hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

أخيرًا كان الإحساس بها هو ما أخرَجَني من هذه الحالة. استدرتُ نحوَها فجأةً
كما لو كنتُ قد تسبَّبتُ في «. لا» : وتحدَّيْتُها أن تسابقني على المنحدرات الجبلية، فقالت
اهتزازِ هيبتها، لكني كنتُ عازمًا على إنهاءِ تلك الهيبة وجعلها تجري — فلا يمكن لأحدٍ
مقطوعِ الأنفاس أن يشعر بالكآبة والحزن — وعندما تعثَّرتْ جريتُ ويدي تحت ذراعها.
مررنا أثناء جرينا برجُلَيْن، استدارا يحدِّقان بدهشة من سلوكي … لا بد وأنهما قد تعرَّفا
على وجهي. وفي منتصفالطريق على المنحدر سمعناصوتَ جلبةٍ شديدة في الهواء — كلانج
كلانك، كلانج كلانك — فتوقَّفنا، وتوٍّا من فوق قمة التل أتَتْ تلك الأشياء الحربية تطير
«. الواحدة تلو الأخرى
بَدَا الرجل متردِّدًا وهو يوشك على وصف تلك الأشياء الحربية.
«؟ كيف كان شكلها » : فسألته
إنها لم تكن قد حاربت قَطُّ. كانت تشبه تمامًا الشكلَ الذي عليه سفننا المدرَّعة » : قال
في الوقت الحالي؛ لم تكن قد حاربت قَطُّ. ولم يكن أحدٌ ليعرف ما قد تفعله، مع وجودِ
رجالٍ يشعرون بالإثارة بداخلها، بل إن قليلين هم الذين اهتموا بتأمُّل الأمر. كانت أشياءَ
ضخمةً عاتيةً مصمَّمة على هيئةٍ تشبه رءوسَالرماح دون القصبة، التي يوجد عوضًا عنها
«. مروحة
«؟ هل كانت من الفولاذ »
«. لا، ليس فولاذًا »
«؟ ألومنيوم »
لا، لا، ليس شيئًا من ذلك القبيل، بل سبيكة كانت شائعةً جدٍّا؛ شائعةً كالنحاس، »
إنني » : اعتصَرَ جبهته بأصابع إحدى يدَيْه، وقال «… مثلًا. كانت تُسمَّى … دَعْني أفكِّر
«. أنسى كلَّشيء
«؟ وهل كانت تحمل مدافع »
مدافعصغيرة، تطلق قذائفَ شديدةَ الانفجار. كانت تطلق المدافع قذائفَها في الاتجاه »
العكسي، وتضرب بالمقدمة. تلك كانت النظرية، ولكنها لم تُحارِب قطُّ. لا أحدَ يمكنه أن
يجزم بالضبط ما كان سيحدث. وفي الوقت ذاته أظن أنه كان أمرًا رائعًا جدٍّا أن تدور في
الهواء كسِرْب من طيورِ السنونو اليافعة، بسرعةٍ ويُسْر. أحزر أن قائِدِيها حاولوا ألَّا يفكِّروا
بوضوحٍ شديد فيما يمكن أن يكون عليه القتال الفعلي. وهذه الطائرات الحربية، كما تعلم،
ليست إلا صنفًا واحدًا من الابتكارات الحربية التي لا نهايةَ لها، والتي كانت قد ابتُكِرت
ولم تُستخدَم أثناءَ حِقْبة السِّلْم الطويلة. كانت توجد أشياء من مختلِف الأنواع كان الناس
ينتجونها من خلال الأبحاث ويجدِّدونها؛ منها أشياء جهنمية، وأشياء تافهة، وأشياء لم
تكن قد جُرِّبَت قطُّ؛ آليات ضخمة، متفجرات رهيبة، مدافع هائلة. أنت تعرف الطريقة
الحمقاء التي ينتهجها هذا النوع من العباقرة الذين يصنعون هذه الأشياء؛ إنهم ينتجون
هذه الأشياء مثلما تَبْني حيواناتُ القندس السدودَ، ولكنْ دونَ أيِّ فهمٍ للأنهار التي سوف
تحوِّل مجراها والأراضيالتي سوف تغمرها بالمياه!
وبينما كنا ننزل الدَّرَج الملتوي المؤدِّي إلى فندقنا مجددًا في الغسق، تصوَّرتُ ما سيحدث
كله: رأيت كيف أن الأمور تقود جليٍّا وحتمًا إلى الحرب التي سيُوقِد نارَها جريشام بحُمْقه
وعنفه، وكان لديَّ بعض المؤشرات لما ستَئُول إليه الحرب في ظل هذه الظروف الجديدة.
وحتى في ذلك الوقت — بالرغم من أني عرفتُ أن هذا يزيد احتمالَ رجوعي للشمال — لم
«. تكن لديَّ أيُّ رغبة في العودة
ثم تنهَّدَ.
تلك كانت فرصتي الأخيرة. » : وقال
لم ندخل المدينةَ إلا ريثما كانت السماء مرصَّعة بكاملها بالنجوم، عندئذٍ خرجنا
صاعدين إلى الشُّرْفة العالية، جَيْئةً وذهابًا، و… نصحتني بالعودة.
يا حبيبي، إن هذا هو الموت بعينه. هذه » : قالت، ووجهها العَذْب يتطلَّع في وجهي
«… الحياة التي تحياها هي الموت بعينه. عُدْ إليهم، عُدْ إلى واجبك
«. فَلْتَعُد … فَلْتَعُد » : ثم بدأت تنتحب، قائلةً وسطَ نشيجها، وهي تتشبَّث بقوةٍ بذراعي
ثم فجأةً لزمَتِ الصمت، وحين ألقيتُ نظرةً خاطفة على وجهها، قرأتُ في غضونِ
المرءُ « يرى » لحظةٍ الأمرَ الذي كانت قد فكَّرَتْ في فعله. كانت واحدةً من تلك اللحظات التي
فيها ببصيرته.
