Darebhar

شارك على مواقع التواصل

"تائه بين الاحتمالات غير المتناهية، فَقدَ التمييز بين الواقع والخيال، وحينما لمس لوهلة مرارة الواقع من حوله، اختار لذة الخيال، النهاية".
ختمت المربية القصة التي كانت ترويها، امتعضت كيرا لوهلة متحدثة: "ولكن هذا لا يعني أن النصر لم يحدث في الواقع حينها لإخوة الظل، هذا معناه فقط أنه حالم أبله فضّل أن يعيش في الخيال عوضاً عن مساعدة شعبه!"
نظرت المربية لكيرا بحدة قائلة:
"كيرا، انتبهي لألفاظك، أنت ابنة أميرة، وجدك الملك، يوماً ما ستصيرين امرأة ذات تأثير في المجتمع، يجب أن تكوني راقية!"
"كيرا تقصد أنه يفترض به أن يكون محاربأا مثل أغلب شعبه، ويتزوج أندريا ابنة كبير إخوة الظل في ذلك الزمان، ويعيشون حياة سعيدة وينجبوا عديداً من الأميرات والأمراء"
أردفت ثنسيا وهي تدور حول نفسها كي يدور فستانها بخيوطه الملونة، كاد فين وكيرا يسقطان من شدة الضحك من بلاهة حديث أختهما الصغرى، لم تستطع المربية كذلك كتم ضحكاتها.
"لماذا تسخران مني؟!"
تساءلت ثنسيا بحدة مبدية السأم على وجهها، وهي تعقد ذراعيها فوق بعضهما كدليل على الاعتراض، مما أظهر كمَّ براءتها.
"حسنا يا أحبائي، لا تسخروا من ثنسيا؛ فهي لم تتعلم بعد تاريخ شعبنا مع إخوة الظل بقدركما" أردفت المربية مبتسمة.
"حسناَ يا ثنسيا، نحن آسفون على سخريتنا، ولكن هذه قصة عن الحالمين وإخوة الظل، أتذكرين حينما تحدثنا عنهم من قبل؟ إخوة الظل القوم الذين سكنوا هذه الأرض قبل قدوم شعبنا، والحالمين ينتمون لإخوة الظل، فبالتالي أنت تتمنين النصر لألد أعداء شعبنا! "قال فين واضعاً يده على كتف الصغيرة ثنسيا، لتضيف كيرا بعنصرية:
"تعني شعبنا وشعب العيون الحمراء!"
رفعت المربية صوتها بغضب:
"كيرا! لا أريد أن أسمع منك هذا الكلام أبدا مرة أخرى!
أتفهمين؟!"
رفعت كيرا حاجبيها بمعنى: "أيا يكن"
لتعقب المربية:
"إن تفوهت بهذا الكلام مجدداً، فسأخبر والدتك في الحال! وحينها لا أظن أنها ستكون واثقة من براءتك التي تتظاهرين بها أمامها، هيا يا ثنسيا، إنه موعد نومك، وأريد منكما الذهاب لغرفتكما كذلك، فغداً سيكون يوماً هاماً لكلاكما"
ثم اقتربت المربية من كيرا وهمست بأذنها: "كيرا، كوني في عون أخيك؛ فالحكيم أخبر والدتك أن قدمه السليمة ربما أصابها بعض العطب".
تظاهر فين بعدم الانتباه لهمساتهما، اصطحبت المربية ثنسيا لغرفتها، بينما سلك فين وكيرا الممر المعاكس، فغرفهما أبعد قليلاً من ثنسيا التي أصرت أن تكون غرفتها قريبة من جدها الملك الذي لا يستطيع رفض طلب لها، فهي ثنسيا ذات الخمس أعوام، والشعر الأشقر، العيون العسلية البديعة، البراءة غير المتناهية، الحركات البلهاء، والخيال الواسع، منذ ولادتها صارت مدللة جدها وأحب أحفاده لقلبه.
سار كل من فين وكيرا في صمت قليلاً ليهمس معاتباً:
"لمَ تستمرين في قول هذا الكلام يا كيرا؟!"
فين ذو الستة عشر عاماً، الشعر الأسود القصير الثائر، العيون العسلية التي تميل للبني، البشرة البيضاء، طويل بعض الشيء، يخبره جميع الناس أن ملامحه مريحة تدخل السكينة على من ينظر إليه، مستند دوماً لعكاز.
"أسمع الناس تهمس يا فين، أرى في عيون خالنا نايلس نظرة غريبة، كأنه يكرهنا، وعندما أنظر له يشيح بنظره عني، كأنه لا يطيق النظر لي!"
"خالنا نايلس؟!! كيرا، كيف تقولين ذلك؟! لطالما كان لطيفا معنا!"
"لطيف أجل، لكن نظراته تشي بشيء آخر، لست متأكدة ما هو، ولكنه بالتأكيد متعلق بكوننا لا نشبهه ولا نشبه أسرته"
"وماذا عن "بودير"؟! هو أيضا لديه شعر أسود وعيون حمراء، ولكنك تحبينه!"
"عمَّ تتحدث؟! "بودير" هو خالنا العزيز ونعتبره أخانا الأكبر!"
"ولكنه في الواقع ليس كذلك، فهو ابن عم والدتنا، وهي تعتبره أخاها؛ لذلك فهو مقرب لنا كأخوالنا الآخرين"
"أرجوك لا تقارن "بودير" بأخوالنا الأخرين! "بودير" شيء آخر،
"بودير" هو أخانا الأكبر"
"حسنا، أظن أن علينا الاستعداد للغد إذن"..
ختم فين بتوتر على الرغم من محاولته إخفاء ذلك.
"لا تقلق يا فين، سيكون كل شيء على ما يرام، تذكر وعد والدتنا لنا، لن نفترق أبدا، لن تذهب لأي مكان، ستظل هنا برفقتنا، أتفهم ذلك؟!" أردفت كيرا مبتسمة محاولة أن تبث الشجاعة بأخيها، ابتسم لها فين على سبيل الشكر، ثم أشاح بوجهه بعيداً، أمسكت كيرا ذراعه وجعلته مواجهاً لها:
"فين، كونك كنت مهووساً بالمبارزة وركوب الخيل، لا يعنى أن روحك تنتمي للشعب الأحمر؛ فأنت لست شخصاً عنيفاً، كيف تكون كذلك وأنا دوماً أشعر بالامتنان لأن لي أخاً مثلك!"
نظر لها فين بتعجب للحظة، لم يدر أيسعد أم يحزن لما قالته؟ هز رأسه باستنكار:
"عنيف؟! كيرا لا تفكري بذلك الشكل، لا تفكري أن ذوي العيون الحمراء عنيفون، وذوي العيون الصفراء مخادعون! هذا ليس سوى تفكير شخص ينبذ وحدة الشعبين، ويرى أن إحداهما أفضل من الآخر! من فضلك، أخرجي هذا التفكير العنصري من عقلك! أَكُل هذا لأن خالنا ينظر لك نظرة غريبة؟!"
"أنا لم أقصد ذلك يا فين، كنت أحاول أن"..
