karizmallnshroaltozi3

شارك على مواقع التواصل

العاصفة الأولى

تجاوزت نظراتها جدران الغرفة البيضاء في مشفى فانكوفر، أرسلتها للفضاء الخارجي تتجول بين الأجرام، تسير في مدارات الأقمار، وهي تستلقى على سريرها، ومثلما اعتادت التجوال بين المجرات اعتادت السباحة في الزمان أيضًا، خاصة في الماضي.

جاهدت كثيرًا كي تتحمل آلامها، وترسم على شفتيها ابتسامة الرضا، كانت تهرب من واقعها إلى تلك الحياة الموازية والتي تنتشلنا قبل الوقوع فريسة الحزن والاكتئاب إلى حياة أخرى أكثر لطفًا وجمالًا في واحة من صنع الخيال.

استدارت برأسها، اطالت النظر إلى ستائر النافذة المعدنية رمادية اللون والهواء يداعبها فَتُحدث صوتًا متكررًا حتى جذبها الماضي وغاصت من جديد في عمق الذكريات بحلوها ومرها، قبل إصابتها في الحادث بعدة أشهر.
................................

مع فصل الربيع، تحديدًا بداية شهر إبريل ساد العالم أجواء مناخية غير متوقعة، تحولت على أثرها العمارات إلى نوادي ومقاهي، بدأ سكانها التزاور مثلما كانوا يفعلون قديمًا قبل اختراع الهواتف الجوالة وثورة تكنولوجيا المعلومات أو ما حدث في حالة الانعزال التي عانى منها الناس في العالم أجمع جراء اجتياح وباء كوفيد-19، والتي ترتب عليهما أن الجيران في نفس البناية صاروا غرباء لا يعرفون بعضهم البعض ربما من خلال مواقع التواصل الاجتماعي فقط.

لكوننا كائنات اجتماعية بالأساس فعند حدوث أزمة كبرى كالحروب أو الكوارث الطبيعية سرعان ما نجد التكاتف والتعاون سيد الموقف حتى تمر هذه الأزمة وهذا هو ما حدث في هذه الفترة وما ترتب عليه من نتائج تؤدي إلى فناء الجنس البشري على الأرض.
.....................................

أصدرت الحكومة قرارها بقطع الكهرباء عدة مرات على مدار ساعات النهار لتخفيف الضغط على مولدات الطاقة نتيجة الارتفاع الشديد في الحرارة بعد أن حدثت بعض الأعطال في عدة محولات كهربائية كادت تؤدي إلى كارثة بشرية.

يتجمع الأطفال كل صباح أمام أبواب الشقق وهم يعيدون الحياة إلى الألعاب القديمة التي كان آبائهم وأجدادهم يلعبونها، مثل نط الحبل والأولى والسيجا والكلب الحيران بعد أن تعلموها من أمهاتهم فألعاب الديجيتال لم تعد متوفرة طوال الوقت فقد ساءت خدمات النت والكهرباء كثيرًا.

في إحدى العمارات التي تجاوز عمرها وعمر بعض سكانها السبعين عامًا، تطوع بعض السكان بإخراج كشافات كبيرة للإضاءة ليتمكن الأطفال من اللعب ليلًا، كما كانوا يضعون مروحة خوفًا على أطفالهم من تداعيات شدة الحرارة عليهم وغالبًا لم تكن مروحة واحدة تكفي مع تذمر الأطفال فكان كل بيت يرسل واحدة يصلونهم بمولد كهرباء أحضره المهندس عبد العليم أحد سكان العمارة وهو يعمل بالسولار، وقد ابتدع الأطفال فيما بعد لعبة جديدة بصنع قراطيس ورقية صغيرة ووضعها أمام المروحة وهم يتبارون من منهم يُقذف بقرطاسه لأبعد مسافة بفعل اندفاع الهواء الصادر منها.