«! لا» : قلتُ لها
وأظن أنها كانت خائفةً بعض الشيء من ردِّي على ما كان «؟ لا» : تساءَلَتْ في دهشة
يَجُول بخاطرها.
لاشيءَ سيدفعني إلى العودة، لاشيء! لقد اخترتُ، لقد اخترتُ الحب، ولا حاجةَ » : قلتُ
إنه … لاشيء !« أنتِ » لي بالعالَم. مهما سيحدث، فسأحيا هذه الحياة؛ سأعيشها من أجلِك
«… سيجعلني أنحرف عن هذا؛ لاشيء، يا حبيبتي. حتى لو مِتِّ … حتى لو مِتِّ
«. أكمِلْ ما تقول » : فتمتمت هَمْسًا
«. عندئذٍ … سأموت أنا أيضًا » : قلتُ
وقبل أن تتمكن من الكلام ثانيةً، بدأتُ في التحدث، التحدث بطلاقة — مثلما كنتُ
أن أفعل في تلك الحياة — التحدُّث لأمَُجِّد الحب، لأجعل الحياة التي كنا نعيشها « أستطيع »
تبدو ملحميةً ومجيدة، والأمر الذي أتخلَّى عنه كريهًا وبالغَ الوضاعة ممَّا يجعل تجاهُلَه أمرًا
مستحسنًا. وجَّهتُ تركيزي كله كي أسبغ على الأمر ذلك السِّحْر، مستهدِفًا من وراء ذلك
ليس إقناعها هي فحسب بذلك ولكن إقناع نفسي أيضًا. تحدَّثْنا، وتعلَّقَتْ بي وهي مشتَّتةٌ
بين كلِّ ما كانت تحسبه نبيلًا وكل ما كانت تدرك جماله. وأخيرًا جعلتُ الأمرَ بطوليٍّا،
وجعلت كارثةَ العالَمِ الآخِذة في التعاظُم برمتها مجردَ إطارٍ بَهِي لحبِّنا الذي ليس له مثيل،
وفي النهاية أصبحَتْ روحانا البائستان الحمقاوان تزهوان بذلك، وقد غرقنا في ذلك الوهم
الرائع، وصرنا من السكارى بنشوى هذا الحلم البهيج، تحت النجوم الساكنة.
وهكذا مرَّتْ أوقاتي.
لقد كانت هذه هي فرصتي الأخيرة؛ فبينما كنا نروح جَيْئة وذهابًا هناك، كان قادةُ
الجنوب والشرق يعقدون عزْمَهم ويُجمِعون رأيهم، وتشكَّلَ الردُّ القوي الذي قصَفَ خداعَ
جريشام إلى الأبد وكان بانتظار التنفيذ. وفي كل أنحاء آسيا والمحيط والجنوب، كان الهواء
والأسلاك تخفق بتحذيراتها بالاستعداد … الاستعداد.
لم يعرف أحدٌ من الأحياء ماذا تعني الحرب، لم يستطِعْ أحدٌ أن يتخيَّل — مع وجود
كل هذه الابتكارات الجديدة — أي فظائع يمكن أن تجلبها الحرب. أعتقد أن معظم
الناسكانوا لا يزالون يحسبون أن الأمر سيكون مجرد بزَّات عسكرية برَّاقة، ومَهامَّ قتاليةٍ
بسيطة، وانتصارات وأعلام وفِرَق موسيقية؛ في زمن كان نصفُ العالَم يجلب إمداداتِه
«… الغذائيةَ من مناطق تَبْعُد عنه بعشرة آلاف ميل
توقَّفَ الرجل ذو الوجه الشاحب لالتقاط أنفاسه؛ فنظرتُ إليه نظرةً سريعة، كان
وجهه مصوَّبًا نحو أرضيةِ عربة القطار. ومرَّتْ سريعًا عبرَ نافذة عربة القطار محطةُ
قطارٍ صغيرة، وصَفٌّ من الشاحنات المحمَّلة، وكشكُ إشاراتٍ للقطارات، والجانب الخلفي
لكوخٍ ما، ومرَّ جسرٌ مُحدِثًا قعقعة صاخبة، مُرْجِعًا صدى ضجيج القطار.
بعد ذلك حلمت كثيرًا. كلَّ ليلة طوالَ ثلاثة أسابيع كان ذلك الحلم هو حياتي. » : قال
وأسوأ ما فيه أنه كانت تَمْضيليالٍ لم أستطع فيها أن أحلم، وقتما كنتُ أستلقي وأنا أتقلَّب
في مكانٍ ما لا يسعني أن أتذكَّره — — « هناك » الحياة الملعونة، وكانت « هذه » في الفراشفي
أمورٌ تحدث؛ أمورٌ جِسام ورهيبة … كنتُ أحيا ليلًا، أمَّا وقتَ النهار، الوقت الذي أكون
فيه مستيقظًا، فقد أصبحَتْ هذه الحياةُ، التي أنا أحياها الآن، حلمًا باهتًا بعيدًا، أو إطارًا
«. رتيبًا، أو غلافًا لكتاب حياتي
توقَّفَ هنيهةً ليفكِّر.
أستطيع أن أروي لكَ كلَّشيء، أروي لك كلَّ شاردة وواردة في الحلم، » : ثم أكمَلَ قائلًا
ولكن ما يتعلَّق بما كنتُ أفعله في وقتِ النهار، فلا أستطيع. لا أستطيع أن أرويه؛ فأنا لا
«… أذكره. إن ذاكرتي، ذاكرتي قد تلاشت. إن الاهتمام بالحياة ينفلت شيئًا فشيئًا مني
مال إلى الأمام، وضغط بيدَيْه على عينَيْه، ولاذ بالصمت لفترة طويلة.
