darbovar

شارك على مواقع التواصل

هل
تسمحين
لي
يا سيدتي
أن
أَخُطَّكِ
في
رواية؟


على الرّغم من اتساع دائرة الكون، إلّا أن الغرق في المستحيل لم يكُنْ مستحيلًا، فهكذا دون سابق إنذار وقعتُ في المحظور، وقعت غريقًا في بحارِ عينيك، وما كان هذا المستحيل إلّا أنتِ يا روح، وعلى مدى أيام وأسابيع قليلة، كانت كفيلة بأنْ تزرع السّعادة في ثنايا قلبي، كما يَزرع الفلاح النّشيط أرضه ويقلِبُها، ليحصدَ نتيجة نشاطه في النّهاية، بموسم ذي أغلال وفائِض وفير من الرّزق، فلقد كنتِ أنتِ تلكَ الغنيمة وذلك الرّزق الذي أنتظره، ولكن لحماقتي قمتُ بالتّفريط بك، ولم أستطع المحافظة عليكِ. فعلًا يا روح أصعب ما في الحياة هو التّفريط بما كنت تنتظره، وإنّي لأعلم أنّي قد قصرتُ وندِمتُ فيما بعد، لكن هذا النّدم لن يُجديَ نفعًا، بعد فواتِ الأوان أدركتُ هذه الحقيقة والتي كانت حقيقةً مُرة، بل أكثر من ذلك! لا أريد السّرد كثيرًا في الأحداث فأنتِ تعرفينها، ولربما تحفظينها عن ظهر قلب، كما لو أنهّا وصيةٌ من أحدهم لك، ولربما أنا قد نسيتُها أو تناسيتُها، لكني كنتُ دائمًا أهرب منكِ إليك، أي كأنّني أطحنُ الطحين وهو مطحون أصلًا!
يا روح اعتبري هذا الشّيء الذي أخطّهُ الآن لكِ رسالة أو تخليد لعينيكِ بين سطور، فبعد أن فقدتُك كحبيبة لي أو كزوجة، صديقة، رفيقة درب، قررتُ أن أعودَ لخيانة نفسي، ولكن هذه المرة مع الورق، فبدأتُ أخلدكِ في كتابٍ لربما أعطيك
قليلًا من حقَّكِ، أُجسدكِ كما أرغب، بهيئةِ نور، أو ملاك، آية من أسمى آيات اللَّه في خلْقهِ الكون، لعنة أبدية، روح تطوف من حولي لُتوقظَ الحنين الغافي بقلبي، أو أن أُعوضَكِ بشيء ولو صغير من حقّك، وأعوض الحرمان الذي حرمتُكِ إيّاه، ولكنّني أخشى يا روح منكِ كثيرًا كخشيتي من دعوةِ المظلوم في جوف اللّيل، إن ظلمتُ أحدهم، فالدّعاء مستجاب، واللّه يحب الملّحين الذين يتضرعون إليه كثيرًا في دعائهم، وإنّي لأرجوَ أن أكونَ خارج تفكير دعائك عليّ بمكروه، فقد نلْتُ نصيبي الكبير من الفواجع، والتي كنتِ أنتِ إحداها وأكثرها ألمًا وقهرًا أكثر بكاءً ودموعًا ودماءً،
ففواجع البعد قاتلة تفتكُ بالإنسان وتُردِيه صريعًا في سبيلِ الحب لا حياة في أوصاله وأوداجه.

الحقيقةُ
المؤلِمةُ
خيرٌ
من
النِّفاقِ
المسعد

لكلِّ شيءٍ بداية إلّا أنتِ
فأنتِ البدايةُ والنّهاية وأنتِ
بدايةً لم أكُنْ أعرف ما الذي يجب أنْ أفعله، وهل أسيرُ بشكلٍ صحيح، أم أنّ شغفي هذا هو مجردُ شعورٍ غريبٍ يأتي فجأة، لكن سُرعان ما يتلاشى ويندثرُ كما الأيام!
حاولتُ جاهِدًا وجاهِدًا ألّا أتعلق بِك، ولكن ما الضّير في هذا، ما الضّير في تعلُقي إن كان هذا التّعلق سيؤدي بي إلى الخروجِ من واقعي السّابق والهروب من ألمه الباذخ فلا بأس به.
ولأولِ مرة أجلسُ برفقتك هناك، بين الواقع والخيال بين الحلم والحقيقة، تتملكني الدّهشة ولا أصدِق هذا، هل أنا أجلس برفقتك، أم أن هذا الشّيء مجردُ وهم وخيال، مجردُ حلم يراودني ويجعلني أشتهي هذا الشّيء وأرغب به بشدة!
لقد جلستُ لخمسِ، أو ست ساعات بصحبتكِ على مقاعدِ الجامعة، دون أن أشعرُ بملل، فهل هي لهفة اللّقاء الأول وروعته التي ترسخُ في الذّاكرة وتأبى أن تذهب في غياهب النّسيان، أم لهفتي لقصة حب ما كنت أعلم ما تخفيه لي في مقبل الأيام، وما سيحدثُ معنا وكيف ستصيرُ إليه الأمور وحياتنا نحنُ الاثنين، أم أن لعبة الأيام قد بدأت عند هذا اللّقاء، وعليهِ يجب علينا أن نتحملَ نتاجَ أعمالنا وتصرفاتنا؟! والتي هي تصرفات كان ينبغي لها أن تكون واعيةً، تصرفات بتعقّل وتروّي وتفكير؛ لكبرنا في السّن ولكبُرَ إدراكُنا للحقائقِ ومعطياتِ الأمور، بعد ما مررنا بهِ من أحداث، ولنتيجةٍ وعينا المُبكِر بعدَ الخوضِ في تجارب أكبر منّا بكثير، وقد تفوقنا في السّن لتجرعَنا المرار على صغر وفي سنٍ مبكرة، كبرنا في غير أواننا يا روح.
في خمس ساعات ونصف أشتهي أن أشرب سيجارة لكنْ فضلتُ الجلوس برفقتك، وألّا أغادر من أجل أن أشتري علبة سجائر من خارج الجامعة، كنت أرغب أن أغتنم الفرصة وأكسب اللحظة برفقتك وفي حضرة الحب السّرمدي، خوفًا من القادم، لأنّي لا أعلمُ الغيبِ ولا أعرفُ ما تخفيه لنا الأيام في ثناياها، جلسْنا تحدثنا.. ضحكتِ بشكلً طفولي؛ طفولتك التي قُتلَت بسنٍ مُبكر، وهذا ما رأيته ولمحتُهُ في عينيكِ السّوداوين الباذختين في حُزنهما، على الرّغمِ من محاولتكِ إخفاء ذلك، ولكنّكِ لم تستطيعي أن تُخفيه أمامي كثيرًا، فلقد رأيتُ الدّموع تنسكبُ وتسقِط من عينيك وكأنّها اللؤلؤ! راودني شعورٌ غريبٌ يا روح، وهو أنْ أقومَ باحتضانُكِ بحنانِ الأب والأخ، الزّوج والحبيب، لأواسي حُزنَكِ الكبير، وأربتُ على كتفكِ وأخبرك: ها أنا هُنا معكِ ولنْ أتخلى عنكِ، سأبقى برفقتِكِ إلى الأبد،
ولو أنّي لم أكُنْ حينها حبيبًا لكِ، ولو أنّي كنتُ مُجردَ صديقٍ قد تمَّ التّعرف عليه في هذا اليوم، لكنّي لا أرغبُ في رؤيتك بهذا الشّكل، والذي باتَ ألمًا يعتَصِرُ في قلبي، لكنّي لم أجرؤ على فعلِ شيء، لقد جَبُنتُ والتزمتُ مقعدي الذي كنتُ أجلسُ عليه، واكتفيتُ بأن أُخرِجَ منديلًا من جيبي وأعطيكِ إيّاه، من أجلِ أن تمسحي به دموعك، وأحاول بعد قليل أن أرسمَ الضّحكةَ مُجددًا على وجهكِ، وهذا الذي حدثَ بعدَ قليل، لكم كانت دموعُكِ عصيّةً ولم ترغبْ بأن تجريَ على خدّك، كانت ترغبُ أن تبقى بينَ رمشَيك، وأن تُشكِّل لؤلؤةً هي من أثمنِ الجواهر، ورُغمَ أنّها عصيّةٌ لكنّها كانت في ذاتِ الوقت سخيّةً كريمة، وكأنَها وابِلٌ من أمطارِ الخيرِ التي يُرسلها اللّه من أجل إحياءَ الأرض، فكانت هذه الدّمعات من أحيَت في قلبي روحُ المحبَةِ والتّعاطف، وأيقظَت حسَّ الأبوة والأخوة تجاهكِ.
