ShrElRawayat

شارك على مواقع التواصل


إلى خليل قلبي القريب البعيد دائمًا..
سلام على روحك التي حلقت بعيدًا عني ومع رحيلها كانت تصدر حُكمًا أن تحتل الآلام صدري ما حييت، أما بعد:
سأبوح بما أخفيته لسنوات وحملته داخلي كاللؤلؤ المكنون، سأدع قلبي يتحدث كما كنت تقول لي دائمًا، علّ السقم بداخله يرحل، وكيف أطالبه بالرحيل وفؤادي لم يمسه سوى عشقكَ وذلك الآخر إلى أن أُنهكَ وصار يترجى الردى؟!
أتذكر أول لقاء بيننا؟ أنا أذكره جيدًا، وكيف أنساه وذاكرتي لم يعد بها سواكَ؟ يُخيل إليّ أنه يُعاد الآن أمام أنظاري ليترك داخلي غصة على قدر ما يملأها الألم يوجد بها اشتياق، أراكَ بوجهكَ الناحل الأسمر، وعيناكَ البنيتان، تسير بين تلك الزهور بهية الطلة، ثم تلتفت صدفة لتراني، أتعلم أنني منذ تلك اللحظة بتّ أحبك!
أعلم أنني لطالما فشلت في كتابة الخطابات ولكنني أحاول.. حقًا أحاول أن أبوح بما أكنّ من مشاعر لكَ علّ البوح يروي حبكَ داخلي، لطالما قلت لي أنكَ تحب ما اخطه لكَ ولكنني لم أصدق ذلك يومًا.
أريد إعلامكَ أن عشقكَ سيظل خالدًا بداخلي أبد الدهر، سأحمله بين جنبات روحي ما حييت، أشبه بالزهرة التي تحمل رحيقها حتى بموتها لا تفترق عنه، حبكَ يا عزيزي أشبه بلؤلؤة حملها البحر بين طياته طويلًا، أخفاها داخله ببراعة والحصول عليها أشبه بمعجزة، وها أنا أملك ما هو أغلى منها فكيف أتركه يضيع كالهباء المنثور؟!
من تلك التي لم تَكنّ لكَ سوى كل عشق، التي لم تحب يومًا سوى قلبكَ الرؤوم، التي ستظل خالدًا داخلها أبد الدهر.
"نوال".
☆☆☆
أغسطس ١٩٥٣م، الإسكندرية..
"سيداتي وسادتي أسعد الله مساءكم بكل خير.. تستعد الطائرة للهبوط التدريجي نحو مدرج ومطار النزهة بالإسكندرية.
من اجل سلامتكم وراحتكم يُرجى البقاء في مقاعدكم، وربط أحزمتكم".
استيقظت من غفوتي حين استمعت إلى صوت المضيفة تقول تلك الكلمات، التفتت بجانبي لأرى أبي ما يزال جالسًا كما هو، ثم وجهت أنظاري نحو أمي الجالسة بمقابلتي لأجدها تنظر لي برجاء وهي تشير نحو أبي، أشحت بنظراتي بعيدًا عنها والضيق يعتريني، كيف تريد مني التصرف معه وكأن شيئًا لم يكن؟ حقًا بت لا أفهمها بالآونة الأخيرة.
استقرت الطائرة أرضًا بهدوء ليبدأ الجميع بالخروج منها، كنت أنا آخر من رحل وكأنني من داخلي ما زلت أتمنى لو تحملني وتعيدني إلى فرنسا مرة أخرى، ولكن لا جدوى من تلك الأحلام الآن.
فور أن خطت أقدامي خارج المطار استمعت إلى صوت بوق تلك السيارة التي يجلس بداخلها سائق أبي ذات ماركة جاكوار مارك ٧، نفخت بضيق مرة أخرى وأنا أرى أبي يتوجه نحوه دون حتى أن ينبس ببنت شفة وتتبعه أمي بهدوء! أولست أنا إنسانة ذات عقل ورغبات أيضًا؟! لمَ يعاملني وكأنني لست موجودة! لَم يتركني طويلًا غارقة وسط أفكاري، لقد أخرجني منها وهو يهتف بجموده المعتاد:
_لسه واقفة عندك بتعملي إيه؟
_جاية.. جاية أهو.
لم يبدر مني سوى تلك الكلمات المقتضبة فقط، وكأنني أعلم أن أي نقاش سأخوضه معه سأخرج منه مُنهزمة، ومن يستطع منافسة رياض باشا!
☆☆☆
أوقف السائق السيارة أمام تلك القضبان الحديدية الخاصة ببوابة المنزل، وأخذ يضغط على بوق السيارة طويلًا؛ فأتى رجلٌ آخر وأظنني أذكر هيئته من مكان ما، الحقيقة لم أكترث للأمر كثيرًا، أنا فقط أرغب أن أنزوي بغرفتي ولو قليلًا.
فُتحت البوابة لتمر السيارة فرأيت ذلك القصر شاسع المساحة، ثم لمحت اسمه الموضوع على الجدار "ذلك القصر ملكًا لعائلة رياض باشا".
ابتسمت بسخرية وأنا أترجل من السيارة، لقد وشم الجدار باسمه أيضًا، وما الجديد إنه دومًا يضع بصمته بكل شيء، وبأي مكان.. حتى بقلبي.
_حمد لله على السلامة يا سِت نوال.
هتفت بها امرأة يبدو أنها بعقدها الخامس، ترتدي جلباب أسود اللون وتضع شال على رأسها بذات اللون، على ما يبدو أنها تعرفني من طريقتها الودودة، ولكنني لم أستطع تذكرها، اقتربت مني برفق وهي تقول بلهجتها البسيطة:
_حَكِم إنتِ مش فاكراني يا سِت نوال؟ أنا سيدة، ده أنا ياما شيلتك وإنتِ في اللفة بس لولا سفرك إنتِ والسِت هانم اللي...
قاطع أبي حديثها بصرامة قائلًا:
_إنتِ هتنسي نفسك ولا إيه يا سيدة؟ واقفة تتكلمي معاها ولا كأنها من الشغالين، افهمي إنها دلوقتي كبرت وبقت نوال هانم.
أرسلتُ لها نظرات اعتذار حين لمحت تلك الدموع تتلألأ داخل سوداويتيها، ثم ربتت أنا فوق يدها برفق على حين غرة من أبي وأنا أدخل إلى المنزل.. المنزل الذي لم أكن أعرف حينها أنه مُلبد بالأشواك التي ستنغص عليّ حياتي، لم أتوقع أنني سأحيا داخله حياة أشبه بتلك التي تحياها الدُمى.. أو ذلك ما كان يأمله أبي.
☆☆☆
فور أن أغلقت سيدة باب الغرفة بعدما خرجت منها جلستُ على أقرب كرسي وجدته غارقة وسط بكاءٍ مرير، لا أعلم لمَ بكيت بهذا القدر، أبكيت هجري لفرنسا التي قضيت بها واحد وعشرون عامًا، أم تركي للمنزل الذي ولدت به، أم أن مشاعري قررت أن تُعلن احتياجها لأحضان أبي؟
أبي الذي قابلني بعد فراق دام لست سنواتٍ بفتور، فقط صافحني.. صافحني ونظرات الجمود تحتل عينيه، وكأنني شريكه بصفقة من صفقاته ولست ابنته، لم يحاول إظهار بعضًا من مشاعره، بل لم يتكبد عناء ضمي إلى صدره حتى، وأنا صمتت تاركة تلك الغصة تؤلمني وتلك العبرات تتجمع داخل عيني وها هي تسقط الآن.
نهضت من على ذلك الكرسي بعد وقت لم يتبين لي طوله أو قصره، أزلت الدموع العالقة بأهدابي، وخرجت للشرفة، كانت تطل على حديقة منزلنا ويتبين منها أيضًا حديقة المنزل المجاور لنا التي لم يفصل بيننا وبينها سوى سور من الحديد المفرغ.
أخذت أجوب بعيني في الأرجاء متأملة تلك الزهور بهية الطلة، متشوقة أن أستنشق رحيقها، إلى أن رأيته!
ألّا يقولون دائمًا أن الحب يقتحم القلوب دون سابق إنذار، هذا بالضبط ما حدث معي، وكأن رؤية ذلك الشاب طويل القامة، أسمر البشرة وهو يسير وسط الزهور جبر حُطام قلبي، ستقولون أتجبر القلوب بنظرة فقط لأجيبكم حقًا لا أعلم، أنا فقط أعرف أن هناك شعور غريب يعتريني، يُربت على قلبي وروحي بحنان لم أشعر به يومًا.
لم أفق من شرودي سوى حين استمعت إلى صوت طرقات على باب الغرفة، ذهبت سريعًا لأقف أمام الخزانة، حقًا لا أعرف لمَ تظاهرت بجمع ثيابي، لكنني حاولت إخفاء توتر اعتراني دون أن أعلم سببه أيضًا.
فتحت سيدة الباب ليتسلل إليّ شعورٌ بالراحة، تركت الثياب وجلست على السرير قائلة لها:
تعالي يا أبلة سيدة._
وضعت كوب الماء على الكومود بجانب السرير وهي تسألني:
عايزة حاجة تاني يا سِت هانم._
لاحظتُ بضعة دموع بداخل مقلتيها فعرفت أن كلمات أبي اللاذعة مازالت تترك أثرًا داخلها، نهضت لأغلق الباب، ثم أمسكت يدها برفقٍ لتجلس بجانبي.
_ما يصحش كده يا هانم، بعدين الباشا يزعل، الدنيا مقامات ومقامي مش من مقامك.
قالت تلك الكلمات وهي تجذب بيدها من يدي، ولكنني جذبتها مرة أخرى قائلة:
-مفيش حاجة اسمها الدنيا مقامات، ده كلام رياض بيه وبس، طول ما هو مش موجود أنا اسمي نوال مش نوال هانم.
فور إنهائي لتلك الكلمات وجدتها تضمني لصدرها بحنان لم أعهده يومًا، مسحت على شعري برفق قائلة بصدق تبينته من نبرتها:
وحشتيني يا بنتي.. وحشتيني يا نوال. _
أكملت هي كلامها الذي لم أستمع لشيء منه، لقد وضعت رأسي على قدمها وأخذت هي تربت على خصلاتي الشقراء؛ لأشرد بداخل معركة داخلي أبطالها ليسوا سوى الألم والخذلان، وروحي لم تكن سوى الضحية، لقد شعرت وكأنني ساقطة وسط بحر من الحنان الذي يُعطَى دون انتظار مقابل، ولكن شعور الخزي أبى أن يُفارق روحي، أتعرف ماذا يحدث لقلبك حين يجد مأواه ودفئه بأحضان غريب وليس بأحضان أبيك؟
إنه شعور مُهين، يؤلم، لكنه ألم مرير ليس له مثيل، يترك أثره داخلك إلى مالا نهاية، ينغز روحك ببراعة، يتفنن بجرح مشاعرك، ثم يُهشم قلبك بدون سابق إنذار بأكثر لحظاتك سعادة ليتناثر داخلك، أنا لا أبالغ فلا يوجد أسوأ من خذلان تتعرض له من أبيك.
أيمكن للمرء أن يُهشم ويتحول إلى رُكام بسبب حاجته لعناق دافئ فقط؟ هذا ما حدث معي.
☆☆☆
-اتفضلي يا سِت نوال، الباشا قالي أجيبهولك، حَكِم أنتِ عارفة الهوا شديد اليومين دول.