"لا عليك، لطالما كنتِ حمقاء"
تظاهر فين بالضحك، لتضحك كيرا بدورها أثر ذلك.
"حسنا هيا، اذهبي لغرفتك"
"يمكنني السير بصحبتك حتى تصل لغرفتك أولا، أنا لست نعسة حتى"
اقترحت كيرا، أدرك فين لماذا تفعل ذلك؛ فأجابها:
"لا عليك يا كيرا، سأكون على ما يرام" قالها فين بابتسامة مربتاً على كتفها ثم سار لغرفته.
"فين، أنت أخي وسأحبك في كل الأحوال"
توقف فين للحظة لما قالته كيرا لتوها، ثم أكمل السير ليصل إلى غرفته، لم يسمعها تفتح باب غرفتها، شعر بعيونها، تنظر له لتتأكد من عدم حدوث أي مكروه له، منذ أربعة أشهر، أربعة أشهر فحسب كان كل شيء مختلف، استطاع حينها تحريك كلتا ذراعيه، وكانت لديه قدمان، الآن صارت قدم واحدة، وما يشبه العصى يتم تركبيه أسفل ركبة القدم الأخرى ليحل محل قدمه القديمة، ذراع سليم، وذراع معطوب بعض الشيء، يصعب عليه استعماله، لكن لا بأس إن كان هذا هو الثمن لأن تظل ثنسيا سليمة ولم تصب بمكروه ذاك اليوم، لكنه لطالما كره خوف أهله الشديد حياله، يدرك أنه لو كان بموضعهم وأحدهم بموضعه، لصار شعوره مشابه لهم الآن، يذكر كيف أصرت والدته على تغيير غرفته؛ ليصير أقرب إليهم ولا يضطر للمشي كثيراً، لكنه شعر أن هذه سخافة، فما هي بضعة خطوات بعيدة عن باقي غرفهم! رفض تلك الفكرة تماماً، علم أن هدف والدته الأساسي لم يكن بعُد الغرفة بقدر ما كان إرادتها له أن يحصل على غرفة أخرى لا تطل على ساحة التدريب والمبارزة؛ حتى لا يدرك كل يوم ما فقده ويشعر بالحسرة، ولكنه رفض بشدة، وفي النهاية على الرغم من كون والدته حازمة للغاية، إلا أنها تقبلت رغبته، على الرغم من كل ذلك إلا أنه لم يستطع منع نفسه من الشعور ببعض السعادة لقلق أختيه حياله؛ فمن المفترض أن يحاول هو حمايتهما ويخاف عليهما لكونه الأكبر، لكن تصرفاتهما تلك تشعره بالحسرة، لكن أحيانا بمزيج من السعادة والسخرية، خاصة الصغيرة ثنسيا، وكيرا التي تصغره بعام واحد، لكنها تعامله أحيانا كأخيها الأصغر الذي تبث فيه القوة والشجاعة، الفتاتان تبدوان متشابهتان بعيونهما العسليتان، وملامحهما المقاربة لوالدتهم وجدتهم، لكن كيرا ذات وجه أطول بعض الشيء وشعر أسود اللون، بينما ثنسيا شقراء ذو وجه مستدير وعيون أوسع، فكر فين لوهلة، كيرا وثنسيا، أيمكن أن يكون غداً صباحاً أخر مرة يراهما فيها حتى يبلغ الثلاثين عن عمره؟! أغمض فين عينيه محاولاً تناسي ماهية الغد، فهو سيكون فحسب البداية لليوم المصيري.
***
مع بداية تغريد الطيور استيقظ فين، لم يستطع النوم بشكل جيد بسبب قلقه من حدث اليوم، استند لعكازه وسار حتى نافذته المزركشة، لطالما شعر أن كل هذا كثير للغاية، الزركشة في كل مكان، الفراش الذي يشعر أنه يكبر حجمه ثلاثة مرات، الأفرشة الناعمة للغاية، هو في الواقع لم يعتد سوى على ذلك، لكنه دوما أراد أن يصير محارباً، أن يحيا أيامه بين المعارك ليس بين الستائر الحريرية، أن يقضي لياليه بخيمة تنُصب في أي مكان، لا على فراش صُنع لثلاثة أشخاص وبطريقة ما صار فراشه. نظر من نافذته، كان النهار على وشك نشر ابتسامته وإنارة الكون ككل يوم، تلك اللحظة هي الأفضل بالنسبة لفين، وهو يرى ألوان السماء تمتزج بين البرتقالي والوردي والسماوي، لتعطى أكثر شيء يمكن أن يشعره بالبهجة، يشعر أحيانا بأن ذاك المنظر يذكره بكِلْتاَ أختيه؛ فهو يشبه جمال ابتسامة ثنسيا وبراءتها، وكذلك يشبه تشجيع كيرا فهو يعلم أن بعده سيأتي النهار ليعم الأرض. ابتسم فين للفكرة، نظر لوهلة لساحة التدريب، لم يوجد بها أحد، ليس بعد، إذ لا يبدأ الناس يومهم داخل القصر سوى بعد ساعة من الآن، نظر للسيوف المرصوصة، الأقواس والأسهم، دوائر التصويب، الأدرع المختلفة، دمى التدريب وتذكر أيام مضت، أشاح بنظره عن كل ذلك، وأوشك على الابتعاد عن النافذة لولا أن شيئا ما لفت نظره، لم يلق فين عند بداية وقوفه بالقرب من النافذة اهتماماً لذاك السهم المتروك في دائرة التصويب، ظن أن أحدهم نسيه، لكنه يرى الآن شخصاً يمسك قوساً وحاملة أسهم أعلى كتفه، ويمشي بتوجس جهة دائرة التصويب لينتزع السهم منها، ضيق فين عينيه قليلاً محاولا التعرف إلى هوية ذلك الشخص، كيف لم يره؟! حتما كان يقف في أحد الممرات التي تقود للساحة، ولكن بطريقة تجعل دائرة التصويب تقع تحت منظوره، إن كان الأمر غير ذلك، كيف لم يره فين ونافذته تطل على الساحة بأكملها؟! حتى على الرغم من وسعها، فحتما كان فين سيلمحه في حال إن وقف في أي ركن من الساحة، هذا يعني بلا شك أنه ماهر في الرماية ليستطيع إصابة الدائرة من هذا البعُد! كان يرتدي الأسود، فلم يظهر أي لون لملابسه سوى الأسود، استطاع فين أن يلمحه يرتدي حذاء طويلا وشالا أسود طويلا يغطيه كله، له غطاء رأس يخفي به رأسه، حاول فين أن يلمح وجهه، ولكن بلا طائل، بدا ذا طولٍ معتدل وجسد صغير، هذا لا جدال فيه، كم شخصاً يعرفه فين بتلك المواصفات؟!