أحببتُ فيكِ ذلك الإصرارَ الكبيرَ، وذلك التّحدي على عدمِ الضّعف والاستسلام، حتّى لو كان داخلُكِ هشًّا ضعيفًا يتمزقُ من الحزن، أعجبتُ بأنّكِ تُخبئين في ثناياكِ عزيمةً وإرادةً جبّارةً لمُقاومةِ شتّى أنواع الحُزن الذي يُدمي نياطَ القلبِ.
يا روح كنتِ عبارةً عن كتلةٍ ملتهبةٍ من التّحدي والصمود، كأبطالِ فلسطين الذين يقاومون أعتى الجيوش المُدججة بشتى أنواع الأسلحة، وهؤلاءِ الأبطالُ سلاحُهم الصّبرَ، والثّبات، والدّفاع عن أرضهم التي تُعتبر عرضهم وحجر لا يقدم ولا يأخر بالنسبة لوضع الجيش الآخر، ولكن تحدّيهم وطموحهم فوقَ كل شيء، فما هذا الشّيء الذي تخفيه داخلك فهو خليطٌ مُتداخل فيما بينه مُتجانس بكلّ أنواع التّجانُس، كالحزنِ والضّعف، والقلق الفرح، والتفاؤل والتّحدي، والإصرار والمقاومة، الجبروت والهيمنة، الحنان والقسوة، رأيتُكِ في بضعِ ساعاتٍ بجميع هذه الحالات،
لربما منذُ هذه اللّحظة بالذّات بدأتِ بالزّحف والسّيطرة على قلبي الجريح الخارج من صراع حب، ولم يَبرد ويبرأ بعد! هذا القلب الذي ما لبث أن أعلنَ الاستسلام والخضوع تحتَ جبروت حالاتك المُتناقضة بجميعِ نواحيها، فأيُّ بشرٍ تكونين أنتِ حتى أرى هذا التّأثير جليًا على نفسي أولًا؟! وعندها قررتُ أن أبدأ بالخيانة، وأول ما سأخونُ سيكون نفسي، وهل يستطيعُ الإنسانُ خيانةَ نفسه! وسأخون قلبي الذي أصبح مقبرةً فيما بعد، انتهى لقاؤنا الأول بوداعٍ وأملٍ في لقاءٍ قريب، وحتّمًا سيكون هناك لقاءٌ قريب.
خرجت من الجامعةِ برفقتكِ وافترقنا عند الباب، ولكنّي لم أكُن أرغب بهذا الشّيء، كنتُ أرغبُ البقاءَ معكِ وبرفقتكِ لوقتٍ أطول، أريدُ أن أتعلمَ منكِ كيف تجمعين جميعَ نساءَ الكون بأنثى واحدة، تمتازُ وحدها فقط عن دونها من النِّسوةِ بهذا الشّيء وتنفردُ بهذا الإنجاز العظيم! أرغبُ أن أتعلمَ منكِ كيف أستطيعُ أن أخفيَ ألمي الباذخ في ضحكةٍ منشُودةٍ مُرآة أمام النّاس فقط وفي جوفي أحترقُ همًّا وأكتوي بنيرانِ الغيظ، أريدُ أن أتعلمَ منكِ كيف أكون قاسيًا صُلبًا حينًا، ولينًا سهل الثّني حينًا آخر، كيف أكونُ حزينًا أُصابُ بداءِ البُكاء والنّحيب وقتًا أو أن أكونَ سعيدًا مجنونًا وقتًا آخر،
هذهِ الأشياء الّتي رأيتها بكِ وحدكِ في بضعِ ساعات قد ظهرت أمامي في أنثى واحدة وفي آن واحد، وهذه الأنثى أنتِ يا رَوح، فدُليني كيف السّبيل إلى هذا الشّيء لقد أتعبني أن أكونَ إنسانًا ساذجًا لا يستطيعُ إخفاءَ ما بداخِله فحياتُنا لا يستطيعُ العيش فيها إلا أمثالك أنتِ فهم الذين يمتازون بأكثر من مزاج ويمشون مع الواقع توازيًا دون الالتقاء الصادم الذي يشعلُ النّار ويضرمها.
توجهتُ إلى ضيعتي النّائية هناكَ عندَ أعتاب الحلم الغريب وأنا أتضورُ شوقًا للاتصال بكِ والحديث معك، لقد شغلتُ الحيزَ الكبير والكافي للتفكيرِ بكِ ولمدةٍ تتجاوزُ نصفَ النّهار، ترى هل هذا الشّيء جراء إلقائك تعويذةً سحريةً على شخصٍ بات واهنَ الفكر، هزيلُ الجسدِ شاحبُ الوجه خافِتُ العينين؟!
وصلتُ أخيرًا إلى المنزل بعدَ جُهدٍ كبير، وبعدَ أن أخذَ التّعب مأخذَهُ منّي، ولكن الشّيء الوحيد الذي فعلتُه هو أنّي أمسكتُ الهاتفَ وقمتُ بالاتصال بكِ..
- سلام
- أهلا بكَ
- كيف حالكِ؟!
- الحمد لله، وأنتَ؟
- بخير، لقد وصلتُ إلى ضيعتي لكنّي متعبٌ قليلًا سأحدثُكِ بعدَ أن أشعُر بشيءٍ من الرّاحة.
- حسنًا كما تريد أنتظر اتصالًا منكَ..
- أستأذنكِ
- رافقتك السّلامة
أغلقت الهاتفَ وجلستُ في غرفتي وحيدًا لا أريدُ التّحدث مع أحد، أرغبُ في استدراكِ حقيقةَ الأمر والخوض في الخيال والإبحار في الذّاكرةِ لأصلَ إلى مدى حقيقة الأمر، هل كل شيءٍ حقيقة؟ أم أنّني كنتُ أغرق في الأحلام!
قمتُ بقرصِ نفسي يا روح؛ للتأكدِ من حقيقتكِ في حياتي وواقعي، تألمت كثيرًا، ولعنتُ الحظَ العاثرَ الذي جعلكِ تقطنين في محافظةٍ وأنا أعيشُ في محافظةٍ أخرى، ولا تربطنا الصّلة بالقربى، لكنّي كنتُ أخاطرُ بنفسي وأخرجُ من مكانٍ لمكانٍ آخر فقط للجلوسِ معكِ! وهذا الشّيء وحده كان كفيلًا بأن يغفرَ لي زلّاتي إن وجِدَت يا روح.
وتمرُّ الأيّام وأنا أفكرُ في وصلكِ والجلوس معكِ وبرفقتك، أيُّ هيمنةٍ هذه التي هيمنتِها عليَّ لتملكي جميعَ جوارحي وأفكاري، بات قلبي أسيرًا مُكبلًا بأصفادِ سطوتك، وأصبحتِ تلامسين بأنامِلك أشياءَ من روحي الهائمة في سماء الكون، لازمتِني ليلًا ونهارًا ولم أعُدْ أفكرُ سوى بكِ أنتِ والّلقاء بكِ والجلوسُ معكِ، وهل هذا الشّيءُ يعتَبرُ احتلالًا وفرضَ سطوةٍ ونفوذٍ؟ أم أنّهُ ينطوي تحتَ شعارِ الحُبِّ وروحِ الأُلفَة ولهفة الّلقاء؟
أتفوهُ بهذهِ الكلمات الآن دونَ أيِّ خوفٍ، أو تردد، أو ارتباك؛ لأنّهُ لم يعُد هُناك أيُّ شيءٍ يرهبُني أو يقيدُني ويعيقُ سطوتي على القلم، وبعدَ أن أصبحتُ حُرًا طليقًا لا يربطُني بأحدٍ أيَّ رابطٍ ولا سُلطة لأحد عليّ، ولكن ماذا عن سُلطتُكِ على قلبي؟ وهيمنَتُكِ عليه وهل سأخرجُ من حالتي هذه؟ والتي ما زلت أفكرُ بها إلى الآن! ويقتلُني هاجِسُها عندَ كلِّ ليلةٍ، وفي ذاتِ الموعدِ الذي كنّا نعودُ لنتحدثَ سويةً قبلَ أن نخلدَ إلى النّوم.