«؟ وماذا بعدُ » : قلتُ له
«. اندلعَتِ الحربُ كالإعصار »
حدَّقَ أمامه في أشياء مخيفة لا تُوصَف يراها هو ولا أراها.
«؟ وماذا بعدُ » : قلتُ أستحِثُّه ثانيةً
مسحة واحدة من الخيال، وكانت ستغدو » : قال، بنبرة خافتة لرجل يكلِّم نفسه
«!« لا» . كوابيس. لكنها لم تصبح كوابيس، لم تصبح كوابيس
ظل صامتًا لوقت طويل حتى بَدَا لي أنني أوشك أن أفقد فرصةَ معرفةِ بقيةِ الحكاية.
إلا أنه راح يتحدَّث ثانيةً بنفس نبرة التحاوُر مع الذات التي تتَّسِم بالمُساءَلة.
ما الذي كان يمكنني فعله سوى الهرب؟ لم يَدُرْ في خَلَدي أن الحرب يمكن أن تصل »
لكابري؛ كان قد بَدَا لي أن كابري لا علاقةَ لها بكلِّ هذه الأمور، وأنها النقيضُ لكلِّ هذه
الأمور، ولكنْ بعدَ ليلتين كان المكان كله يعجُّ بالصُّرَاخ والصياح، وارتدَتْ كلُّ امرأة تقريبًا
وكلُّ رجل شارةً — شارة جريشام — ولم تكن هناك موسيقى إلا أغنية حرب مُجلجِلة
تُعاد مرارًا وتكرارًا، وفي كل مكان رجالٌ يتطوعون، وفي قاعات الرقصيتلقَّوْن التدريبات
العسكرية. كانت الجزيرة بكاملها مَرْتعًا للشائعات؛ قِيل مرةً تلو أخرى إن القتال قد بدأ.
لم أكن أتوقَّع هذا. لقد عايَنْتُ القليلَ من مُتَع الحياة حتى إنني أخفقتُ في أن أضع في
حسباني عنْفَ الهواة هذا. وأما أنا، فلم يكن لي شأنٌ بالأمر؛ كنتُ مثلَ رجلٍ كان من الممكن
أن يَحُول دون اندلاعِ حريق في مستودع للذخيرة. كان الوقت قد فات. لم أكن ذا قيمة؛ إذ
كان أتفهُ مراهِق يضع شارةً أكثر أهميةً مني. احتكَّتِ الحشودُ بنا وصَمَّ آذانَنا صياحٌ؛ تلك
الأغنية اللعينة أصابتنا بصمم، وصرخَتِ امرأةٌ في وجه حبيبتي لأنها لم تكن تضع شارةً،
وعدنا إلى بيتنا ثانيةً، كدِرَيْن ومُهانَيْن، وكانت حبيبتي شاحبةً وواجمة، وأنا كنت أنتفِض
غضبًا. كنت أشعر بحنق بالغ، وكان من الممكن أن أتشاجر معها لو استطعتُ أن ألْمَح
مسحةَ اتهامٍ في عينَيْها.
ذهبَتْ عني كل أبهتي، وأخذتُ أسير جَيْئة وذهابًا في حجرتنا الصخرية الصغيرة،
وبالخارج كان هناك البحر المُظلِم وضوءٌ إلى جهة الجنوب يسطع ويوَلِّي ويعود ثانيةً.
يجب أن نغادر هذا المكان. لقد اتخذتُ قراري، ولن يكون لي » : قلت أكثر من مرة
دور في هذه الاضطرابات. لن تكون لي علاقة بهذه الحرب. لقد نأينا بحياتَيْنا عن كل هذه
«. الأمور. إن هذا المكان ليس مَوْئِلًا لنا؛ فَلْنذهب
وفي اليوم التالي كنا بالفعل قد لُذْنا بالفرار من الحرب التي انتشرت في العالَم أجمع.
«. وكل ما تلا ذلك كان هروبًا … كل ما تلا ذلك كان هروبًا
وسرح بفكره في كآبة.
«؟ كم انقضىمن زمنٍ في ذلك الأمر » : فسألته
فلم يُحِرْ جوابًا.
«؟ ما عدد الأيام التي استغرقها »
كان وجهه شاحبًا ومُنهَكًا وقد شبَّك أصابع يدَيْه، ولم يُعِر أيَّ اهتمام لفضولي.
حاولتُ أن أجتذبه للعودة إلى حكايته بالأسئلة.
«؟ إلى أين ذهبتما » : فقلت
«؟ ومتى »
«. بعدما غادرتما كابري »
«. ذهبنا في قارب » : وحدَّقَ فيَّ لِلَحظةٍ، ثم تابَعَ قائلًا «. إلى الجنوب الغربي » : قال
«. ولكن لو كنتُ في موضعكما، لَكنتُ فكَّرتُ في طائرة » : قلت
«. لقد استولَوْا على الطائرات » : فردَّ قائلًا
فتوقَّفتُ عن توجيه الأسئلة إليه. في هذه اللحظة قدَّرْت أنه كان قد بدأ ثانيةً في حكايته؛
فاندفع يقول بوتيرة واحدة توحي بالرغبة في التحاوُر:
حقٍّا « هو » ولكن لماذا حدث هذا الأمر؟ لو أن هذا التقاتُل، وهذا التقتيل والكرب »
هناك مَأْمن، وإنْ « يكن » الحياة، فلماذا لدينا تلك الرغبة التوَّاقة إلى المتعة والجمال؟ إنْ لم
لم يكن هناك للسلام مكان، وإنْ كانت كل أحلامنا عن وجود أماكن هادئة هي حماقة
ووَهْم، فلماذا نحلم هذه الأحلام؟ لا ريب في أن ما أوصَلَنا إلى هذا لم يكن رغباتٍ دنيئةً،
ولا نوايا ساقطة، بل كان الحبَّ الذي عزلنا. لقد أتاني الحبُّ مع عينَيْها واكتسى بجمالها،
فكان أعظمَ من أيشيء آخَر في الحياة، أتاني في صورةِ ولونِ الحياة ذاتها، وأخذني بعيدًا.
