MazagElkotob

شارك على مواقع التواصل

يقع تل مكين على قمة جبل كان يومًا صعب الاختراق جدًا، لانحداره الشديد ولكثافة غاباته المليئة بالحيوانات المتوحشة الرابضة لاستقبال أي متطفل واستضافته استضافة أبدية لا رجعة بعدها. ولمدة طويلة من الزمن بقيت الغابة والتل عذراوين لم يدنسا.
كانت البلدة الصغيرة الوادعة التي تستلقي في سفح الجبل تنظر إلى التل برهبةٍ وإجلال فهو منزل الآلهة. وكانت تتحاشى إثارة غضب حراس غابته المقدسة، ولكن ذلك لم يكن كافيًا ليعيشوا بسلامٍ وأمان. فقد كان يُطلب منهم بين الحين والآخر تقديم قرابين وأضحيات متنوعة ما بين حيوانية وبشرية، ويُصبح الأمر في غاية السوء في أيام المجاعات والقحط. حيث يُرغم الناس على تقديم قوتهم وقوت أولادهم. ففي زمن الجوع قد يقطع الجائع جزءًا من جسده ويأكله ليستمر في الحياة. وكان ذلك يسقط على سلوك الآلهة أيضًا.
كان حراس الغابة المتوحشون يربضون على أطرافها ليس خوفًا وإنما ليتركوا فرصة لفريستهم أن تشعر بالأمان وتقترب إلى مسافة كافية تسمح لهم بالانقضاض عليها وحملها على رحلتها الأخيرة. وقد تعايش سكان القرية مع هذا الوضع المزري، ألّفوه وقبلوه، فلم يعد فقدان بقرة أو ماعز أو حتى طفل صغير أو عجوز ما يُثير الدهشة أو الحنق.
كان أهل الضحية وحدهم من يرزحون تحت ثقل الحدث. يشعرون بالحزن والأسى لمصيبتهم التي غالبًا ما ينسونها رويدًا رويدًا عائدين إلى ممارسة حياتهم الطبيعية.
كان الشيخ مسعود، كبير القرية وحكيمها يقول في محاولة لتهوين الأمر على المنكوبين، وموجهًا رسائل مضمرة للآخرين فمن المحتمل أن يكون أي منهم هو المنكوب التالي.
يجب علينا ألا نحزن ونرثي الفقيد فللأمر وجهٌ آخر أعظم وأسمى، فهذا الذي نراه خسارة وفقدانا، وننظر إليه بمفهومنا القاصر على أنه أمر سئ إنما هو شيء آخر مناقض تمامًا لنظرتنا، إنه عمل الآلهة، أحبته الآلهة فاصطفته ليذهب إلى جوارها، لقد اختار هذه الرحلة بملء إرادته لم يقل لأحد، ولكن الآلهة تعلم ما في النفوس فتختار إلى جوارها من هيَّأ نفسه للقائها. اغتبطوا للراحل فقد انتقل إلى مكان أسمى وأجمل من هذه الحياة القاسية التي نعيشها، يجب علينا ألا نستنكر الحدث بل أن يكون مطلبنا الأول والأهم هو هذه الرحلة المقدسة التي لا بُد من خوضها يومًا.
ويتفرق الشمل مكررين كلام الشيخ ومعددين مناقب الفقيد مبتعدين عن أي فكرة قد تفهم على أنها رفض أو استنكار.
وكانت تصدر بين حينٍ وآخر بعض الاعتراضات، وبعض الأسئلة المُشكّكة يُطلقها شُبّان صغار من أقرباء المغدور تاركين للمنطق العنان في بيئة لا منطق ولا رادع فيها.
ـــ ولكنه لم يختر الرحيل هذا الكلام غير صحيح، فقد كان بالرغم من سني عمره يحب الحياة ومتمسّك بها تمسّك الطفل بدميته الجميلة.
ـــ وما أدراك أنت؟ الآلهة وحدها من تعرف وتُقرر، وقد قررت أن ساعته قد حانت.
ـــ الآلهة هي التي قررت أم الذئاب؟
ـــ بدأت تدخل دائرة المحظور أيها الفتى، ارضَ واقبل بما يحدث، فلا مكان لمتمرد أو متردد بيننا.
