Darebhar

شارك على مواقع التواصل

لطالما كان عقل شادي بالنسبة إليه أشبه بغرفة مظلمة يخشى الولوج إليها، أما بهذه اللحظة، فقد كان أقرَب إلـى كَونه متاهة لا نهاية لها، سؤال يتبعه سؤال، وفكرة بشعة تقوده إلى فكرة أبشع، فقد حاول كثيراً أن يتهرب من أي ذكرى تنتهي به إلى حيث هو الآن، أن يرتدي قناع اللامبالاة ويدَّعي أن الأمر برمَّته لم يَعُد يعنيه، ولكن هيهات أن يتركه الزمن يمضي في طريقه ويفلت من براثن الماضي دون أن يترك له ندبة لتظل تُذكِّره بألمه كلما حاول النسيان.
فجأة شعر بصقيع الفجر يجتاحه ليصيبه برعشة انكمش على أثرها، مد يديه إلى جيبي معطفه طمعاً في قليل من الدفء، ولكن اصطدمت أصابعه بهاتفه الذي كان لا يزال مغلقاً، جذبه من جيب معطفه، ثم قام بضغط زر التشغيل، ظل محدقاً في الشاشة للحظات في انتظار أي رسالة تشير إلى محاولة للاتصال به بينما كان الهاتف مغلقاً، ولكن لم يَكُن هناك أي رسائل أو اتصالات واردة، أعاد الهاتف مرة أخرى إلى جيبه وهو يبتسم لفرط سذاجته، تُرى مِمَن كان ينتظر اتصالاً وهو الذي لم يخبر أحداً بقرار سفره من الأساس؟ أتُراه كان ينتظر اتصالاً من صديقٍ لا يعنيه أمره؟ أم من حبيبة ليس لها وجود؟ أم تُراه كان ينتظر اتصالاً من والده؟ لا، مستحيل، قطعاً لن يفعلها، كبرياءه سيمنعه كالعادة، خصوصاً بعدما أخرج كلٌ منهما ما في جعبته للآخر أثناء شجارهما الأخير -أو بالأحرى شجارهما الأول والأخير-، ذلك الشِجار الذي رفع الغطاء عن الحاجز الكبير الذي لطالما كان يفصل بينهما، والذي ظلا يتعمدان تجاهُله على مدار السنوات، حتى انكشف لهما مدى قُبحه وصار جلياً كضوء الشمس في وَضح النهار.
لطالما كان شادي يشعر أن الطريق إلى والده هو طريق تفترشه الأشواك، كل خطوة سيتخذها ليقترب منه، لن تسفر سوى عن جروح دامية لن يستطيع مداواتها، لذا فضَّل منذ زمنٍ بعيدٍ أن يسلك طريقاً آخر، طريقٌ ربما لم يختزل تلك المسافة التي تبعد بينهما، ولكنه لطالما كان الطريق الأسلم، أما اليوم ورغم بشاعة ما تفوَّه به أثناء شجاره مع أبيه، إلا أن شيئاً ما بداخله جعله يشعر بالارتياح، ربما لأنه لأول مرة يستطيع أن يتحدث أمام والده دون أن ينتقي كلماته خوفاً من أن يناله غضبه، لأول مرة يشعر أنه قد تغلَّب على جميع مخاوفه وسحق الأشواك كلها بقدميه، ولم يَعُد يفصله عن والده سوى خطوة واحدة، تلك الخطوة التي كانت تنطوي على الحقيقة كلها، والتي لم يَكُن ليستجمع شجاعته ويأتي باحثاً عنها لولا ذلك الشجار.
أخذ شادي يسترجع حديثه مع والده، ذلك الحديث الذي سرعان ما تحول إلـي شجارٍ لم يَكُن يدري آنذاك أنه سيترتب عليه كل ما هو آتٍ في حياته إلى الأبد.