أما النساء فيتجمعن بشقة إحداهن للتخفيف من وطأة الانعزال الإجباري والرجال كذلك فقد تعدت درجة الحرارة الخمسين، فصار الخروج من البيت للضرورة القصوى بعد أن أثرت الحرارة على البشر تأثيرًا سلبيًا إما بكثرة المشاجرات بين الناس أو بزيادة حالات ضربة الشمس وإذا لم تعالج سريعًا أدت إلى حالات الوفاة نتيجة الحرارة الغير معهودة.

بالرغم من تجدد اللقاء يوميًا، إلا أن ثرثرتهم اليومية المليئة بعلامات الاستفهام لم تجد إجابة، حتى زادت المخاوف بعد ظهور ضباب كثيف آت من جهة الشمال، يغطي شمال أفريقيا والشام؛ ضباب لم تشهده المنطقة بمثل هذه الكثافة من قبل، أعقبه الارتفاع الشديد في درجات الحرارة.

قالت إحدى النساء اللاواتي يتجمعن في منزل صفية وهي تمسك في يدها بمروحة مزركشة أطرافها متهالكة تحركها سريعًا يمينًا ويسارًا أملًا في الحصول على بعض الهواء وهي تتصبب عرقًا بالرغم من وجود عدة مراوح:

- هل قرأتم آخر الأخبار؟ أدى الضباب والحرارة المرتفعة لتصادم عشرات السيارات وانفجار شاحنة محملة بالبنزين على طريق الأوتوستراد إلى خسائر فادحة وحالات وفيات ومصابين كثيرة.

- يا ساتر يارب، كل يوم حادث جديد بسبب الحرارة، والناس غصب عنها تضطر للخروج إلى أعمالها ومصالحها، الله يرحم الضحايا ويشفي المصابين.
-لم تصل الحرارة من قبل إلى هذا الحد، ربما في دول الخليج والعراق، أتذكر أن صلاح زوج أختي أخبرنا بهذا فقد عاش في العراق عشر سنوات كانت الحرارة تتعدى الأربعين والخمسين في فصل الصيف.

-صحيح يا صفية خلال مدة إقامتنا في الكويت لم ينطفئ جهاز التكييف أبدًا؛ حتى بالسيارات، مرة ذهبنا نقضي بعض المصالح وبعد ما انتهينا عدنا للسيارة فاحترقت أصابعي حين لمست مقبض السيارة.

-ما يحدث الآن هو غضب من السماء فجميعنا مقصر في عبادة الله، ملابسنا ليست فضفاضة بما يكفي وكثيرًا ما تظهر بعض خصلات من شعورنا وكثيرًا ما نؤخر الصلاة وننشغل بمشاكلنا عن قراءة الورد اليومي وأولادنا لا يؤدون الصلاة بانتظام وجميعنا تلهيه مشاهدة البرامج التلفزيونية ومتابعة السوشيال ميديا عن التسبيح والاستغفار، اللهم ارحمنا برحمتك ولا تعذبنا بتقصيرنا.

-أحسنوا الظن بالله ربما هو اختبار لقوة إيماننا فالمؤمن دائمًا مصاب ومبتلى ورحمته وسعت كل شيء لسنا كمن يقتل أو يسرق.

-بل أشد ممن قتل أو سرق، الحجاب فرض علينا ولا نحسن تأديته أما الصلاة فهي عماد الدين ونحن جميعًا لا نؤديها كما ينبغي، وإن أديناها في موعدها نؤديها وعقولنا شاردة في مشاكلنا، ربنا اغفر لنا بعد ما أذقتنا نار الدنيا.

في منزل المهندس عبد العليم بالدور الرابع لم تختلف كثيرًا الأحاديث عن أحاديث صفية وجيرانها ولكنهم اختلفوا في أسلوب التسلية، لم تكفيهم الثرثرة وحدها فاستعانوا بروح التشويق والمنافسة بينهم من خلال ألعاب الطاولة والشطرنج والتي جعلت الوقت يمر بدون ضجر فقد استبدلوا مشاهدة التلفاز ومتابعة السوشيال ميديا باللعب والنكات والأحاديث الممتعة.
..................................

