أزل
أنهار تمثل التقاء جيل الطبقة الكادحة مع الأرستقراطية، والدها ضابط متقاعد تحول من غرور القيادة وصولجان السلطة إلى حياة المتقاعد صاحب الدخل المحدود، والوقت الوفير، يتفقد ابنته الوحيدة، يلاعب حفيدته الوحيدة، ثم يعود وحيدًا يعصر ذكرياته، يطالع صوره وهو يخوض أشرس المعارك، يتحسس آثار الجراح القديمة، تحت كل جرح تختبئ قصة، يزور مقابر أصدقائه التي خلفتها تلك الحرب، يسترجع معهم الذكريات.
كان يتمنى أن ينجب ولدًا، لكن أنهار عوضته عن تلك الأمنية، صارت جنديَّه الأشوس، صاحبة عزيمة وبأس لا ينثنيان، لا تعرف الانهزام.
في أثناء الدراسة الابتدائية، اعتدى عليها طفل ضخم البنية، ظلت تقاوم لكماته المستقيمة وركلاته المبرِّحة، أمسكت بإحدى أذنيه وقضمتها، وعلى الرغم من أنه كسر ذراعها لكنها كانت تشعر بنشوة المنتصر وهي تراه يلوذ بالفرار ممسكًا أذنه، والدم يجري منها حتى لطخ ياقة القميص الأبيض. لم تكن تسمع صوت المدرِّسة الموبِّخ، تنصت فقط إلى زملائها وهم يهمسون، "تلك التي اقتطعت أذن عدي وكفَّت أذاه عنَّا، إنها بحق بطلة".
ضمَّد أبوها جراحها ولم يعاتبها فقد كان يراها محاربًا إغريقيًّا يدافع عن حقِّه، انحنى ظهره في سبيلها حتى أصبحت أستاذة جامعية تدير مكتبًا استشاريًّا مشهورًا. تحولت تدريجيًّا من الحياة البسيطة إلى الترف. تزوجت من المهندس والمقاول المعروف أحمد طاهر وأنجبت طفلة في غاية الروعة سماها جدها أزل، فِلقة قمر، تتقاسم هي وزهرة الأوركيديا تسعة أعشار جمال هذا الكون، لديها غمازة في الخد الأيسر تأسر اللب، وشعر كستنائي حريري كأمها يداعب شحمات الأذن.
انتقلت العائلة الصغيرة المؤلفة من الزوجين والطفلة إلى بيت جميل في الجادرية، باحة كبيرة وحديقة خضارها بهي وأشجارها وارفة. أنهار تربطها قرابة مع جارهم أبي درة، ابنته تشاطر درة اللعب معظم الوقت، الجار يستقبل بنت الجيران دائمًا، أم أزل تتأخر في الجامعة وينشغل أبوها في تنفيذ المقاولات والمشاريع التي يقع أغلبها خارج بغداد.
لا أحد يستطيع أن يمحو عيد ميلادها السابع من الذاكرة عندما احتفلت بمفردها مع عائلة درة، الأب بات خارج المنزل للعمل، والأم خرجت مضطرة لحضور اجتماع طارئ في الجامعة، فوزير التعليم يحضر الاجتماع بمعية رئيس الجامعة، والكل يطرح أفكارًا جديدة في حضرته لتطوير المؤسسات التعليمية على وجه عام وجامعة بغداد على وجه الخصوص، يحين دور الدكتورة أنهار، تقف بوجل، تتلعثم وتتناثر منها جمل غير مترابطة، تنكزها صديقتها وتهمس:
- ما بالك يا أنهار؟ صار وجهك أحمر.
تنظر إلى يدها، بقع حمراء تغطيها، تغادر الاجتماع وتخرج مذعورة، تترك الوزير فاغرًا فاه ومحدِّقًا لا يرمش، ينتابها شعور بأن ابنتها في خطر، تقود بسرعة جنونية، تتجاوز الإشارات المرورية الحمراء من غير وعي.
- أين أزل؟ أين ابنتي؟
تصرخ مقتحمة بيت أبي درة، يبهت الجميع، أم درة تشير بيدها إلى الأعلى وتقول:
- يلعبان فوق.
