ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل

نوفمبر ١٨٢٣م، إنجلترا.
منطقة هادئة يسودها الظلام الحالك، لا يوجد بها سوى الصمت المميت، ذلك السكون الذي يدب الرعب بالقلوب، فجأة صدح صوت بكاء طفل ما من داخل منزل على جانب الطريق، كان يصدر من هناك صوت صراخ الأم الممتزج بصوت شهقات الصبي الصغير.
_لا تؤذيه أرجوكِ فهو لم يفعل شيئًا.
هتف بها الطفل البالغ من العمر سبعة أعوام، وهو يقف أمام أخيه الأصغر.
لتنهال على وجهه صفعة قاسية من والدته؛ فيسقط أرضًا، سقط فوق قطع الزجاج المتناثرة إثر كسرها لمزهرية الورود، لم تهتم لجراحه ولا لدمائه التي تسيل من جسده الصغير، بل انهالت على أخيه بالضرب المبرح ليسقط بنهاية المطاف بجانب شقيقه.

جريمة متقنة
يناير ١٨٤٧م، إنجلترا، منطقة وايت تشابل.
ليلة شتاء قارصة، مليئة بالظلام المسربل بأمطار غزيرة، الجو يسوده الكآبة والهدوء المصاحب لليالي الباردة.
يجلس شخص ما بجانب الطريق، غير مكترث بالوابل المتساقط من السماء؛ امتلأت ثيابه السوداء بالمياه ولكنه لم يهتم بذلك أيضًا، لم يحرك أنظاره بعيدًا عن هذا المنزل البسيط وكأنه صياد يراقب فريسته بخبث في انتظار أنسب توقيت للاِنقضاض عليها.
جمع بعض الحصى الصغيرة وأخذ يلقيها على الباب، ثم تخفّى بحماية أستار الليل المظلم؛ خرجت امرأة بسيطة تتلفت حولها بحذر علّها تعلم مصدر هذا الصوت، انقبض قلبها حين استمعت إلى دوي الرعد، ازدادت خفقات قلبها وهي تلمح شبحًا أسود اللون يخترق الظلام الدامس المحيط بها، حاولت الصراخ ولكن الوقت لم يسعفها لذلك، حيث كمم ذلك الشخص فمها وهو يهمس بجانب أذنها بفحيح مرعب "سأقتلع فؤادكِ من جذوره الفاسدة، لن أسمح لكِ بتدمير طفل آخر".
فور أن أنهى حديثه كان يمر بخنجر مسلول فوق عنقها؛ لتسقط أرضًا وسط دماءها، ونظرة الهلع تطل من عينيها، عكس نظراته هو المليئة بنشوة الانتصار، ظلّ واقفًا بمكانه والسَكِينة تُغطّي قسمات وجهه، مستمتعًا برؤيتها وهي تنازع أثناء خروج روحها، وبعد وقت قليل جثا على ركبتيه بجوارها وهو يخرج بعض الأدوات الطبية مقررًا انتزاع قلبها؛ وكأنّ موتها لم يُشبع قسوته، بعدما أنهى عمله ألقى بفؤادها جانبها، وكأنه شيء متعفن لا يستحق سوى أن يتم إلقاءه على قارعة الطريق كالقمامة، نهض وذهب بعد ذلك بخطى هادئة وكأنه لم يستبح دماء امرأة طاهرة.
***
استيقظ الطفل الصغير من نومه وهو يبحث عن والدته بجواره ولكنه لم يجدها بالمنزل، حين رأى الباب مفتوحًا على مصراعيه تقدّم نحوه بخطى مترددة علّه يجد أمه بالخارج، ما إن خطت قدماه الصغيرتان خارج المنزل حتى صدم من هيئتها؛ إن والدته مُلقاة على قارعة الطريق وسط دمائها، أخذ يقترب منها أكثر بجسد يرتعش خوفًا، رأى قلبها المُلقى بجانبها والجرح الغائر بجسدها، جلس جوارها بجسده الصغير والعَبَرات تهطل من خضراوتيه، لم يأبه بالأمطار المتساقطة فوقه، ولا بالبرد القارص الذي يفتك بعظامه، وكيف يأبه بهما وقد تمّ نزع الدفء من أعماقه حين رأى والدته بهذه الهيئة!
