Darebhar

شارك على مواقع التواصل

تسير إلى جوراه ممسكةً بورقةٍ خطت فيها ما يحتاجه المنزل، تلك العبارة التي أثارت حنقه حين نطقت بها بعد حوالي شهرٍ من زواجهما، ورد قائلًا:
 وهل تحدث إليكِ البيت قائلًا ماذا يحتاج؟!
في أول مرة سمعت منه تلك العبارة ضحكت؛ كانت تحسبها دعابةً؛ دعابةً فقد تكون حقًا العبارة مضحكة، قررت وهي تضحك ألا تكررها؛ كي لا تبدو سخيفة مكررة. في المرة التالية حدثته:
 أحتاج بعض الأشياء من السوبر ماركت.
فأجابها بنفس الضيق:
 هل تلك الأشياء ضرورية جدًا؟ ظنت أن لا وقت لديه؛ فأجابته:
 نستطيع أن نؤجلها للغد إن كنت متعبًا اليوم.
في المرات التالية وأيًا كانت العبارة التي تتحدث بها عن احتياجات المنزل كان يستقبلها بنفس الضيق، بل وأحيانًا الغضب! لتعرف أنها ليست العبارة هي ما تثير ضيقه.
رده الأول الساخر لم يكن مجرد تعليقٍ ضاحك على صيغة عبارتها التي قد تبدو حقًا مضحكة؛ وأن ضيقه وحنقه كان للفكرة ذاتها وليس للصيغة التي عبرت بها.
تدفع عربة التسوق أمامها، بينما يسير عصام إلى جوراها مستغرقًا بكل حواسه في تلك الورقة التي يمسك بها والتي سجل بها ما كتبته هي قبل توجههما للمتجر بيومٍ كامل، مضيفًا إليها بعض الملاحظات، تنظر إليه في يأسٍ وهي تراه أحيانًا قد يخرج ما تضعه في العربة، ويعيده إلى مكانه ثانية، متجنبًا النظر إليها، لا تهتم بما يفعل أحيانًا وحينًا كانت تعيد ما أخرجه من العربة إليها غير ملتفتة لنظرته الممتعضة الغاضبة.
"اشترِ منتجًا واحصل على الآخر مجانًا"
لافتات انتشرت في بعض أقسام المتجر؛ عبارة عبرت عيناها فوقها ومن ثَمَّ عادت لتنظر إليه مجددًا في صمتٍ، صمتٍ صار هو التيمة المكررة في حياتها، تتنهد في أسى وهي تتذكره منذ عدة شهور.
حين ظهر هو في حياتها، وأحاطها بهذا الاهتمام المفرط والكثير من الحنان، كانت في مرحلةٍ تحاول تجاوزها، وتسعى للتعافي من آثارها على أمانها النفسي وثقتها بنفسها التي لم تهتز يومًا.
أثناء محاولتها للتعافي.. للتناسي، وعبور ما مضى أو تجاوزه، ظهر هو ليعيد إليها شيئًا من الثقة التي تلاشت داخلها، ويمنحها بعضًا من حنانٍ كانت في احتياجٍ إليه ولم تجده مِن كل مَن يحيطون بها، فجميعهم كانوا يرونها غير حكيمة ومتسرعة في قرارها الذي لم تتردد فيه، وحين صممت عليه، كانت نظراتهم وعباراتهم مليئة بالتأنيب والاستنكار لما تريد.
كانت تعبر مرحلة عصيبة من حياتها، حدثت نفسها حينها أنها ستستطيع وحدها أن تجتازها، وأن تتأقلم على وضعها الحالي، وتتعايش مع ما كتبه الله لها وارتضت به، ولكنها جميعًا كانت محاولات استنزفت من طاقتها وحيويتها الكثير ولم تزدها إلا شحوبًا ووحدة!
