كنا جالسَين — أنا وزوجتي — نتناول الإفطار في صباح أحد الأيام، عندما دخلَت الخادمة
ومعها برقية. كانت البرقية من شيرلوك هولمز، وكان نصها كالتالي:
هل يمكنك أن تتفرَّغ لمدة يومَين؟ وصلتْني للتوِّ برقية من غرب إنجلترا بخصوص
مأساة وادي بوسكومب، سأكون سعيدًا إذا رافقتَني، الهواء نقيٌّ والمناظر
الطبيعية هناك خلَّابة. سأغادر محطة بادينجتون في قطار الساعة الحادية
عشرة والربع.
«؟ ما رأيك يا عزيزي؟ هل ستذهب » : نظرتْ إليَّ زوجتي وقالت
«. لا أعلم حقٍّا ماذا أقول، فلديَّ قائمة طويلة من المهام في الوقت الحالي »
سوف ينوب عنك أنستروثر في العمل. إنك تبدو شاحبًا قليلًا مؤخَّرًا، وأظن أن تغييرَ »
«. الأجواء سيكون له تأثير جيد عليك، كما أنك دائمُ الاهتمام بقضايا السيد شيرلوك هولمز
لو قلتُ إنني لست مهتمٍّا لكنت جاحدًا، بالنظر إلى ما استفدتُ به من إحدى » : أجبتُها
تلك القَضايا، ولكن إذا كنتُ سأذهب، فيجبُ أن أحزم حقائِبي على الفَور؛ فلم يتبقَّ على
«. موعد القطار إلا نصفُ ساعةٍ فقط
كان لتجربتي مع حياةِ المعسكرات في أفغانستان، على الأقل، تأثيرٌ جعلني دائمَ
الاستعداد والحماس للسَّفر. وكانت احتياجاتي قليلةً وبسيطة، لذلك كنتُ قبلَ الوقت
المطلوب أستقلُّ عربة أجرة مع حقيبة سفري، في طريقي إلى محطة بادينجتون. كان
شيرلوك هولمز يذرَع رصيف المحطة ذهابًا وإيابًا، وقد بدا قوامه النَّحيل الطويل أكثرَ
نحولًا وطولًا، في معطف السفر الرمادي الطويل، وقبعته القماشية المُحكَمة على رأسه.
لغز وادي بوسكومب
إنه لأمرٌ جيد حقٍّا أن تأتي يا واطسون؛ فوجود شخصٍ معي يمكنني » : قال هولمز
الاعتماد عليه كليٍّا، من شأنه أن يُحدِث فارقًا كبيرًا بالنِّسبة لي؛ فالمساعدون المحليُّون دائمًا
ما يكونون إما بلا فائدة أو متحيِّزين، لو أمكنَك أن تحجِز لنا مقعدَين في الزاوية، فسأذهب
«. لآتِي بالتَّذاكر
لم يكن ثمَّة أحدٌ في عرَبة القطار سِوانا، وكمية هائلة من الجرائد جلَبها معه هولمز،
اندمج في قراءتها وفحصها بعناية، وتخلَّل ذلك فتراتٌ من تدوينِ الملاحظات والتأمُّل، حتى
تجاوزنا محطة ريدينج، عندئِذ قام هولمز فجأةً بلفِّ الجرائد كلِّها معًا في كرة ضخمةٍ،
وألقاها على الرَّفِّ.
«؟ هل سمعت أيَّشيءٍ عن هذه القَضيَّة » : قال هولمز
«. ولا كلمةً واحدة، كما أنَّني لم أرَ أيَّ صحفٍ منذُ أيام » : قلتُ
لم تغطِّ الصحف اللندنية الخبرَ على نحوٍ كامل؛ فقد اطَّلعت الآن على كلِّ الصُّحف »
التي صدرت مؤخَّرًا؛ لأتمكَّن من فَهم التفاصيل، ويبدو ممَّا فهمته أنها إحدى تلك القضايا
«. التي تبدو بسيطةً؛ بينما هي في حقيقتها بالغةُ الصعوبة
«. هذا يبدو متناقضًا بعضَالشيء »
لكنهصحيحٌ تمامًا. والغرابةُ دائمًا ما تكون مفتاحًا لحل اللُّغز. وكلَّما كانت الجريمة »
عاديةً وبلا معالم، زادَتصعوبةُ حلِّها؛ غير أنَّهم في هذه القضية جمَعوا أدلةً خطيرة للغاية
«. ضدَّ ابنِ الرجل المقتول
«؟ هي جريمةُ قتلٍ إذن »
يُعتقد أنَّها كذلك، ولن آخذ بأيِّ مُسلَّمات في القضية؛ حتى تُتاح لي الفرصة للاطِّلاع »
عليها بنَفسي، وسأشرحُ لك طبيعة الأمور حسبَما استطعتُ فهمَه، بإيجازٍ شديد.