تصعد السلالم وهي تهذي، لا تجدهما في غرفة درة، تلحظ الباب المؤدي إلى سطح المنزل مفتوحًا، تلمحهما، تكاد أزل تسقط من أعلى وهما يطاردان حمامة حطت لترتوي، تصرخ عليها، ترتدع وتعود أدراجها، أنهار تحتضن ابنتها وهي ترتجف من رأسها حتى أخمص قدمها، تقول لها والدموع تنهمر:
- هل أنت بخير يا روح الروح؟
- ماما، لا تخافي فأنا أستطيع الطيران مثل تلك الحمامة.
تجيب أزل وهي تشير إلى الحمامة المحلِّقة في السماء، أبو درة ينهر ابنته وينهاها عن مثل هذه التصرفات الخطرة، يعتذر لأنهار ويعدها أن لا يبعد ناظريه عن الأطفال مرة أخرى.
تهدأ قليلًا، تغادرها البقع الحمراء، تحاول الاتصال بزوجها أكثر من مرة، لا يجيب إلا بعد المحاولة العاشرة، تخبره، لا يكترث كثيرًا، تسمع صوتًا نسائيًا بجواره، تسأله فينكر، يدعي أنه صوت التلفاز، تنبجس حمم الشك في قلبها من جديد.
علاقتها بزوجها علاقة صورية لا عمق لها، يشوبها الشك القتَّال، الشعور بالخيانة يتملكها، وجذوة الحب قتلها الروتين، العشرة مزَّقها الانشغال، الاثنان يهرولان بأنانية نحو صرح الذات الممرَّد.
تنهي المكالمة وهي تستذكر مواقف أنبتت الريبة في خلدها، في إحدى ليالي تشرين الباردات، عاد يترنَّح سكران وفي خده أثر قبلة حمراء، زعلت، صالحها واعتذر، وعدها أن لا يكررها لكنه حنث بقسمه بعد أشهر قليلة وعاد أكثر طاووسية من ذي قبل.
يهاتف عدة نساء شبقات، يتأخر خارج البيت كثيرًا، تتلبد الغيوم السوداء في رأسها، تسأل نفسها وهي تنظر إلى ابنتها التي غفت في حضنها، "كيف تعود بعلاقتها معه إلى جاده الصواب؟"
*****
حبها للتميز يستنزف وقتها، لا تجد نفسها إلا وهي تقف بين طلابها، تداعب عقولهم بالأرقام بل تخترقها، بعض الأحايين تعرف ما يجول في خواطرهم قبل أن يطرحوا تساؤلاتهم، تحلل جذور المشاكل وتجد لها الحلول، مع صعوبة المشاكل الهندسية وتشعبها. الأمور ليست وردية بالكامل، يتمرَّد بعض الطلاب، يشاكس بعضهم الآخر في أثناء المحاضرة.
شهم يشكل أكبر هواجسها، الشخصية الجدلية في الدرس، جريء ومقدام، حادٌّ الذكاء، يصعب السيطرة عليه، حصان برِّي تفشل كل محاولات ترويضه، يفكر خارج الصندوق، يحرجها بطرحه غير المتوقع، درجاته متأرجحة بين الثرى والثريا، غير منضبط في الحضور.
نتائجه في الفصل الأول متدنية، حادثة انتحار والديه أثرت في نفسه، لكنه حتى بعد أن تعافى من تلك الحادثة المروِّعة، إجاباته لم تكن مقنعة، حيرت أنهار وجعلتها تضع يدها على خدها، تجرُّ قلمها الأحمر، تكتب الدرجة ثم تشطبها، يلازمها التشتت، تكرر الحالة ثلاث مرات. السؤال الرابع كان واضحًا ومباشرًا: "ما هو المسار الحرج للمشروع؟" لكن الإجابة لم تكن واضحة ومربكة لدكتورة متمرسة وذات باع طويل في السلك التعليمي.
-" يا شذرات العقيق
يا أعبق الرحيق
يا طيفًا دافئًا.. وسط الصقيع".
كانت إجابته على السؤال العلمي أبياتًا شعرية، بل إنها أبيات غزل، استدعته إلى مكتبها، طالبته بتوضيح، ما أدلى به لم يكن مقنعًا، حثته على التركيز على دروسه، تؤمن أنه مشروع طالب متفوق لكنه لم يكن يكترث. يعتقد أن التعليم الجامعي يزيد من نسبة غباء الإنسان، يضع الإبداع في قوالب ضيقة، يرسم حدودًا لطريقة التفكير.