استمعت إلى كلمات سيدة وأنا أرى يدها تمتد لي بذلك الشال الصوفي ذو اللون الكحلي، أخذته منها وأنا أومئ برأسي على مضض؛ فأنا أعرف أنه يقف خلفي بمسافة ليست بالقريبة ولا هي بالبعيدة كي يرى ماذا سأفعل، وأظنه ذهب ببسمة واسعة حين ظن أنني امتثلت لأوامره ووضعته على كتفيّ، لم يعلم أنني ألقيته بجانبي بإهمال فور ذهابه وعدت أعلق عينيَّ بذلك السور الذي يفصلني عن فارس الأحلام، لا أعلم لمَ أتشوق لرؤياه وأنا حتى لا أعرف اسمه، وكأن هناك شيء خفي يجذبني نحوه حتى باتت كل خلية بجسدي تتوق للقاء ذلك المجهول.
حسمت أمري -الأصح أن قلبي هو من حسم الأمر- ونهضت أقترب من ذلك السور الحديدي المفرغ، أخذت أسير بجانبه وأنا أتلمسه بأناملي بتردد، ثم توقفت أمام الباب وعينيّ تجوب بالمكان لأتأكد أن لا أحد يراني، وفتحته ببطء وأنا أخطو بقدميَّ داخل تلك الحديقة التي كان يستنشق رائحة أزهارها في الصباح، ونسيت حينها كل شيء، وكان أول ما نسيته هو غضب رياض باشا إذا عرف بفعلتي.
-هو الباشا ماعلمش الست الصغيرة إنه مايصحش تدخل بيوت الناس من غير استئذان.
فتحت عيني بفزع وأنا أكاد أكون لم أفق من شرودي بعد حين استمعت إلى صوت رخيم لا يخلو من العبث وهو يقول ذلك، وقبل أن أستجمع نفسي أو حتى أتمكن من رؤية وجهه بسبب ظلمة الليل كان يمسك يدي وهو يتسائل بذات العبث:
-أول مرة أعرف إني ممكن أخوف ال.. ولا بلاش لحسن تفتكريني بعاكس، المدموزيل بقى كانت بتعمل إيه هنا في وقت زي ده؟
أغمضت عيني للحظة أحاول بها التخلص من توتري، ولكن ما إن وقعت أنظاري على وجهه حتى تناسيت ما أردت قوله لأهمس بصوت وصل لمسامعه:
-الظاهر إن المدموزيل قلبها دق ل...
توقفت قليلًا وأنا أحاول استيعاب ما أقوله، ليبادر هو بالحديث:
-لمين؟ قلبها دق لمين؟
-للورد.. دق للورد أصلي بحبه أوي.
-وماله ما هو الورد للورد.
حاولت الابتعاد عنه وأنا أقول بتوتر:
-أنا.. أنا لازم أمشي الوقت اتأخر.
أوقفني وهو يمسك يدي متسائلًا:
-هشوفك تاني؟
ود قلبي بوقتها لو يؤكد له أنه لن يتخلى عن لقاءه أبدًا، ولكن هناك ما منعني من ذلك وأظنه مكر الأنثى الذي لا يختفي من داخلها مهما حاولت.
-لو القلوب قررت إننا نتلاقى تاني هتشوفني.
ذهبت وأنا أنهي آخر حرف بحديثي مصطحبة معي دقات قلبي التي أظنها من تسارعها ستقف، صعدت لغرفتي مسرعة وأنا أغلق الباب لأقف خلفه واضعة يدي على قلبي عله يهدأ قليلًا وتلك البسمة لا تبتعد عن ثغري وأنا أذكر كل شيء به بداية من تلك العينان التي أسرتني حتى نبرة صوته العابثة.
قضيت ليلتي بين الأحلام التي لم تخلُ منه، ولكنني بالتأكيد كنت أملك ما يكفي من سذاجة لأنسى رياض باشا تمامًا وأترك قلبي يحبه كل ساعة أكثر من التي سبقتها.
☆☆☆
استيقظت صباحًا بذات البسمة التي أظنني لم أفارقها حتى بنومي، أخذت أمشط خصلاتي الشقراء القصيرة وأنا أفكر به وبلقائي به مرة أخرى، ثم توجهت نحو الشرفة علّ قلبي يرتوي برؤياه، لكنني ظللت أنتظر وأنتظر بلا جدوى، ليخرجني من شرودي صوت طرقات على باب الغرفة.
-الفطار يا ست نوال.
اقتربت منها وأنا أبتسم برفق قائلة:
-ست نوال تاني يا أبلة سيدة! هو إحنا مش اتفقنا.
-معلش يا ست هانم العين ماتعلاش عن الحاجب والأصول أصول.
-يلا يا نوال إحنا مستنيينك تحت وأنتِ واقفة تتسايري مع سيدة هنا.
هتف بها أبي بحزم، حينها فقط أيقنت أن رياض باشا نجح بجعل الجميع بذلك المنزل ينفذون أوامره دون نقاش.. داخلهم حتى، لذا لن تتغير عادة سعاد بمناداتي "ست نوال" أو "هانم" إذا حاولت طوال العمر.
جلست على طاولة الطعام وأنا أحاول البدء بذلك الموضوع الذي أعرف أنه لن يعجبه كثيرًا، وأخيرًا استجمعت حروفي التائهة وأنا أقول:
-أنا كنت حابة أشتغل في...
قاطعني بجموده المعتاد:
-أنتِ ماعدتيش محتاجة الشغل في حاجة يا نوال عشان تشتغلي.
أخذ يرتشف القهوة من فنجانه وهو يطالع الجريدة بيده وكأن جملته أنهت الحوار، وأخذت أمي تشير لي بعينها كي أصمت، لكنني هذه المرة لم أعبأ بنظراتها فأنا لست دميته التي سيملي عليها أوامره!
عدت أحدثه قائلة:
-حضرتك عارف إني كان عندي بوتيك في فرنسا وإني ماكنتش فتحاه بسبب احتياجي للفلوس.
-الموضوع منتهي يا نوال.
-هو إيه اللي منتهي! مافيش سبب يخليك تمنعني أشتغل.
خبط بيده على الطاولة لتهتز الصحون فوقها وهو يقول:
-مش بنت رياض باشا اللي تشتغل يا نوال، فوقي وافتكري أنتِ بنت مين، عايزة الناس تقول إيه لما تعرف.
نهضت وأنا أخبره بغضب قبل ذهابي:
-افتكر أنت يا رياض باشا إن أنا بنتك مش واحد من اللي بيشتغلوا تحت إيدك.
ابتلعت غصة عالقة بداخلي وأنا أذهب متصنعة اللامبالاة، وبداخلي هناك نيران تشتعل وتحرقني بلا هوادة.
☆☆☆
-أول مرة أشوف وردة حزينة، طول عمر الورد بيضحك للدنيا.
استمعت لصوته، صوت ذلك الأمير المجهول وهو يهتف بتلك الجملة مصوبًا أنظاره نحوي، متكئًا على السور الحديدي، سرعان ما كفكفت دموعي التي تركت القليل بين أهدابي كأنها تترك لي ذكرى رغم زيارتها لي يوميًا، ثم نهضت وأنا أجيبه ببسمة صغيرة لطالما اعتلت ثغري حين أذكره وها هو الآن يقف أمامي:
-طول عمر الورد يحب الدموع عشان يفتح ويقدر يضحك للدنيا، مافيش وردة ضحكت من غير دموع.
-صوتك.. صوتك في حاجة بتشدني، كملي كلام.
أبعدت نظراتي عنه بخجل وأنا أمرر يدي على خصلاتي الشقراء متسائلة:
-أكمل إيه؟
صمت لوهله قبل أن يجبني:
-ازاي مفيش وردة ضحكت من غير دموع؟ حَكِم أصل أنا اتربيت طول عمري إن الورد ده بيضحك وبيمحي أي حزن جوا القلوب.
ابتسمت له وأجبته وأنا أمرر أناملي بين زهور البنفسج بجانبي، أطالعها بحب:
-لولا بُكى السحاب عمر ما كانت الوردة دي هتقدر تضحك للدنيا.
أمسك يدي لألتفت نحوه فتتعلق أنظاري بعينيه التي أصبحت تزلزل كياني منذ رأيتها، ثم أردف وهو يضغط برفق على يدي:
-يبقى جه الوقت للوردة اللي قدامي إن روحها تضحك للدنيا بعد ما عينيها خلصت بُكى.
-جايز روحها كانت مستنية الفارس بتاعها يوصل عشان تضحك وتنسى الدموع.
لا أعرف كيف تفوهت بذلك وأنا أطالع بنيتيه، على ما يبدو أن وجوده بالقرب مني أخطر بكثير مما توقعت؛ فهو يجعلني أتفوه بما يدور بقلبي دون تفكير وكأن عقلي يأخذ فترة راحة طوال تواجدي بجانبه.
عاد هو إلى ذات النبرة العابثة التي كان يحدثني بها الليلة الماضية وهو يتساءل:
-ويا ترى المدموزيل روحها لقت الفارس ده؟
لم أستطع إخفاء خجلي وتلعثمي أكثر من ذلك لتحمر وجنتاي، وسرعان ما حاولت تغيير الموضوع وأنا أسأله:
-بالحق أنا لحد دلوقتي ما أعرفش اسمك إيه؟
-اسمي هيفرق في حاجة وياكِ؟
-اسمك هيعرفني أنت مين، يعني أنا...
قاطعني وهو يقول:
-نوال.. أنتِ نوال بنت رياض باشا اللي لسه راجعة من باريس امبارح، مظبوط مش كده؟
لم أستطع إخفاء دهشتي وأنا أسأله:
-مظبوط، بس عرفت كل ده منين؟
عاد لنبرته العابثة وهو يخبرني:
-القلب لما بيميل بيخلي صاحبه يعرف كل حاجة يا نوال.
أنهى جملته وهو يلتفت ليذهب، أوقفته وأنا أتساءل:
-ومش هتعرفني اسمك إيه وأنت مين؟
-لو اتلاقينا تاني هقولك..
صمت لوهلة، ثم التفت نحوي وهو يغمز بعينه ويقول:
-ولو القلب مال وقتها هتبقي عرفتِ كل حاجة من قبل ما نتلاقى.
أنهى حديثه وذهب ليتوارى خلف تلك الأزهار والأشجار الكثيفة بالحديقة، تركني أنا غارقة وسط أحلام لا تنتهي والأهم أنه هو بطلها؛ فعلى ما يبدو أن الحب طرق أبواب قلبي على حين غرة مني، بل اقتحمها بلا حتى أن يطرقها، وغرقت أنا داخل تلك المشاعر التي تجتاحني وبقوة بلا أدنى مقاومة، وها أنا أنتظر بفارغ الصبر لقائي الثالث مع ذلك الفارس المجهول الذي سكن داخلي آبيًا الرحيل.
☆☆☆
أسدل الليل أستاره على السماء لتظهر بها تلك النجوم اللامعة وأنا مازلت أقف بالشرفة لا أفكر سوى به وحده.
-مش هتنزلي تتعشي يا ست نوال؟
استمعت إلى صوت بركة ابنة الخالة سيدة وهي تهتف بذلك السؤال، التفتت لها وأنا أجيب بشرود:
-لا رياض باشا خلى ماعادش ليا نفس عشان أتعشى.-
خبطت كفيها ببعضهما وهي تضعهما فوق جلبابها البسيط قائلة بعتاب:
-ليه بس كده يا ستي، ماتقوليش كده طب ده الباشا روحه فيكِ و...