إن وادي بوسكومب مقاطعة ريفية ليسَت بعيدة عن روس في هيرفوردشاير، ويُعدُّ
السيد جون تيرنر أكبرَ مُلَّاك الأراضي في هذه المَنطقة، وقد كوَّن ثروته في أستراليا، ثم
عادَ إلى وطنِه الأصلي منذ سنَوات عدَّة. وقد أجَّر إحدى مزارعه التي يمتَلكُها، وهي مزرعة
هاذرلي، للسيد تشارلز مكارثي، الذي كان يُقيم فيما مضَىفي أستراليا أيضًا، وتعارفا هناك
في المُستعمرات؛ لذا كان من الطَّبيعيِّ أن يستقرَّ أحدهما بجانب الآخر قَدر المستطاع. كان
تيرنر كما يبدو هو الأكثَر ثراءً؛ ومن ثمَّ أصبح مكارثي هو المُستأجِر منه، ولكن ظل التعامل
بينهما، كما يبدو، قائمًا على التَّساوي البَحت؛ إذ كانا يقضيان معًا الكثير من الوقتِ. كان
لمكارثي ابنٌ وحيد شابٌّ في الثامنةَ عشرةَ، وكان لتيرنر ابنة في السنِّ ذاته؛ لكن لم يكن
لأيٍّ منهما زوجة على قَيد الحياة. والظاهرُ أنهما كان يتجنَّبان الاختلاط — اجتماعيٍّا —
بمن جاورَهما من الأسَرالإنجليزية، ويعيشان حياةً منعزلةً، بالرغم من ولَع مكارثي وولدِه
بممارسَة الرياضة، وشُوهدا كثيرًا في السِّباقات التي تُعقَد في الجِوار. كان لدى مكارثي
خادمان، رجل وفتاة، أما تيرنر، فكان لدَيه الكثير من الخدَم، ستةٌ على الأقل. هذا كل ما
أمكنني جمعُه من معلوماتٍ عن العائلتَين، وسأتطرَّق الآن للحقائق.
في الثالث من يونيو الموافق يوم الإثنين الماضِي، غادر مكارثي منزلَه في هاذرلي في
حوالي الساعة الثالثة مساءً، وسار نحو بُحيرة بوسكومب، وهي بُحيرةٌ صغيرة تشكَّلت
بفعل اتِّساع النهر الذي يجري عبرَ وادي بوسكومب. وقد كان في الصَّباح بصُحبة خادمِه
في روس، وأخبرَ الخادمَ أن عليهما الإسراعَ كي يلحَقَ بموعد مُهمٍّ في تمام السَّاعة الثالثة؛
ذلك المَوعد الذي لم يرجِع منه حيٍّا.
تبلغ المسافةُ بين مزرعة هاذرلي وبحيرة بوسكومب ربعَ مِيل، وقد رآه شخصان وهو
يَسيرُ في ذلك الطريق؛ أحدهما سيدة عجُوز لم يُذكَر اسمُها، أما الآخر فكانَ ويليام كراودر،
وهو حارسُ صيدٍ كان يعمَل لدى السيد تيرنر، وقد شهِد كلاهما بأنَّ السيد مكارثي كان
يسيرُ وحدَه. وأضاف الحارسُ أنه بعد دقائقَ من رُؤيته للسيد مكارثي، وهو يمُرُّ، شاهدَ
ابنَه السيد جيمس مكارثي يسيرُ في الطريق نفسِه حاملًا بندقيةً تحتَ ذراعه، وأغلبُ ظنه
أن الأب كان في مرمَى البصَربالفعل في ذلك الوَقت، وكان الابن يتبَعه، ولم يفكِّر الحارس
كثيرًا بالأمر حتى سمِع في المسَاء بالمأساة التي حدَثت.
شُوهد الأب وابنُه مرة أخرى، بعدما غابَا عن نظرِ ويليام كراودر حارسِ الصيد. إن
بحيرة بوسكومب محاطة بالأشجار الكثيفة، ويَحفُّ بها القليل من الحشائِش والخيزُران
حولَ الحافَّة. وكانت بيشنس موران — وهِي فتاةٌ تبلُغ من العُمر أربعةَ عشرَ عامًا، وابنة
حارسِبوَّابةِ منطقة وادي بوسكومب — تتمشىبين هذه الأشجار الكثيفة تقطِف الأزهار.
وقد قالت إنها أثناءَ وجودها هناك رأَتْ عند حدود الغابة، بالقُرب من البحيرة، السيد
مكارثي وابنَه، ويبدو أنهما كانا يتشاجَران مشاجرةً عنيفة. وقد سمعَت السيد مكارثي
الأكبر يتفوَّه بألفاظٍ حادة جدٍّا لابنه، ورأَت الأخير يرفَعُ يدَه كما لو كان سيضرب والدَه.