أمسك أناملها بيدين مرتعشتين ثم أخذ يدفعها برفق علّها تستيقظ من غفوتها، لم يُخيّل له أنها رحلت بلا عودة، أخذ نحيبه يزداد وهو يحاول إيقاظها ولكن بلا جدوى، حين تيقّن أنها رحلت عن هذا العالم بلا عودة أخرى صرخ صرخة مدوية إذا استمعت إليها الصخور لانفطرت من الألم.
بدأ قاطني المنازل بالخروج والتجمع حول الطفل والمرأة، عَلَت بعض الهمهمات المتسائلة عن كيفية وقوع الجريمة، وأخرى متألمة على حال هذا الصبي الصغير.
_إنها إيميلي تيري!
هتفت بها امرأة تدعى فلورا، يبدو أنها بعقدها الرابع، كانت صديقة إيميلي المقربة.
حين استمع الولد إلى صوت فلورا نهض مهرولًا نحوها وهو يحتضنها من وسط بكاءه قائلًا:
_خالة فلورا، إن أمي لن تستيقظ بعد اليوم.
ربتت فوق رأسه بحنو وهي تجاهد نزول دمعاتها حزنًا على رفيقة دربها، حاولت تهدئته قدر الإمكان ولكن ما من جدوى، وكيف يطالبونه بالهدوء وهو فقد أعز ما يمكن لبشر أن يملك؟!
وصلت الشرطة بعد وقت ليس بالقليل، صعق ضابط الشرطة حين رأى هيئة المرأة، وكيف تم نزع قلبها من داخل أحشائها، ولكن صدمته لم تدم طويلًا حيث بدأ بمباشرة عمله، بدأ بفحص المنزل من الداخل، ثم الزقاق المظلم خارج المنزل، ولكنه لم يجد شيئًا، بدأ بالتحقيق مع جميع ساكني المنازل المجاورة ولكن هذه المحاولة أيضًا باءت بالفشل، فالجميع يقول ذات الحديث وهو لم يتوصل إلى المجرم، لم يبقَ أمامه سوى أن يستجوب الطفل الصغير.
نفخ إدغار بضيق وهو يتجه نحو الصبي ليلقي عليه سيل الأسئلة المتدفقة برأسه والتي يعلم جيدًا أن الطفل لن يجيبه عليها وهو بهذه الحالة أبدًا.
_سيدتي هل يمكنكِ تركي مع الصبي قليلًا.
هتف بها إدغار بجمود موجهًا حديثه نحو فلورا، فأومأت الأخرى برأسها وهي تربت على ظهر الطفل بحنو، ثم انسحبت تاركة له المجال، ولكن أوقفها صوته المتسائل قائلًا:
_أنتِ صديقة الضحية إيميلي تيري أليس كذلك؟
أومأت فلورا برأسها وهي تقول:
_يمكنكَ القول بأن إيميلي كانت شقيقتي وليست فقط صديقتي.
أومأ الآخر برأسه وانسحبت هي مبتعدة عنهما.
رقّت مشاعر إدغار حين رأى ارتجاف الطفل الصغير المصاحب لدموعه الغزيرة المتساقطة فوق صفحات وجهه، أزال عَبَرات الصبي وهو يسأله بصوت رخيم:
_ألم ترى كيف تم الحادث؟
حرك الآخر رأسه يمنى وسرى بمعنى أنه لم يرَ شيئًا.
علم إدغار أن الصبي لم يشهد على الحادث؛ فأخذ يفكر بسبيل آخر للوصول إلى القاتل.
***
أثناء حدوث ذلك كان ينام هو بفراشه الدافئ غير عابئًا بما يحدث بالخارج، ولكن راحته لم تدم طويلًا حين زارت أحلامه بعض الكوابيس المعتادة، نهض فزعًا من تلك الأحلام التي تطارده كل ليلة، ذهب ليجلب بعض الماء ولكن أثناء سيره بالغرفة مرّ بجانب المرآة؛ فتوقف بضع لحظات وهو يتطلع إلى نفسه بتهكم، فمن يراه يُخيّل له أنه بعِقده الخامس، بينما هو بالعِقد الرابع، وكأنّ آلامه طغت على قسماته لتطمس الحيوية بها، لمح ذلك الجرح الغائر بجبينه الممتد إلى حاجبه الأيمن، فتحسسه بأنامل مرتعشة ولكن سرعان ما محا نظراته المتأثرة، وتوجّه نحو سريره مرة أخرى متناسيًا أمر المياه؛ فهي لن تمحي آثار الحزن التي تركها الزمان بداخل روحه وخلّدها على قسمات وجهه.