كثيرون! وكم شخصاً لا يعرفه بهذه المواصفات؟! أكثر! شعر فين بالحيرة، لكنه يعلم أغلب من في القصر، لم يطل تفكيره فقد سمع صوت نباح يقترب، ثم رأى كلب الحداد يجري جهة الشخص الملتف بالأسود، أعتقد أن الكلب سيؤذي ذلك الشخص، لكن الكلب توقف أمام ذلك الشخص وظل يراقبه فحسب، فجأة سمع فين صوت الحداد ينادي "سكودو"، سار ذلك الشخص مبتعداً، ودخل أحد الممرات، كاد الكلب يسير خلفه لولا قدوم الحداد من ممر آخر معاكس "سكودو، أيها الكلب الأخرق! تعال إلى هنا!
أهذا ما أحصل عليه حين أقرر السماح لك باللهو قليلا؟! تركض في الأرجاء؟!". لم يعره الكلب اهتماماً، بل ظل ينظر بالجهة التي سار منها الشخص، وكان ذلك غير معهود من الكلب الذي يجري بسرعة جنونية حين يرى صديقه الحداد "إلام تنظر يا سكودو؟! هيا بنا؛ فعملي سيبدأ قريباً، لنذهب من هنا."
أنهى الحداد حديثه ثم سار مبتعداً وبرفقته الكلب، فكر فين مبتعداً عن النافذة، الممر الذي دخله ذلك الشخص يقود للجزء الملكي، فمن يكون هذا الشخص؟ جلس فين على فراشه بينما يدور بعقله مئات التساؤلات، انتهت بالتساؤل الأكثر منطقية وهو: فين، حقاً لما تكترث؟! ربما يفضل أن تفكر في حدث اليوم، ابتسم بسخرية لخاطرة أنه ربما يشغل نفسه بأمر ذاك الشخص لينسى حدث اليوم، فجأة سمع صوت باب ينغلق، لم يكن الصوت شديداً، لكنه شعر به قريباً من بابه، فهو لن يكُذب أذنه، استند لعكازه وسار تجاه الباب، فتحه سريعاً ثم نظر في الممر لكنه لم يجد أحداً، من يوجد معه في هذا الممر؟! أبناء أخواله وأخته. سار فين لغرفة كيرا ودق على الباب، فتحت له كيرا مندهشة.
"كيرا، أسمعت ذلك؟!"
"عمَّ تتحدث، فين؟!"
سألته كيرا محركة مقلتي عينيها في الأرجاء.
"ألم تسمعي بابا ينغلق الآن؟!" هزت كيرا رأسها بمعنى كلا "أكاد أقسم أني سمعت بابا ينغلق" قالها فين بسأم ثم حاول تغيير الموضوع.
"منذ متى وأنتِ مستيقظة؟"
"منذ بعض الوقت، كنت أشاهد الشروق"
دخل فين غرفتها التي هي حتما أقل ألوانا من غرفة الصغيرة ثنسيا، ثم وقف بالقرب من النافذة، نافذتها هي الأخرى تطل على الساحة، لكن ليس بمقدار نافذته التي تطل على الساحة بأكملها وما بعدها.
"إذن رأيتِ ذلك الشخص؟"
تساءل فين لتجيبه كيرا متسائلة هي الأخرى:
"أي شخص؟"
"ذلك الشخص رامي الأسهم!"
صاح فين بتعجب ناظراً لها بشيء من الحيرة، نظرت كيرا بدهشة نحو النافذة:
"لقد ركزت في الشروق يا فين، لم أرَ شيئاً"
"يستحيل يا كيرا أنك لم تريه، شيء كهذا سيلفت انتباهك حتماً!"
"يا أخي العزيز، تعلم كنت أتأمل الشروق وأحلم بأميري الفارس، وبقصرنا البديع"
"أنا لست بهذه السخافة! تخدعينني أحيانا بتظاهراتك تلك، لكن هذا التظاهر أكثر بلاهة من أي تظاهر أو أكذوبة أخرى"
أردف فين شاعراً بالسأم، فكيف لم ترَ ذلك الشخص؟! إن هذا غير منطقي:
"ماذا أخبرك، فين؟! لم أرَ أحدا!"
صاحت كيرا بغضب، نظر لها فين بتعجب فتجنبت نظراته وسلطت عيونها على الأرض وحكت ساعدها ثم نظرت له مجدداً:
"أنا متوترة قليلاً من حدث اليوم" ازداد تعجبُ فين:
"لماذا؟! ألم تكوني أنت من يخبرني أن اليوم سيمر بسلام؟! ما الذي تغير؟!"
تساءل فين، تنهدت أخته ثم أجابت:
"لا أدري، ربما لأن بعضاً سيرحل للمملكة الغربية، ولن نراهم حتى يتموا الثلاثين من أعمارهم، ألن تشتاق لأحد يا فين إن رحل للمملكة الغربية وعلمت أنك لن تراه كل تلك المدة؟!"
المملكة الغربية لا تختلف كثيراً عن العاصمة هنا أو عن المملكة الشرقية، لا يدري ما المشكلة بذهاب أي منهم للمملكة الغربية إذا أظهرت المرايا أن حقيقة روحه تنتمي لها، فكر فين، حقاّ هو لا يدري لماذا هو نفسه يخشى أن تظُهر المرايا أنه ينتمي للمملكة الغربية، ربما هو لا يريد ألا يرى عائلته لكل تلك الفترة فحسب، لا يدري.
"أنا أدرى جيدا من ستفتقده إن علمت أنه سيذهب للمملكة الغربية".
قاطعت كيرا أفكار فين بنبرة خبيثة، نظر لها فين بعدم استيعاب لتكمل كيرا:
"بيلا الرائعة هي من ستفتقدها، التي حفظت كل تلك الأشعار وكتبت كل تلك القصائد لأجلها"
شعر فين بالحرج، عمَّ تتحدث تلك الخرقاء؟! بيلا ليست سوى ابنة خالِهِ فحسب، أجل إنها ابنة خاله فحسب!
"هل احمرَّ وجهك بالفعل يا فين؟!" تساءلت كيرا ضاحكة.
كلا، كلا، هذا ليس صحيحاً، فكَّر فين شاعرا بالحرج يغزوه، لماذا يصيب الاحمرار وجهه؟! سحقاً، حاول فين تغيير مجرى الحديث:
"ما الذي يؤكد لك أن أبناء أخوالنا هم من ستظهر المرايا أنهم ينتمون للمملكة الغربية؟! ربما قد يكون أنا" ضحكت أخته مجيبة:
"كلا، فأنت لن تكون من ذوي العيون الحمراء، أنا فقط أدري ذلك جيداً"
نظر لها فين معاتباً.
"الذين هم أفضل وألطف الأشخاص في الوجود" أضافت وهي توسع عيونها متظاهرة بالبراءة.
"اخرجي من هنا يا كيرا قبل أن أركلك بالعكاز!" قال باستهزاء لتردف كيرا:
"إنها غرفتي أيها الأحمق!"
***
"شعب واحد نحن وسنظل كذلك، لن ينعتنا أحد بملائكة الغدر أو بالشياطين، لن ينعتنا أحد بالعنف أو بالمكر، ننتمي نحن لقائدنا وموحدنا (كوراخي) وبانية حضارتنا (ثنسيا) نحن شعب واحد، شعب الشجاعة والفطنة، ننتمي لقائدنا وموحدنا (كوراخى) وبانية حضارتنا ثنسيا من بعدهما سنظل شعب واحد ولن نتفرق مجدداً".