طرق شادي باب مكتب والده، ثم دلف إليه وظل واقفاً بمكانه لم يبرحه في انتظار أن يلتفت أباه إليه، ولكنه لم يفعل، فقد بدا منهمكاً جداً فيما يفعل، كان يجلس خلف مكتبه الفخم بالقرب من المدفأة المشتعلة، مرتدياً روبه الشتوي الأنيق، وبيده مستندات ظل يطالعها باهتمام من خلف نظارته الطبية المتدلية فوق أنفه.
تنحنح شادي ليجذب انتباه والده لوجوده، نظر إليه رأفت نظرة خاطفة، ثم عاد يطالع أوراقه، وقال دون أن يبدي اهتماماً حقيقياً:
– عايز حاجة؟
أرخى شادي يده الممسِكة بحفنة من الأوراق في إحباط، وقال:
– لا أبداً، كنت عايز أكلم حضرتك في موضوع، بس واضح أنك مش فاضي دلوقتي.
أسند رأفت ظهره إلى مقعده، ثم رفع بصره إلى شادي لتصطدم عيناه بالأوراق التي يحملها، فسأله قائلاً:
– موضوع إيه؟ وإيه الورق إللي في إيدك ده؟
تقدم شادي إلى الأمام ماداً يده بالأوراق إلى والده، ثم قال بحماس:
– دي دراسة جدوى لمشروع كنت بفكر إننا ندخله والشركة تنفذه.
جذب رأفت الأوراق وقد ألقى إليها نظرة سريعة، ثم قال:
– مشروع إيه؟
– أوتيل قديم بيطل على بحيرة "كومو" معروض للبيع، كنت بفكر إننا نشتريه ونجدده، وحضرتك عارف إن دي منطقة سياحية والإقبال عليها بيكون طول السنة.
– وإحنا من إمتـى بندخل في مشاريع صغيرة زي دي؟
– هنخسر إيه؟ صدقني دي فرصة، والسعر كويس جداً.
ابتسم رأفت ساخراً، وقال:
– فرصة؟ وأنت بقى عرفت إزاي بالفرصة العظيمة دي؟
– أنا كنت هناك الأسبوع اللي فات، وعرفت إنه معروض للبيع.
– اسمه إيه الأوتيل ده؟
فجأة استحال لون وجه شادي إلى الأصفر، وتجمدت الدماء في عروقه، ساد الصمت للحظات، ولكن ما إن أمعن رأفت النظر في الأوراق، حتى جحظت عيناه وتطاير الشرَر منها إثر اصطدامها باسم الفندق. ألقى رأفت بنظارته الطبية علـى المكتب بغضب، ونهض من فوق مقعده متجهاً نحو شادي الذي أصبح يقف مواجهاً له، ثم قال بهدوء مصطنع:
– "Hotel Bella Rosa"؟ صدفة غريبة أوي..
قال شادي محاوِلاً أن يبدو متماسِكاً:
– أيوة هو، فين المشكلة؟
– أنت بتروح هناك من إمتى؟
صمت شادي ولم يَجِب، فنهَرَه والده قائلاً:
– انطق، بتروح هناك من إمتى؟
– من سنتين.
– وأنت إيه اللي يوَدّيك هناك؟
قال شادي بغضب:
– يا بابا أنا مش عيِّل صغير عشان تفضل تستجوبني بالطريقة دي، وبعدين ده مش موضوعنا، أنا جاي أكلمك في شغل.
هَوَت يد رأفت بعنف على المكتب، وصاح قائلاً:
– لأ هو ده موضوعنا، لأن أنت من الأساس ماكُنتش رايح في شغل، رُحت هناك ليه؟ إيه؟ أمك وحشِتَك؟
هُنا انفجر شادي قائلاً:
– أيوة وحشِتْني، إيه مِستَكتَر عَليّا الذكرى الوحيدة اللي باقية لي منها؟ مش كفاية أنك حرَمتني من كل حاجة كانت بتربطني بيها في مصر؟
بُهِت رأفت من رد فعل شادي الذي لم يحدث أن تجرأ عليه هكذا من قبل، ولكنه تظاهر بالصلابة وقال بحزم:
– وطّي صوتك وأنت بتكلمني يا ولد.