لقد أسكَتُّ كلَّ الأصوات، لقد أجبتُ كلَّ الأسئلة، لقد ظفرتُ بحبيبتي. وفجأةً، لم يكن هناك
«! إلا الحرب والموت
«. في النهاية، قد يكون الأمر مجرد حلم » : واتتني فكرة، فقلت
«… حلم! … حلم! … حتى الآن » : فصرخ، وهو يتَّقد غضبًا مني
للمرة الأولى يصبح نابضًا بالحياة والحيوية. وتسلَّلَ تورُّد خفيف إلى خده، ورفع يدَه
المنبسطة وقبضها ونزل بها على ركبته. وتكلَّمَ وهو يشيح بوجهه بعيدًا عني، وظلَّ مُشِيحًا
إننا لسنا سوى أشباحٍ، وأشباحِ أشباحٍ، » : بوجهه بعيدًا عني طوالَ ما تلا من الوقت، ثم قال
ورغباتٍ مثل ظلالِ سُحُبٍ، وإراداتٍ من القش في مَهَبِّ الريح، تمرُّ الأيام، تسوقنا الأعرافُ
المتَّبَعة خلالَها كما يحمل قطارُ ظلال أنواره … فَلْتكن هكذا الحياة. لكنَّ هناك شيئًا واحدًا
حقيقيٍّا ومؤكدًا، شيئًا واحدًا ليس حلمًا، ولكنه خالد ودائم؛ إنه محورُ حياتي، وكل الأشياء
التي تدور حوله هي إما فرعيةٌ وإما عبثٌ، ولا قيمةَ لها على الإطلاق. هذا الشيء الوحيد هو
أنني أحببتُها، تلك المرأة التي في الحلم، وأننا أنا وهي قُتِلنا معًا!
حلم! كيف يمكن أن يكون حلمًا، وقد صبغ حياةً نابضة بحزنٍ عارِم لا فكاكَ منه،
وهو يجعل كلَّ ما عشتُ لأجله واهتممتُ به بلا قيمةٍ ولا معنًى؟
حتى تلك اللحظة التي قُتِلَت فيها اعتقدتُ أنه لا تزال لدينا فرصة للإفلات. طوالَ
الليل والنهار اللذين أبحرنا أثناءَهما عبرَ البحر من كابري إلى مدينة ساليرنو، تحدَّثنا عن
الهروب. كنا مفعمين بالأمل، وتشبَّثْنا به حتى النهاية، أمل في الحياة التي سنعيشها معًا،
بعيدًا عن كل شيء، بعيدًا عن الاقتتال والصراع، والرغبات المحمومة الجوفاء، والفرائض
التي تحكم العالَم. كنا نشعر بالفخر، وكأنَّ « لا تفعلْ كذا » و « افعلْ كذا » العقيمة المتسلِّطة
ما كنا نسعى إليه هوشيء مقدَّس، وكأن حبَّ كلٍّ منَّا للآخَر كان مهمةً تبشيرية …
وحتى عندما رأينا من قاربنا مقدمةِ صخرةِ كابري الملساء العظيمة — التي كانت
بالفعل قد امتلأت بالتجويفات والشقوق من جرَّاء مصاطب المدافع التي وُضِعت عليها
والمخابئ التي حُفِرت فيها لتجعل منها معقلًا — لم نلحظ أيَّ شيء يدل على المذبحة
الوشيكة، على الرغم من أنضراوة التحضيرات كانت باديةً في الأدخنة وسُحُب الغبار في
مائةِ موضعٍ وسطَ الأجواء الملبَّدة بالغيوم، لكنني بالفعل لاحظتُ ذلك وتحدَّثتُ بشأنه.
هنالك كانت الصخرة، ما زالت جميلةً بالرغم من كل ندوبها، بكوَّاتها وأقواسها وممراتها
التي لا تُحصَى، طبقة فوق طبقة، لألف قدم، ونقوش صخرية رمادية شاسعة، يتخللها
مصاطب يغطِّيها الكروم، وأَجَمات من أشجار الليمون والبرتقال، وتجمُّعات كثيفة من
الصبَّار والتين الشوكي، وقليل من زَهْر اللوز المتفتح. وفي الخارج تحت الممر المقنطر المبني
فوق ميناء بيكولا كانت توجد قواربُ أخرى قادمة، وبينما كنا نقترب من اللسان البحري
وكنا على مرمى البصرمن البر، لاحَ صفٌّ صغير آخَر من القوارب، يندفع في اتجاه الريح
في الاتجاه الجنوبي الغربي. وبعد وقت وجيز، ظهر عدد كبير من القوارب، أبعدها يبدو
«. كمجرد نُقَط صغيرة من اللازورد في ظلِّ الجُرْف الممتد جهةَ الشرق
«. إنه الحب والعقل، يهربان من كل جنون الحرب هذا » : قلت
وعلى الرغم من أننا في تلك اللحظة رأينا سِرْبًا من الطائرات يطير عبر السماء » : قال
جهةَ الجنوب، فلم نلتفت إلى الأمر. هنالك كان صفٌّ من نقاطٍ صغيرة في السماء، وازداد
العدد بعد ذلك، وتكاثَفَتِ النقاطُ في الأفق الجنوبي الشرقي، ثم ظل العدد يزداد حتى صار
هذا الجانب من السماء بأَسْره ممتلئًا بنقاط زرقاء؛ حينئذٍ اتخذَتْ تلك النقاطُ شكلَ خطوطٍ
صغيرة رفيعة باللون الأزرق، الآن خط واحد ثم مجموعة من الخطوط يجري بعضها في
أعقاب بعضٍ، وتواجه الشمسَ وتستحيل إلى ومضاتٍ صغيرة من الضوء. أقبلَتْ هذه
الطائرات، وأخذت ترتفع وتهبط وتبدو أكبر حجمًا — مثلسِرْب ضخم من طيور النورس
أو الغُدَاف أو ما شابَههما من الطيور — وتتحرَّك في تناسُق مدهش، وكلما اقتربت انتشرت
فوق نطاقٍ أكبر من السماء. اندفع الجناحُ الجنوبي متَّخِذًا شكلَ سحابةٍ مستدقةِ الرأس
عابرًا أمام الشمس، ثم فجأةً اندفعَتِ الطائرات بخفة متحوِّلة إلى جهةِ الشرق وانسابَتْ
نحو الشرق، وأخذ حجمها يصغر ويصغر وتبتعد وتزداد ابتعادًا حتى اختفت من السماء.