أخذت بيلا تغني أغنية الوحدة مراراً، الأغنية التي غناها يوم شاعر ذو صوت عذب، قيل أنه لم يؤلف الأغنية، لكنه سمعها على لسان أحدهم وشعر بأنها ستحث الشعبين أكثر على الوحدة، خاصة بعد توحيد الشعبين بالفعل بزواج ملك الشعب ذوي العيون الحمراء كوراخى من أخت ملك الشعب ذوي العيون الصفراء ثنسيا أراد ذلك الشاعر أن يكون له دور في إيقاف التعصب والعنصرية، وشعور كثيرين ببعض الضغينة المكتومة تجاه الشعب الآخر، فأخذ يغني تلك الأغنية في أي مكان يذهب إليه، ولروعة صوته قلده كثيرون، وصارت الأغنية أيقونة حتى الآن، تغُنى في أي مناسبة يكون فيها أي شعور بالحساسية تجاه أحد الشعبين.
شعر فين بالامتنان لمحاولة بيلا بث روح الوحدة في جميع الناس بغنائها الآن لتلك الأغنية؛ فهو حقاً يكره العنصرية من أي نوع تجاه أي من الشعبين بقدر كرهه لإخوة الظل والمرايا العظيمة، شعر فين بالسعادة أيضا لتذكره لأخته الصغرى من خلال تلك الأغنية، حيث إن أخته الصغرى سميت باسم بانية حضارتهم ثنسيا. كانت الرحلة الآن سيرا؛ فالطريق الحالي غير مناسب لمرور العربات التي تجرها الأحصنة التي نقلتهم بالفعل من القصر حتى أقصى الشمال، حتى جبل المرايا الذي يسيرون فوقه الآن كي يصلوا للمرايا العظيمة التي تقع على جانبيه، استغرقتهم الرحلة حتى الآن يوماً بأكمله، فالعاصمة تعتبر قريبة للغاية من أقصى الشمال، إن لم تكن بالفعل تقع به، وها هم الآن على وشك أن يروا شروق اليوم التالي.
سابقا كان لكل شعب المرايا الخاصة به؛ لذلك لا توجد المرايا على أحد جانبي جبل المرايا فحسب بل على كليهما، يتم تنظيم ذهاب كل الأطفال من عمر الحادية عشر حتى الثامنة عشر للمرايا حسب الأقرب لديارهم، فين، كيرا، أولاد أخوالهم، تم تنظيم ذهابهم للمرايا في الجهة الشرقية، ليست لأنها الأقرب، بل لأن ذلك هو العام الذي تذهب فيه العائلة الملكية لتلك الجهة، فكل عام تحدد فيه المرايا أتنتمي روح الطفل للشعب ذوي العيون الصفراء أم الشعب ذوي العيون الحمراء، تذهب العائلة الملكية لإحدى الجهتين؛ حتى يشعر الشعب بالمساواة وأن العائلة الملكية تذهب لكلا الجهتين ولا تفضل إحداهما عن الأخرى أو تخصها، كان ذلك أحد القوانين التي تم وضعها منذ القدم من قبل موحدهم كوراخي؛ ليحاول إبعاد التفرقة بقدر الإمكان، ليرى الشعب أن العائلة الملكية نفسها تحتوي على ذوي العيون الصفراء وذوي العيون الحمراء. سار كل من فين وأخته وأولاد أخواله يحيط بهم بعض الحراس، وخلفهم الأطفال الآخرين أعلى ذلك المنحدر الجبلي، أغلب السائرين كانوا من ذوي العيون الصفراء؛ نظرا لقرب المملكة الشرقية التي تخص الشعب الأصفر سابقاً، بينما المملكة الغربية التي تخص الشعب الأحمر سابقا أقرب للمرايا العظيمة الموجودة على الجانب الأخر من جبل المرايا.
توقف أدريان ابن خال فين وأخذ ينظر للمناظر الطبيعية بانبهار، فهو لم ير جبل المرايا من قبل أو المظهر من أعلاه؛ حيث إن والد أدريان الخال نايلس وزوجته من ذوي العيون الحمراء؛ لذا فمن الطبيعي أن أدريان عاش أغلب حياته في المملكة الغربية، لكن على الرغم من معيشته أغلب حياته بعيداً عن أولاد عمه، وكونه مشاغباً بعض الشيء، إلا أنه في الواقع شخص طيب الخصال. سارت بيلا جهته مردفة:
"بديع هو المنظر، أليس كذلك؟! تلك الألوان الخلابة التي يصطبغ بها الجبل، تبدو كألوان لوحة فنية، وأيضا مظهر الكون من أعلى الجبل، لا كلمة يمكنها وصفه"
أجاب أدريان ابنة عمه وهو ينظر باتجاه العاصمة بانبهار: "هذا مبهر حقاً! إني أرى قصر العاصمة من هنا! وكذلك تفرع النهر الخاص بالمملكة الشرقية!"
"أفهم إحساسك تماماً يا أدريان، تشعر أن العالم كبير للغاية لكن على الرغم من ذلك تستطيع رؤيته بأكمله كما لو أنه ملكك، تشعر بأنك في واحدة من تلك اللوحات الفنية التي تتلون فيها السماء بالسحاب الوردي، والشفق الأزرق اللامع، ترى شلال النهر الذي يصبه في البحر، وتشعر كأنك في قصة خيالية من تلك التي يحكوها للأطفال عن الفرسان والسحر والحب"..
نظر لها أدريان ضاحكاً:
"بيلا، أنت تقرئين أفكاري!"
ابتسمت له بيلا:
"أدريان يا ابن العم، صدقني، مررت بهذا الشعور من قبل، ومازالت أشعر به حتى الآن"
"هل جئت هنا من قبل يا بيلا؟" أجابته بيلا:
"أجل، جئت في زيارة من قبل، وحينما رأيت هذا السحر شعرت بأنني أود أن أعيش هنا عمري بأكمله".
"بيلا ترى الجمال في كل شيء، حتى في أحلك الأشياء، ولكني لا أستطيع أن أخالفها في أن الحياة هنا تبدو كفكرة ساحرة".
قاطعهما فين وهو يتجه لهما ثم أكمل:
"ولكني لا أظن أنك هنا ستستطيعين مساعدة الناس كما تفعلين وأنت بالمملكتين والعاصمة الأم!"
ابتسمت له بيلا قائلة: "هذا صحيح يا ابن عمتي فين، ومساعدة الناس بالتأكيد أفضل شيء بالنسبة لي"
"حسنا يا رفاق، أظن أنه يجدر بنا أن نكمل السير كي لا نتأخر عن الآخرين"
أردف أدريان مكملاً السير وهو ينظر لسحر العاصمة الأم من أعلى الجبل.
"أدريان، بعد العرض على المرايا سأتحداك في رمي الأسهم، ولن تستطيع الغش للفوز كما فعلت في المرة السابقة" رأى فين أخته تتجه نحو أدريان قائلة ذلك.