شعرَت الفتاة بخوفٍ شديد من هذا العُنف إلى درجة أنها هُرِعَت إلى المنزل، وأخبرَت والدتها
أنها تركَت السيد مكارثي وابنَه يتشاجران بالقُرب من بحيرة بوسكومب، وأنها تخشَى أن
يتقاتَلا. وما كادت الفتاة تُخبر أمَّها بذلك، حتى جاء السيد مكارثي الابن مُسرعًا إلى كوخ
الحارس؛ ليقولَ إنه وجَد والده ميِّتًا في الغابة، وطلب منه المُساعدة. كان في حالة من الهِياج
الشَّديد، ولم يكن معه بندقيتُه ولا قبَّعتُه، ولُوحظ أن يدَه اليُمنى وكمَّه الأيمن ملطَّخان
بدماءٍ حديثة. وعندما اتَّبعوه وجدوا الجثة مُلقَاةً على الحشائشبجانب البُحيرة. كان الرأسُ
قد تعرَّضلضربات متكرِّرة من سلاح ثقيلٍ غيرِ حاد. من المحتمل أن تكونَ هذه الإصابات
قد وقعت بواسطةِ مؤخِّرة بندقية ابنِه التي عُثِر عليها ملقَاةً على الحشائش، على بُعد بضع
خُطواتٍ من الجُثَّة. وفي ظل هذه الظُّروف، قُبضعلى الشابِّ على الفَور، ووُجهتْ له تهمةُ
في التَّحقيقِ الذي أجُري يومَ الثلاثاء، وعُرضيومَ الأربعاء أمامَ هيئةِ محلَّفي « القتل العَمْد »
روس الذين أحالوا القضيةَ إلى الجلسةِ التالية. تلك هي الوقائعُ الرئيسَة في القضية، مثلما
«. عُرضَت على قاضيالتحقيق الجنائي والمحكَمة الشرطية
لا يمكنني تصوُّرُ قضيةٍ أبشع من هذه القضية. ما من قضيةٍ تُشير فيها » : قلتُ مُعلِّقًا
«. الأدلةُ الظرفية إلى القاتل مثل هذهِ القضيَّة
إن الأدلَّة الظرفيةَشيء خادعٌ للغَاية. فقد » : أجاب هولمز وهو مستغرق في تفكير عميق
تبدُو أنها تشير مباشَرةً إلى شيءٍ ما، ولكن إذا غيَّرت وجهةَ نظرِك قليلًا، فقد تجدُها تشيرُ
بالقوَّة ذاتها إلى شيء مختلِف تمامًا. ومع ذلك، يجِب الاعترافُ بأن الأدلةَ ضدَّ الشاب قويةٌ
جدٍّا، ومن الوارد تمامًا أن يكون هو الجَاني بالفعل، ولكن يوجد العديدُ من الأشخاص
في الحيِّ، من بينهم الآنسة تيرنر، ابنة مالك الأرض المجاورة، يؤمنون ببراءَة الشَّاب، وقد
ليُدافعَ عنه، ولكنه — « دراسة في اللون القرمزي » وكَّلوا ليستراد — قد تذكرُه من قضية
شعَر بالحَيْرة، فأحال بدَوْره هذه القضية إليَّ، وهذا ما جعَل رجلَين مثلِنا في منتصَف العمر
يُسافران غربًا بسُرعة خمسين ميلًا في الساعة؛ بدلًا من تناول إفطارِهما في مَنزلَيهما في
«. هُدوء
أخشَى أنَّ الحقائق واضحةٌ، لدَرجة أنَّك لن يكونَ لك فضلٌ كبير في حلِّ هذه » : قلتُ
«. القَضية
لاشيءَ أكثرُ خداعًا من حقيقةٍ واضحة؛ علاوةً على ذلك، ربَّما نصادف » : أجابضاحكًا
بعضَ الحقائق الواضِحة الأخرى التي ربَّما لم تكُن واضحةً بأي حالٍ من الأحوال للسيد
ليستراد. وأنتَ تعرفني جيِّدًا للدرَجة التي تَجعلُك لا تظن أنَّني أتفاخر عندما أقول: إنني
سوف أؤكِّد أو أدحضُ نظريته بطرُق لا يستطيع هو استخدامها أو حتى فهمَها. لنأخذ
أول مثال بين أيدينا الآن؛ أدرِكُ تمامًا أن نافذةَ غرفة نومِك تقَعُ على الجانب الأيمن، ومع
«. ذلك أتساءَل عمَّا إذا كان السيد ليستراد قد لاحظَ حتى مثلَ هذا الأمر البَديهيِّ
«!؟… كيفَ بالله عليك »
إنني أعرِفك جيدًا، ياصَديقي العزيز، وأعرفُ ما تتميَّز به من دقَّة عسكريَّةٍصارمةٍ. »
فأنت تَحلِق ذقنك كلَّ صَباح، كما أنك في هذا الوقت من العام تستَعين بأشعَّة الشمس في
الحِلاقة؛ ولكن نظرًا لأن دِقَّة حلاقتك تقلُّ بالتدريج كلَّما اتَّجَهنا إلى الجانب الأيسر، حتى
تُصبح سيئةً تمامًا عند دوران زاويةِ الفَكِّ؛ فمن الواضح جدٍّا أن هذا الجانبَ أقلُّ إضاءةً
من الآخر. لا يمكنني تَخيُّلُ رجلٍ، له مثل ما لك من الطِّباع، يرضَى بتلك النتيجةِ عند
النظَر لنَفسه في الِمرآة في إضاءةٍ متساوية. أقول هذا فقط مثالًا متواضعًا على قوَّة الملاحظَة
والاستِدلال. وهنا تكمُن مهارَتي، التي من المُمكن أن تكونَ ذات نفعٍ في التحقيق الذي
«. أمامنا. فقد ذُكِر في التحقيق نقطةٌ أو نقطتان صغيرتان جديرتان بإمعانِ النظر فيهما
«؟ وما هما »