ابتلعت غصة عالقة بداخلي وأنا أجيبها بصوت غلفه الخذلان:
-غلط يا بركة.. الباشا روحه في أي حاجة إلا بنته.
صمتت برهة وأنا أرى تعجبها، ثم جذبتها لتجلس بجانبي على السرير، ولكنها تشبثت بالأرض بقدميها رافضة الجلوس وهي تقول مسرعة:
-مايصحش يا ستي أقعد وياكِ على نفس الفرشة.
جذبتها بإصرار وأنا أقول:
-تعالي بس يا بركة عايزاكِ في موضوع.
جلست على استحياء حينما لحظت إصراري وهي تتساءل:
-موضوع إيه كفى الله الشر يا ست نوال؟
حاولت إخفاء فضولي وطمس مشاعري نحو فارسي المجهول وأنا أسألها:
-قوليلي يا بركة تعرفي إيه عن الناس اللي في السرايا اللي جنبنا؟
زفرت براحة وهي تجيب:
-تقصدي شكري باشا، استني يا ستي وأنا هحكيلك حَكِم دي حكاية ولا أفلام السيما.
انتبهت لها جميع حواسي منتظرة معرفة السر وراء غموضه المريب، ولكن بداخلي هناك صوت ما يلح عليّ أن أنتظره هو ليقص علي حكايته لأوقفها قائلة:
-عايزة أعرف بس مين اللي ساكن هناك ماتحكيش تفاصيل يا بركة.
-بصي يا ستي دي سرايا شكري باشا كان عايش فيها من زمان مع الست بتاعته قبل ما يتوفاها ربنا وعايش معاهم سي حسن في مقام ابنه تمام.
علق اسمه داخل قلبي قبل أذنيَّ، إذًا اسمه حسن.. وما أجمله ذلك الحسن بقامته الطويلة وبشرته السمراء وتلك العينان التي تفتكان بي كلما رأيته.
أكملت بركة حديثها عنه وكأنها تعلم أنني أريد الوصول له بنهاية حديثي:
-سي حسن محامي قد الدنيا واخد الليسانس بقاله كام سنة...
هتفت بتلك الكلمة وكأنها تسأل نفسها لتبدأ بالعد على أصابعها، ثم هتفت مسرعة:
-أربع سنين.. أيوة بقاله أربع سنين يا ستي، هو كمان اللي بيراعي أمور الورد ولا يجرؤش حد تاني أبدًا إنه يلمسه طول ما سي حسن موجود.
صمتت لوهلة لتقول بشبه حسرة بصوتها:
-أنا عارفة جدع زي الورد زي سي حسن ازاي لغاية دلوقتي لا هو متجوز ولا في شابة حلوة في حياته!
لم أستطع إخفاء تلك البسمة التي تسللت أعلى ثغري وأنا أهمس بصوت منخفض:
-ماهوش متجوز ولا بيحب يبقى تسيبي قلبك يميل يا نوال.. تسيبيه يدق لأول مرة من غير ما تفكري.
أكملت حديثها وكأنها نست شيء هام:
-بالحق نسيت أقولك سي أنور كمان ابن شكري باشا عايش معاهم، بس بيسافر يرجع ماهوش موجود يوماتي، وراجع بكرا من السفر.
نهضت بركة لتتركني مع أحلامي وهي تقول:
-أقوم أنا أشوف أمي لو محتاجة حاجة تصبحي على خير يا ستي.
بت ليلتي بأكملها واسمه يتردد داخل قلبي، صورته تأبى الرحيل عن عينيّ وكأنها تجزم أنه أجمل ما رأت، لم أكن أعلم حينها أنني غارقة وسط أضغاث أحلام سأفنى داخلها وستُسلب مني بلا رحمة.
☆☆☆
حل عليَّ الصباح وأنا لازلت لا أفكر سوى به، وقفت أمام مرآتي أتأمل مظهري بعدما ارتديت ذلك الفستان الأزرق اللون الذي يماثل لون عينيّ التي ورثتها عن أمي، بل ويجعلها أكثر روعة، مشطت شعري القصير سريعًا، ثم نزلت لأنهي فقرة الفطور الساخرة التي تحدث يوميًا تحت إشراف رياض باشا، وها أنا أذهب للحديقة التي ولد بها عشقه داخلي أنتظره وأتوق لرؤياه.
-طول عمر العيون ماتكدبش.. أمي الله يرحمها كانت دايمًا تقول كده.
استمعت إلى صوته يقول تلك الجملة وهو يأتي من خلفي كعادته، ولكن هذه المرة افتقد صوته ذلك العبث الطبيعي الذي اعتدته فيه ليحل محله آخر مصطنع.
-اشمعنى العيون هي اللي مابتكدبش يا حسن؟
تعمدت التفوه باسمه بآخر جملتي علّ قلبه يعلم أن فؤادي يذوب داخلي لرؤياه فقط.
سرعان ما رأيت بسمته تعلو وجهه وما كنت أدري أنني سأصبح كالمحلقة بالسماء العالية لمجرد رؤيتي لبسمته.
-طالما عرفتِ اسمي يبقى قلبك مال للهوى زي ما قلبي مال من زمن.
ابتسمت بخجل حاولت مداراته وأنا أغير مجرى الحديث:
-ماعرفتنيش برضه اشمعنى العيون ماتكدبش؟
صمت لبرهة قبل أن يجيبني ورأيت أنا تلك الحسرة بعينه تلوح لي وهي تخبرني أنه يملك جرح ما جاهد كثيرًا لإخفائه، ولكنها نست إخباري أنه سيكون عقبة بوجه حب لم يولد بأكمله بعد.
تنهد وهو يجيبني:
-العيون أول حاجة بتبدأ تتكلم حتى قبل اللسان، الطفل بيتكلم بعينيه قبل ما يتعلم الكلام، والكبير عينيه بتفضحه، بتقول كل الحقيقة اللي هو مداريها ورا نفاقه.
ابتسمت بعذوبة وأنا أقول:
-يظهر كده إني قاعدة مع فيلسوف مش بس محامي.
-مفيش حاجة اسمها فيلسوف أصلًا يا نوال، في حاجة اسمها الدنيا بتعلم ومسيره ييجي اليوم اللي تتعلمي فيه على إيديها، وقت ما ييجي سيبيها تعلمك، صدقيني هترتاحي بعدها.
شردت بصوته الذي كان يحمل العديد من المشاعر المتناقضة لأسأله بعد لحظات:
-وأنت الدنيا علمتك امتى يا حسن عشان تقول كده؟
-الدنيا دي بتعلمني من زمن يا نوال، بتعلمني من وأنا عيل عنده ٣ سنين، لغاية ما بقيت حسن اللي قدامك ده وهي لسه بتعلم فيا بعزم ما فيها.
قالها بصوت يحمل بين طياته ذات السخرية التي ظهرت على بسمته، أمسكت يده برفق وأنا أقول:
-احكي لي يا حسن.
-احكي لي أنتِ نوال هانم، بحب أسمع صوتك، بيريحني، بيحسسني بالأمان، بيفكرني بالدفا اللي كان في صوت أمي.
ابتسمت وأنا لازلت أمسك يده، وأخذت أتحدث بأي شيء أذكره، عن أمي، أصدقائي بفرنسا، ذلك البوتيك الذي كنت أعتبره ملاذي، زهور البنفسج، تحدثت عن كل شيء وأي شيء ما عدا رياض باشا، وكأنه سيختفي من حياتي بمجرد عدم حديثي عنه، وكان هو يستمع.. فقط يستمع لحديثي ويبتسم بين الحينة والأخرى.
-أحلى حاجة شوفتها في حياتي كانت...
قاطعني وهو ينظر داخل عينيَّ:
-عينيكِ.. أحلى حاجة شوفتها في حياتي عينيكِ.
تلبكت، سحبت يدي من بين يده بحركة تلقائية سريعة وأنا أفركها بالأخرى، أخذت أهرب بعيني من بنيتيه التي أعشقها، ورغم خجلي وتورد وجنتيّ إلا أن تلك اللحظة كانت أجمل لحظة أعيشها بحياتي منذ سنوات عدة.
-ماتهَرَبيش السما مني، عينيكِ جواها السما كلها فماتهربيش بيها.
صوت بوق سيارة عالٍ لا يصمت هو من قاطع أجمل لحظة بحياتي، اللحظة التي أيقنت بها أن قلبه معي مثلما قلبي أنا معه.
كان يأتي الصوت بالقرب من قصر شكري باشا، ولحظت أن أنامله التي كان يضعها بمحاذاة يدي ارتعشت ارتعاشة لا تكد أن تكن ملحوظة، نهض وهو يردف قائلًا:
-ده لازم أنور، تلاقيه وصل من السفر.
أمسكت يده وهو يذهب لأقفه متسائلة:
-هشوفك تاني امتى؟
-اتقابلنا ٣ مرات من غير معاد سيبي قلوبنا هي اللي تتلاقى كمان في المرة الرابعة.
-ولو ماعرفتش أشوفك؟
سألته بخوف لم أعرف لما اعتراني الآن، فابتسم هو وأجابني كي يطمئن قلبي:
-قلوبنا هتتلاقى يا نوال، وعشان ترتاحي خليها بكرا الساعة اتناشر في المنتزه، هستناكِ.
أنهي حديثه وقبل ذهابه عاد بضع خطوات إليَّ وهو يطبع قبلة رقيقة فوق يدي، ثم ذهب ليختفي وسط أشجار حديقته الكثيفة، وصعدت أنا لغرفتي مسرعة أكاد أن أطير من سعادتي، وقفت بالشرفة وأنا أبحث عنه بعينيَّ إلى أن رأيته يقف قبالة شاب يماثله بالعمر أو يكبره ببضع سنين قليلة، وأظن أن الوضع بينهما كان متوترًا، لم يكن كلقاء أخوان بعد عودة من سفر طويل، ولكن مهلًا فبركة أخبرتني أن حسن يعد كابن شكري باشا.. إذن فأنور ليس شقيقه!
ذهبت نحو باب الغرفة سريعًا وفتحته وأنا أهتف منادية بصوت مرتفع:
-بركة.. يا بركة.
أتت بعد لحظات وهي تهرول بجلبابها قائلة:
-أيوة يا ست نوال.
لم أحاول هذه المرة إخفاء لهفتي وأنا أسألها:
-امبارح قولتي حسن زي ابن شكري باشا، تقصدي إنه مش ابنه؟
-أيوة يا ستي، سي حسن مش ابن شكري باشا ولا هو أخو سي أنور.
-طب انزلي أنتِ يا بركة.
خرجت من الغرفة، وجلست أنا على السرير أحاول استيعاب ما قالته، فإذا لم يكن ابن شكري باشا إذًا لم يقطن معهم بذات المنزل؟ ابن من هو وما هي قصته؟ كل تلك أسئلة كانت تراود عقلي، بينما قلبي يجزم أنها لا تحمل أية أهمية فيكفي أنه هو حسن كي أحبه ولا يهم أي شيء آخر.
☆☆☆
حل الصباح وهو يحمل بين أشعة الشمس خاصته الكثير والكثير مما لم أكن أتوقع حدوثه.
ارتديت فستان بذات لون زهرة البنفسج التي أعشقها، وظللت جالسة بالحديقة أنتظر حلول موعد اللقاء، حين دقت الساعة الحادية عشر نهضت وأنا آخذ بضع من أزهار البنفسج بالحديقة وأذهب متوجهة نحو "المنتزه" رغم علمي أن وصولي لن يستغرق سوى بضع دقائق سيرًا على قدمي.