***
تكفّلت فلورا بصغير صديقتها الذي أصبح بتلك الليلة يتيم الوالدين، حيث تُوفّيَ والده قبل ولادته بشهرين وها هو الآن فَقدَ مَن حملته بداخل رحمها لتسعة أشهر، أنامته فلورا بغرفة صغيرة كانت تتسع لصغارها الثلاث بصعوبة بالغة، فانزوى هو بركن صغير موليًا ظهره للأطفال، ولم يتخذ خليلًا له بليلته تلك سوى البكاء فقط، وكأن عقله الصغير خُيّل إليه أنه بالبكاء سيحل كل شيء، بل ربما يذهب إلى أحضان والدته.
جلست فلورا مع زوجها أرنولد بباحة المنزل وعلامات الحزن تعتلي وجهها، مسح هو بحنو على وجهها الذابل قائلًا:
_حبيبتي لا تحزني نفسكِ، الصبي سيصبح بخير.
أردفت هي بحسرة:
_وكيف سيصبح بخير يا أرنولد بعدما رأى.. بعدما رأى والدته مُلقاة بمنتصف الطريق، وداخلها فارغ حتى من فؤادها!
احتضنها أرنولد بحنو وهو يمسد على ظهرها؛ فهو دائمًا ما يلجأ إلى هذا الحل عندما لا يجد كلمات مناسبة للموقف.
***
مرّت بضعة أيام على منطقة وايت تشابل تتسم بالرعب الطاغي على قاطنيها، صارت النساء ترهب الخروج وحدها من المنازل، بل تقمع أطفالها من التنزه أيضًا، حتى الرجال تملكهم الخوف على أرواحهم، إنها سخافة القدر حقا!
حاول إدغار كثيرًا البحث عن القاتل ولكنه لم يجد أي شيء يدين هذا الشبح الخفي ويكشف عن هويته، في نهاية الأمر ومع مرور الأسابيع أُغلفت القضية وكأنها لم تحدث، ولكنها لم تخرج من أذهان الجميع.
***
استيقظ من نومه فزعًا إثر كابوس مرة أخرى، زفر بضيق وهو ينهض متوجها نحو المرحاض، أثناء خروجه صدمت رأسه بدمية معلّقة بشريط أزرق اللون أعلى الباب، دائمًا ما كان يصطدم بها بسبب طوله الفارع، بالطبع لم تؤلمه الصدمة ولكنه أنزل الدمية وعلامات الخزي تعتلي قسمات وجهه، جلس أرضًا وهو يمرر يده على خصلات الدمية سوداء اللون، ثم بدأت عبراته بالهطول، مَن يراه الآن لا يُخيل له أن هذا الرجل هو من استباح دماء امرأة طاهرة منذ عده أيام، فها هو الآن يبكي كالطفل الصغير بسبب رؤيته لدمية فقط.
أخذ يحدثها قائلًا:
_كل شيء سيكون بخير لن تتم أذية أي شخص آخر، أنا أعدكِ، لقد اشتقت لكِ كثيرًا.
ضمها إلى صدره بعدما أنهى حديثه، وكأنه يحتضن لؤلؤة غالية ترعبه فكرة فقدانها.
***

ديسمبر ١٨٢٨م، إنجلترا.
وقف الصبي ذو الثانية عشر ربيعًا أمام المرآة وهو ينظر لجسده المليء بالندوب وآثار الجروح، استمع إلى صوت بكاء شقيقه فعلم أن والدته تقوم بأذيته، ركض خارج الغرفة مسرعًا ليرى الدماء تسيل من يد أخيه بغزارة ووالدته تقف أمامه ممسكة بسكين صغير، ركض هو مسرعًا نحو أخيه، وقام بربط قطعة قماش بالية حول الجرح في محاولة منه لوقف ذلك النزيف، كان صوت بكاء شقيقه يؤلم فؤاده بشدة، بينما والدته تجردت من إنسانيتها لتلحق الأذى بأطفالها بكل دم بارد دون أن تشعر حتى بتأنيب الضمير.

طرف خيط
اقلبي كمدينة أصاب الطاعون قاطنيها فأهلكهم، لا قادرًا على إدخال أُناس آخرين، ولا الطاعون ممعنًا تركه!