يبدو أن اعتِقالَ الفتى لم يحدُث على الفور، وإنما بعد عودَته إلى مزرعة هاذرلي. فعند »
إبلاغِ مفتش الشرطة له أنه رهن الاعتقال، قال إنه لم يتفاجأ لسَماع ذلك، وإنه يستحق
ذلك. وكان من الطبيعيِّ مع هذه الملاحظة أن يزولَ أي شكٍّ، ربَّما قد تبقَّى في أذهان هيئة
«. المحلَّفين
«. لقد كان هذا اعترافًا منه » : صِحتُ قائلًا
«. لا، فقد أتبَع ذلك بادِّعاءِ أنه بَريء »
«. لكنَّ قوله هذا، وسط كل هذه الأحداث البشعة، يُثير الرِّيبة إلى أبعَد الحدود »
على العكس من ذلك، إنَّها الفُرجة الأكثر إشراقًا الآن وسطَ الغُيوم. فمهما » : قال هولمز
كان بريئًا، لا يمكن أن يكُون شخصًا أبلهَ للدرجة التي لا يمكنه معها أن يرَى أن الظروف
كانت سيئة جدٍّا ضدَّه. ولو بدا أنه فُوجئ باعتقاله، أو تصنَّعَ الغضبَ من ذلك، لنظرتُ
إلى ذلك بعين الرِّيبة إلى حدٍّ كبير؛ لأن مثل هذه المفاجأة أو الغضب لن تكون طبيعيةً في
ظل هذه الظروف؛ بل قد تبدو أفضلَ ما ينتهجه شخصٌيخطِّط لمثل هذا الأمر. إن قبولَه
الصريح للوَضع؛ إما أنه إشارةٌ إلى أنه بَريء، أو أنَّه رجلٌ يتمتَّع بقدر كبيرٍ من ضبط
النَّفس والثَّبَات. أما بالنسبة إلى ملاحظتِه حول استحقاقِه لذلك، فلم يكُن غريبًا أيضًا إذا
وضعتَ في الاعتبار أنَّه كان يقِفُ بجوار جثَّة والِده، وأنه لا شكَّ نسِي في ذلك اليوم واجبَ
الابن تجاه أبيه، ما جعله يقسُو معه في الحديثِ، حتى وصَل الأمرُ — وَفقًا للفتاةِ الصَّغيرة
التي تُعتَبر شهادتُها بالغةَ الأهمية — إلى رَفعِ يدِه، كما لو كان على وَشك أن يَضربه. يبدو
لي أنَّ الشعور بالذنبِ والندَم اللذَين تجلَّيَا في عبارته تلك، إنَّما هي دلالاتٌ على عقلٍ سليم،
«. وليس عقلًا إجراميٍّا
«. كم من رجالٍ أعُدِموا بأدلةٍ أتفهَ من هذه بكَثير » : هزَزْتُ رأسيقائلًا
«! أجلْ، وكم من رجالٍ أعُدِموا ظلمًا »
«؟ وما أقوالُ الشابِّ عن الوَاقعة »
ليست مُشجِّعةً لأنصارِه للأسف، وإن كان فيها نقطةٌ أو اثنتان لهما دِلالات، ستجدُها »
«. هنا، ويمكن أن تقرأَها بنفسك
« هيرفوردشاير » والتقَط من بين كَومة الجرائد التي كانت معه نسخةً من جريدة
المحلِّية، وبعد أن قلب الصفحةَ، أشار إلى فقرة فيها أقوال الشابِّ السيئِ الحظِّ بشأن ما
حدَث. فجلستُ في ركن عربة القطار وقرأتها بعنايةٍ شديدة، وكان هذا نصها:
تمَّ استدعاءُ السيد جيمس مكارثي، الابن الوحيد للقتيل، وقدَّم إفادته على النحوِ
لقد كنتُ خارجَ المنزل لمدة ثلاثة أيَّامٍ في بريستول، ولم أعُدْ إلا صباح » : التالي
يوم الإثنين الماضي الموافق الثالثَ من الشهر. لم يكُن والدي موجودًا بالمنزل
وقتَ وصولي، وأبلغَتْني الخادمةُ أنه قد غادَر إلى روس بصُحبَة جون كوب،
السَّائس. بعد فترةٍ وجيزة من عَودتي، سمِعت صوتَ عجلاتِ عرَبته في الفِناء،
ولمَّا نظرتُ من نافذتي، رأيتُه يمضِيمُسرعًا مغادرًا الفناء، ولكنِّي لم أدرِ إلى أين
سيذهب. بعد ذلك، أخذتُ بندقيتي وذهبتُ لأتجوَّل في اتِّجاه بحيرةِ بوسكومب؛
بقَصد زيارةِ أرضِالأرانِب الواقعة على الجانب الآخر. وفي طريقِي رأيتُ الحارسَ
ويليام كراودر — كما ذكَر في شَهادته — لكنه مخطئٌ في ظنِّه أنني كنتُ أتبَع
والدي. فلم يكن لديَّ أيُّ فكرةٍ أنه كان يَسير أمامي. ولماصِرتُ على بُعد حوالَي
التي كانت إشارةً مألوفةً بيني «! كوي » مائةِ ياردة من البُحيرة، سمعتُ صيحةَ
وبين والدي. فأسرعت الخُطى؛ لأجدَه واقفًا بجانبِ البُحيرة. وبدا أنه قد فوجئَ
برؤيتي فسَألني بفظاظة عمَّا أفعلُه هناك. ودار بعد ذلك بيننا حوارٌ تحوَّل إلى
جدالٍ عنيفوكاد يتطوَّر إلى الضَّرب؛ لأن والدي كان رجلًا ذا طباعٍ عَنيفة للغاية.
ولما رأيتُ انفعالَه خارجًا عن السَّيطرة، تركتُه وعدت إلى مزرعة هاذرلي. لم أبتعِد
أكثر من ١٥٠ ياردة؛ حتى سمعتُصرخةً بَشِعة ورائي، ممَّا دفعني للعودة مرةً
أخرى ركضًا، لأجِدَ والدي يُحتضَر على الأرض، مُصابًا بجروحٍ بالغةٍ في رأسِه.