أخذت أنتظره وأنا تارة أنظر بساعتي وتارة أخرى أنظر نحو مياه البحر الزرقاء فأذكر كلامه المعسول الذي قاله بخصوص عينيَّ وأبتسم، انتظرته قرابة الثلاث ساعات، ولكنه لم يأتِ، عدت ودموعي ترافقني بالسير؛ فعدم مجيئه يؤكد أنه لا يكن لي بداخله أي مشاعر، إذًا لما تركني أسقط داخل أحلامي وأعشقه بعنفوان هكذا!
حين خطوات أولى خطواتي داخل المنزل استمعت إلى صوت ينادي عليَّ:
-يا ست نوال.. يا ست نوال استني.
التفتت نحوه متسائلة وأنا أمسح عبراتي العالقة، فوجدته يمد ل يده بورقة مطوية وتحمل داخلها زهرة بنفسج وهو يقول:
-سي حسن اداهاني الصبح وقالي أول ما أشوفك اديهالك أوام، اتفضلي يا ست هانم.
أخذتها من يده بأنامل مرتعشة وأنا أتوق لقراءتها، ثم سألته:
-وماتعرفش حسن فينه؟
-ماعرفش يا ست هانم أنا عبد المأمور.. عن إذنك بقى أروح أكمل شغلي لحسن سي أنور لو شافني هيبقى نهار مُش فايت.
أومأت له برأسي وفور ذهابه كانت قدميَّ تذهبان بسرعة نحو ذلك الركن الهادئ بالحديقة الذي كنت أراه فيه دومًا، جلست وأنا أفتح الورقة لألتهم السطور بعينيّ بعدما اشتممت إلى رائحة البنفسج الرائعة.
"جميلتي نوال..
سلام عليكِ محمل برائحة زهور البنفسج العليل، أما بعد:
أكتب لكِ طالبًا العفو من قلبكِ لأنني أخلفت لقاء كانت روحي تتوق له، بحثت عنكِ ولم أجدكِ فاهتديت للكتابة رغم أن كلماتي تسبح بعيدًا عني كلما أقدمت على الكتابة لكِ.
رغم شوقي لرؤية عينيكِ التي لم أرَ ما ينافسها بحسنها إلى اليوم إلا أن حسرتي من الزمن والأيام أبت مفارقة قلبي فمنعته من رؤياكِ، لقد كان غضبي من القدر أكبر من شجاعتي فلم أستطع مقابلتك بتلك الحالة.. بحالة حسن الطفل الصغير الذي يشتاق للارتماء داخل أحضان والدته والبكاء بعمق بلا خجل.
لقد ضربتني الحياة مرة أخرى يا نوال، بل صفعتني بما لديها من عزم تعاقبني على قدر لم أختره يومًا، وأنا كنت أضعف من مواجهة عينيكِ بوجه مبلل من الدموع، فاخترت الهرب بعيدًا لعدة أيام حتى تنقشع الدموع عن أهدابي لعلّ روحي حينها تلقاكِ وهي معتملة بالسكينة.
أطالب روحك بالعفو عن شاب تعلق بكِ كما يتعلق الغارق بطوق النجاة، أنتِ طوق نجاتي من آلام الحياة يا نوال فهلا سامحتني ولأعدكِ أنا أنني سأظل أذكر عينيكِ بكل لحظة تمر عليّ بعيدًا عنكِ.
حسن".

أنهيت قراءة ما كتبه بقلبي وليس بعينيّ وحدها، أخذت أضم رسالته إلى صدري وأنا أترك العنان لعبراتي بالهطول؛ فهو يطالبني بالمسامحة بينما أنا قلبي يرتعد داخلي خوفًا وقلقًا على من أحب، وعلى ما يبدو أنني سأظل حبيسة قلقي إلى أن يعد.
☆☆☆
"عزيزي حسن..
سلامي عليكَ المحمل بمشاعر الحنين لرؤياكَ، أما بعد:
أكتب لكَ بعدما استلمت رسالتك وأنا لا أعلم متى ستقرأ ما أكتبه.
أود إخبارك أن قلبي سامحك على إخلاف لقاء كان ينتظره كليلة عيد، ولكن رسالتك أسقطته داخل بؤرة من القلق اللا متناهي، لا يقدر على الخروج منها سوى برؤياك سالمًا، وبسماع نبرة صوتك العابثة التي توترني كلما تحدثت بها.
فلتدع الحياة تصفعك بقسوتها كما تشاء، ولكن حينها دعني أطيب لكَ تلك الآلام التي سبتتها لكَ، لا تهرب وتتركني خليلة شوق لا ينتهي ولن ينتهي إلا بلقائك، فلتظل بالقرب من قلبي حتى إذا أصابك وهن وبللت الدموع أهدابك، فلتتركها لتسقط وأنا سأزيلها بأناملي، فلتظل وحينها ستظل روحي تحاوطك بكل مكان إلى أن تصبح بخير.
لقد مر يومان على عدم لقائي بكَ، وقلبي بدأ يثور داخلي مطالبًا برؤياكَ، عينيّ ترفضان رؤية الجميع إلى حين عودتكَ، وأنفي أبى الافتراق عن رائحة زهرة البنفسج التي أهديتها لي مع رسالتك، وللحق لقد كانت أجمل زهرة أشمها بحياتي، فهلا وعدتني ألا تبتعد وألا ترجح الفراق ثانية؟ هل وعدتني ألا تترك قلبي يشتاقكَ هكذا؟ ولأعدكَ أنا أنكَ ستظل بطل أحلامي كل ليلة.
نوال".

كانت تلك رسالتي له التي تركتها له مع "عم فوزي الجنايني" بعد فراق دام ليومين ولم يعد قلبي يتحمله، أعطيتها له وأنا أخبره أن يعطيها لحسن حال عودته متمنية من داخلي لو أراه يفتح البوابة ويدخل الآن، ولكنها أحلام ذهبت في مهب الريح.
قضيت اليومين الماضيين ما بين تفكير به أو حلم بيوم لقائي معه ثانية، وأنا لا أعرف للآن سر ذهابه واختفاءه هكذا ولكن ما أعلمه أن وجود أنور هو السبب بالتأكيد.
☆☆☆
على ما يبدو أن هذا الحد من الفراق لم يكفِه؛ فها أنا أجلس وحدي بذلك الركن الهادئ بالحديقة بجانب أزهار البنفسج لليوم الرابع على التوالي بعد تسليمي الرسالة ل"عم فوزي"، وكأن قلبي أقسم على انتظار محبوب ذهب دون سابق إنذار ولا يعرف متى سيحين موعد عودته.
-سامحتيني؟
استمعت إلى صوته يهتف بها من خلفي، التفتت له بسرعة وعينيّ تغمرها الدموع التي بالأساس ل تفارقها بالأيام الماضية سوى قليلًا، اقتربت منه ولا يجول بخطاري شيء سوى الاطمئنان على حاله، أخذت أضع يدي برفق على وجهه وأنا أمررها عليه مجيبة على سؤاله:
-قلبي سامحك، جبرني أسامحك حتى في غيابك.
لمحت تلك الدمعة التي يحتفظ بها بين أهدابه فتناسيت ما بقي لدي من حزن طفيف من فعلته تلك، لأحتضنه متمنية أن يتوقف بنا الزمان لبعض الوقت علّ أنفي يحتفظ حينها برائحته، وعلّ روحي المطوقة بعشقه تستكين ولو قليلًا بين أحضانه، ولكنها أحلام واهية ذهبت بمهب الريح حين همس بأذني بالكثير من الاعتذارات التي لحظت بها خوفه من فقداني بنبرة صوته.
-عمري ما هبعد يا حسن.. مش هعرف أبعد أصلًا.
ابتعد عني بوهن لحظته على ملامحه بوضوح، ثم جذبني لأجلس بجانبه على ذلك الكرسي الطويل الذي قضيت أيام انتظاري له عليه.
لحظت تردده ببدء الحديث، فأمسكت يده وأنا أضع يدي الأخرى أسفل ذقنه لأجعله ينظر إليّ مثبتة عينيّ بمواجهة بنيتيه وأنا أحثه على الحديث قائلة:
-قول يا حسن، اتكلم، أنا حابة أسمعك، عايزة أسمع صوتك جايز الدوشة اللي في قلبي تستكين لما تسمعك بتتكلم.
لحظت ضعفه بعينيه وهو يتحدث:
-مش عارف يا نادية.. ماعُنتش عارف أقول إيه ولا أبدأ بإيه.
تنهد وهو يستطرد بعد برهة من الزمن:
-ماكنتش أملك الحق إني أجرحك بالشكل ده وأمشي وأسيبك، وماكنتش أملك الحق أقعد في بيت...
بتر جملته وهو ينهض مغيرًا مجرى حديثه:
-آسف يا نادية.
أنهى حديثه وهو يخطو بقدمه بعيدًا عني كي يذهب، ولكنني مددت يدي لأجذبه قائلة بغضب:
-سامحتك مرة يا حسن ومش من حقك تعيدها وتمشي وتسيبني كده، اتكلم.. فهمني اختارت البعاد ليه؟ كمل كلامك وقولي بيت إيه؟
-بيت راجل كان بيعطف عليا بعد ما أبويا مات، وابنه شايفني حرامي ومش عايزني أقعد في السرايا تاني يا نادية، فهمتِ.. فهمتِ وارتاحتِ!
هتف بتلك الكلمات وأنا أشعر بألمه وحزنه يحاوط صوته ببراعة وكأنه جزء منه لا ينفصل عنه، اقتربت منه وأنا أحتضنه ممررة يدي على خصلاته السوداء دموعي تداهم مقلتي.
-احكي يا حسن، قول كل حاجة جواك عشان ترتاح.. أنا جنبك وهفضل جنبك.
همست بآخر كلماتي بأذنه، ومن ثم جلست فوق عشب الحديقة وجذبته ليجلس بجانبي واضعًا رأسه فوق قدمي لأمسد أنا فوق خصلاته تاركة له مجال التحدث أو الصمت.
مر بعض الوقت -الذي لا أظنه طويل- في صمت تام إلا من صوت حفيف أوراق الأشجار ببعضها إثر تلك النسمات بالهواء، ثم قرر هو قطع الصمت وهو يقص عليّ كل شيء:
-كنت وقتها عمري ٨ سنين.. وقت ما أمي ماتت، الدنيا حرمتني منها بدري بقسوة، قسوة مايتحملهاش طفل لسه بيتعرف على الحياة، بعد ٣ سنين أبويا مرض ومات، يظهر إنه ماتحملش الفراق وراح لحب حياته زي ما كان يقول دايمًا.
لحظت تغير نبرته التي ظهر بها الامتنان فجأة ليحل محل نقمه على الحياة:
-وقرر شكري باشا إنه يتولى ويرعى ابن الجنايني اللي عمره وقتها كان ١١ سنة، من ويوميها وهو بيعاملني زي أنور ابنه، عمره ما نادالي غير هو يقول "يا حسن يا ابني".
تغيرت نبرة صوته للمرة التي لا أعرف عددها لتغلفها الحسرة:
-مرت الأيام وكل يوم حقد أنور تجاهي بيزيد ويكبر، وكأنه بيلومني إني بشاركه في أبوه، بيلومني على عطف أبوه عليا، ماكانش يعرف إن نظرات العطف اللي بشوفها في عينيهم يوماتي كانت بتسيب أثرها جوايا من غير شفقة.