"عمرو علي"
***
بدأ الاطمئنان يسربل قلوب بعض النساء مرة أخرى، ويتسلل إليها بعد مرور عدة أشهر على مقتل إيميلي تيري، ولكن لم تكن لويزا بيكر ممن تسللت السكينة إلى أرواحهم، بل كانت أكثر نساء المنطقة خوفًا من الموت على يد هذا القاتل.
كانت تُجبر على الخروج يوميًا لبيع بعض الثياب التي حاكتها بأناملها، وماذا ستفعل غير ذلك وهي متزوجة من سكير قذر، لا ينفق أقل قدر من المال على طفلته ذات الخمسة أشهر، بالطبع ثقافة المجتمع في هذا الوقت قمعت رغبة لويزا بالانفصال عن زوجها؛ فلم يكن أمامها أي حلول سوى أن تنفق هي على ابنتها.
أنهت عملها بوقت متأخر من الليل، وأثناء عودتها إلى المنزل كان الظلام الدامس يحيط منطقة وايت تشابل، أثناء سيرها لاحظت شبح شخص ما لا يرتدي سوى اللون الأسود فقط، يحوم حولها وكأنه يتبعها، تملّك الهلع من قلبها ولم تجد حلًا سوى الهرب، الهرب فقط.
أخذت تركض بسرعة عالية أسفل الأمطار الغزيرة المحيطة بها من كل جانب، لم تهتم لاتساخ فستانها البسيط بالطين الذي يملأ الطرقات، ولا بتعرقلها بين الحين والآخر؛ فهي لا يوجد أمامها سوى خياران: إما الموت أو الفرار.
فجأة شعرت بشخص ما يجذب قدمها؛ لتسقط هي أرضًا بقوة، وتخرج منها صرخة مدوية يملأها الرعب، لم يهتم لنظرات الخوف المنبعثة من مقلتيها، ولا لتوسلاتها الكثيرة له بألا يقتلها، هو فقط همس بجانب أذنها:
_إن لم أقتلكِ الآن سيظل الشر حيًا، حينها سنفقد أرواحا بريئة طاهرة، بينما أنتِ روحكِ مليئة بالشر.
أخذ يضغط على عنقها بكلتا يداه ليمنع وصول الهواء إلى رئتيها، نازعت لتظل حية ولكن بلا جدوى، فهو أشبه بعزرائيل وهو يسلب الأرواح، لن يتركها سوى وهي جثة هامدة، في نهاية الأمر استسلمت لمصيرها ولفظت آخر أنفاسها ليشعر هو بسكينتها، وعدم مقاومتها له مرة أخرى؛ فيبتسم بسعادة، ثم يبدأ بإخراج أدواته الطبية ليشرع بعمله.
قام بانتزاع قلبها من داخلها بكل قسوة مثلما فعل مع الضحية السابقة، ولكنه هذا المرة لم يكتفِ بذلك حيث قرر أن ينتزع كبدها أيضًا، وكأنه يتفنن بعملية تشويه لأعماق القتيلة.
لم يطُل عمله كثيرًا إثر تعوده على استخدام الأدوات الطبية بمهنته، حدجها بنظرة أخيرة قبل ذهابه، كانت نظرة مليئة بالسعادة وكأنه أنقذ البشرية من شرها، لم يكن يعلم أنه سلب قلب طاهر مرة أخرى.
***
بدأ فلويد زوج لويزا باحتساء الخمور كعادته كل يوم، ولكن صوت ابنته أزعجه؛ فهي تبكي منذ قرابة الساعة، تأفف وهو ينهض متوجهًا نحوها ليحملها قائلًا:
_لمَ تأخرت والدتكِ اليوم؟ اصمتي كفى بكاءً.
بالطبع صراخه على الطفلة ذات الخمسة أشهر لم يجدِ نفعا سوى أنها ازدادت بالبكاء أكثر؛ فارتدى هو حذاءه محدثًا نفسه:
_حسنًا سنذهب للبحث عنها، أنا لن أتحمل صوت هذا البكاء المريع كثيرًا.
خرج بصحبة الصغيرة للبحث عنها، أخذ يجول بالطرقات طويلًا إلى أن وجد جسدًا ما ملقى وسط الطريق، اقترب بحذر ليدب الهلع بقلبه حين رأى وجه زوجته، أخذ يجول بنظراته بين جسدها المشوه وبين طفلته، قال بتوتر وهو يتلفت حوله:
_أنا لن أستطع الاهتمام بهذه الطفلة، يجب عليها أن تبقى مع والدتها دوما.. نعم يجب ذلك.