ففي منزل أسرتها الذي عادت إليه حاملةً هذا اللقب الكريه بالنسبة لهم، فاقدة كل أملٍ في حياةٍ أخرى، ويائسة من أي رياحٍ تهب لتغيير تلك المرحلة التي اعتبرتها محطتها الأخيرة في الحياة ومن الحياة، ليالٍ كثيرة مرت عليها في بطءٍ قاتل ووحدة قاسية، ينأى النوم بعيدًا بعيدًا عنها، وحين تغفل عيناها للحظاتٍ قصيرة، كانت ترى علَيَّ -من كان زوجها- هناك إلى جوار من أخذت مكانها في حياته، في منزلها، في فراشهما، تراها تركب إلى جواره في سيارته التي شهدت الكثير من ذكرياتهما في فترة الخطوبة.
كانت هذه الأطياف تلاحقها في غفوتها لتفيق على حسرةٍ تعتصر قلبها، فتحتضن وسادتها وتتمتم بكلماتٍ تدعو فيها الله أن يرحمها ويمنحها سكينة القلب، وأن تتلاشى من أمام عينيها تلك الأطياف التي يئن لها القلب ويتشتت بها العقل؛ تتناول عقارًا مهدئًا وصفه لها الصيدلي؛ علّها تحظى بسويعاتٍ من النوم قبل ذهابها للعمل، حيث أصبح عصام هناك دومًا في انتظارها بابتسامةٍ صغيرةٍ وعينين تتحدث بالكثير من الكلام الذي لا يصرح به.
تتنهد في حسرةٍ وهي تتابعه يقارن بين أسعار وأوزان عبوات الصلصة؛ ليفوز بأقلهم سعرًا وأكثرهم وزنًا، حتى لو كانت قد أخبرته من قبل أن هذا النوع ذو جودة رديئة أو طعم غير محبب، تسير إلى جواره في بطءٍ لتترك له وقتًا للمقارنة، واستعمال تطبيق الآلة الحاسبة في هاتفه الجوال أحيانًا لإجراء تلك المقارنة بكل دقةٍ وجدارةٍ وكأنه يراجع الميزانية السنوية للشركة!
حين كانت على وشك التعافي، حين كانت تحاول جاهدةً الهروب من هذه الأطياف، حين كان اهتمامه بها، وغموض أحاديثه أحيانًا يزيد من حيرتها.. تشتتها.. وارتباكها وهي التي كانت أقصى طموحاتها أن تصل لاستقرارٍ على أرض الواقع أمام الآخرين وأمام نفسها؛ فقررت أن تبتعد قليلًا ربما تنسى أو تتناسى. طلبت إجازةً لمدة أسبوعين من مديرها الذي قدر ما تمر به؛ فوافق.
قضت الكثير من الوقت بين جدران غرفتها، أخرجت ما بها من كتبٍ كانت أمها تحتفظ بها في كرتونة تحت الفراش، أبعدت عن عينيها كل ما يذكرها بعلَيَّ، ابتاعت هاتفًا جوالًا جديدًا بلا صورٍ لهما معًا؛ فهي لم تستطع مسح صورهما بيدها، ولم تشأ أن تظل محتفظة برقم هاتفها الذي اشتراه لها ليكون شبيهًا برقمه؛ فاشترت خطًا جديدًا، ذهبت لأقرب مكتبة لها وابتاعت كتبًا للتعافي من الاكتئاب وجدت في بعضها ما انتفعت به بالفعل، بينما كان البعض لا يمنحها أي استفادة وكانت كتبًا بلغة عامية ضحلة.
مر أربعة عشر يومًا لتعود للعمل متألقةً زاهيةً كما كانت قبل الطلاق، وكان هو هناك ينتظرها في لهفة واهتمام.
في الصباح، ينتظر بالقرب من باب الشركة، وفور أن يراها تخرج من سيارتها يسرع ليلتقيا على درجات السلم وكأنها مصادفة! يتصل بها فور جلوسها على مكتبها عبر تليفون الشركة؛ ليحدثها بأنه سيكون يومًا جميلًا لأنها أضاءت صباحه فيه، وفي موعد الانصراف، يتلكأ عند باب الشركة حتى يراها تغادر الشركة؛ فيغادرها بعدها.