صمت هو وصمتت أنا؛ فتلك الحسرة بصوته لن تكفي كلمات الدنيا لمحوها، استجمعت شتاتي بعد لحظات لأسئله:
-وحصل إيه عشان تمشي وتسيب كل حاجة؟
-الحقيقة اللي كنت مغمض عيني عنها بقالي سنين جه أنور وبينهالي، وكويس إنه عمل كده عشان كل واحد يعرف مكانه الصح.
-حصل إيه يا حسن؟
قلتها وأنا أحثه على الحديث، ليجيبني هو:
-أنور كل ما يرجع اجازة من سفرية شغله يتكلم في بيع السرايا، ويتخانق هو وبابا خناقة لرب السما كل مرة ويفضل بابا تعبان بعدها وهو يسافر، المرة دي لما اتدخلت في الكلام وحاولت أهديه عشان ميتخانقوش قالي "فوق لنفسك ومتدخلش في كلام الأسياد، ماتنساش نفسك أنت ابن الجنايني وهنفضل ابنه طول عمرك" وأنا سكتت يا نوال، سكتت وماشعرتش بأي حاجة غير برغبتي في الرحيل وبس.
-الهروب عمره ما كان حل يا حسن...
قاطعني وهو يرفع رأسه من فوق قدمي:
-كنت بهرب من نبرة صوتك يا نوال.. هربت من نبرة صوتك اللي كلها شفقة عليا زي ما بتتكلمي دلوقتي.
أردفت مسرعة وكأني أمحي التهمة عني:
-الحب والخوف عمرهم ما كانوا شفقة يا حسن.
نهض وهو يقول بشجن داهم صوته قبل ذهابه:
-وأنا عمري ما شوفت من الحياة دي لا حب ولا خوف من وقت ما أمي وأبويا ماتوا.
استطرد مشيرًا نحو الأرض:
-الحياة زرعت قسوتها في كل شِبر وفي كل مكان لدرجة إن الأرض بقت متعبية قسوة مابتنتهيش وماعادتش هتنتهي.
صمت برهة وهو يكمل:
-عايزاني أحب الحياة وأشوف الحب والخوف اللي فيها ازاي وهي عمرها ما ادتني غير العذاب! ازاي وهي يوماتي محاوطاني بالسوط اللي بينزل على قلبي كل ما يفكر يرتاح ولو شوية!
أنهى حديثه وهو يلتفت ليذهب، وهربت كلماتي مني، فشلت بإيقافه، بالتحدث، أو حتى بالتحرك، فتلك الأحزان التي بداخله اجتاحتني دون رحمة لتفتك بقلبي وتظل صورة عينيه المليئة بالدموع رفيقة لعينيّ التي أبت مفارقتها.
رأيته من ذلك السور الحديدي المفرغ وهو يقف مع شكري باشا أمام السرايا وكل منهما يحمل بين نظراته الكثير من الحزن، حينها فقط أيقنت أن شكري باشا يحمل لحسن الكثير من مشاعر الحب داخل قلبه، ينظر له كابنًا له حقًا، يفعل كل شيء فشل رياض باشا بفعله!
يحتضنه بمشاعر أب صادقة نحو ابنه وهو يربت على ظهره بحنو، ثم يدخل معه للمنزل، بينما أنا أكاد أجزم أن حتى فكرة العناق لم تجُل بخاطر رياض باشا يومًا!
نهضت متجهة نحو غرفتي كي ألقي ما بجعبتي من أحزان على هيئة عَبرات وأنا أعانق وسادتي كالعادة، ولكن استوقفني نداء أبي عليّ وأنا أصعد ورأيت بسمته تعلو وجهه، ذهبت نحوه وأنا أتمنى من داخلي أن يلف ذراعيه حولي ويعانقني علّني حينها أشعر ولو بقليل من شعور الأمان الذي يتحدثون عنه بعناق الآباء.
-تعالي يا نادية.. تعالي يا حبيبتي.
تقدمت نحوه مخفية تلك الدموع بين أهدابي متسائلة:
-نعم يا بابا.
أمسك يدي وهو يقربني منه قائلًا بود:
-حقك عليا يا حبيبتي أنا عارف إني أهملتك كتير الفترة اللي فاتت، بس الأيام الجاية هفضل جنبك طول الوقت.
لم أستطع إخفاء نظراتي المتعجبة بداخلي أكثر من ذلك، بينما جذبني هو نحوه وهو يلف ذراعيه حولي ويضمني نحو صدره مربتًا على ظهري، وددت لو أقضي ما بقيّ لي من عمر بين أحضانه فقط، لو أظل أستمع لخفقات قلبه الهادئة طيلة الوقت؛ فعناق أبي الذي حُرمت منه لسنوات الآن أنا قريبة منه حد الدم.
أبعدني برفق بعد لحظات وهو يطبع قبلة حانية على جبهتي ويقول:
-تصبحي على خير يا حبيبتي.
وانسحب بعد ذلك نحو غرفته ليتركني أنا لا أزال أقف بمحلي ملجمة من إثر صدمتي، ولم أكن أعلم حينها أنني سأدفع ثمن ذلك العناق الدافئ غاليًا.. غاليًا جدًا!
☆☆☆
أشرقت شمس يوم جديد يحمل بين طيات ثوانيه الكثير مما لم يجُل بخاطري يومًا.
أنهيت فطوري -الذي كنت سعيدة به لأول مرة- وأنا أطالع بسمة أبي التي تعلو ثغره بين الحين والآخر غير مصدقة أنه يبتسم لي!
وها أنا أجلس ثانية بالحديقة وسط زهوري التي أبثها فرحي وحزني.
-سعيدة يا مدموزيل نوال.
قالها حسن وهو يقف قبالتي ممسكًا بيده ورقة مطوية.
-سعيدة.
أمسك يدي ليجلسني جواره على ذلك الكرسي الخشبي الطويل وهو يخبرني:
-امبارح وأنا خارج من هنا "عم فوزي" نادى عليا واداني دي.
قالها وهو يمد يده بالورقة مستطردًا:
-قال أن أنتِ اللي سيبتيهالي.
بادرته بالسؤال:
-قريتها؟
أومأ برأسه وبسمته تعلو ثغره قائلًا:
-قريتها يا نوال، وكانت أجمل رسالة أقراها طول عمري.
توردت وجنتيّ خجلًا وأخذت أفرك يديّ ببعضهما، وسألته:
-وجيت بدري ليه؟ مش عوايدك تيجي من قبل الضهر!
اتسعت بسمته وهو يجبني:
-جيت بدري عشان أوعدك يا نوال.
استطرد وهو يبعد خصلة شعري التي ثارت بسبب نسمات الهواء عن وجهي:
-أوعدك إن كفة الميزان مش هترجح تاني ناحية الفراق، أوعدك إن قلبك عمره ما هيشتاقلي تاني يا نوال لأني مش هبعد عنه.. نوال أنا بحبك، بحبك أكتر من أي حاجة في دنيا، ومستعد أواجه معاكِ أي حاجة طول ما حبك عايش جوايا.
أنهى حديثه مثبتًا أنظاره نحو عينيّ وكأنه ينتظر إجابتها، آه لو يعلم أنها تصرخ كل يوم بإجباتها منذ أن التقته لأول مرة! مد يده ليمسك يدي وأنا لا أزال أحاول التفوه بحرف يعبر عمل يعتمل داخلي من مشاعر ثائرة ظلت ترفض الحب واحد وعشرون عامًا إلى أن قابلته فنست معنى كلمة رفض ولم تعد تذكر سوى الحب، والحب كان يتلخص بعينيه.
استجمعت كلماتي وأنا أردف:
-بحبك يا حسن.. بحبك من أول ما عيني شافتك، من وقتها وأنا بحاول أهرب وكل مرة أفشل وكأني بغرق في حبك أكتر وأكتر ومفيش سبيل للنجاة منه.
-في يا نوال، نجاتنا في قربنا من بعض، في حبنا لبعض أكتر وتمسكنا ببعض.
جذبني من يدي برفق لأنهض، ثم قطف عدة زهور من البنفسج وأمسك يدي متجهًا خارج القصر، لم أسأله أين نذهب أو ماذا يفعل، والأساس بماذا تهم تلك الأسئلة طالما هو بجانبي؟! أنا الآن أملك قلبه والحياة بأسرها تتلخص بحبه لي فماذا سأريد أكثر!
أخذت أسير بجانبه ومشاعر الخجل تزداد بداخلي، كلما مررنا من جانب أحد أشعر أنه يصوب أنظاره نحونا وأن مشاعري صارت مرئية للجميع، وصلنا إلى "المنتزه"، وقف وهو يمسك يدي ويقول:
-كل حاجة كان ممكن تبتدي هنا من أسبوع لو أنا مامشيتش.
ابتسمت لأخبره:
-مش دايمًا يقولوا كل تأخيره وفيها خيرة، جايز ده حقيقي.
-مش مهم، المهم إن أنا جنبك دلوقتي.
مد ليه يده بزهور البنفسج وأخرج علبة قطيفة باللون الأزرق وفتحها ليظهر داخلها زهرتي بنفسج مطوية عيدانهما بشكل دائري أشبه بالخاتم، ثم قال بحب يظهر داخل عينيه:
-نوال نقدر نعتبر دول خواتم جوازنا لغاية ما أقابل رياض باشا الأسبوع الجاي.
استطرد بصوته العابث:
-وأهو بالمرة تبقى ذكرى حلوة لولادنا.
امتلأت عينيّ بدموع السعادة والبسمة الواسعة تعلو ثغري، لقد اقتحم الحب حصون قلبي بلا سابق إنذار، وأنا استسلمت له وتركت نفسي أغوص داخل مشاعر سحرتني بنقائها لأومئ برأسي بسعادة، وضع هو زهرة البنفسج حول إصبعي، لأشعر أنه وضع حوله جوهرة ثمينة لا تقدر بثمن، واحتفظ بالأخرى له.
احتضنني لأضع رأسي على كتفه وأنا أقف بجواره ممسكة يده وكل منا تعلو ثغره بسمة واسعة، وأخذ صوت "السِت" يعلو من حولنا بالراديو:
"مادام تحب بتنكر ليه؟ ليه؟ ده اللي يحب يبان في عينيه.. تصد عنى وتهجرني وأكلمك تهرب مني، وإن غبت يوم تسأل عني وأعرف هواك ساعة لقاك من طول جفاك.. واللي يحب يبان في عينيه، مدام تحب بتنكر ليه؟"
☆☆☆
مر أسبوع قضيت له أجمل أيامي ما بين اهتمام أبي غير المعهود وما بين حب حسن الذي يزلزل كياني وبذات اللحظة يرفعني عالية لأصبح كالمحلقة بالسماء، وأظنني كنت أسعد فتاة بذلك الأسبوع.
اليوم يكاد قلبي يتوقف من كثرة حماسه؛ فحسن سيأتي ليتحدث مع أبي بخصوص زواجنا الآن.
رأيته يدخل من بوابة المنزل وهو يرتدي بذلته السوداء واضعًا ربطة العنق التي لا تفارق ياقة قميصه عادة ولكن ما يميزها اليوم أنها ذات لون أزرق كلون عينيَّ، ابتسمت له وأنا أراه يتجه نحوي.
-لو ضحكتيلي كده كل ما تشوفيني هفكّر إني جان ووسيم.
قالها بصوته العابث الذي صرت أشتاق له حتى بنومي، فابتسمت أكثر وأنا أخبره:
-ومين اللي قال إن أنت مش جان ووسيم يا حضرة المحامي.