- شهم، أعرف أنك تملك أكثر من هذا المستوى، هذه حصة هندسة وليست سوق عكاظ.
تقول له بصوتٍ حاد، يضع عينه بعينها ويبتسم:
- كيف يولد الإبداع من أرحام لا تتمرد؟ أنا مجرد هاوٍ أكتب شعرًا بلغة ما زالت تحبو لكني أقطِّر عمري حبرًا لنظم تلك الأبيات ثم أنفخ في كل بيت من روحي فيصير حيًّا، "إنني أنطق بما لا يجرؤ بعضهم على التفكير فيه".
يستعير بعضًا من كلمات "ديستوفيسكي"، يعقد حاجبيه ويكمل:
- حسبتها بالورقة والقلم، سأصل إلى النجاح بدون هذا السؤال، فكتبت ما أحسست به.. هل أعجبتك الأبيات؟
تنأى بعينيها عنه، تحاول أن لا تخرج عن الموضوع وتضيع في متاهات، وتمتمت:
- يجب أن لا ينحصر تفكيرك في النجاح فقط.
لم تكن لديها الجراءة لتسأله من يقصد في أبياته.
- جامعاتنا تعلمنا كيف نصبح أغبياء، تؤهل جيوشًا من المهندسين، جل حلمهم أن يجدوا وظيفة وضيعة عند مدراء تجلبهم المحاصَّة المقيتة والسلاح الغدار ليتسلطوا قسرًا على رقابنا.
هي توافقه الرأي في كثير من طروحاته لكنها مجبرة على الالتزام باللوائح والسياقات المتبعة في الجامعة وإلا خسرت وظيفتها التي تؤمِّن لها دخلًا جيدًا.
يرجع إلى الوراء خطوة واحدة ثم يكمل:
- على أية حال، أنا أستطيع أن أخمن السؤال الثالث من ورقة الاختبار التي ستُعدينها الشهر المقبل.
- ماذا تقول؟ مستحيل!
- هل نتراهن؟
تقف، تعقد يدها حول صدرها، تستفزها كلماته، وتحرر روح التحدي لديها، تجيب بنبرة حادة:
- إذا خسرت فهل تعدني أن تثابر من أجل التفوق وتواظب على الحضور؟
- موافق.
يجيب وأجنحة التحدي تطير به نحو السماء، يعود إليها بضحكة ماكرة:
- إذا خمنت السؤال الثالث من الامتحان المقبل، هل توافقين على ارتداء الفستان الأسود في المحاضرة المقبلة، لقد كنت فائقة الجمال وسَبيتِ قلوب العباد في حفل بداية السنة؟
ينسحب بهدوء، يترك أنهار وقد احمرَّت وجناتها، كلماته أحرجتها، تغلق باب المكتب، تفكِّر فيما يقول طالبها لقد نجح في أن يشغل حيزًا من بالها المزدحم، تقرأ أبياته من جديد، تعجبها كلماته، يشرد ذهنها بعيدًا فتلجمه، تتصل بزوجها لا يرد كالعادة، ترمي الهاتف أرضًا، تشتاط غضبًا.
*****
- أهلًا وسهلًا.. أعزائي المشاهدين وضيوفي الكرام.. نحن في اليوم الثاني من مناظرة الرئاسة.. ثلاثة وأربعون متنافسًا في المرحلة الإلكترونية، لم يعبر العتبة الانتخابية إلا الدكتورة أنهار بما يقارب ثلاثة ملايين صوت، وأبو زيدون بما يزيد عن خمسة ملايين صوت.
تقول المقدمة الحسناء هند وهي ترحب بالحاضرين ثم تكمل:
- المناظرة قد تمتد لعدة أيام بحسب ما يراه القضاة مناسبًا ليكون منهاج كل مرشح وبرنامجه واضحَين للناس الذين سوف يدلون بأصواتهم في المرحلة الثانية والحاسمة من الانتخابات.
تعود إلى المنصة وهي تقلب في جدول أوراق اليوم ثم تستدرك:
- تتألف المناظرة من ثلاثة أجزاء رئيسية؛ الجزء الأول أنا أسال سؤالًا ولكل من المرشحين أن يجيبني عليه في مدة لا تتجاوز دقيقتين.
