوة المفرطة تجاه من يعترض أو يحتج.
- كيف حال ابنتي المرشحة؟
أبو أنهار يسألها وهو يطرق باب المكتب، تبتسم هي ابتسامة لا تظهرها إلا له، تجيب السؤال بسؤالٍ آخر:
- أبي.. أنا لا زلت محتارة في أمر ترشحي.. من الذي رشحني؟ من وقع الاستمارة عوضًا عني؟
يطرق رأسه في الأرض، ويقول في هدوء:
- تسوق الأقدار في طريقنا أشياء كثيرة، لا نجد تفسيرًا لها، لكن دائمًا ما يكون الخيار لنا؛ إما أن نقبلها وإما أن نرفضها، فاحزمي أمرك بالمضي قدمًا أو بالتراجع.
يسود صمت بينهما، تفكر في الأمر، الآلاف من الناس وضعوا ثقتهم بها، وانتخبوها إلكترونيًّا في المرحلة الأولى، مئات الرسائل التي تصل إليها يوميًّا، يعرب مرسلوها عن أملهم في أن يحدث منهجها التغيُّر المنشود في الواقع المزري، طلابها يتوسَّمون بها الخير، حتى ابنتها أزل، رسمت لوحة تضع فيها أمها حاملة علمًا يرفرف عاليًا والناس يصفقون لها، كما أنها لا تخفي طموحها في أن يكون صوتها مسموعًا وتعتلي بساط السلطة والنفوذ..
- هل ظهرت تلك البقع الحمراء من جديد؟
يقول الأب وهو يكسر الصمت الذي خيَّم على المكان، محاولًا تغيير الموضوع الذي يشغل جزءًا كبيرًا من تفكير ابنته الوحيدة.
أنهار تعاني من حالة غريبة ونادرة، عجز الأطباء عن تفسيرها، كلما استشعرت الخطر يقترب من شخصٍ عزيزٍ أو محبَّبٍ إلى روحها تنتابها موجات من الهلع والخوف وتظهر على وجهها وذراعها بقع حمراء تشبه الطفح الجلدي.
ظهرت هذه الحالة لأول مرة عندما شاركت في إحدى المظاهرات، وأصيبت صديقتها بعدة جروح بعد أن استخدمت الشرطة العيارات النارية الحية ضد المحتجين المطالبين بإنقاذ نهرَي دجلة والفرات من التلوث وارتفاع السن الملحي القادم من البحر.
تكيَّفت مع بقعها الحمراء وتعايشت معها، بل راحت تسخرها لصالحها؛ فكلما طفح جلدها عرفت أن شخصًا حولها في خطر.