بينما تتجمع نساء البناية كل يوم معًا للتغلب على الملل وقتل الفراغ كانت هناك شابة متوسطة الجمال ذات بشرة سمراء تتخلل شعرها موجات كالبحر في ليلة دهماء، وهي في العقد الثالث من عمرها، متوسطة الطول تميل للنحافة، لا تشعر بهذا الملل بل على العكس لأنها تقدر قيمة الوقت وتحرص على الاستفادة منه.

عندما تراها تتخيل أنها تعيش في عالم آخر يختلف عن عالم زائرات صفية، تكره التجمعات ولا تهتم كثيرًا بالعزلة المفروضة بسبب الحرارة، بعكس أمها التي لم تكن فقط صديقتهن ، بل كانت الأم الروحية لصديقاتها، كانت تحمل على كاهلها رعايتهن، كثيرًا ما لجأت إليها إحداهن في استشارة وكثيرًا ما نظمت ما يعرف بين الأسر بالجمعيات التكافلية، وكلما احتاجت إحداهن لمبلغ كبير من المال لفك ضائقة، أسرعت بدعوة الصديقات لعمل جمعية.

مثلما فعلت عندما تمت خطبة مها وكانت صفية تمر بضائقة مالية بعد وفاة زوجها وحصولها على معاشه الزهيد، أسرعت بتنظيم عدة جمعيات والتي على أثرها استطاعت أن تشتري كل احتياجات الزواج لابنتها، لذلك عندما جاء خبر وفاتها هي وزوجها في حادث القطار تكاتفن جميعًا لجمع مبلغ من المال لمساعدة داليا حتى تنتهي من إجراءات معاش والدها، وظلوا يتوافدون على منزلها عدة شهور، حتى شعروا بأنها قد تماسكت وتستطيع رعاية شئونها بمفردها.

تسكن داليا في الشقة المقابلة لشقة صفية، عرفت بين أصدقائها بشغفها للبحث والاطلاع حتى أطلقوا عليها لقب هيباتنا تلك الفيلسوفة والمفكرة السكندرية أول فيلسوفة امرأة في التاريخ.

كانت داليا تقيم بمفردها بعد هجرة أخيها الأكبر إلى كندا، وبعد انتقال أخيها الأوسط إلى بورسعيد، ثم وفاة والديها في حادث قطار منذ عدة سنوات والذي كان له أثرًا بالغًا عليها.

وبعد ما حدث من تغيرات مناخية شملت العالم كله وفي تلك العزلة التي فرضت عليها عدم الذهاب إلى أي مكان نتيجة الحرارة الشديدة لم يشغلها سوى العكوف على البحث عن المتهم الرئيسي في هذه الظواهر الغير منطقية، كانت تنتظر ساعات استعادة التيار الكهربائي وتستغلها في تحميل بعض الكتب التي تتحدث عن الإحتباس الحراري لتستعين بها كلما ساءت خدمة الإنترنت ولم تستطع الاستعانة بمحركات البحث.

كانت نتيجة بحثها لعدة أيام أن أصابع الإتهام تشير جميعها للإحتباس الحراري ذلك الوحش العملاق الذي خرج عن السيطرة إنه المدان الرئيسي في هذه التغيرات الناتجة عن عدة أسباب أكثرها ضررًا في وجهة نظرها هي النفايات البلاستيكية التي استرعت اهتمامها واهتمام العلماء كثيرًا عندما تأكدت بالبحث أن آثارها مدمرة على النباتات والأحياء المائية خاصة وعلى الحياة على الكوكب عامة.

في الصباح كالمعتاد تجمع الأطفال يلعبون ويقصون القصص الطريفة وبعد انكسار حدة الشمس بقليل بدأت الصديقات في التجمع في بيت صفية، التي أعدت لهن أطباق الأرز باللبن والذي استخدمت فيه اللبن المجفف لعدم وجود اللبن الطازج، وطلبت من ابنتها أن تذهب إلى داليا تدعوها لمشاركتهم في هذه التحلية الشهية وخاصة أنها تضع القرفة على وجه الطبق فتكسبه طعمًا رائعًا تحبه داليا منذ أن كانت طفلة صغيرة تصاحب أمها في زيارتها لصفية.