فألقيت بندقيتي واحتضَنْتُه بين ذراعَيَّ، لكنه مات في الحال. جثَوْتُ بجانبه
لبضعِ دقائق، ثم توجَّهت إلى منزلِ السيد تيرنر — لكَوْن منزلِه هو الأقرَب —
لطلبِ المُساعدة. لم أرَ أحدًا بجوار والدي عندما عدتُ، وليس لديَّ أيُّ فكرة
عن كيفيةِ إصابته. وبرغم أنه لم يكُن رجلًا محبوبًا، لأنه كان قاسيًا إلى حدٍّ ما
وصعبَ الِمراس، فإنه — حسَب علمي — لم يكن لدَيه أعداءٌ يُجاهرونه بالعداء،
«. هذا كلُّ ما أعرِفه عن الموضوع
«؟ هل أدلَى إليك والدُك بأيِّشيءٍ قبل وفاتِه » : القاضي
«.( لقد غَمغم بكلماتٍ قليلة، لكنني لم أميِّزْ منها إلا كلمةَ (رات » : الشاهد
«؟ وما الذي فهِمتَه من ذلك » : القاضي
«. لم يكُن لها أيُّ معنًى لديَّ. لقد ظنَنتُه يهذِي » : الشاهد
«؟ وما الشَّيءُ الذي تسبَّب في شِجارِكما الأخير » : القاضي
«. أفضِّلُ عدمَ الإِجابة » : الشاهد
«. أخشَى أنَّني مُضطر للإِصرار على مَعرفته » : القاضي
من المستحيل فعلًا أن أخبرك؛ ولكنني أؤكِّدُ لك أنه لم يكن له علاقة بالمأساة » : الشاهد
«. المُؤسِفة التي تَبعت ذلك
المحكمة هي التي تُقرِّر ذلك، ولستُ بحاجة لأن أوضِّح لك أن رفضَك » : القاضي
«. الإجابةَ سيضُربمَوقفِك في القضية بشكلٍ كبير، في الجلسات التي قد تنَعقد فيما بعد
«. ما زلتُ مُصِرٍّا على الرَّفض » : الشاهد
كانت إشارةً متعارفًا عليها بينك وبينَ « كوي » فهمتُ من كلامِك أنَّ صيحة » : القاضي
«. والدِك
«. نعم، كانَتْ كذلك » : الشاهد
فكيف إذن أطلَق تلك الصيحة، قبل أن يراكَ، أو قبل أن يَعرِف أنَّك رجَعت » : القاضي
«!؟ من بريستول
«. لا أعلَم » :( الشاهد (وقد بدَت عليه الحَيرةُ الشَّديدة
ألم ترَ أيشيءٍ أثارَ الشكَّ عند عودتِك بعد أنسمِعتَ الصَّيحة؛ » : عضوهيئة المُحلَّفين
«؟ لتَجد والدَك مصابًا هذه الإصابةَ القاتلة
«. لم أرَ شيئًا مُحدَّدًا » : الشاهد
«؟ ماذا تعنِي » : القاضي
لقد كنتُ مضطرِبًا ومنفعِلًا عندما أسرَعتُ بالخروج إلى المنطقة المَكشُوفة، » : الشاهد
ولم أتمكَّن من التفكير في أيِّشيءٍ سِوى والدي، بالرَّغم من الإحساسِالغامضِالذي راوَدني
بوُجودشيءٍ كان مُلقًى على الأرضعلى يَساري عندما كنتُ أجري للأمام. كان شيئًا رماديَّ
اللون، ربما كان مِعطفًا من نوعٍ ما، أو شَالًا؛ ولكن عندما نهَضتُ من جوار أبي وذهبتُ
«. لأبحثَ عنه، كان قد اختَفى
«؟ أتعنِي أنه كانَ قد اختفَى قبل أن تذهَب لطلَب المساعدة »
«. أجل، كان قد اختَفى »
«؟ ألا يمكِنُك تحديدُ ماهيَّتَه »
«. لا، فقط كان لديَّ شعورٌ أنه كان ثمَّةشيءٌ ما »
«؟ كم كان يبعُد عن موقعِ الجُثَّة »
«. اثنتي عشرةَ ياردة، أو نحو ذلك »
«؟ وكم كان يبعدُ من حافَّة الغابَة »
«. تقريبًا المسافةَ نفسَها »
«؟ إذن، عندما اختَفى هذا الشيء كنتَ أنت على بعد اثنتَي عشرةَ ياردة »
«. أجل؛ ولكنْ من جِهة ظَهري »
«. وبهذا انتَهى استجوابُ الشاهد »
أرى أن قاضيَ التحقيقِ كان قاسيًا نوعًا ما في ملاحظاتِه » : قلتُ، وأنا أطُالِع المقال
النِّهائية على مكارثي الصغير؛ فهو ينبِّهُ — وهو مُحقٌّ في هذا — إلى التناقُض في قوله: إن
والده صاحَ له بالإشَارة التي بينهما، قبل أن يرَاه، وأيضًا لرَفضهِ إعطاء تفاصيلِ المحادثة
التي جرَت بينهما، بالإضافةِ إلى روايتِه الغريبة لكلمات والدِه الأخيرة قُبَيل موته. وكلُّ ذلك،
«. كما يذكر، يُشكِّل دليلًا قويٍّا ضدَّ الفتى
لقد » : ضحك هولمز في نفسِه بلُطف، ومدَّد جسمَه على الِمقعد ذي الوَسائد، ثم قال
بذلتَ جهدًا — أنت وقاضِيالتحقيق — لانتقاءِ أقوَى النِّقاط التي تصُبُّ في صالِح الشاب.