ـــ ولكن لماذا تتخذ الآلهة دائمًا شكل الذئاب والحيوانات المفترسة، لماذا كل هذا الوله الوحشي للدم والقتل؟ لا بُد أن لها قلب حيوان متوحش أيضًا كما لها هذا الشكل الوحشي.
وكان الشيخ يكتم حنقه وتبرمه من هكذا مجادلات، فكلما حاول نسيان هذه الأسئلة التي بقيت تؤرقه لزمن طويل، عاد شخص ما من دون أن يدري وأعادها إلى ذاكرته حية وفتية.
ـــ أنت لا تُدرك ما تقول، لا تعرف شيئًا البتة.. انتظر فالزمن كفيل بأن يُعلّمك كيف تُفكّر قبل أن تتكلم، كيف تحترم الآلهة، وستعرف يومًا طريق الصواب والرضا.
ــ تبًا للآلهة...
انزلقت الكلمة بينهم كأفعى سامة أثارت فيهم اشمئزازًا ونفورًا ورغبةً في التخلّص من الخطر.
وتهيؤوا لحرب التطهير، وفي نيتهم إرسال المتكلم الحزين الغاضب ليجتمع بمن فقد.
ـــ كيف تتجرأ على الآلهة أيها الوضيع؟ صاح الحشد. يجب أن تدفع ثمن هذه الخطيئة، يجب أن تُكفّر عن هذا الذنب. ستكون حياتك ثمن تطاولك.
ولكن الشيخ يتدخل في الوقت المناسب تاركًا فترة من الزمن لكي يستوعب المتكلم الدرس القاسي، فيهدأ من سخط الآخرين وهياجهم قائلًا بأن المتكلم لم يدرِ ما يقول، وأن كلماته قد صدرت في ثورة غضب وحزن منعاه من التفكير ويُردد الحكمة التي تقول بأن الآلهة لا تؤاخذكم على ما يصدر عنكم عند الغضب أو غياب العقل. لإن الآلهة هي العقل الكلي المطلق وأنتم شذرات تائهة من هذا العقل الكلي، فإذا ما غابت عنكم فكأنكم غير موجودين، وليس عليكم حساب أو جريرة. كان الشيخ مسعود يقول هذا الكلام وهو ينظر في عيني المتكلم اللتين تفيضان بالشكر والامتنان لإخراجه من هذا الموقف الخطير ومن غضب هؤلاء الناس الذين كانوا ليضحوا من أجله بكل شيء لو كان الموضوع مختلفًا.
وفي آخر حادثة كانت الضحية شابًا يافعًا فقد أمه وفقد معها كل إحساس بالعدل والإيمان.
دخل الشيخ إلى بيته ساهمًا وكعادتها زوجته نزهة تستقبله بكم من الأسئلة عن الأحداث الجديدة.
رفع الشيخ يده بإشارة تعرفها نزهة جيدًا فلا تُكرر المحاولة ثانية في الوقت الحالي، فهي تعرف أن الشيخ في حالة من تلك الحالات التي تُصيبه فيُصبح ميَّالًا إلى العزلة والصمت.
ولقد أصبحت هذه الحالات تتكرر كثيرًا في الآونة الآخيرة.
هل أُحضر لك شيئًا؟ قالتها بشفقة وحب.
كأسًا من الشاي الثقيل والصندوق المُذهّب الصغير.
استلقى الشيخ على الأريكة محلّقًا بمخيلته مسترجعًا كل الكلام الذي قاله المتمردون كما كان يُسميهم، لا كصيغة اتهام وإنما بصيغة تفهّم واحترام وتقدير.
دخلت نزهة حاملة صينية الشاي والصندوق ووضعتهم أمام الشيخ النائم بكل روية وهدوء لكي لا توقظه. ثم تخرج وتُغلق الباب على كلمة شكرًا التي قالها الشيخ وهو يستوي في جلسته. كان يقول في نفسه: لقد كنتُ في صباي وشبابي مثل هؤلاء الشبان الذين يعترضون على
ما يحدث محاولين فهمه. وعلى الرغم من كل تلك السنوات والأحداث المتكررة، ما زالت أفكاري وهواجسي حية متجددة.
لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟
كم هائل من التساؤلات التي ليس لها إجابة، أو ربما كانت الإجابة واضحة جدًا، وقريبة جدًا. ولكنها لقربها الشديد منا ووضوحها لا نراها، ربما نبحث في المكان الخطأ.
أمسك الريشة بللها بالحبر وبخط عريض وجميل كتب في أعلى الصفحة:
لماذا؟
لماذا خُلقت الآلهة؟ من الذي خلقها؟ هل خلقت نفسها بنفسها؟
هل هي التي خلقت البشر أم أن البشر هم الذين خلقوها ورويدًا رويدًا نسوا أو تناسوا صنعتهم، وأصبحوا لها طائعين كمن كذّب كذبة على سبيل النكتة ثم وبمرور الزمن وتكرار الكذبة أصبحت حقيقة مؤكدة.
هل هي من بنات أفكارنا أم أننا نحن من بنات أفكارها؟
وإذا كنا من خلقها فمن خلقها إذًا؟ وإذا كنا من خلقها فمن خلقنا؟
وبعد الكثير من التساؤلات والاستفسارات والإجابات التي يحتفظ بها لنفسه، ولا يجرؤ على البوح لأحد كائنٍ من كان حتى زوجته نزهة. بل يترك هذه المهمة الصعبة لريشته وحبره وأوراقه، ثم وبخطٍ مختلف يُنهي كتابته بالعبارة التالية:
إنها كذبة كبيرة، نكتة، ولكنها نكتة تُثير السخط والاستخفاف وحتى البكاء منها وعلى من صنعها.
ثم يطوي أوراقه ويضعها بعناية في صندوقه الصغير الملئ بالنكت المشابهة، يضع الصندوق جانبًا ويُمسك قدح الشاي يشربه بهدوء وقد امتصّت الأوراق ضيقه وحزنه، ينادي زوجته
التي تدخل مبتسمة فقد عرفت أن الغمامة زالت.
ــ حمدًا للآلهة أنك بخير.
- شكرًا، بعض الكدر وزال.
قالها الشيخ وهو ينظر إلى المرأة الطيبة الحنون:
ــ وما سبب هذا الكدر المفاجئ؟ ماذا حدث في القرية؟
كانت الزوجة تعرف أن هناك شيء يهز الشيخ من أعماقه ويُعكّر صفوه، وهو يحاول دفنه
ولكنه لا يستطيع ولهذا يخرج هذا المارد يُقيّده بالكلمات ويحبسه في صندوقه المُذهّب.
ــ لقد وقع الاختيار هذه المرة على أم البنين.. قالها الشيخ بمرارة وأسى.
ــ غير معقول، ما زالت صغيرة ولديها ولد ما زال في سنين عمره الأول.
ــ هذا ما حدث. قالها الشيخ تفتر دمعة هاربة من بين جفنيه قبل أن يقدر على ردعها.
ــ هوّن عليك يا شيخ، فما حصل قد حصل، ولا رادّ لأمر الآلهة.
ــ بل يوجد..
لم يُكمل الشيخ كلامه فقد رأى على وجه زوجته نزهة تعابير ذكّرته بتلك الوجوه والتهديدات التي أصدرتها الحشود الغاضبة.
ــ ما الذي تقوله يا شيخ؟!
أجابت نزهة بهدوء شديد.
- استغفر الآلهة.
ــ إنه الغضب واليأس لا أعرف كيف انفلتت هذه الكلمات مني.. قال الشيخ بنفس الطريقة التي برر بها تمرد الآخرين، فنزهة تحمل إيمانًا عميقًا وطاعة عمياء لقوى القدر والآلهة.
ــ اذهبي إلى دار أم البنين.. خذي بعض الأشياء فلا بد أنهم في حالة يرثى لها الآن.
كانت هذه المهمة من أكثر المهام إسعادًا لنزهة فهي تُناسب طبيعتها الطيّبة الحنون.
ــ سترفق بنا الآلهة.. قالتها وهي تُغلق الباب.

1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.