يا روح ملكتِ جوارحي وإيماني، وأعلنتُ الخضوعَ لكِ دون أنْ أنطِقَ ببنتِ شِفْة، أو أن أعترضَ على شيء، ولا أعلمُ لماذا قبلتُ بهذا الشّيء وأنا الشّابُ المُتَغطْرِسُ المغرورُ، الذي لا يعجبُه شيئًا، لماذا فرضتُ على نفسي أن أُحْكَمَ لأحدِهم؟ وهكذا فجأةً وبمحضِّ أنّي أرغبُ التّعرُفَ عليك، انتهى التّفكير بكِ إلى قرارٍ اتخذتهِ بعدَ تدقيق وتمحيص، بعدِ تفكيرٍ وتخطيط دقيق بتأن وعن دراية بعواقبِ ما قد أصبو له، وما أُقدِم على فعلهِ.. وكان قراري المجيءُ إليكِ مرةً أُخرى! وصرتُ أمشي كالمغيبِ تسبقُني إليكِ لهفتي وشوقي الجارِف الحار.
أتيتُ إليكِ أجري كطفلٍ صغير يركضُ نحو أحلامه الحمقى متهورٍ لا يعرف الخوفَ من شيءٍ، يثبُ على أحلامه كما يثبُ الوحش المفترس على فريسته الضّعيفة ليغرسَ أنيابهُ ومخالبه في جسدها المُدججِّ بالّلحم الشّهي بالنسبة له! ولكنكِ كنتِ أجمل الأحلام وأندرها لا تظهرين إلّا عندما يُصلي العبدُ المُقبل على شيءٍ صلاةَ استخارة، كنتِ ذلك الحلم مستحيل التّحقق فأنتِ كطائرٍ جميل من سُلالةٍ نادرةٍ مهددة بالانقراض! لذلك حرصتِ الدّول على أن تضعها في محميةٍ خاصةٍ بها؛ ليمنعوا صيدها، أو وضعها في أقفاص، فأنت فصيل الأمنيات والتّمني والرّؤى والتي ألح على الله في دعائي أن تتحققَ أو أن تكون واقعًا في مُقبل الأيّام في حياتي.
أتيتُ إليكِ وكليّ أمل بأن تتحقق غاياتي وأن أصلَ إلى مبتغاي وأعيش الشّيء الذي خلته حُلمًا واقعًا، أتيتُ إليكِ حاملًا كلّ جوارحي، وعواطفي بين يدي على طبَقٍ من ذهبِ الحُبِّ أقدمهَنَّ لكِ عربونا لحُبنا الأبدي، والذي لم يولَد بعد وكان جنينًا في رحم الحياة العقيم، ذلك الرحم الذي لم يُنجِب لليوم قصةً تشابه قصتنا بشيء، فهل ينجب يومًا قصتنا وتكون وليدةَ الحظِّ الجميلِ، وتعيشُ إلى ما بعدَ الفناء وتخلَّدُ في كتب الحُبِّ؟!
أم أنَّ هذا الرحمُ سيبقى عقيمًا ولن تولدَ هذه القصة وتتشابهُ مع نظيراتها من القصصِ العابرةِ! والتي باءت جميعها بالفشل الذّريع، ذلك الفشل الذي يبعثُ علي الاستسلام والخُضوع للأمرِ الواقع، ونرجسيةِ العادات والتّقاليد البالية، والتي يجبُ أن يكونَ مصيرُها الزّوال إلى سلّة القمامة، ومنها إلى مكبِ النّفايات، ومكان تجمع الأوساخ والقاذورات، وأكون أنا قد قدمت كل ما أملك وأنا لا أملك شيء في سبيل شيء لا وجود له.
أتقدم بخطوات مُسرعةْ وكأنّني لا أدوس على الأرض، كأنّني أحلّق على بعد مسافة صغيرة من الأرض، وأطيرُ بخفةٍ وعجلٍ من أمري لأبحثَ عنكِ هُنا وهُناك! إلى أن عثرت عليك، جلسنا على مقعد خشبي في باحةِ الجامعة والتي لا تشبه الجامعات بشيء وكأنّها مدرسةٌ لطلابٍ في المرحلةِ الثانوية، لكنها كانت أجملَ؛ لأنّها عرفتني بكِ.
نجلسُ على ذلك الكرسي بالقربِ من شجرةِ كينا والسّماءُ مُلبّدةٌ بالغيوم، أرتدي معطفي الأسود نتحدثُ قليلًا، ونتسامرُ وبعدها نتجِهُ إلى مقصفِ الجامعة؛ لنشربَ القهوة معًا.. تسبقُنا بخطوات أحلامَنا الطفوليةَ الحمقى ونجري نحنُ خلفها كقطيعٍ من الغنم دون تفكير تقودنا عواطفنا إلى المجهول يا روح، لكنّي برفقتكِ لا أفكرُ بشيءٍ إطلاقًا والأهم لدي أن أعيشّ اللّحظة التي أنا بها ولا أبحثُ عن شيءٍ آخر إطلاقًا ولا أرغب في البحث ولا زلتُ أنا وأنتِ نتقدّمُ في اللاشيء! نسعى إلى المجهول.. ندخل من باب المقصف نبحث عن مكان نجلس به، نجد طاولة فارغة نسرع نحوها أدعكُ تجلسين أولًا وأنا أحضِرُ رجولتي الشّرقية التي يفاخرون بها كثيرًا واسألك:
- ماذا تشربين؟
- طبعًا وبكل تأكيد قهوة.
أحضرت فنجانين مِن القهوة وعدت إليك، جلسنا وتحدّثنا قليلاً.. أخرجت دفترًا وبدأنا بالكتابة عليه أسماءَ كتب وروايات نرغب في قراءتها وكتبنا حينها: (الأسودُ يليق بك، نسيان، الأجنحة المتكسّرة، ذاكرة جسد، أحببتك أكثر مما ينبغي، دمعة وابتسامة، النّبي، فوضى الحواس، عليك اللّهفة، عابر سرير..) ولم أكن حينها بذلك القارئ الفذّ ولكنّني قررت أنْ أبدأ بالقراءة مِن أجل عينيكِ لأظهر بمظهر الشّابِّ المُثقّف الطّموح، ولم أكن أعي أنّني بهذه الطّريقة أسوق نفسي إلى طريقٍ كنت أجهله وأُنَمّي في داخلي هوايةً كانت قيدُ الحرمانِ؛ تُعاني سكرات الموتِ وتَلفِظُ أنفاسها الأخيرة، تأخذ الشّهيق بصعوبةٍ بالغةٍ، تنخفضُ نسبة الأوكسجين في ثناياها وتشهق كلّ شهقة تقطع بها الشّرايين وتمزع الأوردة والرّوح..
كان هذا اللّقاء الثّاني لي بك، ولا أدري ما هو الشّعور الّذي ولد في داخلي تجاهك وبدأ يكبر ويكبر؛ شعورٌ تجلّى وبكلّ وضوحٍ منذ أنْ كانَ بذرة في الجوف ليتفرّع ويزهر من جديد وكأنّه سُقيَ وشَرِبَ مِن ماءِ قلبي الرّطب، هل هو شعور بالحبِّ، أم الإعجاب؟! أم شعور الهروبِ مِن إثم أخطائي الكُبرى والطّامّاتِ الّتي لم أفعلها وكنت أخشى أن أقع بها أو أفعلها؟!