ألا ترى أنَّكما تتناوبان امتداح الشابِّ لسَعة خيالِه، ثم تعودانِ وتصفانِه بالافتِقار إليه؟!
فإذا لم يتمكَّن من اختراع سبَبٍ للمشاجَرة، من شأنه أن يُعطيه تعاطفَ هيئةِ المحلَّفين،
فهو يَفتَقِر للخَيال؛ وإذا استطاع أن يأتي من عقلِه الباطن بشيءٍ في مثل غرابةِ ذِكْرِ القتيل
بالإضافة إلى مسألة قِطعة القماش التي اختفَتْ، فهو إذن ذو خيالٍ خِصب. ،« رات » لكَلِمة
لا يا سيدي، سأتعامل مع هذه القضية على اعتبار أن ما يقوله هذا الشابصَحيحٌ، وسنرى
إلى أين ستقودُنا هذه الفرضيَّة. والآن ها هو كُتيِّب قصائد بترارك للجيب خاصَّتي، ولن
أقول كلمةً أخرى عن هذه القضيَّة حتى نصِل إلى مَسرح الجَريمة. سنتَناول الغداءَ في
«. سويندن، وأرَى أننا سنكُون هناك في غُضون عشرين دقيقة
كانت الساعةُ تقارِب الرابعة مساءً عندما وصَلْنا أخيرًا، بعدما مرَرْنا عبرَ وادي ستراود
الجَميل، وفوق نهر سيفرن الواسِع اللامع؛ لنجد أنفسَنا في مدينة روس الرِّيفية الصَّغيرة
الجميلة. كان في انتظارنا على رصيف المحطَّة رجلٌ نحيفٌ يشبه حيوان ابن مُقرِض، يبدو
عليه الخبثُ والمَكر، وبالرَّغم من ارتدائه مِعطَفًا طويلًا ذا لونٍ بُنِّي فاتحِ اللون، وغِطاء ساقٍ
جلدية ارتدَاهما تَماشِيًا مع مُحيطه الرِّيفيِّ. لم أجِد أيَّ صعوبةٍ في التَّعرُّف على ليستراد،
مفتشِشُرطة سكوتلاند يارد. وقد استقللنا معه عرَبةً إلى فندق هيرفورد أرمز، حيثُ كانت
هناك غرفةٌ محجوزة لنا.
لقد أرسَلتُ في طلَب عربةِ أجرةٍ. » : أثناء جلوسِنا لاحتساء كوبٍ من الشاي، قال ليستراد
«. فأنا أعرف طبيعتَك النَّشِطة، وأعرِف أنه لن يهدأ لك بال؛ حتى تزُور موقعَ الجريمة
هذا لطفٌ وإطراءٌ شديدان منكَ، ولكنَّ الأمر يتوقَّف كليٍّا على الضَّغطِ » : قال هولمز
«. الجوي
«. لا أفْهَم » : بدَا ليستراد جَافلًا وقال
إلامَ يشيرُ البارومتر؟ تسعٌ وعشرون درجةً، كما أرَى. ما مِن رياح ولا غُيوم في الأفق، »
ولديَّ هنا كَمية من السَّجائر التي أوَد تدخينها، كما أنَّ الأريكة أفضَل بكثير مما هو مُعتاد
في الفنادق الريفيَّة المقيتة؛ ولذلك لا أعتَقد أنَّ هناك أيَّ احتمالٍ أنْ أركَب العربةَ الليلةَ لأيِّ
«. مكان
لا شكَّ أنك قد كوَّنت استنتاجاتِك من الصُّحف. » : ضَحك ليستراد، بتسامحٍ، وقال
فالقضيَّة في غاية الوُضوح، وكلَّما توغَّل المرء في تفاصيلِها، أصبحَت أكثرَ وُضوحًا. ولكِن
بالطَّبع يظَل المرءُ عاجزًا عن رفِضطلَبٍ لسيِّدَة، خاصةً إذا كان لديها كلُّ هذا الإصرار في
مَطلبِها. لقد سمِعَت عنك، وترغَب في سماعِ رأيك، برغم أنَّني أخبرتُها مرارًا وتكرارًا أنه لا
«. يوجَدشيءٌ يُمكنُك فعلُه، ولم أقُم به بالفِعل. لكن ما هذا؟! ها هي عربتُها عند الباب
ولم يكَد يُنهِي حديثَه، حتى اندفعَت إلى الغرفة واحدةٌ من أجمَل الشابَّاتاللائي رأيتُهن
في حياتي. كانت عَيناها البنفسجيتان لامعتَين، وشفَتاها مفروقتَين، ووَجْنتاها متوردتَين
بحُمرَة وَرديَّة، وقد فقدَت تحفُّظَها الطبيعيَّ، في غَمرة قلَقها وانفعالها اللذَين سيطَرا عليها.