طبع قبلة حانية فوق يدي وهو يهمس لي:
-حاسس إني مالقتش حياتي غير معاكِ، والقلق بياكل فيا من يومين لا رياض باشا يرفض وياخد مني حياتي اللي ما صدقت لقيتها.
طمأنته بثقة:
-ماتقلقش هيوافق.
طبع قبلة أخرى فوق جبيني ليتجه بعد ذلك للمنزل بخطى هادئة متزنة، تبعته بعد دخوله لأراه يدخل غرفة المكتب مع أبي، وأخذت أنا أنتظر وكلما زاد الانتظار ازداد معه قلقي الذي صار أشبه بالهوة العميقة التي تجذبني داخلها أكثر بكل دقيقة، حاولت الاستماع لحديثهم عبر الباب ولكن لم يصل شيء إلى مسامعي فأجبرت على الانتظار فقط.
بعد وقت ليس بطويل -لم يصل لنصف ساعة- رأيت الباب يفتح وأبي يدفع حسن إلى الخارج وعلامات الغضب تعلو وجهه مرتسمة فوق كل سنتيمتر به ببراعة، ليسقط قلبي خوفًا من فقدان حبيب لم أنعم معه بعد.
استمعت له يصيح بغضب وهو يدفعه:
-على آخر الزمن ابن الجنايني اللي شكري باشا بيعطف عليه جاي يطلب إيد بنتي أنا.. نوال هانم بنت رياض باشا.
حاول حسن إيقافه وهو يقول برجاء:
-يا رياض باشا أنا ونوال بنحب بعض و...
قاطعه بغضب أكبر:
-بتحبوا بعض! لأ دي كده عيّلت خالص، حب إيه اللي بتتكلم عنه يا أفندي أنت!
-أنا بحب حسن، ومش هتجوز غير حسن يا رياض باشا.
قلتها بإصرار وأنا أقف أمامه ممسكة يد حسن، ولأول مرة يرى أبي ذلك التحدي بعينيَّ وبصوتي ليهتف بسخرية:
-بتحبي حتة عيل جربوع زي ده! ابن الجنايني، نوال هانم بتحب ابن الجنايني اللي صاخب السرايا بيعطف عليه.
قهقه بسخرية وهو ينهي حديثه، لأكرر حديثي بتحدٍ أكبر:
-أنا وحسن بنحب بعض وهنتجوز.. لو ماوافقتش يبقى غصب عنك يا رياض باشا.
أظلمت عيناه وغضبه يملأ كل ذرة به:
-اعملي حسابك إنك من تاني يوم جواز هتبقي أرملة يا.. يا نوال.
شدد حسن على كف يدي حين لحظ ارتجافي وخوفي ليهمس قائلًا:
-ماتخافيش، مافيش حاجة هتحصل.
ضحك أبي بسخرية:
-لأ ده هيحصل ويحصل يا حسن ونوال عارفة.
تركت يده بعجز ودموعي تداهم وجنتاي، بداخلي خوف عليه ورغبة بالبقاء بجانبه، وأنا أمزق بينهما بلا رحمة، وممن أستجدي الرحمة وأبي يتفنن بإيذائي؟!
-امشي يا حسن.
همست بها برجاء، ليردف هو بإصرار:
-مش هستسلم يا نوال، مش هسيبك بسبب شوية تهديد.
أطبقت جفنيّ على بعضهما بضعف وعدت أفتحهما مرة أخرى وأنا أسحب يدي من بين أصابعه بقوة قائلة بعجز:
-لو بتحبني امشي يا حسن.. امشي عشان لو جرالك حاجة مش هقدر أسامح نفسي.
هتف أبي بسخرية:
-امشي يا شاطر العب بعيد وتاني مرة تحب اللي شبهك متبصش لفوق أوي لا رقبتك تنكسر.
-ورحمة مامتك يا حسن امشي.
قلتها بضعف وأنا بداخلي يقين أنه سيذهب، ترك التشبث بيدي وهو يتلفت ليذهب جارًا خلفه خيبة أمله التي كنت أنا سببًا بها، مخفيًا دمعاته التي داهمت أهدابه، لأسقط أنا مغشيًا عليّ فور رحيله.
☆☆☆
استيقظت لأجد نفسي نائمة بغرفتي وبركة تجلس بجواري بقلق، فور أن رأتني أفتح جفنيّ حتى هتفت بسعادة:
-حمد لله على السلامة يا ستي، هو في عروسة يغمي عليها كده برضه.
ابتسمت بسخرية وأنا أردف بوهن:
-ماعادش لا في عروسة ولا نوال هانم يا بركة.
هتفت بتعجب:
-ازاي بس يا ستي؟! ده سي وحيد لسه ماشي ماكملش عشر دقايق وكان بيتفق مع رياض باشا على الجواز.
اعتدلت بجلستي مسرعة وأنا أسألها:
-وحيد! وحيد مين وجواز إيه؟! هو في إيه يا بركة؟
تلعثمت وهي تتحدث قائلة:
-يوه.. يخيبني يا ستي، أنا كنت مفكراكِ تعرفي والله، يا ندامتك يا بركة الساعة دي...
قاطعتها أنا بقلق:
-بركة قوليلي جواز إيه ووحيد مين؟
نهضت لتذهب بخوف وهي تقول:
-على عيني يا ست نوال والله بس حَكِم أنتِ عارفة رياض باشا لو قولت حاجة هيعمل فيا إيه.
ألقيت الغطاء أرضًا بغضب وأنا أنهض، فور أن وقفت داهمني الدوار لأمسك برأسي غير قادرة على السير لخطوة، اقتربت لتجلسني ثانية فدفعت يدها عني وأنا أحاول السير للخارج، فتحت باب مكتبه بغضب وأنا أقف أمامه وأصفع الباب من خلفي متسائلة:
-مين اللي قالك إني عايزة أتجوز عشان تدورلي على عريس؟ ومين وحيد ده أصلًا!
أردف ببرود يشبوه تحذير:
-نوال.. مش هنبهك تاني لنبرة صورتك وأنتِ بتكلميني، الظاهر كده إنك نسيتِ نفسك مع الواد الجربوع ده.
خبطت بيدي على المكتب وأنا أهتف:
-حضرتك اللي نسيت يا رياض باشا إن عندك بيت وعيلة وبنت، نسيت إن أنا بنتك آخ بس إنسانة ليها قلب بتحب بيه وتقدر تختار الشخص اللي هتتجوزه.
نهض ليقف وهو يحدجني بنظرات قاسية:
-كفاية دلع بنات لحد كده يا نوال، مشي مع الجدع اللي اسمه حسن وعديته، غلطات ماتوقعش فيها بنت رياض باشا وسكتت إنما صوتك يعلا وتخالفي أوامري مش هسكت يا نوال.
صفقت يديّ ببعضها وأنا أهتف بسخرية:
-أوامرك! أفهم بقى أنا بنتك لا أنا الطباخ ولا السوفرجي عشان تقولي أوامر!
-وافهمي أنتِ يا نوال إن جوازك من وحيد بعد أسبوعين.
حاولت التحدث ليصمتني بعنجهية قبل التفوه بحرف قائلًا:
-النقاش انتهي لحد هنا.
أنهى حديثه وهو يخرج من الغرفة تاركًا خلفه قلب مهشم، روح محاطة بدُجنة، وبقايا.. فقط بقايا من نوال، أي زواج وأي وحيد ذلك الذي يتحدث عنه! كيف أخبره أن قلبي يموت كل ثانية بسبب فراقه عن حسن، أن روحي تود لو تُسلب وترتفع لأعلى بعد تلك النظرة اللائمة التي حدجني بها صباحًا، أن عينيّ تود لو تُعمى عن رؤية كل شيء ماعداه هو؟ كيف أخبره بكل هذا وهو أمات قلبه ومشاعره منذ سنوات عدة؟!
☆☆☆
"مقلة العين ومستوطن القلب حسن..
سلامٌ عليك محمل بالجوى الذي يؤلم روحي، أما بعد:
هلا جعلت قلبك يغفر لي تلك الكلمات التي تفوهت بها صباحًا، والتي إذا كانت جرحتك مرة فقد جرحتي ألف مرة يا حسن، هلا سامحتني على تصرف بدر من قلب يعشقك ويرتعد خوفًا من تخيل إصابتك بمكروه.
أود إخبارك أن كل شيء بس اشتاقك ويود لو يصرخ باسمك ولكن بلا جدوى؛ فهذا لن يرجعك لي، لن يمسد على روحي الضائعة بغيابك ولا على أناملي التي اشتاقت لملمس خصلاتك الناعمة.
لقد علمت أن أبي يريد تزويجي بشخص آخر وأنا عالمي يقبع داخل بنيتيك، هلا جمعتني بعالمي الليلة يا حسن؟ سأنتظرك بمنتصف الليل بالمنتزه، تعال إذا كنت على استعداد للهرب معي؛ فحبنا سيكتب عليه الموت إذا ظللنا هنا، فلتتعاون معي ولننقذ ما بقيّ لنا من أيام، أريدك أن تعلم أنه مهما كان قرارك بالمجيء أو الرفض أن فؤادي سيظل معك أبد الدهر، لن يرحل، ولن يقلع عن حبك طالما يخفق، سأنتظرك وكلي شوق للقائك.
مخلصتك نوال".

كانت تلك الرسالة التي كتبتها له وعبراتي لا تأبى الهطول، أعطيتها لبركة كي توصلها سرًا، واستعددت أنا للهرب من جحيم رياض باشا للأبد.
أتى الموعد المرتقب الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر كالجالس على الجمر، نهضت وأنا أسير خارج المنزل أودعه بنظراتي، فرغم أنني أمقته ولكن ذكريات حبي له بأكملها تجتمع داخله، سرت بجوف الليل متجهة نحو "المنتزه" وظللت أنتظر وأنتظر، لا أضع احتمال لعدم مجيئه، فقط أنتظر وأحلامي تغزو عقلي وفكري، تصور لي حياة هادئة سأنعم بها معه.
☆☆☆
رأيته يهرول متجهًا نحوي وهو لايزال مصرًا على عدم التخلي عن ربطة عنقه حتى أثناء هربنا!
جريت نحوه مسرعة وأنا أرتمي بين أحضانه ملقية ما بجعبتي من ألم على هيئة دموع بين ذراعيه حين يقتن هنا أماني ومسكني، مسد هو على ظهري برفق وهو يهمس لي:
-ماتبكيش يا نوال، اطمني، طول ما إحنا مع بعض كل حاجة هتكون بخير.
وضع أصابعه أسفل ذقني وهو يرفع وجهي نحوه ليمعن النظر داخل زرقاوتيّ، ثم طبع قبلة رقيقة فوق جبيني وهو يهمس من بين شفتيه قائلًا:
-بوعدك إني هفضل جنبك طول ما فيا نفس، عمري ما هتخلص عنك يا نوال.
أمسك يدي لأترك أناملي تستريح بين يده وقلبي يستكين بجانبه، ولكن تلك السكينة لم تدم طويلًا حين رأيت أبي يتجه نحونا مع رجال الشرطة والقلق يرتسم على ملامح وجهه ببراعة، هرول نحوي وهو يعانقني مدعيًا الخوف عليّ، الخوف الذي لم أشعر به وأنا بين أحضانه الباردة، قاطع تعجبي همسه بجانب أذني:
-لو ماتهمتيش حسن إنه كان هيخطفك هقتله يا نوال.