لم تنتبه داليا إلى جرس الباب وهي مستغرقة في سيناريو نهاية العالم حتى أفاقت على طرقات جارتها الشابة الجميلة مها التي تصغرها بعامين فقط والتي تعيش وابنها الرضيع أسامة مع أمها صفية بعد سفر زوجها للعمل بالخليج.

رفضت داليا الدعوة في البداية وقدمت العديد من الأعذار وبعد الإصرار والمحايلة ذهبت معها على مضض.

هللت النساء لرؤيتها خاصة عندما عادت الكهرباء مع دخولها وقالت النسوة في صوت واحد: وشك حلو علينا.

ثم علت الهمهمات بالاستغفار على روح أمها الطاهرة و تذكرن طيبتها ومرحها، تبادلن الذكريات والمواقف الجميلة التي جمعتهن سويًا، وقامت صفية ومها بتفريق أطباق الأرز باللبن على الجميع وعندما جاء الدور على داليا لمعت عينياها واغرورقت بدموع ذكريات الطفولة في وجود أمها التي ترك فقدانها فراغًا كبيرًا في حياة ابنتها.

ثم كالعادة أمطروها بسيل من الأسئلة المباشرة وغير المباشرة عن أخبارها وهل صادفت الحب ولماذا لم تتزوج حتى الآن؟، حاولت التملص من الإجابة بردود مختصرة حتى تركوها لحالها بعد يأسهن من استخلاص مادة جديدة للثرثرة.

ثم إلتفت الجميع حول شاشة التلفاز عند سماع مقدمة برنامج الشيخ البنهاوي، ساد الصمت وبدا الاهتمام عليهن جميعًا بكل كلمة يقولها وملامح الخشوع والترقب تكسو وجوه الجميع.

بدأ حديثه ببعض الآيات والأحاديث التي ذكر فيها يوم الحساب والعذاب الذي ينتظر العصاة والمقصرين ولم ينسَ أن يذكر النساء بأنهن أكثر أهل النار حسب الحديث الصحيح في صحيح البخاري.

ثم بدأ يقدم تفاسيرًا لما يحدث من وجهة نظره التي يذكرها وكأنها كلامًا علميًا وحقيقة دامغة، وصف ما يحدث بأن ثقبًا ضئيلًا في جدران جهنم هو الذي تسبب في ارتفاع حرارة الأرض بعد خروج بعض ألسنة اللهب منه، وأن هذا الضباب هو جندٌ من جنود الله، لتكثر بانتشاره حوادث الطرق فينذر به العصاة بعد أن عم الفساد مثلما حدث مع قوم لوط وعاد وثمود.

لم يقف عند تحليل ماهية الداء فقط بل كتب روشتة الدواء لإنقاذ العالم من الدمار ألا وهو الاستغفار وترك المعاصي والشرور وعدم اتباع إبليس وذريته.

دار في مخيلة داليا أنه يقصد بالشرور القتل والخيانة مثلما حدث من هدم للدول وتشريد للشعوب المجاورة وإلقاء النفايات الضارة بالمحيطات وعدم الاهتمام بتقليل العوادم الضارة بالبيئة.

ولكنه وضع حجر الأساس في بناء صرح التخلف حين أشار إلى أن الشرور تأتي بإتباع خطوات الشيطان لضعاف النفوس من البشر وذلك بالاستماع إلى الموسيقى والغناء ومشاهدة الأفلام والمسلسلات وارتياد المسارح ودور السينما ووصفها بأنها أدوات إبليس للغواية وإيقاع البشر في ارتكاب المعاصي والشرور، ثم أفتى بوجوب إغلاق دور السينما والمسارح وتحويلهم لدور عبادة.