وأن أرتكب حمق الجنون والتّخلي عن الأحلام، ولكن كانت خشيتي منك أنت أكثر من خشيتي من المصائب الجلل الّتي تنتظرني على قدمٍ وساقٍ.. تنشّط عندما ترى السعادة جليّة على وجهي وآثار الحُزنِ تكاد تندثر رويدًا رويداً مِن بين أضلعي، وخشيتي الكُبرى أن أخون نفسي وأقع في شراك حبّكِ وهنا تكون الخيانة هي الخيانة العظمى والّتي لا تغتفر ولا يمكن التّوبة عنها فبمجرد أن فعلتها
لن أستطِيع التّراجع ولو بقدر سنتيمتر واحد إلى الخلف! وسأبقى في واقعها مهما حييت، أسبح في براثنها وأغوص بعمق بَحرِها حتّى أصِلُ إلى الشّقاءِ الأبديّ الّذي كُتِبَ على كلّ عاشقٍ وعاشقةٍ، فلا هدوءَ وسكينة في قصصِ الحبّ في بلادنا، فالحبّ ذنبٌ يُرتَكَب، وفاحشةٌ يُحاسِبُ عليها المجتمعُ المُتَخلِّف بعاداتِهِ وتقاليدِهِ القديمةَ! ولَن أبرح عنها إلى أنْ أُشفى مِن شقائي وكِدّي في تجربةٍ سابقةٍ كان مصيرُها الفشلُ بِمَحضِ الاختيار والتّرصُّدِ، بِمَحضِ الكذبِ والخداعِ، واللّعبِ بمَصيرِ القلوب الّتي أَحَبَّتْ بصدقٍ وضميرٍ؛ فهذا الشّيء الّذي فعلته جنون يا روح، أنْ أُلقي نَفْسي إلى هاويتكِ ومستنقعكِ دون إدراك أو حُسبان للخسائرِ المُقبِلةِ، وليسَ جنونًا فقط! بل تهورًا وعدمُ معرفة، وفقدانًا للوعي والذّاكرة..
كنتُ كَمَن يُلقي بِنَفسِهِ في بحرٍ هائجٍ ولا يعرفُ السّباحةَ؛ يقومُ بالتخبيط بيديه وقدميه دون جَدوى.. فحتمًا هو لَن يستطيع الخروج من هذا المأزق، ولَن يتعلّم السّباحة مهما فعل! في مثل هذا الوضع وسَيَلقى مَصيرَهُ الأبديّ وهو يناظرُ السّماءَ علّها تُرسل النّجدةَ لِتُنقِذَ مَلهوفًا، لكن ما من مجيب؟!
آهٍ يا روحُ كم كنتُ أُعاني حينها؛ فقلبي يُريد شيئًا، وعقلي يريد شيئًا آخرَ! وأنا مُمَزَّقُ الأوصالِ والأوداجِ بينَ هذا وذاك، بينَ ما يَرغَبُهُ عَقلي وما يسعى إليهِ ويَصبو هذا القَلبُ المُلتاعُ الحَزين.
أرغبُ في تجربةِ ما أرادَ قلبي ولكنّ عقلي كان شديد الحرصِ والحذرِ ودائمًا ما كان يُحذِّرُني من شرِّ الوقوعِ والخَوضِ في مثل هذا.. تجاربٍ دونَ تخطيط أو دراسةٍ لِمُعطياتِ أُمورِها، فالوقوعُ يعني الانكسار والشّقاء الأبديّ كما سبق وأنْ قلتِ لي يا روح: "شقيٌّ أنتَ يا قدري"
وفعلًا بعد حينٍ أدركتُ أنّني شقيٌّ في قدري، شقيٌّ في قصص حُبّي، في تصرّفاتي، وجنوني، وتهوري في الوعي واللاوعي، في الحبّ والكراهيّة، في الطّمع والجشع، في اللّعب والمَرَح، شقيٌّ في قراراتي واختياري، حتّى في ضحكتي كنتُ شَقيًّا، في تفاصيل حَياتي مِن صغيرها إلى كبيرها، حتّى في بُعدي وقُربي منك، وفي النّظر إلى عينيكِ، في الاستماع إلى حديثك كنتُ شَقيًّا، وكنتُ أنعَمُ بالشّقاوة وأعيش تحت وطأتِها، لا أملك شيئًا أفعله، أتلذّذ وأستمتع بالشّقاء كَمَن يتلذّذ بسحبةٍ مِن سيجارته ليدخل السّم إلى جوفه ويخرجه زفيرًا مُحمّلًا بالسّمومِ إلى الهَواء، أو برشفةٍ مِن فُنجان قَهوة أصابه البرود العاطفيّ والجمود، وهل ينعم الإنسان العاقل بالشّقاء؟!
سؤال أسألك إيّاه وأعلم جيّدًا أنّكِ لن تستطيعي إجابتي عليه؛ لأنّكِ أصبحتِ الآن تمتازين بالبرود في كلّ شيء، كإنسان سكب على رأسه سطل من الماء المُثَلَّجِ،
فشقيّة أنتِ يا روح في كلّ شيء وليس بالقدر فقط، حتّى في بكائك كنتِ شقيّة، وأشقيتِ قلبي معك، بفرحكِ وحزنك، بابتسامتك وبكاؤك، وسحر عينيك.
و بعد أنْ جلسنا وشربنا القهوة وتحدّثنا قليلًا.. وكتبنا ما نرغبُ، خرجنا من المَقصَف و وقفنا عند بهوِ المَقصَفِ على أدراج الجامعة وهناك تتشابك أيدينا، للمَرّة الأولى أقوم بلمسك! كَمَن سرى في جَسَدِهِ تيّار مِن الكهرباء، فقد صُعِقْتُ حينَها، وكان لديّ رغبة شديدة لأن أضمّك إلى صدري وأكسر عظامك وأتَّحد معك بجسد واحد، ولكنّي كنتُ أفتقر للجرأة كافتقاري إليك الآن!
وافتقاري للنّظر إليكِ والتّمَتُّع برؤية عينيكِ، كنتُ أرغب أنْ أفعل أكثر من ذلك، لكنّي كنت أجهل ما هو مَعنى أنْ تَضُم إحداهنّ إلى صدرك وأنْ تُقبّلها وتحتسي الخمر مِن شفتيها، كنتُ راغبًا جدًّا بأن أضع شيئًا مِن عطري عليك.. ليَعلَم الجميع بأنّك مِلكٌ لأحَدِهِم ومَلاكه. أتَذكُرين ما قُلتِه لي حينها: "أنا و أنت كالأصابع والفراغات الّتي بينهما"
وأخيرًا يا روح بدأتُ أعرفُ ماذا تكونين لي؟! ولماذا كلّ هذا الشّتات والضّياع بعد الفُراق عنكِ! و مِن هذه اللّحظة بدأت الخيانة بالتّجَلّي والظّهور في دربِنا وطريقِنا، وأنهَتْ لهفة اللقاءات الأولى وجماليّتها بِعَجَلٍ، فَلَم يكُنْ بين لقائنا الأوّل و اعترافي لكِ بِحُبِّكِ سِوى بِضعٌ مِن أيّامٍ قِلالٍ، ولم أكُن أعلمُ حينها يا روح أنّه قد يَتلاشى بعض الشّيء من هذا الإعجاب، أو أنّني قد أندمُ على تَسَرُّعي دونَ الخوض في غِمار التّجربةِ، والتّعمُّق بالمعرفة والإبحار في بحرِك أكثر، ولكنّه لَن يفيد النّدم، ولَن يُجدي نفعًا بعد هذه اللحظة بشيء! فقد بُحتُ بما كنت أخبّئه لك وبما كنت أرغب في قوله: "مجنونة بحبِّك"
زادتْ لهفتي حينها عليك، وأسدلتُ السّتائرَ وأشرعتِها؛ لأُخفي النّسيان خلفها، وبين طيّاتِها، ولم أكن أرغب في أنْ أكون في دربِكِ فقط عابر سبيل! أردتُ المكوث والإقامة، والثّبات في قلبك وبين أضلعك، في حياتك وواقعك، وحتّى في أحلامك، و أردتُ التّجَلّي بمراحل الحُبّ أجمعها، وأنْ أُحِبُّكِ أكثر ممّا ينبغي، وأنْ أُرتّب بكِ فَوضى الشّعور والحَواس، فَوضى النبض و تدفُّق الدَّم في عروقي، لا فوضى الحَياة وتَرَفِها، فكنتُ أنا الجسد وأنتِ ذاكرته، وكنت أنا العين وأنتِ النّور الّذي أبصر به وأهتدي بفضله في الليالي السّوداء المُظلمة المقفّرة على مآسيها وأحزانها.