قال شادي ببرود استفز والده:
– خايف ولا إيه؟
اتسعَت عينا رأفت في ذهول، وقال:
– أنت اتجننت؟ رأفت الحجّار يخاف من حتة عيل زيك؟ وأخاف من إيه أصلاً مش فاهم؟
– تخاف تسمع اللي أنا وأنت شايلينه جوانا وقافلين عليه من أكتر من عشرين سنة، تسمع اللي بقالك سنين بتشوفه كل ما بتبُص في عينيا، وبتعمل نفسك مش واخد بالك منه.
– تقصد إيه؟
ابتسم شادي ساخراً وقد أدرك أن لا جدوى من الحديث مع والده، وأن كبرياؤه سيظل يقف حائلاً بينهما وبين فتح ذلك الجرح، ثم قال:
– لا ولا حاجة، بُص يا بابا، لو أنت مش موافق على المشروع، أنت حر، ده حقك، بس أنا كمان حُر في قراري أني أشتريه وأنفذه بعيد عن الشركة، ومفيش حاجة هتمنعني إني أنفذ القرار ده.
قهقه رأفت وقد شعر أنه عاد ليمسك بزمام الأمور، ثم قال:
– تشتريه؟ منين إن شاء الله؟
– من فلوسي، نصيبي في شركة العقارات.
– نصيب إيه اللي بتتكلم عنه؟ أنت زيك زي أي موظف، مالكش عندي غير مُرتبك.
– زي أي موظف؟ 13 سنة وأنا شايل الشركة على كتافي وفي الآخر تقول لي زي أي موظف؟ وبعدين حتى لو ماليش نصيب في الشركة، هو مش أي موظف ليه مكافأة نهاية خدمة؟
قال رأفت بجبروته المعتاد:
– مالكش حاجة عندي، دي فلوسي أنا، تعبي.
– طيب وتعبي أنا؟ مالهوش تمن؟ وبعدين تعب إيه إللي بتتكلم عنه؟ مصر كلها كانت عارفة فلوسك دي أصلها إيه وجَت ازاي، فبلاش نتكلم في موضوع تعبك ده.
فجأة احمر وجه رأفت، ولم يشعر بنفسه إلا ويده تسقط فوق خد شادي لتلطمه بعنف، انهالت الدموع من عيني شادي الذي أخرسته الصفعة للحظات، ثم استجمع ما تبقى من قواه وقال:
– تصدَّق؟ كان لها حق فعلاً تكره العيشة معاك.
صرخ رأفت آنذاك قائلاً:
– اطلع بره.
لم يُجِبه شادي، ولكنه انطلق نحو غرفته كالصاروخ، جمع ملابسه وكافة أشياءه في دقائق معدودة، ثم اتجه نحو الباب دون أن يلتفت إلى أبيه أو يلقي عليه كلمة وداع، أمسك بمفتاح سيارته استعداداً للخروج، ولكنه عَدَل عن قراره في آخر لحظة، فقد كان يشعر آنذاك أنه يوَد التخلُّص من كل ما يَنُم اقتناءه عن حاجته لأبيه ولأمواله، لذا ما كان له سوى أن ألقى بالمفتاح أرضاً، ثم صفع الباب خلفه وخرج.