تعود لمنزل أبيها لتستقبلها أمها بأن زوجة طليقها قد وضعت مولودها، وأنها تسرعت حين تركته لها لقمة سائغة، وأنه كان متمسكًا بها حتى بعد زواجه من تلك التي تزوجها فقط لتأتي له بالأطفال، وأنه ماطل كثيرًا لتبقى على ذمته، وليبقى إلى جوراها حتى لو أنجب وهي التي رفضت، وها هو اليوم يهنأ بحياته بينما هي باقية بلا حياة وبلا أمل؛ تشيح بوجهها عنها قائلةً بلهجةٍ لا تزال تحمل شيئًا من المرارة:
 حتى لو كنت ارتضيت بأن أحتفظ ببيتي وبه حتى لو أنني كنت واثقةً من حبه لي وتمسكه بوجودي في حياته، لم أكن لأحتمل شراكتها لي فيه، ومهما احتملت يومًا ما كان سيتركني، كان سيفعلها بعد شهر أو بعد عام، ربما ليس من أجلها ولكن من أجل وليده. لقد فعلها وتزوج دون علمي، فلم لا يتركني وقد علمت؟!
تلوذ بجدارن حجرتها، ويحتضنها فراشها، وتأخذها كتبها بعيدًا عن كلمات أمها القاسية، ونظرات والدها الناطقة بخوفه الدائم عليها من وحدة كُتبت أن تعيش فيها بعد رحيله، وحياة بلا رجل تستند عليه.
لا تريد العودة لتلك الأقراص المهدئة؛ لقد تعافت وتباعدت عنها تلك الأطياف التي كانت تراه فيها، حتى خبر هذا المولود لم يغضبها، لم يشعرها بشيءٍ من الغيرة؛ فقط هي كلمات أمها ونظرات والدها ما يؤرقها.
تمر الأيام، تشغلها التساؤلات عن عصام، تلك التي لا إجابة لها ولا تفسير، تستعيد كل ما يفعله معها فتزيد حيرتها حتى تصادف وجودهما على السلم، ليحدثها في بساطة وهدوء:
 إنني أتمنى أن أستيقظ من نومي، فيكون وجهك أول ما أراه.
قالها في سرعةٍ ثم اختفى، تلاشى من أمامها ليتركها لحيرتها التي غرقت فيها لأسبوعٍ كامل؛ فقد قال جملته تلك ثم كُلف بمأمورية للشركة لمدة أسبوع!
أسبوع وحيرتها تلازمها في المنزل.. في العمل.. في كتبها التي لم تعد ترى فيها حرفًا ولا تعي كلمةً منها.. وفي أحلامها تلك التي لم تلازمها فيها حيرتها فحسب بل وخوفها أيضًا.
وما بين الحيرة والخوف؛ الحيرة مما قال أهو حقًا يعنيه؟ أم هي مجرد دعابة أو مجاملة؟ وخوف إذا كانت عبارته صادقة، وحينها ستضطر لمصارحته.
ينهي هو مأموريته فيعود للشركة، لترتبك.. لتنهار الكلمات على لسانها.. وتهرب كل الحروف؛ فلا تعرف بما تنطق لو قابلته، لو حدثها تلك المرة صراحةً ووضوحًا.
ويمر اليوم لتجده أمامها في نهايته وقد انصرفت زميلتها مبكرًا، فيدخل حجرتهما ودون دعوة منه ليجلس، يختار المقعد القريب من مكتبها ليسألها:
 هل من سبيلٍ لتحقيق أمنيتي التي حدثتك عنها؟
تحتضر تلك الابتسامة الضئيلة التي كانت على وشك الإعلان عن نفسها فور رؤيته، تتوه نظراتها، ويختنق صوتها داخلها، تطوف بها أطياف كل ما مر بها في سنوات عمرها التي تقترب من الثلاثين، لتتوقف كل تلك السنوات عند مشهدٍ واحدٍ.
غرفة هذا الطبيب خمسيني العمر ذي الملامح المريحة واللهجة الهادئة الوديعة، وهي تجلس أمامه متوترة كمَن ينتظر قطارًا أخيرًا لا يعرف إن كان آتيًا أم لا، تنظر إليه في ترقب؛ علّه ينطق بشيءٍ آخر غير كل من زارتهم من أطباءٍ متخصصين، تتعلق عينيها بكلمةٍ ينطق بها، ولكنه ورغم تلك الابتسامة الأبوية واللهجة الحانية التي تحدث بها، أكد لها كل ما قاله سابقوه من أطباء، ولكنه أعقب حديثه المؤلم بعبارةٍ لم تنسها:
"لا تتشبثي بهذا الأمل الضئيل؛ كي لا يسرق هذا الاحتمال البسيط حياتك؛ فهو إن حدث فهي المعجزة، وإن لم يحدث حتمًا سيعوضك الله بنعمةٍ أخرى".