بتلك اللحظة سولت له نفسه نزع الروح من جسد ضئيل لطفلة ضعيف، لا تملك القدرة لحماية نفسها من هذا الشيطان، وضعها أرضًا بجوار لويزا الغارقة بدمائها، تركها هناك وحيدة وسط ظلمة الليل الموحشة، أسفل الوابل المتساقط فوقها، ثم هرب هو سريعا نحو المنزل.
***
سرعان ما انتشر خبر قتل لويزا وابنتها حين رآهما أرنولد زوج فلورا أثناء عودته إلى المنزل، أتى إدغار مرة أخرى ليحقق بهذه الجريمة، وجد فلويد يجلس بالقرب من الجثتين وهو يبكي كالطفل الصغير، لم يهتم إدغار لذلك فهو رجل شرطة لا يوجد بقاموسه ما يدعى بالمشاعر، هتف بصوت مرتفع:
_فلننهي هذا البكاء، أريد إنهاء عملي.
بدأ بفحص المكان وظهرت على وجهه بسمة واسعة حين وجد إحدى الأدوات الطبية واقعة أرضًا، بدأ بفحصها ليقرأ بضعة أحرف محفورة عليها لتُكون اسم مشفى بالقرب من تلك المنطقة، ظهرت السعادة على صوته وهو يقول:
_إذًا المجرم يعمل كطبيب بتلك المشفى، دائرة التهام تتضاءل.
بدأ بتفتيش جميع المنازل، ليجد منزل فلويد مليء بالطين، أخذ ينظر حوله بشك قائلا:
_سيد فلويد، هلا أخبرتني أين قضيت ليلتك اليوم؟
أجاب الآخر سريعا:
_بالمنزل.. بالمنزل سيدي، فأنا لما أتحرك من هنا إلا عند استماعي لذاك الخبر المشؤوم.
مرر إدغار يده فوق الأرض الملطخة قائلا:
_ولكن هذا الطين حديث، إنه مبلل إثر الأمطار.
تلعثم الآخر وهو يقول:
_لابد أن الأرض اتسخت الآن يا سيدي إثر دخولنا للمنزل.
ابتسم الشرطي بتهكم وهو يرى أن اتساخ الأرض يصل إلى منتصف المنزل؛ فأردف:
_الجيران قالوا أن الطفلة كانت معك اليوم، هلا فسرت لي سبب وجودها بجانب والدتها المتوفاة؟
ظلّ التلعثم رفيقه وهو يمرر يده بين خصلاته الشقراء قائلًا:
_الطفلة لم تكن معي اليوم، إنها أصرت على اصطحابها معها.
أمسكه الآخر من ثيابه بقوة قائلًا:
_كفاك كذبًا، جميع قاطني منطقة وايت تشابل يعلمون جيدًا أنها خرجت وحيدة اليوم وأن الطفلة تبقى معك هنا يوميًا.
استطرد حديثه بحدة:
_يبدو أنك ستكون ضيفنا بالسجن إلى أن تعترف بكل شيء.
***
تم اصطحاب فلويد نحو السجن ليبيت ليلته وسط أشباهه من القتلة والمجرمين، لم يتركه التفكير للحظة واحدة طوال تلك الليلة، وكأنه اتخذ منه خليلًا له بوحدته، فبالرغم من رغبته الدائمة في التخلص من زوجته وابنته إلا أن شعور الحزن احتل قلبه بحرفية عالية.
***
بمنطقة وايت تشابل ساد الحزن بالأجواء، فلويزا كانت نعمة الصديقة لجميع سيدات المنطقة، وما زاد الامتعاض بالقلوب هو موت تلك الصغيرة التي لم تحوي بداخلها مثقال ذرة من شر.
بينما يجلس القاتل بمنزله والجنون يكاد يفتك برأسه من كثرة التفكير وعذاب الضمير، فهو اليوم أصبح سببًا بمقتل تلك الطفلة البريئة، هو لم يرغب يومًا بإلحاق الأذى بهؤلاء الملائكة، هو فقط كان يرغب بحمايتهم من كل سوء قد يصيبهم.
حاول النوم ولكنه لم يستطع وكيف ينام بعدما أهدر دماء البشر؟ كانت تزوره الكوابيس حتى باستيقاظه؛ فأخذ يحدث نفسه بصوت مرتفع:
_كُفّي عن مطاردتي، أنا لم أقتل تلك الطفلة، حقًا لم أسلب منها حياتها.