لقد غيّرتني كثيرًا يا روح، لدرجة أنّني لم أتعرّف على نفسي، وصِرْتُ أدعي اللّه بأنْ أبقى مُنكِرًا لها ولا أتعرّف عليها أبدًا، لأنّني إنْ غامرتُ بالبحثِ عن نفسي فحتمًا سأستيقظ مِن هذا الحلم الجميل، ولَن أستطيع العودة له مَرّةً أُخرى! ولو خَلَدْتُ للنّوم مئات مِن السّنين لم أُرِد في يومٍ مِن الأيّام كسرك، ولا كسر نفسي، فيكفيني فخرًا عندما قلتِ لي: أنّكِ شعرتِ معي بالحُبّ والارتياح، وأنّني أشبه أبيكِ وأمتلك شيئًا منه..
كلامي، حُبّي، طيبتي، حنّيَّتي و الخوف عليك، بعثَ الأمَل في نَفسِك، والدّعم الكبير.
و لم أرغب أنْ أُزعزِعَ الثّقة الّتي غرستِها في نفسِك يا روح عنّي، ولَم أرغب في الابتعاد عنك أو هجركِ و لو لثانية واحدة! كنتُ دونك كالمُشتّت؛ الضّائع التّائه في صحراء غريبة عنه لا يعرف الخروج منها، ولا يَعرِفُ أيُّ السّبل سَيَسْلُك أو بأيهم سَيَجري ويقدّم للخروج مِن هذه الدّوّامةِ الكبيرةِ! كذلك الّذي دخل في متاهات الحَياة، وأيّامها فأهلكَ نفسَهُ بيَدِه وألقى بنفسه مِن على سفح جبلٍ وَهَوى إلى أسفلِ قاعٍ هُناكَ يَتَخَبَّطُ بين الصّخور دونَ أنْ يدري ما يَتَوَجَّبُ عليه أنْ يفعل، وهل يكفيكِ الآن أنْ أُخبرَكِ بأنّي أتَخَبَّطُ في ظُلماتِ الحَياة باحثًا هُناك في الظّلام بين اللاشيء عن أحد أشباهك الأربعين؛ لأنعم و أظفر بإعادة هيكلة دماغي على صورتك، والاحتفاظ بنسخة منها إلى الأبد، وأن أرسّخك في هذا العقل و الّذي بات يبحث عنك هُنا وهُناك بين طيّات النّسيان و دهاليز الأيّام و الدّهور والسّنين، أُفتِّشُ عنكِ بينَ حقائبِ المارّة ووجوه العابرين، بين أعيُنِهِم، وفي أسماعِهم، وعقولهم، وفي قلوبهم، أبحث عنك بين الزّهور والفراشات.
آه يا روح.. لو تعلمين كَمُّ التّراكُماتِ الّتي أَلقيتُ خلف ظهري عندما أتيتُ إليكِ في لقائي الثّاني الّذي جَمَعَني بكِ، كَمُّ المشاكل الّتي واجهتها، وكَم مِن جُموع النّاس الّذين وقفتُ في وجههم وتحدّيتهم بإصرار لأمضي أنفًا في طريقي قادمًا إليك.. و كم مِن المُقرّبين مِنّي عاندتُهُم ولَم أستَمِع لِنُصحِهِم بألّا أُخاطِر وَأقدِم في هذا الطّريق الموصل إليك؛ لخوفهم الشّديد عليّ..!
لكنّي تَجَرّأتُ وأتيتُ إليكِ في لقائي الثّاني، الّذي رتّبتُ له الكثير، وكنتُ قد درستُ ماهية و نوع الحَديث الّذي سأتحدّثه معكِ.. ماذا سأنطق، وأيّ الحُروف سأتكلّمُ بِها أوّلًا، وماذا سأفعل، وأين سأجلس، وكيفيّة استراق النّظر إليكِ، وإلى عينيكِ دونَ أنْ تكشفي ذلك أو تَريني؟!
كنتُ قد رتّبت كيفيّة البدء بالحديثِ معكِ، وعن ماذا سنتحدّثُ حينَها و في أيّ الأشياء سنخوض ونُبحِرُ بعمقٍ، والّتي ستأخذ الأهميّة الكُبرى والحيّز الوافر مِن الحَديث لديّ و لديك، لكنّني في حضرتكِ تلبّكت، وأُصِبتُ بالخرسِ و ضاعت المُفرداتُ مِنّي وكأنّني في حضرةِ الجَمال والحُسنِ أتوه!
وكأنّني طفلٌ صغيرٌ لَم يَتكلّم بَعد و قَد بدأ يَتَعلّم الكلام مِن جديد، فَتَريه يَتَلَعثمُ بالكلام ويبتلع نصف ما ينطق به فقط من هول النّظر إلى عينيكِ والتّمعُن بِهِنّ..
ذهبَ جميعُ ما خطّطَتُ لَه أدراجَ الرّياحِ هَباءً مُنبثّا.
فحتمًا في حضرة الحُبّ تغيب جموع الكلمات، وتضيع قواميس اللغة، وتختفي الأحرف والأبجديات، وتندمج تحت أبجديّة الحُبّ الخالدة، ويبقى الشّوق هو الشّيء الموجود فقط، اكتفيت بالنّظر إليك دون كلام.. إلى أن سألتِني ما بك! لماذا تلتزم الصّمت؟ كنت أرغب أنْ أقول لكِ: علّميني ما أنطقُ به، فأنا في حضرتك لا أُجيد الكلام، لكن سَبَقَني إليكِ فضولي و سؤالي عن الحُبّ... حينها اعترفت لكِ بذلك الحُبّ القابع في قلبي والّذي لم أشأ أنْ أعلّمك إيّاه لئلا تموتَ لهفةُ البداية.. فالجميع اتّفق على أنّ بداية القصص أجمل، وأنّ جميع قصص الحُبّ تكونُ بدايتها أروع، وبعد مُنتصَفِ الحُبّ يبدأ العشق بالتّلاشي، تكون قد انتهت جميع كلمات الغزل، ولم تَعُد تلك اللهفة المَنشودة بقوّةٍ مُتوفّرة، ولَم يَعُد هُناك كلامٌ يُقال سِوى بعضُ كلماتِ الحُبّ العابرةِ الّتي تَتَرَدّدُ على الأذهان، ويَتلوها الجَميعُ على مسامعِ الآخرين، وتَمتازُ هذه الكلمات بالبُخل، لا تُعطي للحُبّ حَقّه..
كنتُ أرغب لَو أنّنا نُعطي لأنفسنا فرصة ونتعمّق أكثر فيما نَحْنُ مُقدِمين عليه، لأنّ هذه الخطوة المُقبلين عليها هي أساسُ مستقبلنا تعمّق الأوردة في القلب، وأنْ نُعطي لهذه القصّة حقّها، وأنْ تتطوّر على مهلٍ، وتنضجُ تحتَ نارٍ هادئة لئلّا تحترق نتيجة التّسرُّع، لكنّي لَم أَعِ هذا الشّيء يا روح؛ لأنّي كنتُ شديد الثّوران و الانفجار.. كما البارود عندما يشتَمُّ رائحة النار.. ثِرتُ فجأةً وبدأ ثَوَراني يَخمدُ تَدريجيًّا، لكنّي حَتمًا وقطعاً سأسيرُ في طَريقي إليكِ لاهثاً خلفَ ذلك الحُلم الّذي يُداعِبُ مُخيّلتي.
يا روح، لَم أَعُد أعرِفُ ما سأفعلُ، فَدونكِ الحياةُ لا طعمَ لها، أنتِ الإنسانةُ البسيطة الّتي تُضحِكُها كلمة وتُبكيها حركةً، لم تكوني أجمل الفتيات اللواتي عرفتهنّ، لكنّك زرعتِ في داخلي معنى آخر للحُبّ والجمال، أنتِ الوحيدة الّتي لا تقارنين بأحَد، والّذي يَرغب بمُقارنتك بغيرك يَحمِلُ مِن الغباءِ ما يُعينُهُ على عدمِ فهمك و إدراك صورتك الحقيقيّة، والّتي تتمثَّلُ بملاكٍ مِن البشرِ يَحْمِلُ في داخِلِه طيبةَ قلبٍ ،وَكَمٌّ هائلٌ مِن الحَنانِ والحُبّ والتّضحيةِ والإخلاص، الصّدق والأمانة و الوفاء... فَمُجَرّد مُقارنتك بغيرك هو جُرمٌ بِحَقِّ الحُبّ، وهو ظلمٌ لكِ، فأنت من أبْهَرتِني بأشياءَ لم تَكُن تحرّكُ في ساكنٍ، وكنتُ أراها مُجرّدُ أشياء عاديّة جدًّا، لكن بوجودكِ جانبي أصبحت أشياء ذات قيمة ومعنى كبير و وحدك فقط مَن تستحقّين أنْ تُستَثني عن الجميع بجمالِكِ و بطريقة حُبّك، وحُزنك، وفرحك.
