Darebhar

شارك على مواقع التواصل

بعد أن أنهيت عملي في الثانية ظهرًا عدت لمنزلي، بداية فصل الصيف دومًا متعبة لي.
كعادة أي مصري عندما يعود من عمله يخلد للنوم بعض الوقت؛ حتى يتم تجهيز طعام الغداء.
بعد فترة نومٍ ليست بالكافية استيقظت على صوت ابنتي "لين"؛ تخبرني أن هناك سيدة تقف بالخارج تنتظرني، نهضت من مكاني أترنح ثم ارتديت نظارتي بصعوبةٍ وخرجت لأنظر مَن بالخارج، وكان الذهول سيد الموقف، إنها أمل!



(1)
عرضٌ مغرٍ
لم يستغرق الأمر دقائق حتى استوعبت أنها أمامي؛ أمل التي عرفتها أو "كريستين" كما علمت لاحقًا، في ثوانٍ معدودة تذكرت أول مرة رأيتها في الحديقة منذ عدة سنوات، مر أمامي "شريط الذكريات" وما حدث لي، وكأني أشاهد "فيلمًا تسجيليًا".
تذكرت أيام جميلة عشتها معها قبل معرفتي بخبر وفاتها، وتذكرت صدمتي ومرضي النفسي بعد رحيلها، كذلك تذكرت الخديعة التي تعرضت لها عندما كانت تأتيني وتزعم أنها ميتة، تذكرت سفري وما سُمي بالعالم الآخر، وهروبي من هذا العالم، وصدمتي بوفاة أمي، إلى أن ظهرت براءتي وصدق كلامي.
بالطبع أحسست باختناقٍ شديدٍ وضيقٍ لا يوصف، ارتفع صوت دقات قلبي، وغلى الدم في عروقي، لكن كانت دهشتي أكبر برؤيتها.
لكنها قاطعت دهشتي: هل سنتحدث أمام الباب هكذا؟
بالطبع غلبني الطابع الشرقي، فقمت بطردها؛ حتى لا أفتك بها، لكن أمثال هؤلاء يعرفون جيدًا ماذا يريدون.
هذا الصنف من البشر، لا مكان عندهم للكرامة أو الغضب لموقف شخصي، طالما تعلق الأمر بمصلحة يريدونها، لغة المصلحة هي التي يتحدثون بها، وصوت الصفقات أعلى من أي شيءٍ.
بكل برودٍ قامت بالدخول لمنزلي ثم جلست وانتظرت حتى أنهيت كلامي، ثم قالت بنفس ابتسامتها الصفراء: أتفهم جيدًا غضبك وردة فعلك هذه، لكن أرجو أن تسمعني أولًا وبعدها فلتفعل ما تريد.
لم تنتظر أن أوافق أو أرفض، بدأت في الحديث قائلةً: لقد جئت إليك بعرضٍ جيد، سيحسن من وضعك كثيرًا و...
قاطعتها قبل أن تكمل وقلت لها: وما شأنك بوضعي؟ وكيف تجرؤين على القدوم إلى هنا؟!
قاطعتني هي الأخرى: دكتور أحمد، دعنا نتحدث بشفافية أكثر، أنت تعلم جيدًا من نحن وكيف نعرف كل شيء!
دعني أسألك وبما أنك تشغل منصبًا رفيعًا بوكالة الطاقة بدولتك، هل نفذت الدولة أي بحثٍ من أبحاثك؟
جلستُ على أريكة أخرى مقابلة للمقعد الذي تجلس عليه، ثم حككت ذقني متوترًا، وقلت لها: الأمر قيد الدراسة.
قالت: دعك من هذا، هل حدثت نهضة شاملة لبلادكم كما كنتم تزعمون، وكما أعلنتم من قبل إبان ثورتكم؟
تلعثمت في الكلام بعض الشيء، ثم قلت لها: البلد الآن تواجه مؤامرات عدة، ونحن نواجه مؤامرات وتحديات ليل نهار.
قاطعتني قائلةً: هذا الكلام لا يليق بعالم مثلك، أنت تعلم أني والعالم أجمع نعرف ميزانية البحث العلمي لديكم.