قضى ليلته بين البكاء على ما أصابه قديمًا، وحزنه على إهدار تلك الروح البريئة.
***
في الصباح الباكر كان يمسك إدغار ببعض الأوراق التي تمّ تدوين أسماء العاملين بالمشفى داخلها، طغت السعادة على وجهه حين بدأ بقراءة الأوراق بصوت مرتفع قائلًا:
_أرنولد ستو، فرانكلين أكتون، وفرانك سيدني.
صمت بضع لحظات ثم أكمل محدثا نفسه:
_إذا القاتل واحد من بينهم.
***
أغسطس ١٨٣١م، انجلترا.
تملّك الخوف من الطفلين حين رأيا والدتهما تقترب وهي تحمل شمعة مشتعلة بيدها، سرعان ما توجهت أنظاره نحو ذلك الأثر بالقرب من مفصل يده اليمنى؛ فهو مازال يذكر أول حرق تسببت به والدته له حين كان بعمر الخامسة، التفت نحو أخيه الصغير ليرى الهلع المنبعث من مقلتيه، وكيف لا يدب الرعب بقلب ذاك الصغير وأخاه ذو الخامسة عشر عامًا ترتعد أوصاله خوفا!
أمسك كل منهما بيد الآخر في محاولة فاشلة للهروب، تنتهي بهما أمام الشباك العملاق بآخر الغرفة، لتدخل والدتهما بعد ذلك وهي توصد الباب خلفها، لتنفرد بهما داخل الغرفة الضيقة، لم يجد أوليفر الطفل الأصغر أي سبيل للهروب من عذابها سوى بقفزه من الشباك، عقله الصغير صور إليه أن سقوطه من هذه المسافة الشاهقة سيكون أقل إيلامًا ووحشة لقلبه الصغير، سرعان ما كان يقف على حافة الشباك وهو يلقي بنفسه بلا تردد، لينظر أخاه نحوه وعيناه تفيضان بالعَبَرات الغزيرة وهو يصرخ مناديًا باسمه، ولكن ما من مجيب؛ فالسهم قد خرج من القوس وانتهى الأمر، حلّقت روحه عاليًا بالسماء كالطائر الجريح.

بركة من الدماء
توجه إدغار نحو منطقة وايت تشابل ليقوم بالتحقيق مع الثلاث رجال وتفتيش منازلهم.
أنهى تفتيش منزل أرنولد ستو ولم يجد بداخله أي شيء يدينه، ثم بدأ بطرح أسئلته عليه قائلا:
_سيد ستو، أين كنت الليلة الماضية بوقت وقوع الجريمة؟
أجابه الآخر بهدوء:
_كنت بالمشفى، عدت بوقت متأخر.
_ماذا كنت تفعل هناك بهذا الوقت؟
_إنه عملي سيدي، يجب أن يبقى أطباء بالمشفى ليلا.
_حسنا، ما هي علاقتك بالضحية وزوجها؟
أجابه الآخر محاولا إخفاء ضيقه:
_لم تكن لي علاقة بفلويد يوما، جميع قاطني المنطقة يعرفون انه سكير، وزوجته بالطبع لا تربطني بها أية علاقة.
نهض إدغار بغموض وهو يقول:
_حسنا سيد ستو، أشكركَ لتعاونكَ معي.
خرج من المنزل ليتجه نحو منزل فرانكلين أكتون، رحب به الآخر بمنزله وبعدما أنهى إدغار فحصه لجميع الغرف، جلس بمواجهة فرانكلين قائلًا:
_هلا أخبرتني منذ متى وأنتَ لا تعمل بالمشفى؟
أجابه ببسمة:
_منذ سنة.
_ولمَ تركتَ العمل هناك؟
_أنا شخصية مزاجية قليلا لا أحب العمل بذات المكان لوقت طويل، وعقب وفاة زوجتي أهملت عملي فأجبرت على ترك المشفى.
_حسنا، وأين قضيت الليلة الماضية؟
_بالمنزل، فالأمطار كانت تسقط بغزارة ولم يتسنى لي الخروج.
_ماذا تعرف عن فلويد؟
_لا شيء، فهو انتقل إلى هنا حديثًا وأنا لا أختلط بالبشر كثيرًا.
نهض إدغار وهو يحييه قائلا:
_شكرًا لتعاونك سيد أكتون.
ذهب نحو منزل فرانك سيدني، لم يجد بداخله أي أدوات طبية كالمنازل السابقة، فجلس بجواره ليلقي ما بجعبته من أسئلة:
_منذ متى تعمل بتلك المشفى.