مشهد لن تنساه، سنوات عمرها الماضية تلاشت، والآتية لم تعد ترى منها شيئًا، مشهد راح يسيطر على ذهنها ويدمي قلبها، وها هي اليوم مضطرة للحديث عنه، لمصارحته بتلك الحقيقة المرة لتشركه أعمق وأقسى ما مرت به، وهي التي لم تشاركه شيئًا من قبل سوى عدة أحاديثٍ قليلة، وهو لم يشاركها أي شيءٍ عنه سوى كلماتٍ قليلةٍ عن أسرته، وبعض أحداثٍ حدثت في الشركة قبل أن تلتحق بها.
هل تروي له الآن بعد عبارته الواضحة ليرحل كما رحل علَيَّ من قبله لأخرى، ولكن هذه المرة بلا معاناة بلا خيانة، بلا حياة تخوضها ثم تضطر لمغادرتها؟
بعد عبارته الصريحة، كانت ولا بد أن تصارحه، راحت تجاهد كي تنتزع صوتها من أحبالها الصوتية، وترتبك باحثةً عن عبارة تصيغ بها تلك الحقيقة له والتي لا بد من أن يُعرف بها؛ رفعت بصرها إليه فقرأت في عينيه الانتظار واللهفة، فخفضت بصرها بعيدًا عنه وفي صعوبةٍ انتشلت حروف عبارتها من داخلها وحدثته:
 ولكنك لم تعرف كل شيءٍ عني؟
لم ينتظر طويلًا؛ قرأ في عينيها.. في انكسارها ما تريد البوْح به، ويجيبها في حنانٍ أو هكذا ظنت حينها قائلًا:
 أعرف، وهذا لن يغير من انتظاري لإجابة سؤالي؛ وجودي جوارك، أهم من أي إحساسٍ آخر.
كانت عبارة هذا الطبيب والتي لا تزال تتردد داخلها بصوته الأبوي الحاني: "حتمًا سيعوضك بنعمةٍ أخرى".
 وفلتعتبريني أنا ابنك وأخاكِ وكل حياتك.
كانت عبارته تلك، بل وربما كل عباراته السابقة تضعها في مشهدٍ مؤثر، كتلك التي تنتهي بها الأفلام العربية الساذجة ذات الأبطال المثاليين وقصص يضحي فيها البطل من أجل من يحب، ولكن الحياة ليست فيلمًا عربيًا ساذجًا ينتهي بتلك النهاية المثالية، وهذا ما عايشته في الشهور التالية.
ويقطع تلك الموسيقى التي تبثها الإذاعة الداخلية للمتجر وتدوي عبرها عبارات ترويجية، عن هذا العرض.
"اشترِ منتجًا واحصل على الآخر مجانًا"
تؤلمها تلك العبارة، تدوي داخل عقلها في إلحاحٍ؛ ليس لأنها سبب هذا الزحام، وسبب اختيارهما لهذا اليوم لشراء متطلباتهما، نعم إنها ليست متطلبات البيت حسب عقيدته، هي ما تتطلبه هي وهو، وهذا يعني أنه من الممكن أن يخفضاها لأقصى حدٍ، وأن يلتزم كل منهما بما يخصه، تلك كانت عقيدته التي لم تتنبه لها إلا بعد شهورٍ من معرفتها به وموافقة أهلها عليه على أن يتم الزفاف بعد ثلاثة أشهر.
كانت أمها تكاد تطير فرحًا، ووالده سأله أن ينتظر عدة أيامٍ ليسأل عنه، ولكنها في حقيقة الأمر فرصة أخيرة لعصام ليفكر هل سيكمل حياته بأملٍ ضعيفٍ أن يكون أبًا؟ فابنته لن تستطيع احتمال نفس التجربة المريرة لو غيّر قراره يومًا ما.