"اقنعي نفسك أني غششت كما وددت يا كيرا؛ مازال هذا لن يجعلك تفوزين حتى بعد مئة عام"..
"سنرى بشأن ذلك أيها المتفاخر"
ضحك كلٌّ من فين وبيلا لمشاغبات كيرا وأدريان، ثم ابتسمت بيلا لفين وأكملت السير، لم يمنع فين نفسه من الابتسام، فمن لا يبتسم عند رؤية البديعة بيلا؟! كم هي ساحرة حقا! بعيونها العسلية اللتين تقتربان للخضرة، وشعرها الكستنائي الذي ورثته عن والدتها المتوفاة، توفيت منذ كانت بيلا صغيرة للغاية، وذلك بعد إنجابها لشقيق بيلا الملقب بسول، في أثناء تواجدها بشبه جزيرة لونا بفترة قصيرة، لا يعرف فين عنها كثيرًا، ليس سوى أنها كانت امرأة صالحة وأن خاله الأصغر ميستريو أحبها، فكر فين لوهلة أيمكن أن يكون له هو وبيلا ذات الخمسة عشر عام قصة حب أيضا؟! ليس بالضرورة أن يموت أحدهما، ما يعنيه أيمكن أن تبادله الشعور نفسه يوماً ما؟ شعر بسخافة الفكرة؛ فبيلا فتاة يعشقها جميع الشباب بينما هو.. هو ليس سوى فتى يستند إلى عكاز، أبعد الفكرة عن خاطره وأكمل السير.
***
كانت المرايا تقع على امتداد بصرهم، قريبة للغاية، كبيرة للغاية، ذلت نقوش كثيرة مبهرة لم يرها فين من قبل، أمامها حجر عملاق مليء بالنقوش هو الأخر، شعر كأن المرايا بوابة لعالم آخر من هول ضخامتها، بداخلها نقاط مضيئة تبدو كالنجوم، ويمر من جانبها الشلال ليبدي مظهراً لا يكاد يحلم به المرء من هوله، يوجد حولها عديد من التماثيل العملاقة، أحدها لمسخ بشع يتحاشون جميعهم النظر إليه، يبدو كشخص حُرق وسُلخ ومُثل بجثته، ولكنه ظل على قيد الحياة، لديه مخالب كالذئب، ووجهه يظهر عليه أعتى علامات العذاب، يوجد تمثال أخر لامرأة تظهر عليها ملامح إخوة الظل من العيون التي ليس لها بؤبؤ وسوداء بأكملها، ذات شعر كثيف للغاية يصل حتى أسفل قدميها، يقول بعض أن تلك هي أندريا( ابنة كبير إخوة الظل التي تسببت في الفرقة بين الشعبين الأحمر والأصفر في بادئ الأمر، بعدما جاءوا لهذه الأرض وهم كالإخوة، رأى فين كذلك تمثالاً آخر لرجل لديه أذن واحدة تبدو عليه ملامح الهدوء، يبدو شخصاً عاديّاً جداً، لكن ملامحه تبعث السكينة بشكل غير طبيعي، وفي نظرته تشعر كأنه يعرف كل أسرار الكون، لا يدري أحد من هذا، يقول بعضهم أنه يرمز لأحد الحالمين، ولكن لم يستطيع أحد تمييز هويته، هناك تمثال آخر لشيء يبدو كالشبح أو الروح، لا تظهر ملامحه، لا يظهر سوى أنه يصرخ ويثير الرعب في النفوس، لا أحد يدري حقاً عما يشير له ذاك التمثال، لكن كثيرون يقولون أنه يشير بشكل أو بآخر لغابة الظل التي وقعت بها حرب الدمار والأشباح( قديما بين جيوش إخوة الظل وجيوش الشعبان الأصفر والأحمر، بقيادة القائد العظيم ذو العيون الصفراء أمار سُميت بالدمار لأن بسببها تدمر جيش إخوة الظل بشكل كبير، ومات كبيرهم، وكذلك تدمر جزء كبير من جيش القائدين أمار و روخ، اللذان كانا متحدين حينها كالإخوة، ومات في تلك الحرب القائد أمار، بينما سُميت حرب الأشباح لأن حتى اليوم فقط الأبله هو من يطأ تلك الغابة فلم يخرج منها أحد سوى ميت أو مجنون؛ حيث يقُال إنها مسكونة بالأشباح وأرواح الجنود بقيادة كل من كبير إخوة الظل والقائد ذو العيون الصفراء أمار اللذان مازالت تتقاتل أرواحهم حتى اليوم بجيوشهما، لا يدرك فين إن كانت الرواية حول ذاك التمثال حقيقة أم لا، لكنه لم يشعر أن ملامح ذلك التمثال تصرخ لتثير الرعب في الأنفس، ربما هو يصرخ لأنه يستنجد، لكن لن يفهم أحد أبدا ما يدل عليه ذاك التمثال حقاً، بينما التمثال الأخير لرجل بعيون صفراء، لكنها لوثت بالدماء المتساقطة منها، لم يبد الرجل باكياً أو حزيناً فقط، بل بدا أن سبيله صار غزيراً بالدماء حتى احتقنت عيناه بهما وفاضت، كذلك يداه امتلأت بالدماء، على الرغم من ذلك، بدا ذلك الرجل غير مكترث بذلك، ربما أشار هذا الرجل للشعب الأصفر والأحمر من وجهة نظر إخوة الظل، تلك هي التماثيل الخمسة المحيطة بالمرايا التي يكاد يصل طولها إلى السماء، فجأة رأى فين كيرا تجرى نحو المرايا هي وبيلا وأدريان.
"خالي "بودير"!"
هتفت كيرا بسعادة وهي تركض حيث وقف "بودير" وبجواره صديقه العزيز رادو وبعض الحراس لتنظيم الأطفال، عانقت كيرا "بودير" بشدة، كذلك بيلا وأدريان عانقاه، بدوا سعيدين للغاية لرؤيته هو ورادو، لم يظهر سول ابن الخال بهجته الشديدة، لكنه ابتسم لهما على سبيل التحية ثم سار مبتعداً بتوتر ليقف وحده، سار فين بأسرع ما لديه وعانق كل منهما بسعادة، رؤيتهما بالتأكيد أزاحت عن كاهله بعض التوتر.
"لا يمكنني وصف سعادتي لرؤيتكم جميعا، جئت إلى هنا خصيصا في هذا الوقت لأراكم مجتمعين"
أردف "بودير" بسعادة، ابتسموا لكلماته جميعًا عدا سول الذي ظل بمفرده على بعُد بعض الخطوات، ينظر للأرض ببعض الوجل في عينيه، لطالما كان فتى منطوياً ذا تصرفات غريبة، وقد شاع في بعض الأحيان أن لديه علة عقلية.
""بودير"، حقاً إننا أسعد ما يكون لرؤيتك، حزنت لعدم حدوث ذلك في القصر منذ أيام، لكن أي حزن راودني ذهب الآن بسبب رؤيتك" قالت بيلا بنبرتها الساحرة، "وماذا عني أيتها الفصيحة؟!" هتف رادو.