راحت توزِّعُ نظراتِها بيننا، وأخيرًا — وبحَدس المرأةِ السَّريع — ثبَّتَت عينَيها على
أوه! سيد شيرلوك هولمز، أنا سعيدة جدٍّا لقُدومك. لقد جئتُ » : صديقِي، وصاحَت قائلةً
خُصُوصًا؛ لأخبرَك بذلك. أعلمُ أن جيمس لم يقُم بتلك الجَريمة. أنا على يقينٍ من ذلك،
وأريدُك — أنت أيضًا — أن تَعرِف ذلك قبل أن تشرعَ في عمَلك. لا تدعِ الشكوكَ تساورك
مطلقًا في ذلك الأمر. لقد عرَف أحدُنا الآخر منذ نعومة أظفارِنا، وأعلم عيوبَه وزلاتِه أكثرَ
من أيِّ شخص آخر؛ ولكن قلبَه أرقُّ من أن يؤذِي ذبابة. وكلُّ من يعرف جيمس بحق،
«. يعرِف أنَّ من السُّخف اتهامَه بتُهمة كهذه
آمل أن نتَمكَّن من تبرئتِه، يا آنسة تيرنر. يمكنُك أن تثقِي بأنني أبذُل كلَّ » : قال هولمز
«. ما في استطاعتي في سبيلِ ذلك
لكنَّك قرأتَ أدلةَ الاتهام، فهل كوَّنتَ أيَّ استنتاج؟ ألا ترَى أيَّ ثغراتٍ أو أخطاء يمكِنُ »
«؟ الطعنُ بها؟ ألا تظنُّ أنتَ نفسك أنَّه بريءٌ
«. أعتقد أنَّ هذا واردٌ للغاية »
هذا ما أردْتُه، هل » : صاحتْ قائلةً، وهي تلتَفت ناحيةَ ليستراد، ناظرةً إليه بتَحَدٍّ
«. سمِعتَ؟ لقد بعَث في نفسِي الأمَل
«. أخشَى أن زميلي قد تسرَّعَ قليلًا في تكوينِ استنتاجاتِه » : هزَّ ليستراد كَتفيه قائلًا
لكنَّه مُحق، أوه! أنا على يقينٍ أنه مُحقٌّ. إن جيمس لم يفعَلْها قطُّ. وبخصوص »
مشاجرَتِه مع والده، أنا متأكِّدةٌ أنه لم يُطلعِ القاضيعلى تفاصيلِها؛ لأنَّ الأمر كان يتعلَّق
«. بي
«؟ وكيفَ ذلك » : سألها هولمز
لا يمكِنُني إخفاءُ الحقيقةِ أكثرَ من ذلك. لقد كان بين جيمس وبين أبيه خلافاتٌ »
كثيرةٌ بسببي؛ فقد كان السيِّد مكارثي في غايةِ اللهفة لتَزويجي لجيمس، بينما كنت أنا
وجيمس متحابَّينِ كالأخوَين، ولكنَّه بالطبع لا يزالُ في مقتبل العمر، ولم يمرَّ بالكثير من
التجارِب في الحياة بعدُ، وبالطبع لم يكن راغبًا في أن يُقدِم علىشيء كهذا الآن؛ لذا كثيرًا ما
«. كانت تَنشِبُ مشاحناتٌ بينهما بسبَب ذلك، وأنا متأكِّدة أن هذه كانَت إحدَاها
«؟ وماذا عن والدِك. هل كان مؤيِّدًا لهذا الارتِباط » : سألها هولمز
وتضرَّج «. لا، كان معارِضًا له أيضًا. لم يكن أحدٌ مؤيِّدًا لذلك سِوى السيد مكارثي »
وجه الفتاة بحُمرة الخجَل، عندما رمَقَها هولمز بإحدى نظراتِه الثاقبة المُتفحِّصة.
«؟ شكرًا على هذه المَعلومات، هل يُمكنني رؤية والدِك غدًا إذا جئتُ لزِيارته » : قال
«. أخشى أن الطبيبَ لن يسمَح بذلك »
«؟ الطبيب »
نعم، ألم تعلَم بذلك؟! لم يكن أبي المسكين بصحَّةٍ جيِّدة منذ أعوامٍ طويلة، ولكنَّ ما »
حدث حطَّمه تمامًا وجعله ملازمًا للفِراش، ويقولُ الدكتور ويلوس: إن حالتَه بالغةُ السوء،
وإن جهازَه العصَبي قد دُمِّر. لقد كان السيد مكارثي هو آخر مَن تبقَّى على قيدِ الحياة
«. ممَّن عرفهم أبي في فيكتوريا، في الأيام الخوالي
«. ها، في فيكتوريا! هذا مُهِم »
«. نعم، كانا يعمَلان في المَناجم »
«. تمام، في مناجم الذَّهَب، هناك حيث جنَى السيد تيرنر ثروتَه حسبما أفهَم »
«. نعم، بالتَّأكيد »
«. شكرًا يا آنسة تيرنر، لقد ساعدْتِني كثيرًا »
أرجو أن تبلِّغني بأيِّ مستجداتٍ غدًا. لا بدَّ أنك ستذهَبُ لمقابلة جيمس في السِّجن؛ »
«. فلو فعلْت، يا سيد هولمز، فأخبِرْه أني أثِقُ ببَراءَته
«. سأخبره، يا آنسة تيرنر »
عليَّ أن أنصرفَ الآن؛ فأبي مريضٌبشِدَّة، وهو يفتقدني إذا غِبتُ عنه. وداعًا، وكان »
واندفعت الفتاة خارجةً من الغرفة مثلما دخلَتها، ثم سمِعنا «! لله في عَونك فيما كُلِّفتَ به
صوتَ عجلاتِ عرَبتها، وهي تبتَعد عبرَ الشَّارع.