أتذكُرين يا روح عندما قلتِ لي: أنّك تُعارضين هذا النّوع مِن العلاقات والّتي تُبنى على تعارف بسيط وأنّك تخشين مِن خسارة الكثير في مثل هذه العَلاقات المُفاجئة؟!
حينها قلت لك: لا تخشي شيئًا و غامري.. فالمُغامرة أمرٌ جميلٌ ولو كانت مُجرّد تجربة، قد تكون فاشلة.. وحينها لم أكُن أعلم أنّني أُعطِ الجواب الشّافي لتجربتنا، لكنّني أحببتُكِ بصدقٍ ولو لم أُحبُّكِ لَما كُنْتُ لأُغامِر بنفسي و أتّجه إليك في مكان يُشكّل الكثير من الخطر عَلَيّ وأنت تعلمين جيّدًا هذا الأمر، لكن ما باتَ باليد مِن حيلةٍ فَقَدْ وقع المحظور، وأتيتُ إليك مَرّة أُخرى، جلسنا وتحدّثنا
ولكن لم يَكُن هذا اللقاء رغم جماله الشّاسع والسّعادة الّتي مَلأت قلبينا والدّفء الّذي شعرنا به وحرارة الشّوق الّذي امتاز به.. فدائماً ما تكون البدايات أجمل ويبقى تأثيرها هو الأشَدُّ وقعًا في القلب والعقل، والأكثر تأثيرًا في النّفس، ولم أكن أتصوّر بأنّني سأتعلّق بك بشدّة وأنّني سأجاهد نفسي و تفكيري كثيرًا، فقد كنت دونك مُرهَقًا ، أشلائي مُبعثرة، كنتُ جسدًا بلا روح ومعك عادتْ لي الحياة مِن جديد، فَقَدْ بدأت أتطلّعُ أنْ أعيش وأنْ أغامر وأُجرِّبُ أنْ أسعى لأصِل إلى المُراد، وأنْ أتسلّق قِمَمُ المَجد بك، أنْ أجرِّبَ كلّ شيءٍ دون تردُّد أو خوف!
فأنت الطّمأنينة للرّوح، وهبةٌ مِن اللّه لي، ومَلاذُ قلبي الآمن، ومُهجة الفؤاد، وشرارةُ الحُبِّ الكونيّ الّذي أشعلَ فتيل الحُبّ في سالفِ العصور و أسعى لأجل إخمادها القاصي والدّاني، الكبير والصّغير، أنتِ ملجأ روحي وسر سعادتي الأبديّة والأزليّة، و كلّ كوني واستكانتي و هدوئي وصخبي، وضجيجُ حياتي، و ذاتي وكلّ كُلّي، يا سكون القلب، و سرّي القلق والعميق ،وأجمل اللعنات الّتي حَلَّتْ بي، وأجمل آيات الجمال و ساكنة الرّوح، وقصَّتي الّتي عشتها و حربي الضّروس الّتي لم أَخُضها، و انكساري الخفيّ، وهزيمتي النّكراء، يا بَهجتي، ودائي ودوائي، ومَرضي وسَقمي، وعافيتي وعلّتي الأبديّة، يا كلّ الكون وهدوئي واتّزاني، لقد جمعتِ كلَّ الأشياء في جسد واحد و كنت الأحقّ والأجدر دومًا بالفوزِ و الانتصار.
افترقنا مِن لقائنا الثّاني على أمل اللقاء مُجدداً في أقربِ فُرصةٍ قد تسنَح لَنا، دون تفكيرٍ أعلنتِ أنتِ الموافقة على هذا وقد اقتربَ موعد الامتحان لديكِ، وقد تقترب المسافة الآن بين قلبين التقيا فجأةً، كانا غُرَباء و بدأ القدرُ يرسم لهما الحُلم الجميل، ويقرّبهما مِن بعض، فقد بدأ القدرُ يفعلُ فعلته و أصبَحَت القلوب تتقارب في غضون أيّامٍ قليلةٍ تَفصِل ما بين اللّقاء الأوّل و الثّاني، لكن بهذه الأيّام القليلة قد حَدَثَتْ أشياء كثيرة لا يتصوّرها العقل، أشياء أَتَت على عَجَلٍ، لكنّها زَرَعَتْ ثمارها بقوّة، وغرسَتْ أشياء جميلة قد يَبقى أثرها وذكراها للأبَد، ورسمت خارطة طريق ليسلكه مَن يأتي مِن بعدنا، وأحلام كبيرة كادَتْ أنْ تبني معها سعادة أبديّة، لكنّ القدر لم يَكُن يريد ذلك يا روح.. فقد كان مُقدَّرٌ لَنا الشّقاءُ الأبديُّ بعد قولك لتلك الكلمة: "شقيٌّ أنتَ يا قَدَري"
و ما بات باليد مِن حيلةٍ حيالَ هذا الأمر، فقد كُنّا نَجري لِقَدَرٍ لم يُرِدْ جَمعنا.
قَدَرًا بِقَدْرِ ما أرادَ أنْ نَقترب أرادَ لنا البُعد والقطيعة، أراد لَنا أنْ نُعاين الأضرار داخلنا قبلَ أنْ نُعاينها في مُجتَمَعٍ خَضَعَ لِسَطوةِ الحَرب الهَمَجيّة، والّتي لا تَقي ولا تَذِر..
وهل كانَ الحُبّ يا روح سوى حَرب مِن نوعٍ آخر.. يَتَجَيَّشُ جَيشًا العاشِقَينِ مِن أجل الالتحام بحربٍ أضمن، في بدايتها أنّها تمتاز بالأخلاق فلا ضحيّة فيها، ولا قاتلٌ ولا مَقتول، و حتمًا لا أضمَنُ نهايتها، فلرُبّما كان للقَدَرِ كلمته المفصليّة في النّهاية وعليها تَترتّبُ نتيجة هذه الحرب.. ومِن هُنا نعلم إنْ كانَ هُناك خساراتٌ أم لا.
يا روح.. في الحَربِ والحُبّ هناك رابطٌ مُشتركٌ بينهما، وقَدْ تجمعهما أشياءٌ كُثرٌ مُشتَرَكة، فالحُبُّ خُدعة، و الحرب كذلك.. وفي الحَرب والحُبّ هناك دائمًا ضحايا أبرياء يكونون هُم الأكثر خسارة، وهُم شرارة البداية و لا أعلم أيٌّ مِنّا هو شرارة الحُبّ الّذي نَحْنُ فيه! ومَن هو الخاسرُ فينا؟! هذا إنْ لم نَكُن نَحْنُ الإثنين الشّرارة و الضّحيّة والقاتل والمَقتول، فَقَدْ نجمع الجميع فينا.. أكون أنا القاتل وأنا المَقتول وأكون أنا الضّحيّة والجلّاد في ذات الوَقت والعكس صحيح في هذا؛ أي أنّها تنطبقُ عليكِ و هل هُناك نجاةٌ وأيّ طوق قد نتعلّق به و نستمسك به لننجو من هذا الدّمار الّذي خُلِّفَ في قلوبنا و عقولنا؟!
فهل لنا بطوق نجاة يُخرِجنا مِن ظُلم الأيّام ويُحرِّرنا مِن سِهام وَجْدِنا أَم أنّنا سَنَبقى كما نَحْنُ هكذا نُغامِرُ بما تبقّى مِن أفئدتنا في سبيل الفوز بِمَكرَمة الحُبّ!
يا روح، أرهقني كثرة التّفكير و دخلتُ في نوبة صراع مع ذاتي لا أستطيع أن أخفي سرًّا ولا وَجَعًا ولا أستطيع الإفصاح، فأيّ فخ هذا الّذي أوقعتُ نَفسي بِه وسَيُكلِّفني الغالي و النّفيس، وأوقعتُكِ بِرفقتي وأنتِ لا ذنب لكِ سِوى أنّك آمَنتِ بالحُبّ و أشعلتِ فؤادكِ في سبيل ذلك شموعًا؛ لتنير ظلمات الكون في الليل الطّويل، و قد أذبتُ نفسي وأذبتُكِ في سبيلِ الحُب المَحتوم والّذي اكتوى به فؤادينا.