وتمر في سرعةٍ تلك الأيام، لتعلن لزملائها في العمل هذا الخبر والفرحة ترقص في عينيها، حينها لم ترَ ابتسامة فرحة واحدة يشاركونها بها فرحتها، كل ما سمعته كان تهنئة باردة تنطقها الألسن بلا لمحة تأثر بما يقولونه لها بعد لحظات من الصمت وربما التعجب.
تنتحي عبير بها جانبًا بعيدًا عن عصام، وتسألها في اهتمامٍ:
 هل تعرفتِ إليه عن قربٍ يا أمل؟
فتجيبها:
 إلى حدٍ ما، ولا زالت أمامي شهور الخطبة.
يقدم عم محسن مسئول البوفيه كوب الكاكاو الذي تحبه يضعه أمامها وهو يحدثها:
 فلتستخيري الله يا ابنتي، أولًا. حتى ميريهان زميلة عصام والتي كانت علاقتها بها طيبة، لم تستقبل الخبر إلا بنظرةٍ من الحيرة والتعجب.
لم تحدثه بشيءٍ من هذا كله؛ إنهم زملاؤه أيضًا وهم لم يتحدثوا بما يسيء إليه، فقط هو شعورٌ وصل إليها، ربما هي من أساءت فهمه.
مرت أيام خطبتها لعصام في سرعةٍ، لم يدقق والدها ولم يغالِ في طلباته وشروطه، وخاصةً بعد أن سأل عنه وعن عائلته ولم يجد ما يسيء إليه أو إلى عائلته.
كانت أمل وحيدته وقد ابتاع لها شقة في نفس العمارة؛ فطلب من عصام ألا تبتعد ابنته عنه هذه المرة، وأن يقيما بتلك الشقة؛ وعلل هذا برغبته في الاستئناس بهما وقربها من الشركة التي يعملان بها على عكس تلك التي يمتلكها عصام، استحسن عصام الفكرة وفي سرعةٍ وافق، وفي الشهر التالي قام بتأجير شقته على الفور!
تتنهد في أسى وهي تتابعه بعينين خاويتين من أي انفعالٍ، وهو يمتعض مما تبتاعه وكأنها سوف تلقي بهذه المشتريات في الشارع لا في بيتهما؛ هذا البيت الجديد الذي كانت تنتظر أن تبدأ فيه حياة هادئة.
ثلاثة أيامٍ لم يغادرا البيت بعد زفافهما، وفي صباح اليوم الرابع حدثته:
 ما رأيك أن نتناول غداءنا بالخارج اليوم؟ لقد مللت البقاء بالمنزل.
نظر إليها في دهشةٍ وقال:
 وهل يمل الإنسان من الراحة؟! لماذا الخروج والتعب؟! والدتك تعد لنا الطعام بنفسها فهي تريد راحتك، لماذا تتعبين نفسك إذن؟!
أجابته في بساطةٍ:
 وفيما التعب؟ سنتناول الطعام بأي مطعمٍ نختاره.
فعلق في سرعةٍ والدهشة تملأ حروف عبارته:
 ولماذا ندفع أموالًا فيما نستطيع الحصول عليه مجانًا؟!
"اشترِ منتجًا واحصل على الآخر مجانًا"
من جديدٍ، تصطدم عيناها بتلك اللافتة التي تذكرها بأنها لم تفهم سوى بعد الكثير من الوقت، الكثير من المواقف، وفي كل مرة كانت تحاول أن تجد له مبررًا آخر غير تلك العقيدة التي تحكمه.
كانت في البداية عباراته طريفة فتضحكها، أو لطيفة رقيقة فتسعدها، فحين أخبرته أنها ستذهب مع والدتها لشراء بعض مستحضرات التجميل العطور التي لم يسع الوقت لشرائها، حدثها في ودٍ:
 ولماذا تشترين أي شيءٍ؟! أنتِ جميلة دون أي شيءٍ.
تبتسم لعبارته وتبتهج لها أنوثتها؛ فتقرر عدم النزول، وتتكرر ابتساماتها مرات ومرات حين يقول لها:
 لا تخرجي وحدك، أود أن أكون إلى جوارك في كل مكان.