نظرت داليا إليهم وتعجبت كيف يصغون لهذا الدجال وهذا الهراء الذي يتفوه به! أليس هو نفسه سمسار العقارات سيء السمعة، الذي لم يحصل من العلم إلا على دبلوم التجارة، والذي لم يطرأ عليه من تغيير بعد عودته من العمل بالسعودية إلا زيادة أدوات النصب والدجل التي أضاف لها تلك العباءة والطرحة البيضاء والمسبحة والذقن غير المشذب وآلاف الجنيهات التي عاد بها ووظفها في نشر التطرف الفكري، ثم نال إمامة الصلاة في الزاوية المجاورة ومن هنا بدأت تجارة الدين التي جعلت منه صاحب خطوة ووكيلًا عن نهج السلف الصالح.

السبب الوحيد في زيادة شعبيته هو ما يمتلكه من كاريزما وحركات بدنية تجذب العين كالسحر، والتي ظهرت واضحة عندما تمكن من إقناع الناس بمدى علمه حتى تمكن من إلقاء درس يومي بعد صلاة العصر، واعتلاء منابر أكبر المساجد لإلقاء الخطب في صلاة الجمعة فأصبح له مريدين وصار من كبار الأئمة.

كان يتحايل على ترسيخ قدسيته بشتى الطرق حتى يطمئن لطاعة مريديه فقد اختلق عشرات القصص عن لقاءه في المنام بالرسول الكريم وببعض الأنبياء و جبريل عليهم السلام، وزاد على ذلك أنه يقيم في بيته كل ليلة حضرة يحضرها أرواح مجموعة من الأولياء الصالحين.

كان بيِنًا أنه نجح في خداع الناس لاسيما أنه كون ثروة لا بأس بها، وترك منزله المتواضع في الحي، وانتقل إلى فيلا فخمة في كومباوند يسكنه الفنانين والأثرياء، يطل على بحيرة صناعية ومساحات شاسعة خضراء، وامتلك عدد من السيارات الفارهة.

ثم تحول فجأة لداعية في وسائل الإعلام وما لبث أن امتلك قناة فضائية، يدعو الناس من خلالها للتقشف وهو ينعم في الثراء المشبوه، لم يكن وحده الذي استغل الدين لجني الثروات، فقد انضم إليه عدد لا بأس به يتحدون العقول المستنيرة ويراهنون على إشاعة الجهل والخرافة بين الناس، مشروع كبير سيطر على عقول عدة أجيال حتى أتى بثماره فهدم بلدانا كاملة وشرد وقتل واغتصب أهلها ولم تبرد نارهم حتى الآن.

لم تتحمل متابعة البرنامج أكثر من ذلك، حاولت عتقهم من مخالب هذا الدجال دون جدوى فقد أحكم السيطرة على العقول البسيطة، بل على العكس فقد غضبوا منها وطالبوها بالاستغفار لأنها أذنبت في حقه وهو عالم الدين الورع.

-ما الذي حدث لك يا ابنتي؟ كيف تتحدثين عن الشيخ البنهاوي كالملاحدة الملاعين؟ هل أثر الحر على عقلك؟

-منذ متى أصبح البنهاوي مقدسًا ورمزًا من رموز الدين؟ إنه جاهل دجال، يحفظ بضع آيات لا يفهم معناها، كيف تصدقون الخرافات التي يقولها، إن ما يحدث تفسيره وعلاجه بيد علماء البيئة وليس بيد الدجالين.

-كفى يا داليا، لقد تجاوزتِ حدودك واضح أنك خرجتِ من الملة مثل كثيرين هذه الأيام كفروا بالسنة النبوية بل بالإسلام كله.

-لقد كفرنا بكتب بشرية ما أنزل الله بها من سلطان، لقد كشفتهم تكنولوجيا المعلومات وأوضحت تناقضاتهم وزيفهم، ما علينا فقط سوى البحث عن الحقيقة، أما الحلال والحرام فهو واضح وضوح الشمس لا يحتاج للبنهاوي أو لغيره، فكيف تولوهم أسيادًا على عقولكم.