تبلع ريقها وهي تنظر إلى المرشحين المنتصبين خلف منصتيهما.
أما الجزء الثاني فسوف يكون سؤالًا يطرحه أحد المرشحين للآخر؛ وسيخصص الجزء الثالث لأسئلة القضاة والجمهور والاستفسارات القادمة عبر البريد الإلكتروني. لنبدأ باسم الله وعلى بركة الله.
يبدأ الحاضرون بالتصفيق الحار بينما يهتف أحدهم:
"الوطن أنت يا أبا زيدون.. ولا وطن من غيرك.."
الناس يرددون العبارة حتى تدخلت هند، تلزم الجميع بالسكوت وتقول:
- السؤال الأول: ما هو تقييمك لوضع الدولة الحالي والرؤى المستقبلية التي تعمل على تحقيقها فيما لو فزت؟ ونبدأ مع السيد أبي زيدون لمدة دقيقتين.
أبو زيدون رجل لَسِن، متمرس على الظهور أمام الكاميرات والأضواء. شكر الله وحمده كثيرًا وصلى على النبي وردد آية من الذكر الحكيم، كان حريصًا على إظهار التدين للناس، يخط حوله دائرة القدسية، هالة وهَّاجة تمنع رؤية العيوب، يشرح كيف أن البلد خرج منتصرًا من حربه ضد الإرهاب وبدأ يتعافى تدريجيًّا وأكد أن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة إعمار وبناء ورفاهية.
خطبته العصماء تحيد عن تحليل حقيقي للوضع المتردي للبلد، يداعب مشاعر الفقراء، يصدِّر الأزمة إلى الخارج، يشير بأصبع الاتهام نحو عدو وهمي وخفي يجعله شماعة يعلِّق عليها فشله ضاربًا عرض الحائط بكل المؤشرات التي تصرخ بأن الوضع ليس على ما يرام وأن كل الثروات تنهب بانتظام، ألاعيبه تنطلي على كثيرين، يوهمهم أن الفقر أمر الله وأن المؤمن ليس أمامه غير الصبر على المصائب.
ينهي كلامه، تتوجه الأنظار نحو أنهار التي يصيبها شيء من التوتر، تطقطق أصابعها، لا تعرف أين تضع يديها، الوقوف أمام الطلاب يختلف عن الوقوف أمام القضاة والكاميرات وعشرات القنوات الفضائية، وأمام منافس له نفوذ عظيم، صوتها يرفض الخروج إلى الهواء، تناولت كوب ماء، ارتشفت منه رشفتين، تحلِّل بصوت متهدج الوضع الفوضوي والمأساوي الذي يمر به البلد نتيجة الإدارة الفاشلة والتجاذبات الحزبية والطائفية التي يكابدها. تذكر أرقام وإحصائيات ومؤشرات عالمية ومحلية تدعم كلامها، ترغب في إحداث تغيير جذري في عمل المؤسسات وتمكين الشباب، وحصر السلاح بيد الدولة بحيث لا يكون أحد فوق القانون، وتمهيد أرضية لتدفق الاستثمار وتقليل هروب رؤوس الأموال خارج البلد.
- يجب أن نعي جيدًا أن العراق اليوم ليس دولة بالمعنى الحديث للدولة، وإنما مجموعة عصابات توافقوا على رئيس تسوية لا يملك من أمره شيئًا.
وما إن رمت جملتها الأخيرة حتى عمَّ الصخب في أرجاء القاعة كأنها رمت قنبلة وسط الحشود. أحد المحامين التابعين لأبي زيدون يحاول استغلال وقع الجملة لصالح موكله، يترجل ويهتف:
- العراق أكبر من أن تهينه تلك المتبرجة.
بينما يصيح الآخر:
- كيف تتطاولين على العراق وتقولين إنه ليس بدولة؟ العراق مهد الحضارات وهو دولة قبل أن تكون لأسيادك دولة.
الجميع يصب جام غضبه على الدكتورة أنهار التي لم تقدِّر ضحالة المستنقع الذي غرزت فيه قدميها.
يتنفس أبو زيدون الصعداء، وترتسم على محياه ابتسامة فيها كثير من الخبث واللؤم وهو ينظر بطرف عينه نظرة رضا إلى المحامي الذي استثار عاطفة الناس وحول النقاش الموضوعي إلى هرج ومرج.