_منذ أربعة سنوات.
_ما هي طبيعة العلاقة بينك وبين الضحية وزوجها؟
_لم تكن لي علاقة بالسيدة لويزا.
سأل إدغار بدهاء:
_والسيد فلويد؟
تلعثم الآخر قليلا وهو يمرر يده بين خصلاته الشقراء ليجيب:
_لأ أعرف عنه الكثير.. فقط ألقي عليه السلام بين الحين والآخر، لم تكن هناك رابطة صداقة بيننا أبدا.
قرر إدغار محاوطته بالأسئلة حين رأى تلعثمه، فاستطرد:
_وأين كنت الليلة الماضية؟ لمَ عدت متأخرا إلى المنزل؟
_لقد كنت أتجول قليلا، أردت طمس إرهاقي ببعض التجوال.
نهض إدغار ليقول بتهكم:
_تتجول أسفل الأمطار الشديدة، ياللعجب إن هذا أكثر تجوال يتسم بالغرابة قد يشهده المرء يوما.
فور إنهائه لحديثه توجه خارج المنزل، ليظل الآخر جالسا بمكانه والتوتر يستحوذ على عقله.
***
خيم الليل بظلامه على الشوارع والطرقات لتلزم جميع النساء منازلها خوفًا من ذلك القاتل، حتى الرجال لم تفارق مضاجعها رعبًا على أرواحهم، كانت الشوارع خالية من الجميع إلا من بيرثا باتلر وزوجها هارفي باتلر، كانا يسيران بحذر كي لا تنزلق أقدام بيرثا إثر الأمطار، حاول هارفي إشغالها بالحديث كي لا تخاف قائلا:
_إن طفلنا الرائع على وشك القدوم إلى الدنيا عزيزتي.
أردفت هي بقلق:
_هل آلام المخيض المبكرة التي داهمتني اليوم ستسبب له ضرر؟
_فلتطمئني بيرثا، الطبيب أخبرنا أن هذا أمر عادي.
_حسنا سأحاول...
بترت جملتها حين رأت زوجها يقع أرضا بجانبها كالجثة الهامدة أسفل الأمطار، ورأت شبحا ما يقترب منها لا يظهر من هيئته سوى بريق عينيه الخضراوين، حاولت الصراخ ولكن سرعتها لم تسعفها، كان هو أسرع منها حركة حيث كمم فمها بإحكام وهو يهمس بجانب أذنها:
_لن أسمح لكِ أن تدمري هذا الطفل الذي تحملينه بداخل رحمكِ، لقد تأخرت بنزع قلبكِ أنتِ كنتِ على وشك الإنجاب اليوم وأنا لن أسمح بذلك.
أنهى حديثه وهو يدفعها بقوة لتسقط أرضا فيخرج هو خنجره ذو اللون الأخضر، ثم يبدأ بطعنها عدة طعنات متفرقة بجسدها؛ لتطمس دماءها آثار الأمطار الغزيرة ولا يبقى بالطريق سوى اللون الأحمر القاني، ثم بدأ عملية انتزاعه لقلبها وأثناء ذهابه التفت نحوها وهو ينظر نحو جسدها المليء بالطعنات قائلا ببسمة واسعة:
_لقد أرحت طفل آخر من شرار البشر.
ذهب بطريقه عائدا نحو منزله وكأنه لم يسلب من تلك المرأة روحها، فبسمته التي تزين ثغره تصوره للجميع وكأنه بطل خارق أنقذ روحا بريئة.
بعد وقت ليس بطويل بدأ هارفي باستعادة وعيه، أخذ يتلفت حوله إلى أن رآها بجانبه، انقبض قلبه لهذا المظهر المريع، فزوجته تم قتلها بجانبه وهو لم يستطع حمايتها، اقترب منها غير عابئا باتساخ ملابسه إثر دمائها، أمسك يدها بحنو وكأنها لم تمت وأخذ يبكي كالطفل الصغير وهو يحتضنها ويقبلها، ثم بدأ يحدثها من وسط شهقاته قائلا:
_بيرثا، لا تذهبي الآن لقد قمتِ بمعاهدتي سابقا أنكِ لن تتركيني ولن تتخلي عن حبي.