-كل هذا من النت وإتباعكم لذاك الإعلامي العلماني الذي ضيع شبابنا، ففي كل بيت من ترك ملة أبيه ليتبع ملة هذا الملحد العلماني.

خلصتها مها من هجومهن، أخذتها لغرفتها، حاولت إقناعها أنه كان السبب في شفائها من العقم، فقد ذهبت له مع زوجها فقرأ كلمات مغمغمة على كوب الماء وشربا منه، وكررا هذا عدة شهور حتى رزقا بولدهما!

لم تصدق داليا أذنيها وذكرتها بالعملية الجراحية التي أجرتها لإزالة الورم الليفي برحمها الذي كان المتسبب في عدم استطاعتها الإنجاب، ولكنها بادرتها بأنه بدون مباركته لم تكن لتحمل حتى بعد إجراء العملية.

-ثقي بالله بدلًا من ثقتك في بشري مثله مثلك، أوليس هذا شرك بالله؟ أتعجب من ترككم النبع الصافي، والتمسك بالروافد العكرة.

-لا يا داليا، ليس الأمر هكذا هؤلاء العلماء بركة ونحن مهما وصلنا من العلم لا نستطيع فهم الدين إلا من خلال علم هؤلاء العلماء الدارسين، فمن نكون أنا أو أنت لنستطيع تفسير القرآن أو الأحاديث النبوية أو الفقه الإسلامي إنه بحر كبير من حاول الاقتراب منه بغير مرشد من رجال الدين الدارسين غرق في الإلحاد، فهو للخاصة وليس للعامة أمثالنا.


-أي خاصة وأي عامة يا مها؟ هل تصدقين هذا الكلام التعجيزي؟ هل نسيت أن الله قال أنه اقرب من حبل الوريد؟ وقال عن القرآن فصلناه تفصيلًا، كيف يجعل من بعض الناس سلطة على الآخرين، إن جوهر الدين الأخلاق القويمة، إنه التقوى والعمل الصالح وما دون ذلك هراء.

-داليا، أرجوك غيري الموضوع، إن مناقشة الدين بغير علم تؤدي للإلحاد ولعياذُ بالله، نصيحة لكِ استمعي للقرآن واطلبي من الله الهداية.

*****
لم تجد بصيص من نور المعرفة أو التدبر، لقد أراحوا أنفسهم بالتواكل وترك أمر الله في كتابه الكريم بالتدبر والتفكر فيه إلى من يتبعونه بدون عقل، حتى أبسط الأمور أصبحت بيد الدجالين تجار الدين، لقد تكرر هذا المشهد في جميع الرسالات الإبراهيمية وغير الإبراهيمية، هناك ملايين الكهنة على مر العصور يقتاتون من منع العقول من التدبر.

تركتهم مستاءة تفاقم ضباب الجهل الذي سيطر على عقولهم، خاصة بعد أن قرأت دراسة منذ عدة أيام تؤكد تأثير المتغيرات المناخية على الحالة العقلية والنفسية للإنسان، فكادت تلعن هذا الشيطان الذي يستغل حالة الخوف والقلق لصالحه.
...............................

تركتها بعد أن تملكها الغضب وسؤال واحد يدور في رأسها، ماذا يحدث إذا ساد هذا الفكر وأصبح لدية القوة والسلطة، إنه مثل جيوش النمل الأبيض التي تزحف بدون أن نشعر حتى تحتل العقول وتجعل منها أدوات لهدم أي بصيص من الضوء، شيء مرعب تخيل الحياة بلا حرية، سجن مظلم بلا أسوار.

عادت لمنزلها، أغلقت الباب خلفها، ذهبت إلى النافذة، أخذت تتطلع إلى السماء وهي غارقة في مخاوفها، وضعت يدها على الزجاج بدون وعي، انتفضت للخلف من ألم الاحتراق، ضغطت على يدها بشدة في محاولة لتشتيت الألم، أسرعت إلى الصنبور فتحته، وضعت يدها تحت الماء حتى هدأت قليلًا ثم وضعت مرهمًا للحروق.