يستخدم القاضي شرف الدين سلطته للسيطرة على الفوضى التي اعترت القاعة، يؤجل المناظرة إلى الأحد، الرابع من أيلول لسنة 2039.
تخرج أنهار مذعورة تجرُّ أذيال الخيبة، تبحث عن ملاذ آمن، تنظر إلى أبيها متخوفة من المرحلة القادمة، أصبحت هدفًا لعملية سياسية لا رحمة فيها ولا شفقة بينما هو يبتسم ويمسك يدها محاولًا إيصال طاقة إيجابية تمنعها من الانهيار.
الصحفيون يحيطون بها، يقدمون ميكرفوناتهم مع جملة من الأسئلة التي يتمحور أغلبها حول جملتها الأخيرة.. ترفض التكلم حتى استفزها سؤال: " لماذا شتمتِ الوطن؟"
تقول وقد بدأت تنتحب:
- أنا لم أشتم بلدي.. أنا أحبه.. أنا فقط حاولت أن أضع يدي على الجرح الغائر من أجل أن ينهض مهد الحضارات من جديد.. من أجل أن ينهض الطود الأشم ويلفظ الخونة خارج حدوده..
وعلى الرغم من أن كلماتها كانت نابعة من القلب، مشفوعة بدمعات أحرقت الوجنات، لكنها لم تلقَ آذانًا مصغية؛ فالإعلام منقسم ما بين متصيِّد في الماء العكر، أو موجَّه يحمل أجندة الممول والجهات التي تقف خلفه.
تنهال عليها الأسئلة من كل حدب وصوب:
-"هل ستنسحبين؟"
"هل ستعتذرين للشعب؟".
تدير وجهها وتهرب منهم، تقضي الهزيع الأول من الليل مختبئة في حضن أبيها تراقب أزل وهي تلعب. تراودها كوابيس اليقظة، تفكر بجدية في الانسحاب، زميلتها في الجامعة الدكتورة إيمان تزورها وتشد من أزرها، تبث فيها روح التحدي من جديد، خسارة جولة ليست نهاية العالم.
- اخرجي للعالم.. دافعي عن وجهة نظرك.. لا تدعيهم يتلاعبون بك.. أنهار التي أعرفها لا تستسلم بهذه السهولة.
تقول إيمان وهي تجر صديقتها جرًّا إلى مقهى رضا علون في الكرادة، تطلب قهوتها المُرَّة المفضَّلة، تعدل مزاجها قليلًا، تذكرها بماضيها الناصع والحافل بالتحديات ومجابهة الصعاب، يتعرف عليها أحد رواد المقهى، رجل كهل تضع الحياة أوزارها على وجهه وجسمه فتقوِّس ظهره، وتبيِّض شعر رأسه ولحيته. يسير نحو طاولتها ويهمس بحبور:
- لا تدعيهم يفوزون.. فهم لصوص واللص مهما كان يبقى جبانًا ومنهزمًا داخليًّا.. كوني مع الشعب فالشعب أغلبية.. والأغلبية ستنتصر وستندحر الهمجية..
يدنو منها، يقدم لها وردة فوَّاحة، وينسحب والابتسامة لا تفارق محياه، فعلًا هي تحتاج إلى تلك الكلمات التي تولِّد لديها رغبة شديدة في العودة إلى النزال من جديد.
*****
الصمت يعم القاعة إلا من نقر القلم على السبورة الذكية، ترسم أنهار الخطوط والدوائر التوضيحية، تشرح كيف تتحول الأفكار إلى مشاريع مهمة تحمل قيمة مضافة عالية المردود؟ كيف يحدث التزحف في النطاق؟ ولماذا تتلكأ المشاريع؟ وما هي الطرق الناجعة لتلافي هذه التلكؤات؟ أناملها تسطر المعادلات وعقلها يحضِّر لنزال يوم الأحد، تنوي استئناف المناظرة مع أبي زيدون من جديد.
تلتفت إلى طلابها وهي ترى في أعينهم اللهفة لسماع ما حدث خلف الكواليس في المناظرة، وكيف جرت الأمور مع دكتورتهم، وهل ستصمد أمام عصف إعصار أبي زيدون المدمدم؟
تقف في منتصف القاعة الدراسية وتقول بصوت واثق ومليء بالحماس:
- أنا لا أعرف من رشَّحني ولماذا وكيف؟ لكنني لن أخذل الأصوات التي وثقت بي لإزاحة السيد الرئيس الجاثم على قلوبنا.