وبعدَ ذلك وجَّهْنا انتباهنا جهةَ الشمال، وعلى ارتفاعٍ هائل، كانت آلاتُ جريشام المقاتِلة
تحلِّق عاليًا فوق نابولي مثلسِرْب ليلي من البعوض.
بدا أن علاقتنا بهذا الأمر لا تزيد عن علاقتنا بسِرْب محلِّق من الطيور.
بل إن دَمْدَمَة المدافع بعيدًا في الجنوب الشرقي بَدَا أنها لا تعني لنا شيئًا …
في كل يوم — في كل حلم بعد ذلك — كنا لا نزال في حالة طيبة، لا نزال نبحث عن
ذلك الملاذ الآمِن حيث يمكن لنا أن نعيش وأن يحب كلٌّ منا الآخَر. حلَّ بنا التعب والألم
وكروب كثيرة، وعلى الرغم من أننا كنا مُغبرَيْن ومتَّسِخَيْن نتيجةَ سيْرِنا المنهك، ونتضوَّر
جوعًا، ونشعر بالرعب من جرَّاء ما رأيناه من الموتى وهروب القرويين — إذ على الفور
تفجَّرَ القتال في أنحاء شبه الجزيرة — ومع أن كل هذه الأمور كانت تنتاب عقولنا، فلم
يُسفِر هذا إلا عن إصرارٍ يزداد عمقًا على الهرب والنجاة. أوه، لكنها كَمْ كانت شجاعة
وصابرة! فعلى الرغم من أنها لم تواجه قطُّ شظفَ العيش أو تتعرَّضلظروف قاسية، فقد
كانت تمتلك شجاعةً تكفي كلَيْنا. أخذنا نذهب هنا وهناك نبحث عن مخرج، في بلدٍ خاضع
بأسره ومنهوب من قِبَل الحشود العسكرية. كنا نتحرك دومًا على الأقدام. في أول الأمر كان
هناك أناسٌ فارُّون آخَرون، لكننا لم نخالِطهم. هرب بعضهم إلى الشمال، ووقع البعض
وسطَ سَيْل القرويين الجارف الذي اجتاح الطرقَ الرئيسية، وسلَّمَ كثيرون أنفسَهم للقوات
العسكرية وأرُسِلوا إلى الشمال. كان الكثير من الرجال متأثِّرين بهذه الخطوب، إلا أننا
نَأَيْنا بأنفسنا عن هذه الأمور، لم نجلب معنا أيَّ مال لنستخدمه في رشوةِ بعضهم لإيجادِ
سبيلٍ لنا إلى الشمال، وخشيتُ على حبيبتي أن تقع في أيدي هؤلاء الجنود. لقد هبطنا في
مدينة ساليرنو، وأرُجِعنا من مدينة كافا، وحاولنا أن نتَّجِه صوبَ مدينة تارانتو باستخدام
ممرٍّ فوق جبل ألبورنو، ولكننا أجُبِرنا على العودة بسبب نقصالغذاء، وهكذا نزلنا وسرنا
وسطَ المستنقعات بالقرب من منطقة بيستوم، حيث تقف تلك المعابد العظيمة منفردةً.
كانت لديَّ فكرة مبهمة مُفادها أنه بالقرب من منطقة بيستوم قد يكون ممكنًا أن نعثر
على قارب أو ما شابه، فنسلك سبيلَ البحر ثانيةً. وهنالك باغتَتْنا الحرب.
تملَّكني نوع من التبلُّد. كان يمكنني بوضوحٍ أن أرى أننا كنا محاصَرين؛ إذ إن
الشبكة الهائلة لتلك الحرب العملاقة قد أوقعَتْنا في شِراكها. في مرات عديدة رأينا حشودَ
الجنود الذين أقبَلوا من الشمال وهم يتحركون هنا وهناك، ولمحناهم من بعيد وسطَ الجبال
يهيئون أماكنَ لنقل الذخيرة ويحضرون القواعد التي تُثبَّت عليها المدافع. تصوَّرنا ذات
مرة أنهم أطلقوا علينا النار، معتبِرين إيانا جاسوسَيْن؛ وعلى أي حال فقد انطلقت طلقةٌ
ودمدمت فوق رأسَيْنا. واختبأنا مراتٍ عديدةً في الغابة من الطائرات التي كانت تحلِّق فوقنا.