 لا داعي لتعبك، دعيني أنا أشتري ما تحتاجين إليه.
وابتسامة أخرى وهو يحدثها:
 ولماذا ترفضين أن نتناول الغداء مع والديك؟! إن والدتك تعلم أنك تتعبين في الشركة وتريد راحتك؟ كما أن وجودك إلى جوارهما هو من بر الوالدين.
وابتسامة أخرى وهو يحدثها أنه لاداعي لدعوة عمتها وابنتها وزوجها في منزلهما؛ طالما هم سيلتقون في بيت والديها، لما ترهق نفسها؟!
تعليقات كثيرة وابتسامات تحل محل التعليق عليها؛ فقد كانت مبرارته -كما ظنت حينها- مقبولة.
 إنني أريد راحتك.. أريد أن أكون معك وأنت تشترين كذا وكذا.
 أنتِ أحلى دون أي أدوات زينة.
 أنتِ دومًا جميلة وأنيقة لما تشترين هذا الحذاء وهذه الحقيبة؟
ثم لم تعد تبتسم لما يقول أو يفعل، قررت هذا حين كانت في زيارة مع أمها للطبيب صباحًا وعرفت من زميلتها أنه قد استلم راتبها بالنيابة عنها!
حين عاد وبعد أن دخلا منزلهما، انتظرت أن يحدثها بما فعل وأن يعطيها راتبها، ولكن مرت ساعات دون أن يحدثها بشيءٍ، فسألته دون ابتسامتها المعتادة:
 لقد نسيت أن تعطيني راتب الشهر الذي استلمته اليوم؟
ولتجعل الأمور أكثر وضوحًا له اتبعت عبارتها بأخرى:
 لم أكن في احتياجٍ عاجل له لتعرض نفسك لهذا الحرج من أجله.
تجاهل عبارتها الواضحة وكأنها لم تنطق بها، مرت لحظات ثم قال لها:
 كنت أنتظر أن نضع ميزانية الشهر معًا، وندخر ما يتبقى؟
فدار بينهما حديث طويل راح يلومها على بعثرة أموالها في أشياءٍ غير مهمة: مستحضرات تجميل، وأحذية، وكريمات للبشرة، وشامبو لغسيل الشعر، وكريم لترطيبه، وأنواع فاخرة من الجبن، واللحوم، وزيت الزيتون باهظ الثمن مقارنةً بأي زيتٍ آخر، وأنواع متعددة من التوابل.
راحت تحدثه أن ما يحتاجه المنزل هومسئوليته، وأنها تدفع ثمن تلك المستحضرات التي لا يعرف منها سوى صابون الأيدي، فحاول إقناعها بأنه يجب عمل احتياطي ادخاري معهما يستثمراه فيما بعد، وحدثته أنها أحيانًا تفعل هذا بالفعل ولكن بقدرٍ معقولٍ، ولكن دون أن تحرم نفسها مما تحتاج إليه.
ألقى محاضرةً طويلة عن الفارق بين أن تحتاج شيئًا وبين أن تريد شيئًا، هي فقط الاحتياجات الضرورية ما يجب أن تفكر فيه.
تخبره بأنها غير راضية عن فكرة تناولها الغداء دومًا في منزل والدتها، وأنها تريد أن تشعر بأن لها بيتًا ومطبخًا تعد فيه الطعام، وأنها يجب أن تدعو والديها وبعض الأقارب المقربين؛ كما لبت دعواتهم عقب زواجهما، فيلقي عليها بنظرة ممتعضة ويشير إليها بسبابته قائلًا في تحذيرٍ:
 تستطعين هذا لو أردتِ، ولكن من راتبك أنتِ.
حوار طويل لم يتراجع فيه أحدهما فيه عن وجهة نظره، وكان الأمر بالنسبة لعصام ليس مجرد وجهة نظرٍ قد يتخلى عنها تحت مبرر العادات والأصول، أو حتى ضغط الظروف التي لا يد لنا بها؛ لقد كانت عقيدة لديه.. عقيدة تتحكم في كل تفاصيل حياته.