تتنهد، تسير خطوتين إلى الأمام وتكمل:
- أنا لا أملك أسلحته وأساليبه ولكنني أملك روح جندي يذود عن عرضه ووطنه حتى آخر رمق.. شكرًا لمن ساندني وشكرًا لمن تفهَّم موقفي وسط التضليل الإعلامي الأهوج.
كلمات قليلة لكنها مؤثرة، ألهبت الحماس في نفوس طلاب جامعيين شباب يرون الدكتورة أنهار أيقونتهم وأملهم في تغيير واقع لا يسر صديقًا ولا عدوًّا.
تدعو الطلاب إلى استراحة أمدها عشر دقائق ثم التهيؤ لامتحان الفصل الثاني، وعينها تترصد شهمًا الذي يقبل عليها، وهو يحمل قصاصة ورق صغيرة، يضعها أمام طاولتها ويخرج، يتغير لون وجهها، تقول في نفسها: "كيف عرف هذا الوغد السؤال الثالث؟"
يلحظ أحد الطلاب قسمات وجهها، يسألها:
- دكتورة، هل هناك شيء ما؟
تجيب باقتضاب:
- كلا.. كلا.
تنفد الدقائق العشر، وهي ما زالت تحاول إيجاد منفذ، الأسئلة أضحت مكشوفة على الأقل لطالب واحد، يجلس الطلاب في مقاعدهم، وجوههم واجمة، يرهبون بطش الأسئلة وصعوبتها، يرفع شهم يده ويقول:
- دكتورة هل تسمحين لي؟
يقول شهم وهو يبتسم، يصاب قلبها بالخفقان، تخاف تصرفاته غير المنضبطة، ترد:
- تفضل؟
- لدي برد اليقين أنك ستفوزين.. فقط اصمدي.. ستمر بك أيام عسيرة.. لكن إن مع العسر يسرًا.
يقول بصوت نابع من القلب، يدغدغ مشاعر الجميع وهي في مقدمتهم، لكنها تؤثر أن لا تجيب أكثر من "شكرًا".
تعلن تأجيل الامتحان إلى الأسبوع المقبل، يعم الفرح في القاعة، يخرج الجميع، تلتمس من شهم أن يتبعها إلى مكتبها، تغلق الباب خلفهما، تطالبه بتفسير:
- شهم، اصدقني القول، كيف عرفت؟
- لدي شيطان.. يجب أن توفي بوعدك.
يجيب بشكل مبهم، ويطالبها بالرهان، ترد بحزم:
- أنت مجرد "هكر" وسارق للبيانات.. أعدك بأني سأعرف قريبًا، وحينئذٍ لن يبقى لديك مستقبل في هذه الجامعة.
- إنني أكثر من مجرد "هكر"، ولن تجدي شيئًا يدينني.. بالمناسبة ستهزمين أبا زيدون في هذه الجولة لكن لا تفرحي كثيرًا فالطريق ما زال طويلًا.
يلقي هذه الكلمات على مسامع أنهار المشدوهة، لا تحرِّكُ ساكنًا، يلوذ هو بالفرار، يتركها تضرب أخماسًا بأسداس، تلقي نظرة ثانية على قصاصة الورق، كتب على أحد وجهَيها السؤال الثالث بالضبط كما كانت تنوي طرحه على طلاب صفها.
- كيف فعلها هذا المجنون؟
تغمغم وتقلب قصاصة الورق على الوجه الثاني، كتب عليه أبيات شعر:
متعب ما بين السندان والمطرقة
أكبح جماح نفسي التوَّاقة الشَّبِقة
تائه بين الرمش والعين..
بين غبار الصدِّ ورائحة الزنبقة
مرهَق
منهَك
متشرنق داخل شرنقة
أيا ملاكي..
أيا ملهمتي..
دِينٌ جَديد حبُّك أم هرطقة؟!!
تطوي الورقة، تتنهد وتسرح بفكرها بعيدًا، "ماذا تريد يا شهم، لماذا ترسل لي شعرًا غراميًّا يأسر الفؤاد؟ هل أنت معجب بأستاذتك المتزوجة؟ إلى أين تريد أن تصل أيها المجنون؟
*****