قطعت هند حديثنا عندما جاءت لتقدم واجب الضيافة (كعادة المصريين)، عندها رمقت كريستين بنظرةٍ كفيلة أن تتفحص كل ما فيها، لكن كريستين ابتسمت فقط ولم تنظر لها كثيرًا وكأنها تعرفها، الغريب أن هند تخلت عن فضول الأنثى المعتاد وتركتنا نكمل الحديث وانصرفت.
سألتها بتعجب: كيف دخلتِ البلاد؟ وكيف لم يقبض عليكِ؟
ردت ضاحكةً: ألم يفهمك ذلك شيئًا؟ ألم تعي جيدًا لمن أنتمي وما هي قدراتنا؟
ثم نظرت إليَّ وهي تحدق فيّ قائلةً: رغم أنه ازداد وزنك وقل بعض الشعر في رأسك مثل باقي جيلك إلا أنك لم تفقد جاذبيتك يا أحمد.
كانت محقة في وصفها لي، فقد ازداد وزني وقل شعر رأسي، حتى بشرتي أصابها ما أصاب الباقي، وكأني في العقد الخامس من عمري.
عندما تركت هذه الملعونة منذ بضعة أعوامٍ، كان وزني متوسطًا متماشيًا مع طول قامتي المتوسطة أيضًا، شعري بني داكن كثيف، حتى بشرتي كانت بيضاء داكنة كما كانت أمي رحمها الله، لكن تبدل حالي في أعوامٍ قلائل.
أما هي فكأنها لم تكبر عامًا واحدًا، كانت مثلما قابلتها أول مرة وكما تركتها؛ لا زالت تتمتع بجمالها ورشاقتها وحيويتها، قوام ممشوق، لم يزد وزنها بعض الجرامات حتى، بشرتها بيضاء كما هي وكأنما لم ترها الشمس، تمتلك عينين زرقاوين لامعتين، شعرها متوسط الطول ولونه كستنائي يميل إلى اللون الذهبي الداكن، هي كانت وما تزال مثل لوحة مرسومة لفتاة شديدة الجمال في العشرين من عمرها.
كان لا بد أن أدير دفة الحديث بمزيدٍ من الحسم؛ قلت لها: وماذا تريدين إذن؟
قالت: أنا هنا من أجل أن أعرض عليك عرضًا، أعتقد أنه سيلقى قبولًا عندك.
ثم تابعت قائلةً: الشركة التي أعمل بها أصبحت تعمل في النور، ورُفع عنها حاجز السرية، حيث تغيرت الإدارة بشكلٍ كامل.
والآن نريدك أن تعمل معنا في منصبٍ يليق بمكانتك العلمية وذكائك الخارق، وبالطبع ستتعلم الكثير وستجري مزيدًا من الأبحاث، باختصار مستقبلك المشرق معنا.
حاولت مقاطعتها، أشارت بيدها أن دعني أكمل الحديث، ثم استطردت قائلة: ستسافر لمكان ومنصب يليقان بك؛ لتجري أبحاثك بشكلٍ رسمي وبعلم حكومة بلدك، وإذا كان أمر هذه البلد يهمك حقًا فكر كيف ستستفيد البلاد عندما تصبح عالمًا مشهورًا في مكانٍ مرموق، وتلحق بركب العلماء المميزين الذين كانوا بالخارج وأفادوا ذلك البلد المسكين.
بعدها نهضت من مكانها، وقالت: سأتركك لتفكر الآن، وأنا متأكدة أنك ستصل لقرارٍ صائب سريعًا.
ثم قالت وهي تغادر: إذا قررت السفر وهذا ما أتوقعه، فقط جهز حقائبك وباقي الأمور اعتبرها جاهزة بما فيها الحصول على الإجازة من عملك.
فكرت مليًا وكأنني أعلن موافقي، ثم وجدتني أقول: لكن بشرط، ألا أشارك في تطوير أية أسلحة.
ردت مبتسمة: وهو كذلك.
ثم غادرت.
yty
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.