"وبالتأكيد أنت كذلك يا رادو؛ فأنت أخنا الأكبر الذي نلجأ له دوماً" جاوبته بيلا، ابتسم رادو مربتاً على شعرها الكستنائي، رادو ذو الخمسة والثلاثين عاما، صديق "بودير" المقرب، ليس من أصل نبيل، كان في يوم من العامة والتحق بالجيش، هناك تقابل مع "بودير" وكانا ألد الأعداء حينها، لكن بمرور الأيام وتجاورهما في القتال صارا صديقين عزيزين، وفي النهاية صار رادو قائد الجيش في العاصمة الأم، ذو شعر أسود قصير وعينين حمراوين، يقترب لونهما من البرتقالي قليلاً، جيد الملامح، ليس مفتول العضلات، لكنه بلا شك يتسم بالقوة وبكونه أحد أبرع المبارزين في المملكتين والعاصمة الأم، ذو ملامح دقيقة وأنف طويل ومحدد يبدو كأنه مرسوم، أطول من "بودير" بعض الشيء. بينما "بودير" في السابعة والثلاثين من عمره، ذو شعر أسود كالفحم، وعينين حمراوين كالدم، شعره طويل قليلاً يصل لمنتصف عنقه، قوي البنية، لديه ندب في الجهة اليمنى من جبهته، سمع فين أنه تلقاها عند مبارزته لأحد المقاتلين الشرسين، ولكن لا أحد يتحدث عن الأمر، و"بودير" ذاته دوماً يغير مجرى الحديث عندما يتم سؤاله عن قصة تلك الندب. كان كل من "بودير" ورادو يكونان فريقا يحلم كل هؤلاء الأطفال الواقفين تكوينه مع شخص ما؛ فهما كالأخوين، كل منهما مستعد للموت لأجل الأخر، على الرغم من تفرقهما طويلاً، إلا أن عند وجودهما في المكان نفسه لا تراهما إلا سويا، فهما كالقوس والسهم، كالسيف والدرع، كالورقة والقلم.
"سمو الأمير، أخبروني أنك ستكون موجودًا هنا اليوم، فهل نبدأ؟" وجه مسئول تنظيم الأطفال ذاك السؤال ل"بودير"، ووقف بجوار مسئول التنظيم شخص يربط شيئاً ما حول رأسه يبدو كالقبعة ويبدو عليه ملامح الإجهاد.
"هل اكتمل الأطفال؟" سأل "بودير" "أجل، سموك"
"حسنا لنبدأ إذن وننتهي من هذا سريعاً، أخبر الحراس بما عليهم فعله"
"تم بالفعل يا سمو الأمير "بودير"، وقد قاموا بتنظيم الأطفال في صفوف حسب الأعمار"
"والأطفال الأمراء؟"
"كل شيء، نظُم يا سمو الأمير"
"حسنا إذن، فلتبدأ"
وقف فين أمام بيلا وخلفهم كيرا في الصف، ثم عاوده التوتر مجدداً، وسُلِّط تفكيره في تلك المرة على كونه يحمل إحدى صفات أهل المملكة الغربية وهو الشعر الأسود، وهذا يزيد من احتمال أن تكون روحه تنتمي للمملكة الغربية؛ حيث إن التاريخ يذكر أن قديماً كان أغلب ذوى العيون الحمراء لديهم شعر أسود، بينما ذوى العيون الصفراء لديهم شعر بني، لكن مع مرور السنوات اختلف الأمر، لكن يظل الشعر الأسود من الصفات الصغيرة للغاية المنسية التي تدل على الشعب الأحمر، رأى ذلك الشخص الذي كان يقف جوار منظم الأطفال يتقدم للمرايا ويلمس الحجر الواقع أمام المرايا ذات النقوش الغريبة، يبدو أن ذلك الرجل من جماعة الممسوسين، وهم أفراد تكون وظيفتهم الوحيدة هي لمس الحجر الواقع أمام المرايا، ومعرفة كل ما يتعلق به وبإخوة الظل وبالمرايا، يفنون عمرهم بأكمله للتدرب على لمس ذلك الحجر دون أن يصيبهم الجنون أو العته الباقي من عمرهم، لذا فأعدادهم في تناقص مستمر؛ فلا أحد سيترك حياته كله ليتدرب على كيفية لمس حجر وعدم التحول لمجنون إثر ذلك، أسودت عيني الرجل تماماً وبدا كأنه فقد الوعي أو كما لو أن صاحب الجسد قد رحل واستبُدلت روحه بشيء أو بكيان أخر، بدأ التحدث بصوت عالٍ وغريب وعميق بعض الشيء:
"يا شعب العيون الحمراء، يا شعب العيون الصفراء، أيها المغتصبون، نهبتم أراضٍ لم تكن لكم، دمرتم فيها وحولتم زرعها لخراب، دمرتم حضارة وشعب بأكمله، لا لأي شيء سوى لطمعكم وجشعكم، إذن انصتوا جيداً، أيها الشعبان المغتصبان، سافكو الدماء، زاهقي الأرواح، ومدمري الحضارات، نحن إخوة الظل نعدكم أنكم لن تعيشوا في أرضنا في سلام، وستظلون دوماً في حروب وستدمرون أنفسكم يوماً كما دمرتم شعبنا، وسيوُلد طفل من نسلكم، لكن يحمل دماءنا وسيؤدي لدماركم وفنائكم تماما، هذا قانونكم الجديد، كل الأطفال من أعمار الحادية عشر حتى الثامنة عشر عام، سيقفون مرة كل سبعة أعوام أمام هذه المرايا لتظُهر المرايا حقيقة أرواحهم، أينتمون لذوي العيون الصفراء أم لذوي العيون الحمراء، وأي طفل تظُهر المرايا أن روحه لا تنتمي للشعب الذي يعيش برفقته سيرحل لأراضي الشعب الآخر، حتى يتم الثلاثين من عمره، وبعدها يمكنه أن ينتقل لأي مكان يريده في الأرض، لكن قبل ذلك غير مسموح، وإذا تمت مخالفة ذلك القانون في طفل واحد فقط، ستعم أمراض تحولكم إلى مسوخ وتقتل أطفالكم، وإذا امتنعتم تمامًا عن ذلك لمرتين متتاليتين سيجف النهر تماماً، وتعم المجاعات وتموت الأرض، وأيّاً كان ما اخترتموه لأطفالكم، فليعلموا أن أباءهم وأجدادهم هم السبب فيما يعانوا منه الآن، هذا القانون لكلا الشعبين اللذين لعنا أرضنا بمجيئهما فيها، ولكن أرضنا ستلعنكم كما لعنتموها".
أبعد الرجل يده عن الحجر، ووضع يده على رأسه كأنه يعاني من الدوار، كما بدا أن وعيه عاد له، تعالت بعض الأصوات، بعضها بالبكاء وبعضها بشتم وسب إخوة الظل.
"هدوء!"
صاح منظم الأطفال، ولكن ظل هناك بعض الهرج "اهدأوا!"