إلا أن كل هذه الأمور بلا قيمة الآن، هذه الليالي التي اختبرنا فيها الفرار والآلام … كنا
في موضع مكشوفبالقرب من تلك المعابد العظيمة في بيستوم، في النهاية، في مكانٍصخريٍّ
خالٍ تتخلَّله شجيراتٌ شائكة، وكان هذا المكان خاويًا وموحشًا ومنبسطًا جدٍّا، حتى إن
بستانًا قاصيًا من أشجار الكافور ظهَرَ واضحًا حتى قاعدة جذوعه؛ لقد كان واضحًا لي
تمامًا. كانت حبيبتي تجلس تحت شجيرة تستريح قليلًا؛ فقد كان الضعفُ والإجهاد قد
بلغَا منها مبلغَهما، وكنتُ أنا واقفًا أراقِب لأرى إنْ كان يمكنني أن أعرفالمدى الذي أطُلِقت
منه الطلقة التي تجاوزتنا ومرت بالقرب منا. كانوا لا يزالون يتقاتلون وهم متباعِدون
بعضهم عن بعض، مستخدِمين هذه الأسلحة الرهيبة الجديدة التي لم تكن قد استُخدِمت
من قبلُ: مدافع يمكن لطلقاتها أن تنطلق لأبعد من مرمى البصر، وطائرات يمكنها أن …
أن تفعله لا يستطيع إنسانٌ أن يتنبَّأ به. « يمكنها » ما
أدركتُ أننا كنا بين الجيشين، وأن كلَيْهما كان يقترب. أدركتُ أننا كنا في خطر، وأننا
لا يمكننا أن نتوقَّف في ذلك المكان ونحصل على بعضالراحة!
مع أن كل تلك الأشياء كانت في ذهني، فإنها كانت في الخلفية من تفكيري؛ إذ بدت
وكأنها شئونٌ بعيدةٌ عن اهتمامنا؛ فبالأساس، كنتُ أفكِّر بحبيبتي، وملأني إحساسٌبتعاسة
مؤلمة؛ فلأول مرة تَمَلَّكها إحساسٌ بالقهر واستسلمت للنحيب. كان بمقدوري أن أسمعها
ورائي تجهش بالبكاء، لكنني لم أكن لأستدير نحوها؛ لأنني أدركتُ أنها كانت بحاجةٍ إلى
البكاء، وأنها أمسكت نفسها طوالَ ما مضىوحتى ذلك الوقت لأجلي. ارتأيتُ أنه لا بأسَ في
أن تبكي وترتاح، ثم يكون بمقدورنا بعد ذلك أن نواصِل سعينا مجددًا؛ إذ لم تكن لديَّ أيُّ
فكرة عن الأمر الذي كان يكتنفنا. وحتى في الوقت الحاضر، يمكنني أن أراها وهي جالسة
هناك، وشعرها الجميل منسدِل على كتفَيْها، ويمكنني ثانيةً أن ألحظ التجويفَ العميق
بوجنتَيْها.
«… لو كنا افترقنا … لو كنتُ تركتكَ تذهب » : قالت
لا، حتى في هذه اللحظة أنا لستُ نادمًا. لن أندم؛ لقد اتخذتُ قراري، وسأتمسَّك » : فقلت
«. به حتى النهاية
وبعد ذلك …
فوقنا، في السماء توهَّجَشيءٌ ما وانفجَرَ، وفي كل مكان من حولنا سمعتُ الرصاصات
وهي تُحدِث ضوضاء مثل إلقاءِ حفنةٍ من حبَّات البازلاء فجأةً. وتسبَّبَتِ الرصاصاتُ في
«… تشقُّق الأحجار التي كانت على مقربةٍ منَّا، ورشقت شظايا من الطوب ومرقت
وضع يده على فمه، ثم بلَّلَ شفتَيْه.
عند وقوع التوهُّج، استدرتُ … » : وقال
أما هي، فوقفَتْ …
وقفَتْ وتحركت خطوةً نحوي …
كما لو كانت تريد أن تصل إليَّ …
«. وأصُيبت بطلقة اخترقَتْ قلبها
عند هذه النقطة توقَّفَ الرجل عن الكلام وحدَّق فيَّ. أحسستُ بكل مشاعر العجز
الحمقاء التي يشعر بها أي رجل إنجليزي في هذه الظروف. تلاقَتْ عينانا للحظةٍ، ثم
حدَّقت عيناي فيما خارج النافذة. لفترةٍ طويلة من الوقت، خيَّمَ علينا الصمت. وعندما
نظرتُ إليه أخيرًا، وجدته جالسًا مسترخيًا في ركنه، وذراعاه مطوِيَّتان، وأسنانه تقرضفي
مفاصل أصابعه.
عضَّظفره فجأةً، ونظر إليه محدِّقًا.
حملتُها بين ذراعَيَّ وسرت نحو المعابد، كما لو كان لتصرُّفي هذا أهمية. لا » : وقال
أعرف لماذا فعلتُ ذلك. بَدَتِ المعابدُ مَأْمنًا بصورةٍ ما، أعتقد أن السبب في ذلك أنها قائمةٌ
منذ زمن بعيد.
«. لا بد أنها قد ماتَتْ من فورها، غير أني … تحدَّثتُ إليها … طوال الطريق
خيَّمَ الصمت مجددًا.
وكان بالفعل قد أعاد إلى مخيلتي بصورةٍ «. لقد رأيتُ تلك المعابد » : قلتُ له فجأةً
واضحةٍ جدٍّا أمامي تلك الأروقة المعمَّدة الساكنة المتهالِكة المضاءة بنور الشمس المبنية
بالحجارة الرملية.
اتجهتُ إلى المعبد البني، المعبد البني الكبير. جلستُ على عمود ساقط وأمسكت بها »
بين ذراعيَّ … صامتًا بعدما توقَّفتُ عن الكلام غير المفهوم الذي تفوَّهتُ به في أول الأمر.