تبتعد عنه تدخل إلى الشرفة وهي تتنفس بالكاد، كان حوارًا مرهقًا مزعجًا وصادمًا؛ تفهمت بعده ما لم تفهمه من قبل، أدركت مغزى سؤال عبير: "هل تعرفتِ إليه عن قربٍ؟". وسؤال عم محسن: أن تستخير الله، ونظرة ميريهان المتعجبة، وتحفظ الجميع في الحديث عنه.
وتدرك كم كانت تلك العقيدة تحركه في الشهور الماضية، ولكنها لم تلتفت لها؛ فأيام خطوبتهما مرت سريعة، تقابل والدتها بعد مواعيد العمل لشراء تجهيزات المنزل والمطبخ، حتى حين كانت تخرج مع والدها ووالدته وعصام لشراء الأثاث، كان والدها هو من يدعوهما للغداء أو العشاء، حتى مكالماتهما في العمل كانت دومًا عبر هاتف الشركة الداخلي، ولم يحدث أن طلب لها مشروبًا إذا زارته في مكتبه، وأنه طوال فترة الخطوبة لم يهدها أي هدية! كان انشغالها بإعدادت الشقة وحفل الزفاف يشغلها عن الالتفات لأمورٍ كتلك، ولكنها أصبحت الآن واضحة كالشمس وواقعًا تحياه كل يوم.
أدركت كم تحركه تلك العقيدة لقبول تصرفٍ ما فيستحسنه ويثني عليه، أو تجعله يحجم عنه ويكرهه كراهية التحريم.
وفهمت لما يكون حلو اللسان رقيق الكلمات وهو يقنعها بما يتوافق مع عقيدته تلك، وكيف يثور حين تخالف تلك العقيدة حتى وهي تنفق من راتبها هي، والذي حذرته في هذا اليوم ألا يستلمه أبدًا بدلًا عنها؛ كي لا تتسبب في حرجٍ له أمام موظف الماليات.
شعرت أن العالم يضيق بها، وأن ما تحياه هذا كابوس خانق لن تفيق منه.
وها قد مرت شهورٌ، ولا زالت تحيا نفس الكابوس وطقوس تلك العقيدة التىي تحكمه، تنظر إليه بنظرةٍ حائرة متسائلة وهي تتساءل: هل من الممكن يومًا أن يتخلى عن عقيدته تلك؟! تلك التي لم تتفهمها أبدًا حتى لو أنها اعتادت عليها منه، ولكن لم تتقبلها.
يلتفت خلفه ليراها شاردةً لا تنظر إليه، فيناديها:
 أمل؟
التفتت إليه بلا أي تعبيرٍ وبلا أي كلمةٍ وهي تدفع عربة التسوق إلى جواره، فيكمل حديثه:
 لم أخبرك أن إيمان زميلتنا في القسم وضعت مولودها الثاني، وبدأت في إجازة وضع من اليوم.
ويكمل في دهشةٍ وتعجبٍ:
 لا أعرف كيف تفكر هي وزوجها، ألا يكفيهما ما يكلفهما طفلهما الأول من مصاريف الحضانة، والملابس والحلويات؛ فيضيفان على مصاريفهما مصاريف طفلٍ جديد، لا أعرف حقًا كيف يفكران في أمرٍ كهذا؟
بالطبع لا تعلق على حديثه هذا، فأي نقاشٍ لن ينتهي بشيءٍ جديدٍ يقتنع به ويخالف عقيدته؛ فيكمل حديثه:
 لقد كانوا يتحدثون اليوم عن ترتيب زيارةٍ لها وشراء هدية للمولود؛ ولكنني بالطبع أخبرتهم أنكِ ستزورينها بمفردك.
ويلتفت إليها محذرًا وهو يتابع:
 بالطبع يا حبيبتي، أنت لن تشتري لها أو لمولودها أي شيءٍ، فقط اتصلي بها هنئيها، هذه هي الأصول وحق الزمالة طبعًا يا أمل.
بآليةٍ صارت من سمات حديثها معه فيما يخص عقيدته تلك أجابت:
 سأرى فيما بعد ماذا سأفعل.