نزلت كلماته عليّ كالصاعقة وعلى قلبي كالنصل الذي مزقه لأشلاء والسبب أبي.. السبب من يفترض أن يكن ملاذي حين تقسو عليّ الحياة!
-مطلوب القبض عليك يا أستاذ حسن.
هتف بها الضابط بعملية، لتعلو ملامح الصدمة وجه حسن وهو يسأل:
-بتهمة إيه؟!
أجاب الضابط مشيرًا نحوي:
-خطف نوال هانم.
مد يده ليمسك أناملي مرة أخرى وهو يقول:
-بس ده ماحصلش، نوال جاية معايا بإرادتها.
نظر لي منتظرًا ولو كلمة مني لتؤكد حديثه ولكنني صمتت.. صمتت ولم أنبس ببنت شفة كما لم تتحرك أناملي قيد أنملة لتمسك يده المعلقة بالهواء، نظر لي بعدم تصديق وهو يحثني على الحديث:
-اتكلمي يا نوال.. قولي وماتخافيش، ماحدش هيقدر يعمل حاجة.
عادت جملة أبي تتردد بأذني ونبرة صوته التي تحمل كل صدق مطعم بالقسوة تخترقني لتجبر لساني على التحدث بما لم يرجُه يومًا، استجمعت شجاعتي مبعدة أنظاري عن نظرات حسن التي تتغلغل لروحي تحرقها، ثم قلت بثبات مصطنع:
-حسن.. حسن كان بيحاول يخطفني.
قلت آخر كلمة بحديثي بصوت مرتعش وغصت بعدها ببكاء مرير، احتضنني أبي متصنعًا الحزن وهو يقول:
-زي ما حضرتك شايف بنتي خافت قد إيه، ياريت المجرم ينال عقابه.
"مجرم" كلمة ظلت تتردد داخلي وأنا بين أحضان المجرم الحقيقي والحسرة تنهش بقلبي، لقد وضعت الأصفاد حول يديه وهو لايزال صامتًا لا يتحدث، فقط يحدجني بنظرات مليئة بالخيبة، بالرجاء ألا أستسلم، ولم يكن يعلم أن نظراته تؤلم روحي أكثر وتغرقها بأشجانها التي ستحيا معها لسنوات.
☆☆☆
مر على ذلك اليوم ثلاثة أيام، وأنا لا أزال سجينة غرفتي أقضي يومي ما بين بكاء وحزن لن يجدي نفعًا، نظراته تأبى الرحيل من أمام عينيّ إلى تلك اللحظة وكيف أنساها وهو نظر لي وكأنني أنا من قتلت ذلك الحب بكل قسوة!
أخرجني من شرودي استماعي إلى صوت شخص ما يصرخ بالحديقة هاتفًا:
-فين رياض باشا، عايز أشوفه حالًا.
نظرت من الشرفة فرأيت شكري باشا، كادت قدميّ أن تخطو لتتجه لأسفل عنده ولكن صوت ما بداخلي أوقفني وكأنه يسخر أن أكن أنا السبب وأنزل لأواسي والده! ظللت واقفة بمحلي لأرى أبي يتجه نحوه ببرود متسائلًا:
-أي خدمة يا شكري باشا؟
نظر له الآخر بنظرات غير مصدقة وهو يهتف بغضب:
-هو أنت بتقتل القتيل وتمشي في جنازته! ابني يخرج من السجن زي ما دخلته ظلم يا.. يا باشا.
هتف بآخر كلمة بسخرية وهو يمرر نظراته من أعلى لأسفل، ليقهقه أبي بعنجهية قائلًا:
-آه تقصد الواد ده اللي أنت بتعطف عليه...
قاطعه بجمود:
-ابني يا رياض.. ابني حسن.
-ابنك عندك في السجن يا شكري باشا بيتعاقب على طيش شباب عمله مع بنتي.
-أنت واعي للي بتعمله وتقوله! دول اتنين كُبار حبوا بعض وعايزين يتحوزوا، فين الغلط؟ فين الخطيئة اللي بتعاقبهم عليها؟!
هتف بجمود:
-الغلط حبهم، والخطيئة إن ولاد الجناينية يبصوا لأسيادهم ويحبوا يا باشا، حسن ماكانش ينفع يفكر يحب نوال هانم بنت رياض باشا من الأساس.
صمت برهة وهو يكمل بغرور:
-وأديني بديله الدرس اللي أنت ماعرفتش تعلمهوله إنه ميرفعش عينيه لفوق أوي لا رقبته تتكسر.
أنهى حديثه وهو يدخل للمنزل ببرود، بعد أقل من دقيقة رأيته يقف أمامي بداخل الغرفة بعدما فتح الباب دون طرقه و يردف:
-وحيد جاي يتعشا معانا، واعملي حسابك إن الفرح الأسبوع الجاي.
أنهى حديثه وذهب دون حتى الاستماع إلى إجابتي التي لم تهمه يومًا.
☆☆☆
حل المساء لأجبر على الجلوس مع ذلك المسمى بوحيد الرجل المطلق ذو الثلاث أبناء، وحيد ذو السترة ذات الياقة المرتفعة التي تخفي عنقه وتكاد تخفي وجهه، ذو الشعر المصفف بفرق من الجانب ولا يتحرك ولو حركة طفيفة وكأنه ملصق ببعضه، ذو الأحاديث التافهة التي لا تنتهي والتي كنت مجبرة أنا على مسايرته بها، بل وتصنع اهتمامي بها؛ فنظرات أبي تقسم أنني إذا خالفته سيقبض روح حسن كعزرائيل، مر عليّ ذلك الأسبوع بذات الوتيرة وأنا غير مصدقة أنني سأقضي بقية حياتي بذات الشكل.
☆☆☆
"عزيزي حسن..
سلامٌ عليك مليء بكل الحب الذي لن يطمسه الزمان، أما بعد:
مرت ثمانية أيام وأربع ساعات على الفراق وقلبي لايزال يصرخ باسمك متمنيا لقاء أصبح مستحيلًا، روحي لاتزال تحترق كلما تذكرت نظراتك بذلك اليوم، لا أستطيع حتى طلب العفو منك؛ فأنا لم أسامح نفسي بعد لتغفر أنت لي فعلتي تلك.
أود إخبارك أنني سأتزوج غدًا، سيعقد قراني على رجل أمقته أكثر من كل شيء بتلك الحياة، أعلم أنني مهما بررت لك أفعالي ستكرهني، فليكن إذًا، فأنا يكفيني أن تظل بخير دائمًا يا حسن ولن تظل هكذا سوى بابتعادي عنك، فلتتخلَ عن حب مسربل بالشقاء ولأترككَ أنا كأجمل ذكرى حية بقلبي، ولأعتذر لك لأنني سقطت بعشقك.. سقطت بعشق رجل يملك أنقى قلب بذلك الكون المليء بالشياطين.
الليلة فقط يا حسن أيقنت أن الأرض لا تحمل بين جوفها سوى القسوة.. قسوة مميتة تفتك بالقلوب وتهشمها لتجبرنا على النضوج والشعور بالقنوط طامسة كل ذرة أمل كانت بداخلنا يومًا.
تلك آخر رسالة سأكتبها لك لأحملك بعد ذلك داخل طيات قلب وأنا أترك معك كل جميل بحياتي لن أشعر به يومًا بعيدًا عنك، ستظل ذكراك حية داخلي أبد الدهر، أعدكَ.
المخلصة لكَ دائمًا نوال".
كان ذلك آخر ما كتبته له، أو بالأصح آخر ما قرأه هو؛ فأنا ظللت أكتب لسنوات طوال غير قادرة على إرسال أي خطاب له.
نمت تلك الليلة وعبراتي هي من رافقتني طيلة الليل، حاولت مرارًا وتكرارًا إخراجه من قلبي وكنت أفشل بكل مرة، علمت بالنهاية أنه لن يخرج من داخلي سوى بخروج روحي؛ فهو لن يصبح بطي النسيان سوى برحيلي الأبدي.
☆☆☆
ارتديت فستان زفافي، ذلك الفستان الذي ظل يراود أحلامي لليالٍ طويلة، ولكنه لم يكن وحده بل كان دومًا ما يلازمه حسن بالحلم، وها هي الحياة تلقي بأحلامي بعرض الحائط لتجبرني على الزواج من شخص لا أطيق سماع اسمه، فيتحول اليوم من زفافي ليوم عزاء.. عزاء دفني لذلك الحب المستحيل داخل قلبي للأبد.
وتزوجت وحيد المطلق ذو الثلاثة أبناء، ثلاثة أبناء رعيتهم كما ترعى الأم فلذات أكبادها، رغم مقتي لوالدهم الذي كلما كان يزداد كان يزداد معه اهتمامي وتعلقي بهم، وظل حسن يراسلني طيلة سنتين.. سنتين يرسل فيهما خطابات بلا أن أجبه على أي منها، لا أعرف حتى من أين عرف بعنواني؛ فأنا يكفيني أنه بخير وفقط حتى إذا كان بعيدًا عني ولكنه لايزال بخير وهذا يكفي قلبي.

"خليلة لياليّ الباردة نوال..
سلامٌ عليك محمل برائحة الحب الأبدي الذي أحمله داخلي، أما بعد:
أكتب لكِ من داخل ذلك السجن ذو القضبان الحديدية، الجدران الباردة، الدجنة التي لا تنتهي مهما طال النهار، أصارحكِ من داخل سجن قلبي يا مُهجة الفؤاد التي ما إن أتذكر ملامحكِ حتى يبتسم قلبي بهيام لا يدم طويلًا؛ فسرعان ما تتكالب عليّ الأشواق وتجتاحني لأسقط داخل تلك الهوة المليئة بالجوى، فرغم النوى لايزال عشقك بالقلب نابضًا.
أعلم أنكِ ترفضين مراسلتي خوفًا من أن يطرق الأمل أبواب قلبي بعودة بعد فراق، ووالله يا لبابة القلب إن الأمل بلقائك أصبح خليل قلبي منذ الفراق، الفراق الطويل الذي كلما ازداد يزداد معه السقم داخل فؤادٍ لم يضعفه يومًا سوى عشق نوال هانم ابنة رياض باشا، ولعل ما يؤلمني أكثر أنني أشعر بحبكِ، بعذابكِ، واشتياقكِ الذي يمزقك كل ليلة.
أكتب لكِ اليوم لأعلمكِ أنني لم أرَ من تلك الحياة سوى كل صلف إلى أن أتى يوم لقائكِ ووجدتها تحمل كل خير بين عينيكِ، لأعلمكِ يا مالكة القلب أنني سأظل أحبكِ منتظرًا الردى علّني حينها فقط.. علّني أتخلى عن حبكِ ويصمت وجيب قلبي الذي لا يهتف بشيء سوى اسمكِ، وعلّ حينها فقط أنسى رائحتكِ التي تداهمني بهزيع الليل مضرمة بي المشاعر بلا رحمة.
هلا وعدتني أن تحبيني من جديد كل ليلة كما أفعل أنا؟ ولأعدكِ أنني سأظل أنتظركِ إلى أن تعودي لي ولو بعيد حين.
القابع خلف القضبان.. حسن".

كانت تلك رابع رسالة استلمتها منه قبل خروجه من السجن وقبل أن يسحب أبي شكواه، جلست أعيد قراءتها مرارًا وتكرارًا هي وبعض الرسائل الأخرى حينما مر شهر على عدم مراسلته لي.. شهر كامل لم يراسلني به وتلك ليست عادته أبدًا، بدأ القلق يجتاحني والكوابيس تحاوطني والصبابة لا ترحم القلب ولا الروح، قررت سؤال أبي عنه؛ فهو وعدني منذ ليلة الزفاف أن يسحب شكواه ويُخرجه من ذلك السجن، وأنه سيظل يتابع أخباره ويطمئنني على أحواله، ولكن لا خبر منذ شهر!