أشعُر بالخِزي مما فعلتَه يا هولمز. » : قال ليستراد بإباء، بعد عدَّة دقائق من الصَّمت
لِمَ تغرس في قلب الفتاةِ آمالًا سوف تخيبُ حتمًا؟ لستُ بصاحِب قلبٍ رقيق؛ إلا أنني أعتَبر
«. ذلك من القَسوة
أظنُّ أني أعرِف كيف سأبرِّئُ جيمس مكارثي، هل لديك إذنٌ بزيارته في » : قال هولمز
«؟ السِّجن
«. نعم، لكِن لنا نحن الاثنينِ فقَط »
إذن، يجب أن أعُيد النظَرَ في قراري بشأنِ الخُروج. ألا يزالُ لدينا متَّسعٌ من الوَقت »
«؟ لاستقلال قِطار إلى هيرفورد وزيارتِه الليلة
«. بلى، ما يكفي من الوَقت ويَزيد »
لنفعلْ إذن. أخشَى أنك ستَجد الوقت يمرُّ ببطء يا واطسون؛ لكنني لن أغيبَ أكثرَ »
«. من بضع ساعاتٍ فقط
سرتُ معهما إلى المحطَّة، ثم تجوَّلتُ عبرَ شوارع المدينة الصَّغيرة، وأخيرًا عُدْتُ إلى
الفندق، حيث استلقَيتُ على الأريكة، وحاولتُ أن أشغَل نفسي بإحدَى الرِّوايات المُثيرة
الرَّخيصة؛ غيرَ أنَّ الحبكة الدِّرامية للقِصة كانَت ضعيفةً للغاية، مقارنةً باللُّغز العميق
الذي كُنَّا نَبحَث عن سبيلٍ لحلِّه؛ لذا وجدتُني أشرُد بتفكيري باستمرارٍ من الخيالِ إلى
الواقع، حتى رميتُها في آخر المطاف عبرَ الغرفة، واستسْلَمت تمامًا للتَّفكير في أحداثِ اليوم.
لنفترضْأن قصةَ هذا الشابِّ التعِسِكانت حقيقيةً تمامًا، فما الكارثةُ المفاجِئة والاستثنائيةُ
التي يمكن أن تكون قد حدثَت بين الوقت الذي ترَك فيه الشاب والدَه، وبين اللحظَة التي
عادَ فيها مسرعًا إلى الممرِّ الخالي من الأشجار بعدما سمِعَصرخات والدِه؟ لقد كان شيئًا
فظيعًا ومُميتًا. فماذا عسَاه أن يكون؟! أليسَ من المُمكن أن يَكشِف حدسيالطبِّيَّ شيئًا من
طبيعة الإصاباتِ؟ قرَعْتُ الجرسَ، وطلبتُ صحيفةَ المقاطعة الأسبوعية، التي كانت تحتوي
على بيانٍ حرفيٍّ للتَّحقيق. وردَ في شهادةِ الجرَّاح أن الثُّلُث الخَلفيَّ من عظمة الجُمجمة
اليسرى والنِّصفَ الأيسر من عظمة مُؤخِّرة الرأس قد تهشَّما، إثرَ ضربةٍ قويةٍ من سلاحٍ
غيرِ حادٍّ. حددتُ البقعةَ المذكورة على رأسي. كان من الواضِح أن مثلَ هذه الضربةِ يجبُ أن
تكونَ من الخَلف. وكان هذا إلى حدٍّ ما لصالح المتَّهم؛ لأنه عندما شُوهِد يتشاجَر مع والده،
كان يقِف أمامه وجهًا لوَجه. ومع ذلك، لن يؤثِّر هذا كثيرًا؛ لأن الرجل العَجوز ربَّما يكونُ
قد أدار ظهرَه قبل تسديد الضَّربة؛ ولكنَّه قد يستحقُّ أن نلفِت انتباهَ هولمز إليه. ثم كان
وهو يُحتضَر. ماذا يمكِن أن يعنِي ذلك؟ لا يمكن « رات » هناك تلك الإشارةُ الغَريبة لكلمة
أن يكون الأمرُ هذيانًا؛ فالشخصُالذي يموتُ منضربةٍ مفاجئةٍ لا يُصاب عادةً بالهذيان.
لا، بل ربما تكون على الأرجَح محاولة لشرحِ الكيفية التي لقِيَ بها مصيرَه؛ ولكن إلامَ قد
تشيرُ تلك الكَلمة؟ لقد اعتصَرْت ذهني؛ لأجد تفسيرًا ممكنًا لهذه الكَلمة. ثم هناك واقعةُ
قطعة القماشِ الرمادية التي رآها مكارثي الصَّغير. لو كان هذا الأمرُ حقيقيٍّا، فلا بد أنَّ
القاتلَ قد أسقط قطعةً من لِباسه، ربَّما معطفه، أثناءَ فراره، ولا بدَّ أنه يَمتلك من الجَرأة
ما دَفعه للرُّجوع مُجدَّدًا والتقاطِها في اللحظة التي كان الابن فيها جاثِيًا على رُكبتَيه، مُوَلِّيًا
ظهرَه له على بعد اثنتَي عشرة خطوةً فقط. يا لَها من شبكةِ مُعقَّدة من الألغازِ والاحتمالات!
لم أتعجَّب من رأي ليستراد، لكنَّني كنتُ أومن كثيرًا برُؤية شيرلوك هولمز، لدرجة منَعتني
من فقدان الأمَل؛ ما دامت كلُّ حقيقةٍ جديدةٍ — كما يبدو — تُعزِّز قناعتَه ببراءَةِ مكارثي
الصغير.