إنّي أشتاق إليكِ بكلّ ما تعنيه كلمةُ شوقٍ مِن مَعنى، وأحِنُّ إليكِ وقَد ازداد هذا الوَجَعُ سوء يومًا بعد يوم! فهل أكون العاشق الّذي خان الهَوى، وقَد باع العهد أم أكون الّذي وفى بوعده وكان خير حبيب لأجمل حُبٍّ؟
هل تذكرين يا روح عندما قلتِ لي: أنّك تخافين!
أذكر أنّي سألتُكِ وممَّ تخافين يا روح؟
أجبتِ هامسةً: أخافُ أنْ يكون هذا الشّعور مُجرّد هَيمنة أُمارسها عليك لأنّك تُلبّي جميع ما أُريد ولأنّني أملك قلبك و كلّ شيءٍ فيك!
حينها أخبرتُكِ: بأنْ تودِعي الخوفَ جانبًا ودعينا ننطلق علّنا نصل إلى شيء لم نكن نحلم فيه أبدًا، علّنا نحقّق جميع ما نُريد ونكون أوّل اثنين فَعَلا ما بوسعهما.. قاتَلا الجَميع، ووقفا في وجه المُجتمع والحَرب، والكون، و كلّ شيء؛ ليّنتصر فيما بعد حُبّهُما.
لم نكن نَحْنُ يا روح سِوى عابِرا سَبيلٍ في طريقِ الحُبِّ الوَعِر، الّذي زُرِع بالشّوكِ ومُلِأتْ جَوانبه و رُصِفَ بِزُجاج القلوب المُحطّمة لكثرة ما فشلت قصص حُبٍّ، و نَحْنُ خاطَرنا وجَرينا في هذا الطّريق رغم مَعرِفتنا المُسبقة بعواقبِ هذا المَشي و بهذه الخُطورة والّتي قَد تُصيبُنا بالشّلل، فقد أدمَينا أقدامنا وغُرِسَتْ فيها مِن جَميع الأشواك المُبعثرة هناك، وقد وصلنا إلى حَدٍّ لا يُدرِكُه عقلينا في ذلك الحين، وهُناك وقفنا و نَحْنُ بأمَسِّ الحاجة لجُرعة أمل ودعم لكي نُكمل، لكن دون جَدوى فقد تأخّرنا عن الوصول إلى مَحطّة القطر، وفاتنا ذلك القطار الّذي كُنّا نَسعى الوصول إليه في وقته المَعلوم، لقد تأخّرنا كثيراً أو أنّه كان تعارفنا في الوقت الخطأ.. إمّا أنْ نكون قد تأخّرنا قليلًا في التّعارف أو أنّه قد سَبَّقنا قليلًا!..
كان يَجِب علينا التّريُّث أكثر.. وألّا نُسرِع الخُطى هكذا لأنّنا لا نعلمُ ما ينتظرُنا في قادم الأيّام.
فلماذا زُرِعَ في قُلوبِنا كلّ هذا الألم و هذه المُعاناة؟ لماذا كان للخوف نصيبه الأكبر فينا..؟ لماذا حَلَّ الرُّعب في ثنايا الفؤاد، وسيطرَ سيطرته الموحشة عَلَينا؟! لماذا ولماذا لا أستطيع فهم شيءٍ ممّا حصل، فقد صعقت دون أن أدرك شيئًا يا روح، أصبحت أستيقظ كلّ يوم على أملٍ فقد كان الأملُ هو الّذي يُغذّي الرّوح بالطّمأنينة في ظلِّ غيابك، فلقد خرجْتُ بفضلك يا روح من ذلك العالم الموحش، الّذي كنتُ أعيش فيه بإرادتي الغبيّة وبعقلي المُتَحَجِّر الّذي لم يَرغب أنْ يُجرِب الحُبّ بعد علاقة فاشلةٍ عشتُ حَبيسها لسنواتٍ طِوالٍ! أتجرّعُ خيباتها ومرارها وحدي، و أنزوي كلّ يومٍ في تلك الغرفة المَنسيّة على نفسي وأبدأ بالبكاء شوقًا..
كم كنتُ غبيًّا وساذجًا حينها لأبكي و أندُبَ على الأطلال، لكن لرُبّما أرادَ القَدَرُ أنْ أبقى حَبيسًا في هذه القصّة ليَحِنْ المَوعد الّذي سألتقي به معك و لأخرج مِن قصّتي تلك وأسبحُ بِعُمقٍ معكِ أنتِ وحدكِ لأبدأ بخوض غِمار التّجربة مِن جَديد بشغفِ الحَياة و روح الحُبّ وأمَل العودة مِن الظّلام، مِن المَجهول وبعزيمةِ الحُبّ و إصرار اللقاء، وحتميّة الخير وزوال الشّرّ، ذلك الشّرّ الّذي يقطن بالقلب و يَبقى مَدى الحَياة في صراعٍ مع الخير، فكلاهُما مُتواجدين في القَلب.
هل تعلمين يا روح أنّ الشّر والخَير بِرفقَتِكِ يتصالحان، وتبرُمُ فيما بينهما الاتّفاقيّاتُ والمعاهدات على عدم خوض الحرب مَرّة أخرى والعيش بسلام، فقط يكتفيان بالاستماع إلى صوتك والطّرب لسماعه كما نطرب نَحْنُ لِسَماعِ أُمُّ كلثوم تصدح في هذا الليل المتأخّر
وفي ظلامه الدّامس وهدوئه الخَلّاب، كأنّها تُغنّي لي ولكِ، وكأنّها تَرغَبُ بجمعي بكِ في حُلمٍ عابرٍ على ضِفافِ الأيّام الّتي تُشبه الجدول الّذي يَنساب فتوجّه الحَديث لكِ وكأنّه رسالة مِنّي مفادها الحُبّ والشّوق، مفادها العودة إلى أحضانك والتّمتُّع بما بقي لي مِن أيّامٍ في هذه الحَياة
رجّعوني عينيك لأيّام اللي راحوا
علّموني أندم على الماضي و جِراحُه..
اللي شُفتُه قبل ما تشوفك عينايَّ
عُمري ضايع يحسبوه إزاي عَلَيَّ!
رجّعوني عينيك لأيّامي اللي راحوا
علّموني أندم على الماضي وجِراحُه
اللي شُفتُه قبل ما تشوفك عينَيَّ
عُمري ضايع يحسِبوه الزاي عَلَيّ
اللي شُفتُه.. اللي شُفتُه قبل ما تشوفك عينَيَّ
عُمري ضايع يحسبوه الزاي عَلَيّ
اللي شُفتُه.. اللي شُفتُه قبل ما تشوفك عينَيَّ
عُمري ضايع يحسبوه الزاي عَلَيَّ
أنت عمري.. أنت عمري اللي ابتدا بنورك.. صباحي اللي ابتدا بنورك.. صباحي أنت.. أنت... أنت عمري
وبَقيَت هُناك أُمّ كلثوم تغني لكِ وأنا أبحرتُ في عالمك، أبحثُ عَن نَفسي.. أُسافِرُ إليك وأحِنُّ لكِ وأنفث شوقي فيك.
يا روح، أعادتني إلى ذكرياتكِ السّت كوكب الشّرق في كلّ ليلةٍ كنتُ أستمع بها لإحدى أغانيها، وأصبحت كثير الوقوف على الأطلال.. أُناجي الأيّام الّتي أحلم فيها وأعيش الحلم بكلّ تفاصيله كَمَن يعيشُ حياته بالهناء والسعادة، و لكنّي أنا كنتُ أعيشها بشقاء.. شقاءُ البُعد عنكِ و الّذي أصبح الآن يكوي قلبي بنيران الغيرة، نعم يا روح تقتلني الغيرة مِن كلّ شيء يستطيع رؤيتك، وأنا أعيش بِمَنفاي هُناك في الأحلام و بضعُ وريقات خَطَّ قلمُكِ عليها بضعَ أسطرٍ و أحرفٍ فأضعهم أمامي في كلّ ليلة أطالِعُ صباحَكِ ومساءكِ،
في كلّ حرفٍ أنظر إلى وجهك، عبر كلّ كلمة كتبتها بيديك أغازل عينيك.. أداعِبُ خَدَّيك.. أُلامس شَعرَكِ وأُقَبّل شفتيك مِن خلال هذه الكلمات.. و كم هو صعب يا روح أن أعيش مَع مَجموعةٍ مِن الأوراق أُجسِّدُها بجسدك وأسرحُ في خيالي، أُمَثّل الدّور وأُكمل الحَديث معها، أتصوّركِ كُلّ يومٍ كما أشاء.. تأتينَ إليَّ وتطبَعينَ قُبلةً على خَدّي فأسرِقُ أُخرى مِن شَفَتَيكِ وأعيش الدّور كمن يعيشه واقعاً لا حُلمًا مع بعض كلمات وعبارات.