صاح "بودير" بصوت جهوري لتنخفض الأصوات، وتسود بعض الهمهمات، أكمل "بودير":
"إخوة الظل لم يعودوا موجودين، انقرضوا جميعهم، لا ندري لماذا، ولكنه كان بالتأكيد عقاب إلهي لصنعهم لتلك المرايا، وها نحن متحدون، نحن انتصرنا عليهم، فلا يجب أن نزعج أنفسنا أبدا أو نشعر أنهم هم من انتصروا، فهم كانوا سبب وحدتنا؛ فهذه المرايا هي من جعلت قائدنا كوراخي وبانية حضارتنا ثنسيا يوحدانا، المرايا التي صنعها إخوة الظل في يوم لتفريقنا هي من وحدتنا!"
هدأ الأطفال تماما عند ذلك الحين، من كان يبكي فيهم صمت، ومن كان يسب توقف عن ذلك، وابتسم كثيرٌ منهم ابتسامة نصر لما قاله "بودير"، لمح فين أخته تبتسم هي الأخرى بفخر جهة "بودير"، أخذت بيلا تغني أغنية الوحدة بصوتها العذب، بينما ابتسم أدريان نصف ابتسامة، وسول ظل ينظر ل"بودير" وهو يهز رأسه بخوف وغير تصديق، شعر فين ببعض الراحة لما قاله "بودير"، ولكن هذا لم يزل قلقه تماماً.
بدأ المنظم والحراس في عرض الأطفال أمام المرايا، لتظهر حقيقة أرواحهم، يقف الطفل أمام المرآة ويلمسها فتظهر صورته فيها، وما حقيقة روحه؛ أهو أحمر أم أصفر العينين؟ ثم يسير أثر ذلك فورا لأحد الجهتين، حيث كان يقف حراس في جانبين مختلفين من المرايا؛ ليأخذوا كل طفل للمملكة التي تنتمي لها روحه بعد توديع أهله سريعاً، يذهب الأطفال التي تنتمي روحهم للشعب الأصفر للجهة اليمنى، بينما الجهة اليسرى يتجه لها الأطفال التي تنتمي روحهم للشعب الأحمر.
"كيف حالك، أيها القوي؟!"
فوجئ فين برادو يسأل واضعاً يده أعلى كتف فين، ابتسم له فين على سبيل المجاملة.
"لا تقلق أيها القوي، كلنا مررنا بتلك التجربة وقلق كثيرون، بالطبع أنا لست منهم فأنا لا أهتم لذلك الهراء" قال رادو باستعلاء ثم أكمل:
"وفي النهاية يعيشون جميعا، أتعلم؟ سأخبرك بسر أيها الفتى" تظاهر رادو بأنه ينظر حوله وشعر فين ببعض الحيرة.
"أصابني القلق أنا الآخر، كل ما شعرت به بعد التعرض لتلك المرايا أن الحياة دبت بداخلي، اختلفت طباعي قليلاً، لكن ها أنا هنا أكملت أعوامي الثلاثين، وصرت حرًّا في النهاية، لكن لا تخبر أحدا بذلك؛ فكما ترى أحاول الحفاظ على سمعتي"
أنهى رادو حديثه ثم غمز لفين سريعاً، لن يكذب فين؛ فقد أنساه ذلك الحديث توتره بعض الشيء وابتسم بسببه.
"هل حاول أحد من قبل تدمير المرايا؟!" سألت كيرا رادو:
"بالطبع أيتها المشاكسة، حاول أجدادنا فعل ذلك لكنها لم تتأثر، يبدو أن شخصاً ما لا ينصت جيداً لقصص مربيته" ضحكت كيرا..
"عفوا يا سمو الأميرة، أبلغني المنظم أن تنظيمكم هذا خاطئ؛ فسمو الأمير أدريان يفُترض أن يكون هو في موضعك هذا" أبلغ أحد الحراس كيرا "ولكني أكبره بنصف عام!"
"هذا ليس تبعاً للأعوام، إنه تنظيمكم تبعا لصفاتكم الحالية، فكما ترين سموك الأمير أدريان هو الوحيد وسطكم الذي يحمل صفات المملكة الغربية من العيون الحمراء"
"لا أفهم ما علاقة ذلك بالأمر؟"
"إنه التنظيم يا سمو الأميرة، الممسوس حين يلمس الحجر يصله تعليمات عن كيفية التنظيم، لا يترجمها أحد سواه ويبلغها للمنظم ليلتزم بها"
"إنه محق أيتها المشاكسة، قواعد التنظيم تكون غريبة جدا، ولا يفهمها أحد سوى الممسوس" أردف رادو: "حسناً"
قالت كيرا بامتعاض مبدلة موضعها مع أدريان.
مر عديدٌ من الأطفال أمام المرايا، تلك الفتاة تنتمي روحها الحقيقية للشعب الأصفر فتسعد لأنها ستعود لأسرتها، ذلك الفتى روحه تنتمي للشعب الأحمر تظهر على وجهه نظرة خاوية؛ فهو لن يرى عائلته مجدداً إلا بعد ستة عشر عام، ذلك الفتى ينتمي للشعب الأحمر يعلو وجهه ابتسامة؛ فعمته هناك وهي الوحيدة التي ستعتني به، تلك الفتاة تبكي فهي تنتمي للشعب الأصفر، وليس لديها أي عائلة بالمملكة الشرقية، فبالتالي ستذهب لدار الرعاية، كلها ظنون عن أسباب انفعالات الأطفال المختلفة دارت بخيال فين، يرى ذاك ينوح وتلك تغني فرحة بأغنية الوحدة، استمرت تلك المشاهد حتى شعر بأنه غائب عن العالم ذلك حتى تسلل لسمعه ذلك الصوت المألوف:
"فين، أيها القوي أأنت هنا؟" نظر فين لرادو بتعجب.
"ألم تسمع ما قاله صديقنا الحارس هنا؟ "نظر فين للحارس الذي كرر كلامه:
"حان دورك يا سمو الأمير"
لم يدر لمَ شعر أن قلبه لم يعد بموضعه إثر سماع تلك الجملة، سلط فين نظره على الحارس لوهلة ثم سار بجواره شاعراً برادو يربت على كتفه، شعر أن الوقت تباطأ، يرى "بودير" يبتسم له ابتسامته المعهودة، ولكن تلك المرة لم تعطه أي حماس أو تهدئه، ينظر لخلفه فيرى بيلا تبتسم له ابتسامتها الساحرة، خلفها أدريان يشيح بنظره في الاتجاهات المختلفة، خلفه كيرا تبتسم له وتشير له بيدها أن يتقدم ولا يقلق، خلفها سول ينظر له بذهول، لكنه سرعان ما يشيح بنظره عنه بتوتر حين يدرك أن فين ينظر له.