عادت تنظر إلى السماء، أسدل الليل ستاره والحرارة مازالت مرتفعة، فتحت النافذة، هبت نسمات ساخنة لفحت وجهها، أغلقتها مرة أخرى ثم استدارت برأسها اتجاه النتيجة المعلقة على الجدار المجاور للنافذة، نظرت في تاريخ اليوم، لم يتبق على ميعاد تسلم العمل إلا أيامًا معدودات، هل مازالت الوظيفة في انتظارها؟.

إن كثيرًا من الشركات أصابتها الأزمات والبعض أغلق أبوابه بسبب عدم انتظام العمل في هذه الأجواء الصعبة، كانت تتمنى من قلبها تحسن المناخ قبل بداية شهر مايو حتى تستطيع أن تتسلم العمل الجديد.

دفنت مخاوفها وعادت للحاسوب تنعش ذاكرتها في استعادة مهاراتها ودراسة إمكانيات ما تحتاج إليه من برامج للاستعداد للعمل بعد فترة انقطاع طويلة لربما حدثت المعجزة وعادت الأجواء لطبيعتها.
......................................
بعد وفاة والديها مرت بفترة عصيبة جعلتها تدخل في حالة اكتئاب وخاصة بعد خلافها مع أخيها سالم، الذي كان مُصرًا على تقييد حرية أفكارها بإكراهها على الحياة وفق معتقداته التي تتعارض كليًا مع طريقة تفكيرها وعندما وجدت نفسها وحيدة في مواجهته ولكثرة المشاجرات بينهما، أغلقت كل وسائل الاتصال مع الجميع، كرهت الحياة وتمنت التخلص منها.

ابتعدت عن أصدقائها، في البداية كانت تبحث عن أي مبرر للإعتذار عن الخروج معهم، حاولوا كثيرًا جذبها بدعوتها للتنزه أو السفر في رحلات سياحية للترويح عنها ولكنها كانت دائمة الرفض.

مع الوقت يأس الجميع من استجابتها وانفضوا من حولها حتى عادت سناء طبيبة الأورام وصديقة الطفولة من الخليج، علمت من أصدقائهما بوفاة والديها وانعزالها عن الجميع، حاولت الاتصال بها ولكنها كانت قد أغلقت الهاتف تمامًا.

لم تستسلم سناء وذهبت إليها ونجحت في كسر عزلتها واستمرت في مساعدتها للخروج من حزنها، كانت تمر عليها بالمنزل توقظها صباحًا حتى نجحت في أن تأخذها معها لعملها في مشفى لعلاج أورام الأطفال، كانت تؤمن أن الطريق لشفائها من الاكتئاب هو تعاملها مع نزلاء المشفى، فهي تعلم جيدًا مدى حبها لمساعدة الآخرين وشعورها بالمسئولية تجاههم.

بعد عدة أشهر تغيرت نظرتها للحياة، استنشقت روحها الأنفاس من جديد بعد زياراتها المتكررة إلى المشفى، هناك رأت كيف يتحمل الأطفال وعائلاتهم هذا المرض اللعين، أصبح ذهابها إلى هناك كل إسبوع وفي بعض الأحيان تتعدد الزيارات في الأسبوع الواحد، فقد وجدت الراحة في مساعدتهم والتخفيف عنهم فنسيت مشاكلها وهي ترى الضعف والتسليم في نظرات الأطفال وترى الحزن والرجاء في عيون الأهل.
..............................................

قبيل ارتفاع درجات الحرارة شعرت داليا بوجوب البحث عن العمل فقد كان معاش والدها بالكاد يكفى احتياجاتها، ارتادت عدة مواقع افتراضية للوظائف الخالية إلى أن عثرت على ضالتها فهي حاصلة على ليسانس الآداب قسم لغة إنجليزية، وجدت عدة وظائف تشترط إجادة الإنجليزية، أجرت عدة اختبارات في عدة أماكن قريبة نوعًا ما من مكان سكنها.
انتظرت كثيرًا حتى هاتفها مندوب شركة من الأربع شركات التي أجرت بها الاختبارات وقد أبلغها بأنه وقع عليها الاختيار للعمل وطلب منها إحضار أصول مستنداتها وصحيفة الحالة الجنائية والحضور في بداية شهر مايو لاستلام العمل.