استقل شادي سيارة أجرة، ولكنه لم يَكُن قد قرر بعد إلى أين يذهب، فقد كان كل ما يرغب به آنذاك هو الابتعاد عن كل ما يمتد إليه نفوذ والده وسلطته، التفت له السائق يسأله عن وجهته، شرد شادي للحظات وقد شعر أن الكون برحابته قد ضاق به ولفَظَه، ولكنه أدرك فجأة أنه لأول مرة يمتلك مُطلَق الحرية، ما من شيءٍ يقيد حريته أو شخصٍ ينصِّب نفسه رقيباً على قراراته، لذا وجَد أن عليه اغتنام تلك الفرصة التي منحتها له الظروف أياً كانت العواقب. كان شادي آنذاك كمَن يقامر بكل ما لديه مقابل حريته، وكيف له أن ينال حريته دون أن يتحرر من قيود الماضي التي تحول بينه وبين مُضيّه قدماً؟ بهذه اللحظة كان شادي قد اتخذ قراره، أعاد السائق سؤاله بنفاذ صبر، فأجابه شادي بثقة يتخللها حماس طفلٍ مُقبِلِ على مغامرة لطالما كان ينتظرها:
– المطار.
لم يَدُم صمود رأفت المصطنع طويلاً، فقد كان يحاول آنذاك أن يبدو متماسِكاً قدر المستطاع بينما هو يعبث بأوراقه ويتجول بمكتبه مُتظاهِراً بالانشغال كأن شيئاً لم يَكُن، ولكنه ما إن لمح شادي يمر من أمام مكتبه وهو يحمل حقائبه مغادراً، حتى سقط على مقعده بقوى خائرة تماماً ليسقط معه قناع الجبروت، ذلك القناع الذي من كثرة ارتداءه له، استطاع أن يقنع الجميع - حتى ابنه - بأنه وجهه الحقيقي، وكم هو ممثل بارع!
كان رأفت آنذاك مثله كَمَثل شمشون بعدما سقط المعبد وتهاوت جدرانه على رأسه، بيديه فعلها، لا بيديّ أحد، فبالرغم من قسوته المستمرة على شادي، والجفاء الذي لطالما كان بينهما، إلا أنه أبداً لم يَكُن على استعداد لخسارته، فقد كان كل ما يريده آنذاك هو أن يجعل شادي يشعر بحاجته إليه، وقلة حيلته من دونه، فربما كان رأفت رجل أعمال ناجحاً، يجيد تقدير خساراته قبل مكاسبه، ويستطيع أن يحدد التوقيت المناسب للانسحاب إن وجد أنه لن يحصل على مُبتغاه كاملاً، ولكنه أساء تقدير خسارته هذه المرة، تلك الخسارة التي قد تكون الأكثر فداحة على الإطلاق. لم تَكُن هذه هي مرته الأولى لارتكاب خطأٍ جسيمٍ كهذا، فما أكثر ما خسر من وراء اندفاعه وحماقة كبرياؤه!
أدخل رأفت يده في جيب روبه الشتوي، ثم خرج بمفتاحٍ صغيرٍ وضعه في أحد أدراج مكتبه، ذلك الدُرج السريّ الذي لطالما كان شادي يتساءل عن محتوياته، ولكنه لم يَكُن يتلَقى أي إجابة كالمعتاد، مد رأفت يده إلى قاع الدُرج، ليخرُج بصورةٍ قديمةٍ كانت تجمعه بزوجته الراحلة چيهان في شبابهما. كان جلِيّاً بعيني رأفت اشتياقه إلى تلك المرحلة من حياته، تلك المرحلة التي كانت آخر عهده بالنوم الهانئ، والتي لم تَكُن قد شهدت بعد ميلاد قسوته وجبروته اللذان أفسدا عليه كل شيءٍ بعد ذلك.
كان كلٌ من رأفت وچيهان يبدو في الصورة مبتهجاً، ولكن ثمة شيٍ كان غامضاً حول هذه الصورة، ذلك الجزء المُمَزَّق منها، والذي كان يحتوي في الماضي على شخصٍ أو أكثر اقتسموا معهما الصورة والذكرى، كان عدد الأشخاص وهويتهم مُبهَمَين لكل من يرى الصورة، فيما عدا رأفت، وچيهان التي رحلت ورحل معها سِرَّها، فقد كانت هي وحدها من تمتلك الجزء المفقود من الصورة، ومن الحكاية.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.