"اشترِ منتجًا واحصل على الآخر مجانًا"
تسمعها عبر الإذاعة الداخلية لتزيد من ضجيج المكان حولها، ولكن رغم هذا الضجيج حولها، عادت لهذا الصمت داخلها وغرقت به جديد، وقد أثار حديثه هذا تساؤلًا داخلها، ودهشة كانت تشغلها في بداية خطوبتها، لما يرضى بشريكة حياة لن تهبه أطفالًا يرى فيهم أحلامه، ويكونوا امتدادًا لوجوده، وخاصةً أنه لم تربطهما قصة حبٍ أو حتى معرفة قوية تجعله يفضلها عن أي فتاةٍ أخرى؟!!
حين كان يقرأ هذا التساؤل داخلها كان من جديدٍ يغرقها بكلماته الحلوة العذبة والتي لم تكن تكلفه أي شيءٍ، ويختفي هذا التساؤل الذي ظل طويلًا يؤرقها، وأصبح مكانه الآن شاغرًا وهي تسمعه كيف يتحدث عن الأطفال ومتطلباتهم التي لا تنتهي ولا تستمع لكلمةٍ مما يتحدث به عدم ضرورة زيارتها لإيمان وهي تتابع بعينها هذا التوأم الجميل اللذيْن يسيران مع والدتهما مرتدين عوينات زادت من وسامتهما مع هذا الشعر البني الناعم الذي يماثل لون عيونهما، كانا في الخامسة وربما السادسة من عمريهما، يمسك أحدهما باليد اليسرى والآخر باليد اليمنى، ولكنها سرعان ما تهمس لنفسها: "الحمد لله على كل شيء".
ثم تعود لهذا الصمت الذي تلوذ به وتفر إليه، يخفق قلبها في حسرةٍ.. في ألم.. وفي وجعٍ لم تتحدث عنه يومًا لأحدٍ، وجعٍ اعتادت أن تدفنه داخلها في صمتٍ.. مع حنينها لاحتضان طفلٍ يحمله رحمها، ويكون قطعةً منها تمشي على الأرض وتكبر يومًا بعد يوم، طفل يجعل لحياتها بصراخه وبكائه ضجيجًا محببًا وحياةً حقيقة، ويمنحها بابتسامته أملًا في حياةٍ قادمة وحضنًا تمنحه فيه أمان العالم.
وهي تمر إلى جوار قسم ملابس حديثي الولادة تتمنى أن تبقى داخله، تتحسس تلك القطع الصغيرة المحببة التي ستلامس أجساد المواليد الناعمة، وتحيط بأرواحهم النقية الصافية، تتمنى أن تشارك كل الأمهات اختياراتهن لأطفالهن من الثياب ومستلزمات الأطفال. وعلى الجانب الآخر من هذا الممر، وفي قسم ملابس الأطفال، تلمح الطفلين التوأم ذوي العوينات والشعر البني، يقف أحدهما ثابتًا لتقيس والدته عليه أحد القمصان، بينما الآخر يتحرك حولها يتعلق بصرها بهما، بنظرة الشرود في عين أحدهما، ونظرة الشقاوة في عين الآخر، تتوقف عن اليسير وهي تتابعهما حتى يغادرا الممر أحدهما ممسكًا بيد أمه، والآخر لا يريد أن يمسك بيدها أو بيد أخيه.
تنظر حولها فتدرك أن عصام قد أخذ منها عربة التسوق وقد أسرع بخطواته نحو ماكينة الدفع؛ كي لا تزيد هي من طلباتها، وتراه واقفًا في الطابور يقسم ما في العربة جزئين؛ جزء يخص المواد الغذائية والمنظفات يقوم هو بدفع ثمنه، وكل ما عدا هذا يضعه في الجزء الآخر لتدفع هي ثمنه.
وهي تقترب من ماكينة الدفع تتذكر، تمر إلى جوار قسم المنتجات الورقية والصحية للنساء والفتيات، كانت يدها ستمتد لشراء عبوة منها لتتذكر أنها لم تستعمل ما اشترته الشهر الماضي، ويلتمع في عينيها بريق الأمل والفرحة، وتتحسس بطنها في حبٍ وحنان، وتتذكر كلمة هذا الطبيب، تحدث نفسها في تمنٍ وتدعو الله من قلبها: "أترى هل حدثت المعجزة؟"
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.