شعرت بالسعادة وقتها لأنها من أكثر الشركات التي ارتاحت للتعامل معها فقد قابلها شاب يبدو عليه الجدية بشوش الوجه نظراته تبعث على الراحة، يبدو من معاملة موظف الاستقبال له أنه ذو سلطة ومع هذا كان متواضعًا جدًا.
................................

كانت حاجتها للعمل قد زادت من شغفها لمطالعة كل جديد عن المناخ، قرأت كثيرًا حتى استهواها معرفة الأسباب والتكهن بما سيحدث في الأيام القادمة، فتوصلت للأسباب التي جعلت المناخ يتمرد وللأسف أن استنتاجها جعل الشك يدب في قلبها من تلافى النتائج المخيفة لان السبب هو الأطماع البشرية وهي شيء من المستحيل تقييده فهو يعتمد على الأخلاق التي تنهار يومًا بعد يوم، كما لا يوجد حلًا سريعًا، فليس من السهل إصلاح ما دمر في سنوات طويلة في مجرد أيام أو شهور.

فها هو المارد الذي لم نكن نشعر به يهز أكتافنا بقوة وربما بوحشية فقد أغمضنا أعيننا عن رسائله السابقة، تركنا مخلفاتنا تخنق النباتات البحرية التي تنمو في أعماق المحيطات، تخنق الرئة الكبرى لكوكبنا الأزرق وتركنا أطماعنا بالثراء تحرق الغابات وتلوث الهواء، كانت ترى إنها أكبر مساوئ الرأسمالية.

انعكس هذا على المشهد في الشارع فقد أصبحت الشوارع خالية من المارة إلا من بعض السيارات التي تستخدم المكيفات، أغلقت المحال التجارية أبوابها، صار أصحابها يجترون مدخراتهم على أمل عودة الحرارة لطبيعتها وتعويض خسائرهم الفادحة قريبًا، أما المدارس فقد حولت الدراسة واختبارات آخر العام إلى دراسة افتراضية حتى تمر الأزمة ولكنهم وقعوا فى حيرة عندما أصدرت الهيئة العامة للأرصاد الجوية بيان بأن هذه الأزمة لن تنتهي قريبًا بل ربما تستمر لعدة أعوام.

..............................................

قبيل انتهاء شهر أبريل، بدأ المناخ في التلاعب من جديد فبعد حدوث الانهيارات الجليدية واختلال سير التيارات الدافئة والباردة في المحيطات وارتفاع درجة الحرارة في القطبين نتيجة زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة أصاب المناخ مسًا من الجنون فلم يعد يرتكز على القوانين الطبيعية بل استبدلها بقوانين أخرى محاول إعادة توازنه مما أحدث حالة عشوائية هددت الكائنات الحيه جميعها بالفناء، فلكل فعل رد فعل.

أما نتيجة للحرارة الشديدة التي أصابت مناطق كثيرة في العالم القديم فقد تضررت المحاصيل وتصحرت الأراضي الزراعية وضاعت مجهودات الدول في زراعة الصحراء، وبدأ الجفاف يهدد الشعوب وخيم عليهم شبح المجاعات.

كادت موجة الحرارة أن تقضي على الحياة البرية في دول كثيرة بعد أن تفاقمت ظاهرة حرائق الغابات ولم تجد الحيوانات الهاربة من جحيم النيران مأوى لها فالبعض هجم على القرى في الهند وعدة دول في غرب أفريقيا، أما مشروعات الثروة الحيوانية فبعد جفاف المراعي والنقص الحاد في أعلاف الدواجن والماشية، والحرارة العالية نفقت أعداد كبيرة والباقي تم ذبحه حتى لا يتعرض المربي للخسارة وأغلقت أغلب المزارع أبوابها.

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.