وبعد برهة قصيرة خرجَتِ السحالي وعادت تجري حولنا، كما لو لم يكن يحدث أيُّ شيء
غير عادي، كما لو أن شيئًا لم يتغيَّر … كان هناك سكون هائل يخيِّم على المكان، وكانت
الشمس عاليةً في كبد السماء، وكانت الظلال ساكنة، وحتى ظلال الحشائش على السطح
المُعمَّد للمعبد كانت ساكنة، على الرغم من الأصوات المكتومة والدوي اللذين كانا يَسْرِيان
في أرجاء السماء.
إن لم تَخُنِّي الذاكرة أذكر أن الطائرات جاءت من الجنوب، وأن المعركة ابتعدتصوب
الغرب. وقد أصُِيبت إحدى الطائرات وانقلبت وهَوَتْ. أذكر ذلك، على الرغم من أنه لم يكن
يَعْنِيني على الإطلاق؛ فهو لم يمثِّل بالنسبة إليَّ أيَّ مدلول. كانت تلك الطائرة كطائر نورس
جريح يضرب بجناحَيْه في الماء لبعض الوقت. كان في مقدوري أن أرى الطائرة في نهاية
ممر المعبد؛ شيئًا أسود في المياه الزرقاء المتلألئة.
لثلاث أو أربع مرات انفجرت قذائفُ بالقرب من الشاطئ، ثم توقَّفَ ذلك. في كل مرة
حدث فيها ذلك كانت السحالي تُهرَع مختبِئةً لبرهة من الوقت. كان ذلك هو كل ما وقع من
أذًى، عدا أنه في إحدى المرات شقت قذيفةٌ شاردةٌ الحجرَ شقٍّا بالغًا، مُحدِثةً مجردَ سطحٍ
لامع جديد.
«. ومع ازدياد طول الظلال، بَدَا السكون يَسُود أكثر
الشيء الغريب هو أنني لم » : ثم أبدى ملاحظةً، بطريقةِ رجلٍ يُجرِي محادَثةً تافهةً
لم أفكِّر على الإطلاق. جلستُ وسط الحجارة وهي بين ذراعيَّ، ساكنًا في حالة من ؛« أفكِّر »
البلادة.
ولا أتذكَّر أنني استيقظت. لا أتذكَّر أنني ارتديتُ ملابسي ذلك اليوم. ما أعرفه هو
أنني وجدت نفسيفي مكتبي، وخطاباتي مفتوحة كلها أمامي، وكيف أنني أصابتنيصدمة
من جرَّاء لامنطقيةِ وجودي هناك، مُدْرِكًا أنني كنت في الواقع جالسًا، مصعوقًا، في معبد
بيستوم ذاك، وثمة امرأة ميتة بين ذراعيَّ. قرأت خطاباتي كالآلة. لقد نسيت الأمورَ التي
«. كانت الخطابات تتحدَّث بشأنها
ثم توقَّفَ عن الكلام وساد صمت طويل.
فجأةً انتبهتُ إلى أننا كنا نهبط المنحدر من محطة تشوك فارم إلى محطة يوستن،
بدأتُ عند هذه النقطة أشعر بأن الوقت يكاد ينقضي؛ فبادرتُه بسؤالٍ فظٍّ بلهجة مُلِحَّة.
«؟ وهل حلمتَ مجددًا » : فقلت له
«. نعم » : قال
بَدَا أنه يحاول إجبارَ نفسه على إتمام الحديث؛ إذ كان صوته خافتًا جدٍّا.
مرةً واحدةً أخرى، ولكن كان ذلك للحظاتٍ قليلة فقط. بَدَا الأمر وكأنني » : ثم قال
استفقتُ فجأةً من حالةٍ شديدة من جمود الحس، لأتحوَّل إلى وضع الجلوس، وقد استلقى
الجسد هناك على الحجارة بجانبي. كان جسدًا شاحب اللون. لم يكن جسدها. بلا شك …
لم يكن جسدها …
ربما أكون قد سمعت أصواتًا. لا أعرف. ما عرفتُه جليٍّا هو أن رجالًا كانوا يدخلون في
الخلوة في ذلك المكان، وأن ما حدث كان انتهاكًا أخيرًا.
وقفتُ وسرت عبر المعبد، ثم ظهر فجأةً رجلٌ بوجه أصفر، يرتدي زيٍّا أبيض اللون
متَّسِخًا، له حواشٍزرقاء، ثم ظهر بعد ذلك كثيرون، وقد أخذوا يتسلقون قمةَ السور القديم
للمدينة المندثرة، ثم ظلوا قابعين هناك. كانوا يبدون في ضوء الشمس كتكوينات صغيرة
برَّاقة، وهنالك بقوا، وأسلحتهم مُشهرة بأيديهم، محدِّقين بحذرٍ فيما أمامهم.
وعلى مسافةٍ أبعدَ رأيتُ آخَرين، ثم أناسًا أكثر عند نقطة أخرى في السور. كان ثمة
صفٌّ طويلٌ غير متماسِك من الرجال في تشكيلٍ مفتوح.
وما لبثت أنْ وجدتُ الرجلَ الذي رأيته أولًا يقف ويصيح مُصدِرًا أمرًا، وأقبَلَ رجاله
ينزلون السورَ ليدخلوا في الحشائشالعالية باتجاه المعبد. هبط الرجل معهم وقادهم وأقبَلَ
نحوي، وعندما رآني توقَّف.
في البداية كنت أتابِع هؤلاء الرجال يدفعني في ذلك محضُفضول، ولكن عندما رأيتُ
أنهم يعتزمون دخولَ المعبد تحرَّكتُ لكي أمنعهم. وصحتُ في الضابط.