" خيالُ طفلٍ عاشَ وحيدًا"
أصبَحتُ الآن فعلًا وحيدًا، لا أعرفُ هل هذا قَدَري أم أنّه نتيجة الخذلان الّذي بَدر مِنّي!
أتكونُ هذه عاقبتي لأنّي قرّرت الخيانة و بدأتُها بإعلانِ حُبّي لكِ؟ فهذه فعلًا كانَتْ أوّل الخيانات لي و لكِ، كان ينبغي عَلَيَّ أنْ أبقى صَديقاً فقط! وألّا أُغامِرَ بأكثر مِن ذلك؛ لأبقى على تلك الأشياء الّتي رأيتِها بهذا الإنسان الّذي هو أنا، وأنّني أمتلك أشياء كثيرة مِن أبيكِ.
كان يَنبَغي أنْ أُبقيَ بيني وبينكِ فاصلًا زمنيّاً لِئَلّا نَقَعَ فيما وقعنا بِهِ مِن المَحضور.
لَم أعد أفهم الحَياة جيّدًا يا روح، فقد أمسَتْ تمتازُ بالغموضِ أكثرَ فأكثر مِن ذي قَبل و أكثر ممّا كانَتْ عليه، أمّا الآن لَم يعد يُجدي النّدم نفعًا، فقد حَلَّ شتاؤنا بقسوته الفظيعة وهاجرت طيورنا منذ زمنٍ، ولم يعد بالمَقدور عودتها أو التّحكّم بها كما نريد، لا سلطة لنا عليها الآن.. لعلَّ لعنة النّدم أبَت إلّا أنْ تَحِلَّ عَلَيَّ وتذعن في تعذيبي وتأنيب الضّمير الّذي يُلازمني ليلًا نهارًا..
يا روح، أنيني فاق الوجود وشوقي لا مَثيل له، أصبحت أتجرّع المَرار شوقًا لكِ و حُبّاً في قربك.. فإنّي أُعاني الظّمأ بفراقك، فهل يستوجب مِنّي أنْ أرتوي مِن رؤيتك وفي قربك وهل سيكفيني هذا الشّيء؟ لقد بِتِّ كأنّك كلّ التّمنّي والمنى، أصبحت روحك جزء مِنّي.. تلازمني في فرائضي وحياتي أم أنّكِ كنت شيئًا عابرًا في حياتي وأنا وقعت تحت رحمة ذكرياتك! لكنّي يا روح عشت الآن في زمن الرّهان الخاسر في كافّة الأشياء و أوّلها أنت! دوّنتك في قائمة هذه الأشياء فأنتِ أثمنها و أنقاها، فهل يا روح أنتِ إحدى هذه الرِّهانات؟ لا أدري لِمَ تورّطتُ بكِ، لا أدري لِمَ تَعَمَّقتِ بهذا الشّكل الغريب!
فمنذ الوهلة الأولى كان هاجس الخوف مِن الخسارة يُلازمني، و مُنذ الوَهلة الأولى لي معك رأيتك دون الجميع استثنائيّة لا تشبهين أحداً وتشبهين الجميع.. ضحكتك المَنشودة، صوتك الموسيقيّ الرّائع.. كأنّك تعزفين على ناي الحَنين، فَيا عازفة النّاي مَهلاً.. فقد أبكاني كثرة الشّجن في عزفك؛ ارحمي ضعف هذا الجسد الهزيل والّذي كسره البعد واعطفي عليه فإنّه يشحذ مِنك ما تبقّى مِنه؛ ليُحارِب شعوره المُتَبَقي في حَضرةِ حُبّك السّرمديّ الّذي أبكاني عُمرًا بأسْرِه.
آه يا روح، كم كان هذا الشّيء قاسٍ ومؤلم و ليته كان الليل وجهك وأصبحت أنا جميع المُتأمّلين لأناظر الليل فأجِدُ وجهكِ هُناك.. فأروي ظَمأي وشوقي لكِ ولو لوهلةٍ مِن الزّمن و بُرهةً مِن الوقت لأقوى بكِ عليكِ وعلى مصاعب الحياة وصعابها، لأتقوّى بكِ على ذلك الحَنين الّذي يَصرعُني ويَطرحني أرضًا، و يتوسّد جسدي.. يؤرِقُ ليلي وينزع غشاوة العينين ليُريني ما أنا عليه الآن و ما كنت عليه برفقتك..
ما بات الكلام الآن يؤدّي إلى حل أو يُجدي نفعًا و لا النّدم، فقد فاتني القطار وحطّم القلب و أُلقيتُ هناك عند رصيف الذّكريات أندُبُ حَظّي العاثر، لائماً نفسي على ما فرّطَتْ يداي و على ما أسرَفَتْ، و لا يمكن قول أكثر من ذلك سِوى أنّني الآن و في هذه اللحظة أصبحتُ أفهم الحياة بالمُنطلق الّذي كنتِ ترغبين في إيصاله لي، وكان مفاد هذا الأمر أنّك تخشين من العلاقات الّتي تؤسّس على تعارف بسيط وأنّك تَخشين مِن الحياة وغدرها.. أتذكرين هذا الشّيء؟ لقد فهمته الآن ولكن الوقت كان قد مضى وقد فات الأوان...
و هل تذكُرين قولك لي يا روح في مَقصف الجامعة حين كُنّا نشرب القَهوة ونستمع إلى أغنية فيروز المُفضّلة لدينا؟ تلك الأغنية تحثنا على السّهر
شو كانت حلوة الليالي
والهوى يبقى ناطرنا.. و تيجي تلاقيني
و ياخذنا بعيد هدير المَي
والليل كان عِنّا طاحون عنبع المَي
قدّامُه ساحات مزروعة فَي
و جِدّي كان يطحن للحَي.. قمح و سهريّة ويبقوا النّاس بها الساحات في معهم كياس، في عربيّات رايحين جايين.. عطول الطّريق، يغنّوا الغنّيات..
آه يا سهر الليالي، آه يا حلوة..
على بالي غَنّي، آه غَنّي.. آه على الطّرقات... يا يا يا يا سهر الليالي يا يا يا يا حلوة على بالي
حين قلتِ لي: لقد جعلتني أخرج مِن عالم الوحدة الذي أنا به، جعلتني أبتسم رغم أنّي خسرت أغلى ما أملك قبل فترة مِن الزّمن.. جعلتني أنتظر اليوم الّذي سأراك فيه بفارغ الصّبر و جعلتني أتغيّر تغيّراً جذريّاً مِن واقع
مأساويّ إلى حَياة دَبَّ فيها الحُبّ والأمان، هل تذكرين هذا الشّيء؟ أنا أذكره بكلّ حذافيره وأذكر جميع تفاصيل ما حدث معنا، صغيرها قبل كبيرها..
انتهى اللقاء الثّاني وقد بدأنا نخطِّطُ للقائنا الثّالث والّذي أصبح يَقتَرِب شيئاً فَشَيء، كُنّا بأمَسِّ الحاجةِ لأن نجلسَ قليلًا ونتحدّث أكثر، لنتعمّق في بعضنا أكثر فأكثر.. وما زِلنا في الانتظار إلى أنْ يحين ذلك المَوعد والّذي كان كالحلم يرافقنا في حياتنا اليوميّة و بكلّ تفاصيل الحياة، يأكل و يشربُ معنا القهوة ويستمع للأغاني الّتي نُحِبُّ بِرفقتِنا و يتمشّى مَعَنا، يرغب في أنْ يحتضن كلانا، لكن ما حدث
"مازال الأمر قيد الانتظار"
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.