-بابا حسن.. حسن كويس؟
لحظت ارتباكه فور أن لفظت باسمه، أخذ ينفث دخان تلك السيجارة بيده وهو يتصنع الهدوء:
-إيه فكرك بيه؟
نظرت نحوه باستهزاء وأنا أهتف:
-إيه اللي فكرني بيه! وأنا من امتى كنت نسيته أصلًا! صدق بقى يا رياض باشا إنك قتلتني يوم ما خلتني أتجوز وحيد وإني يومها كنت حاسة إني بلبس كفني مش فستان فرحي.
-ماعادش لُه لزوم الكلام ده، أنتِ دلوقتي حرم وحيد، وانسي بقى الجدع اللي اسمه حسن ده.
تجاهلت حديثه مكررة سؤالي:
-حسن كويس؟
ألقي ذلك الكوب الذي كان يمسكه بيده بغضب وهو يقول بغضب:
-اتجوز.. حسن اتجوز وسافر.
تزوج! كلمة أخذت تتردد داخلي غير مصدقة لها، كلمة واحدة حطمت قلبي ليصبح حطام، كلمة واحدة كانت قادرة على أن تفري روحي داخلي، وأن تجعل عينيّ تذرف الدموع بلا توقف، نهضت أقترب منه بخطوات مرتعشة أمسك يده برجاء قائلة من بين شهقاتي:
-اتجوز! حسن لا يمكن يكون اتجوز.. وحياة أغلى ما عندك قول الحقيقة.
جذبني بقوة لأنهض وهو يقول مثبتًا أنظاره نحو عينيّ:
-حسن اتجوز.. سافر واتجوز صدقي بقى، فوقي من اللي أنتِ فيه وعيشي حياتك، انسيه زي ما هو نسيكِ.
أنساه! وكيف أحيا بعد نسيانه؟! إذا كان يشعر الآن بتلك الآلام بصدري لما استطاع التفوه بكلمة واحدة تحمل كلمة نسيان، خرجت من المنزل بانهيار أسير بتلك الحديقة الشاهدة على حب قُتل بكل دمٍ بارد، أشم زهور البنفسج وأذكر رائحته، همساته، لمساته، صوته العابث الذي كنت أستمع له بقلبي وليس بأذنيّ، أذكر كل تفصيلة كان هو بطلها قبل الفراق، أذكر وعود قطعناها بجانب تلك الزهور، سرت نحو "المنتزه" ولازالت دموعي هي رفيقتي كما كان الحال قبل سنتين، ظللت واقفة هناك قرابة الثلاث ساعات بلا حركة، فقط أوجه أنظاري نحو أمواج المياه الثائرة كقلبي تمامًا، قلبي الذي يود الرحيل من داخلي وروحي التي تود لو تحلق لأعلى.
بذلك اليوم فقط أيقنت أن بقية حياتي لن تكن سوى كابوس.. كابوس مرعب مجبرة على عيشه للنهاية بكل تلك التفاصيل المؤلمة التي تقتلني بكل لحظة منذ زواجه ورحيله، رحيله عني لأحضان امرأة أخرى ستغدق عليه بمشاعرها وبقاءه داخل أعماق فؤادي دائمًا وأبدًا.
☆☆☆
١٩٨٧م .
مر على زواج حسن وسفره للخارج اثنان وثلاثون عامًا ولايزال القلب يبكي دمًا، صعدت روح وحيد لخالقها منذ عدة شهور قليلة، لم يكد يمر سوى أسبوع بعد موته حتى بدأ أبنائه يفكرون ببيع المنزل والطبع لم يكن هنالك عقبة سواي أنا.. سوى تلك المرأة التي رعتهم وتعلقت بهم كوالدتهم، لينتهي بهم الأمر بإلقائي بأول دار رعية للمسنين ظهرت أمامهم متناسين سنين أضعتها فقط برعايتهم والاهتمام بهم، متناسين أنني أنا تلك المرأة التي ينادونها ب"أمي"، على ما يبدو أن وحيد أورثهم جمود المشاعر والقسوة بحرفية كي ينسوا أربعة وثلاثون عامًا أغدقت عليهم فيها بالمشاعر الفياضة التي لا تنتهي من شعور المسؤولية نحوهم، وها هم بالنهاية يلقون بي هنا ب "دار للرعاية" مع الكثير ممن يشبهوني بالحظ السيء.. الكثير ممن لم ينجبوا بشرًا بل أشباه بشر.
☆☆☆
مرت شهوري الأولى هنا بذات الوتيرة التي لا تخلو من الوحدة إلى أن تعرفت على نادية، تلك المرأة بشوشة الوجه القابعة هنا مع زوجها كمال الذي لايزال يحمل بين عينيه عشقًا لا ينتهي، تعرفت أيضًا على روزيلا -أو روز كما تحب أن نناديها- صاحبة دار الرعاية، تلك الفاتنة الإيطالية الجنسية التي انتقلت للعيش بمصر مع زوجها ألبيرتينو منذ قرابة الأربعون عامًا، قاما بفتح هذا المكان منذ خمس سنوات، وللحق لم أرَ امرأة تَعشق كروزيلا؛ فرغم تلك المصاعب التي واجهتها للزواج إلا أنها لم تستسلم لا لأب يرفض زواجها من شخص أقل منها اجتماعيًا ولا لأم تحلم بزواج ابنتها من رجل أرستقراطي، لم تستسلم كما فعلت أنا، وبالنهاية تعرفت على ممدوح ذلك الرجل الغامض، الذي يحوي بداخل عينيه كل الشجن، الذي أستمع إلى صوت بكائه كل ليلة بجوف الليل.
وهكذا انتهت حكايتي.. حكاية عشق نوال وحسن التي مزقتها الأيام والليالي، التي طمسها الفراق ساحبًا آخر ذرة أمل بداخلي للقاء جديد، لينتهي بي الأمر هنا وسط ذكرياتي التي لم تترك قلبي يومًا، وسط رسائله الكثيرة التي خطها لي بقلبه وليس بأنامله والتي لازالت تحتفظ برائحته، لازلت أجلس كل ليلة بجانب زهور البنفسج التي زرعتها بالحديقة فقط لأذكره، أنام كل ليلة متمنية أن تحلق روحي بالسماء عاليًا فقط كي ألقاه ثانية، وحين أفتح عينيّ صباحًا أعلم أن أحلامي ذهبت بمهب الريح كحبي تمامًا، وأخذت تمر الأيام وتمر وأنا لا أزال هنا بدار الرعاية.
أغلقت نوال ذلك الدفتر أمامها الذي ظلت تكتب به لعدة ليالٍ طويلة تُذكِرها بكل ألم عاشته ولاتزال تعِشه حتى تلك اللحظة بفراق حبيب باتت تجهل عنه كل شيء، حبيب كان يعشقها كما لم تُعشق امرأة من قبل.
جمعت رسائله الكثيرة أمامها والتي ظلت الليلة الماضية تضمهم لصدرها وهي تستنشق رائحته العالقة بهم رغم الزمن، وضعتهم بذلك الصندوق الخشبي وحملت ما بجعبتها من أحزان لتخرج للجلوس بالحديقة، علّ نسمات الهواء العليل تزيح الأحزان من قلبها ولو قليلًا.
-خلصتِ كتابة؟
هتف بها ممدوح متسائلًا حينما استمع إلى صوت وقع أقدام يأتي من خلفه؛ فهو قد اعتاد على جلوسه وأحاديثه الليلية مع نوال التي صارت الأقرب له منذ أن وطئت قدمها الدار وكأنها رفيقة روحه التي وجدها متأخرًا جدًا.
جلست على الكرسي بجانبه وهو تستند على يده بوهن، تنهدت بشرود وهي تجيب:
-خلصت كتابة.. خلصت ولسه مش راضي يطلع من جوايا.
-مش هيطلع يا نوال، حسن بقى جزء منك لو طلع من جواكِ هتتوهي من نفسك.
صمتت وهي تثبت أنظارها بالسماء وكأنها تناجي روحه وتحدثها، بعد وقت ليس بطويل قطعت الصمت متسائلة:
-لسه سهران كل ده ليه؟
ابتسم بجسرة وهو يجيبها:
-النوم متحرم عليا من ست سنين يا نوال.
-بدأت تكتب؟
-أكتب إيه؟ أنا مش قادر أسامح نفسي عشان أكتب يا نوال، أنا لسه حل يوم عذاب الضمير بيموتني، أنا كنت.. كنت أناني.
ضغطت على يده برفق ومشاعر أخوية وهي تقول بصوتها الهادئ:
-غلطت وندمت يا ممدوح زي أي إنسان وجه الوقت اللي لازم تسامح نفسك في، هتفضل لحد امتى عايش كده؟
-لغاية ما روحي تروح للي خالقها يمكن وقتها أقدر أسامح نفسي.
-عمرك ما كنت ضعيف كده يا ممدوح، من أول ما عرفتك وأنت مش كده.
شرد داحل ذكرياته التي تؤلم روحه وهو يردف بحسرة على أيام مضت:
-فضلت أحوش في ضعفي جوايا سنين ورا سنين لغاية ما ماعُنتش قادر أحوش تاني، وأهو خرج وبقى ظاهر للكل زي ما ظهر لزينب من سنين وبرضه ماسامحتنيش.
صمتت برهة تخرس بها مشاعر تحثها على البكاء بسبب حزن رفيق روحها، ثم قالت:
-يبقى جه الوقت اللي لازم تتعلم تسامح نفسك فيه يا ممدوح، لازم تتعرف على نفسك من الأول عشان تقدر تسامحها.
صمت لدقائق معدودة، وهي لا تحيد بأنظارها عنه متيقنة من داخلها أنه سيكتب فقط لأنه بحاجة لمسامحة نفسه، بينما كانت تقف نادية بجانب كمال بعيد عنهم وهي تمسك يده قائلة بحزن:
-ممدوح مش هيقدر يكتب، مش هيقدر يصارح نفسه بشخصيته اللي دفنها من كتر ما كرهها.
شدد على يدها يطمئنها:
-نوال جنبه ماتخافيش، أنتِ عارفة إنها أقرب حد ليه وهتساعده.
أخذت تردد الكثير من الدعاء لممدوح ونوال وهي تميل برأسها لتضعها على كتف كمال ويقبل هو رأسها بحنان.
نهض ممدوح بعد قليل من الوقت عازمًا على التعرف إلى نفسه من جديد، عازمًا على مسامحة نفسه التي طمسها منذ سنوات عدة، ورغم أنه لم ينبس ببنت شفة ولكن نظراته كانت كافية لتعلم نوال أنه سيكتب كي يغفر لنفسه أخطاء اقترفها ودفع ثمنها بأغلى ما يملك.
دخل غرفته وهو يجلس على كرسيه بوهن، أخرج دفتر من الدرج وفتحه، ثم أخرج صورة بها العديد من الأشخاص ووضعها أمامه ممررًا يده فوق الجميع وكأنه يراهم أمامه؛ ثم قبل الصورة وهو يمسكها بأنامل مرتعشة، وأعادها أمامه مرة أخرى ممسكًا القلم ليبدأ بتدوين ماضٍ خلف داخله روح مهشمة...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.