صمت بضع لحظات وهو يتطلع حوله علّه يرى هذا القاتل، ولكنه لم يجد سوى الظلام الدامس فقط، أخذ ينظر نحو ثيابه ويديه الملطّختين بلون حمرة الدماء وهو يبكي قائلا:
_لقد خنتِ عهدكِ لأول مرة يا عزيزتي، لقد تركتني ورحلتِ، لن أتحمل العيش من دونكِ حقا.
بدأ الجميع بالتجمع حوله بسبب صوت صراخه وبكاءه العالٍ، كان مظهره وهو يجلس بجانبها سببًا بانفطار قلوبهم عليه، بدأت الهمسات تتزايد من حوله من يتساءل عن كيفية إتمام الجريمة، ومن يحزن على حاله، وبعد وقت طويل وصل السيد إدغار.
***
بدأ إدغار بفحص الأرجاء جيدا، ولكن هذه المرة لم يجد شيئا يفصح عن هوية القاتل، زفر بضيق وهو يقوم بتفتيش جميع منازل منطقة وايت تشابل كعادته، وبنهاية المطاف كان يجلس قبالة هارفي وهو يلقي عليه العديد من الاسئلة:
_ماذا كنت تفعل بصحبة زوجتك في الخارج سيد كول؟
أجابه الآخر والشجن يظهر جليا بصوته:
_لقد توهمَت أن آلام المخيض داهمتها لذا قمت باصطحابها نحو المشفى.
_ثم ماذا؟
_أثناء حديثي معها بطريق عودتنا شعرت بأن هناك شخص ما صدم رأسي من الخلف، وحين استيقظت رأيتها...
قطع جملته حين تخيل هيئتها وسط الدماء، ثم حاول استجماع شتاته ليكمل:
_رأيتها بهذه الحالة.
سأل إدغار بجمود:
_ألم ترَ أي شيء يلفت الإنتباه بالأرجاء؟
أجاب الآخر بانفعال:
_لم أرَ شيئا قط، لم أرَ سوى بركة من دماء زوجتي وطفلنا الذي لم تسنح له فرصة القدوم إلى هذا العالم، الآن صرت أشكر الرب أنه لم يولد ليرى هذا السوء.
نهض إدغار ليذهب حين تيقن أن هارفي لا يمتلك أية معلومات بخصوص مقتلها.
_بالطبع سأحاول إيجاد القاتل، وسأعلمك بكافة التطورات.
تمتم بهذه الكلمات قبيل ذهابه، ولكن أوقفه صوت هارفي وهو يقول باستنكار:
_كلانا يعلم أنكَ لن تجد القاتل، إنه مجرد شبح مجهول.
رحل إدغار محاولا إظهار تجاهله لحدث هارفي ولكن من داخله كان يشتعل غضبا بسبب تلك الكلمات التي تقلل من شأنه.
بينما دخل هارفي نحو غرفته هو وبيرثا وتمدّد على السرير محتضنا وسادتها، علّه يشم عبق رائحتها المتبقي فوقها، فأخذت دمعاته الساخنة تسيل فوق وجنتيه مرة أخرى.
***
أخذت كلمات هارفي تتردد بداخل رأس إدغار كثيرا، وهو يفكر بهوية هذا السفاح، مَن هذا الشبح الغامض الذي يقوم بقتل النساء فقط، فمن العجيب أن زوج لويزا كان بصحبتها ولكن القاتل لم يمسه بسوء، هو فقط جعله يفقد الوعي؛ لم يقتله، لم يسبب له أي جرح حتى، كان هذا هو ما يشغل عقل إدغار؛ لِمَ القاتل يقصد النساء فقط؟!.
أخذ ينظر نحو الثلاث أوراق أمامه، والتي تحوي بداخلها معلومات عن المشتبه بهم؛ محدثا نفسه:
_مَن منكم هو القاتل، فرانكلين، أرنولد، أم فرانك؟
***
بعد مرور عدة أيام لم يتم فيها إيجاد القاتل أخذ اليأس يحاوط هارفي والكآبة تسود الأجواء، خرج من منزله بعقر الليل متوجها نحو السفح العالي، مقررا إلقاء جسده المنهك من الألم، وكأنه ينعي زوجته الراحلة بسلبه لحياته، سرعان ما كان يلقي بجسده من أعلى، لتلتقطه الرياح كما تلتقط أوراق الشجر المتساقطة بفصل الخريف، ولكنها بنهاية المطاف تتركه ليهوى أرضا بقوة، لم يكن يعلم هارفي أن بفعلته تلك سيتم تغيير مسار البحث عن القاتل.
***
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.