«. هنا. إنني هنا ومعي شخصميت « إنني » . يجب ألَّا تأتوا هنا » : صحت قائلًا
حدَّقَ فيَّ، ثم صاح نحوي متسائلًا بلغةٍ غير معروفة.
فكررتُ عليه ما قلتُه سابقًا.
صاح ثانيةً، وطويتُ ذراعيَّ ووقفت ثابتًا. وما لبث أنْ خاطَبَ رجالَه وتقدَّمَ نحوي،
وكان يحمل سيفًا مسلولًا.
أشرتُ إليه بأن يبقى بعيدًا، ولكنه استمر يتقدم. قلتُ له ثانيةً بصبر بالغ وبوضوح
«. يجب ألَّا تأتي إلى هنا. إن هذه معابد قديمة، وأنا هنا ومعي شخصميت » : شديد
عند هذه اللحظة كان قريبًا جدٍّا مني حتى إنني كنتُ أرى وجهه بوضوح. كان وجهًا
نحيلًا، به عينان رَماديتان خاليتان من التعبير، وشارب أسود. وكانت لديه ندبة فوق شفته
العليا، وكان قَذِرًا وغير حليق. ظل يصيح نحوي بأشياء مبهمة، ربما كانت أسئلةً.
أعرف الآن أنه كان خائفًا مني، ولكن في ذاك الحين لم يَجُلْ ذلك بخاطري. وعندما
حاولتُ أن أوضِّح له قاطَعَني بلهجةٍ متغطرسة، وأظن أنه كان يُصدِر لي أمرًا بأن أتنحَّى
جانبًا.
حاوَلَ الرجل تجاوُزِي، لكنني أمسكتُ به.
رأيتُ ملامحَ وجهه تتغيَّر عند إمساكي به.
«! أيها الأحمق، أَلَا تفهم؟ إنها ميتة » : صرختُ فيه قائلًا
فالتفَتَ للوراء، ونظر نحوي بعينين قاسيتين صارمتين.
رأيت نوعًا من العزم تملؤه النشوة يظهر في عينَيْه؛ النشوة. ثم فجأةً، وهو يقطب
«. حاجبَيْه، سحب سيفه إلى الوراء، ثم دفعه للأمام
توقَّفَ فجأةً عن الكلام.
بدأت ألحظ تغيُّرًا في إيقاع حركة القطار، وارتفع صوت المكابح واهتزت العربة
وارتجَّتْ. هذا العالَم الراهن الساكن الرتيب أصبح صاخبًا. ورأيت عبر النافذة، المتكثِّف
بخار ماء على سطحها، أضواءً كهربائية تتوهَّج من سوارٍ عالية فوق الضباب، ورأيت
صفوفًا من عرباتِ قطارٍ فارغة ثابتة تمر أمام النافذة، ثم تلاها كشكُ إشارات، يرفع
مجموعةَ أنواره الخضراء والحمراء في غسقِ لندن المعتم. نظرتُ ثانيةً إلى ملامح وجه
الرجل التي تنمُّ عن الإجهاد والفزع.
أنفَذَ الرجل السيفَ في قلبي. ما شعرتُ به حينها كان نوعًا من الذهول، » : تابَعَ قائلًا
لم يكن خوفًا ولا ألمًا، ولكن اندهاشًا فقط؛ إذ أحسستُ أنه ينفذ فيَّ، أحسستُ به ينغرز في
«. جسدي. لم يكن الأمر مؤلمًا، لم يكن مؤلمًا على الإطلاق
أصبحَتِ الأضواءُ الصفراء لأرصفة محطة القطار في مجال رؤيتنا، وكانت تمرسريعًا
في البداية، ثم ببطء، وفي النهاية تتوقَّف تصاحبها ارتجاجة. ومرَّ رجالٌ بأشكالٍ ضبابية
غير واضحة هنا وهناك خارج القطار.
«! يوستن » : صاح صوتٌ قائلًا
«؟… هل تقصد »
لم يكن ثمة ألمٌ، ولا جرح ولا معاناة. شعرتُ باندهاشٍ ثم ظلامٍ يجتاح كلَّ شيء. »
وبَدَا أن الوجه المتحمِّس القاسي الماثِل أمامي، وجهَ الرجل الذي قتلني، يتراجع. وانمحى
«… من الوجود
«! يوستن! يوستن » : صاح الصوت مناديًا من خارج القطار
انفتح باب العربة، وهو ما سمح بدخول وابل من الأصوات، ووقف حمَّال ينظر إلينا،
ووصلَتْ إلى مسامعي أصواتُ أبواب تصطفق، وصوتُ وقْعِ حوافر الخيول التي تجرُّ عربات
الأجرة، ومن وراء هذه الأشياءِ الجلبةُ البعيدة المألوفة للحصىالمرصوفة به شوارع لندن.
وعلى طول الرصيف توهَّجَ عددٌ لا يُحصَىمن المصابيح المضاءة.
«. ظلام، طوفان من الظلام انبسط وانتشر ومحا كلَّ الأشياء »
«؟ هل لديك أيُّ حقائب يا سيدي » : قال الحمَّال
«؟ وهل تلك كانت النهاية » : سألت الرجل
«. لا» : بَدَا عليه التردُّد، ثم أجاب بصوتٍ لا يكاد يُسمع
«؟ أتقصد »
«… لم أستطع الوصولَ إليها. كانت هناك في الجهة الأخرى من المعبد … وبعد ذلك »
«؟ نعم، تابِعْ. ماذا حدث بعد ذلك » : قلتُ بإلحاحٍ
أمورٌ مخيفة لا تُصدَّق كأنها كوابيس! إنها حقٍّا كوابيس! يا إلهي! طيور » : صرخ قائلًا
«. عظيمة تقاتلت ومزَّق بعضها بعضًا
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.