"س م و ا ل أ م ي ر"
بدا صوت الحارس غليظاً وبطيئاً عن ذي قبل:
"ت ق د م من فض ل ك"
رأى فين المرآة أمامه ضخمة للغاية، كأنها سوف تبتلعه، شعر كما لو أن جسده كله قد شُل، ولكنه ابتلع ريقه رافعاً يده ببطء مغمضاً عينيه، ثم وضع يده على المرآة، شعر أن الموجودات من حوله قد تبدلت، شعر بالحرارة الشديدة كما لو أنه يقف بمنتصف صحراء قاحلة في يوم لا سحب به، حتى تساقطت قطرات عرقه أرضاً، ثم تحول ذلك لبرودة منطقة قطبية لا تظهر بها الشمس أبداً، سببت ارتجاف أوصاله بشدة، ثم تغير ذلك لغابات سمع أصوات الحيوانات بها، وشعر بنسمات هوائها يهدئ كيانه، شعر أن أمطار تسقط أعلاه حتى صارت أشبه بالبحيرة، ثم البحر ثم المحيط، وشعر بنفسه يغرق أسفله، ولا يستطيع السباحة لأعلى على الرغم من ذلك، فقد كانت الأسماك بديعة المظهر، قبيل فقدانه وعيه انقشع الماء من جانبيه ساقطاً في مكان غير معلوم، ثم وجد نفسه بالسماء، بل بالكون وهو يطير دون أجنحة، ناظراً باندهاش للنجوم والكواكب، شعر بنفسه يسحب سريعاً لشيء ما حتى لم يعد يميز ما يراه من فرط السرعة، سمع من يبكي بحرقة، سمع أصوات صراخ يدمي القلوب لأشخاص ما تعُذب، لوهلة على الرغم من سرعته، استطاع فين أن يلمح جثث لا تحصى أسفله، بعضها مذبوح، بعضها متفحم، وبعضها مشوه، وبعضها لا يظهر سوى جزء منها، بينما انقسمت باقي الأجزاء، لم يدرك فين أن هناك مظهراً أبدا بذلك البشاعة، ثم فجأة شبت بتلك الجثث نيران من العدم، لتظهر ما يشبه الرقم سبعة ربما، تذكر فين كم تكره والدته هذا الرقم، رأى طفلاً صغيراً للغاية ينوح بينهم، لم يستطع رؤية معالم الطفل إطلاقاً، لم يلمح سوى أنه بأذُُنٍ واحدة بينما الأخرى مبتورة، حاول فين الوصول لذلك الطفل، لكن سرعته لم تساعده، وعوضا عن ذلك لمس أحد الجثث، نظر ليده ليرى أنها تلوثت بدماء تلك الجثة، وفجأة ازدادت سرعته مجدداً، حتى لم يعد يستطع فتح عينيه، حاول فتحهما بضراوة ليجد أنه يقترب من شيء مهولٍ، حاول تمييزه ليكتشف في النهاية أنها إحدى المرايا، وأمامها يقف شيء ضئيل للغاية كلما اقترب رآه بصورة أفضل، إنه فتى يلمس المرايا بيده المعطوبة ويقف مغمض العينين، لديه قدم خشبية ويستند بيده الأخرى لعكاز، إنه فين! حاول مد يده ولمس يد فين، كانت تلك اليد نفسها الملوثة بالدماء، لكنه لم يهتم، أراد الخروج من ذلك المكان فحسب، وساعده في ذلك سرعته الجنونية المتجهة صوبه، صوب ذلك الفتى الملقب بفين، وحين تلامست يده مع فين الموجود خارج المرايا، ظهر ما يشبه الشرارة أو الضوء، بدا جميلاً للغاية، بدا أجملَ شيء رآه بحياته، بل إنه شعر بعيونه تفيض دموعاً من جمال ذلك الضوء، ثم شعر بنفسه يهمس لا إراديا "سأعود"، وشعر بالحياة تدب بصدره وبالدماء تجرى بأوصاله، شعر بجسده الدافئ وبقلبه النابض، فتح عينيه بالتدريج ناظراً للمرآة بعد إزالة يده من عليها، شعر بصدره يعلو ويهبط، وشعر بجسده كالجمرة الحارة، وبأنه سينصهر من حرارته، ثم ظهرت صورته كما هو!
أسود الشعر بعيون عسلية تقترب للبني.
"روحك تنتمي للشعب الأصفر، من فضلك رافقني للجهة اليمنى يا سمو الأمير"
وقف حارس بجواره مردفاً ذلك، شعر فين بروحه تعود له، وتنفس الصعداء، وكانت ابتسامته حينها أعرض من أية ابتسامة أخرى ابتسمها في حياته، نظر في الاتجاه المعاكس للحارس، فوجد كلًّا من بيلا وأدريان أمام المرآتين، رأى ابتسامة بيلا شاسعة كما لو أنها قضت على المرض الأزرق مثلاً إثر معرفتها أن روحها تنتمي للشعب الأصفر، بينما أدريان ابتسم بحيادية لمعرفته أن روحه تنتمي للشعب الأحمر، فلم يبدُ سعيد حقاً أو مستاءًا؛ لكن كلاهما في النهاية لن يفترقا عن عائلتهما وموطنهما بذلك الشكل، سار كل منهما مبتعدين للجانب الذي ينتميا إليه يرافق كل منهما حارس، لمح فين أخته وهي تلمس المرآة، وفكر بداخله أنها كانت محقة، لم يكن هناك داعٍ لكل ذلك القلق، لم يسر سوى بضعة خطوات حتى سمع صوت شهقات عالية من جموع الأطفال، نظر نحوهم فوجدهم ينظرون صوب أخته بغير تصديق، وجد "بودير" يهرول تجاهها، ابتعد فين عن الحارس بجواره وذهب تجاه المرآة التي تظُهر حقيقة روح أخته ليرى صورتها، ها هي تظهر بالمرآة وهي تبتسم بثقة يحاوطها شعرها الأسود، ولها عين صفراء وأخرى، حمراء! كيرا، كيرا أخته، هجينة؟! نظر تجاهها وهو غير مصدق ليراها صارت بهذا الشكل بالفعل!
صاح أحدهم في حشد الأطفال:
"إنها هجينة، تحمل دمائهم القذرة!"
"شيطانة، شيطانة من إخوة الظل!"
"الموت لإخوة الظل!"
تعالت الصيحات الغاضبة بين حشد الأطفال، لم يصدق فين ما يسمعه وما يراه، شعر أن الوقت توقف به مجدداً، سمع سب وتهديدات رادو، وأمره للجنود بتنظيم الصفوف واعتقال من يفتح فمه، رأى "بودير" يقف جوار كيرا يهمس لها بكلمات لتهدئتها، نظرت كيرا ل"بودير" غير مصدقة ما رأته، رآها فين تلتفت حولها كأنها تبحث عن شيء أو شخص ما، ثم تستقر عيناها عليه حينما تراه، وتنظر له نظرة رجاء كأنها تطلب منه أن ينقذها، أو حتى يبث فيها القوة كما كانت تفعل له، لم يدر فين ماذا يفعل، ظل متخشباً في مكانه فحسب، رأى "بودير" أن يوجهها برفق لجهة الأطفال الذين ينتمون للشعب الأحمر، ظلت تنظر لفين بقلة حيلة، وسمع في أذنه الصيحات الغاضبة:
"أميرة هجينة! أميرة هجينة! أميرة هجينة!" ثم تذكر:
"فين، أنت أخي وسأحبك في كل الأحوال"
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.