karizmallnshroaltozi3

شارك على مواقع التواصل

"لا أريد أن أُبعث يوم القيامة في أيّ منفى؛ لأنني سأكون مضطرَّاً أن أسير طويلاً، إلى وطني .."
هكذا قال: إبراهيم نصر الله

ما الوطنُ في عينيهِ إلا حنينٌ يتجدد .. كلما ذكّروه، أنفق دمعتين في وجومٍ وتنهّد: "يوماً سأعود" .. كلما سألوه، صوتُه ردّد .. أما الميعاد فأبداً لا يحين، أبداً لا يُحدّد! .. أتدري؟ المأساةُ ليست في الاغتراب، بل في قدمٍ تخشى الاقتراب .. سيظلّ حُلم الرجوع مع كلّ شمسٍ يتمدّد، ومع كلّ هبّة ريحٍ يتبدّد .. لا جَرمَ أنه مفتونٌ بالحنين، كعاشقٍ للفراق يتلذذُ بالأنين .. كلما لاح شراعٌ للعائدين، تأهّب للعبور، خُطوةً في خطوتين .. ثم تردّد!


كان فناءُ المدرسةِ صاخباً .. في أقصى اليمين كانت مجموعةٌ من الأولاد تتقاذف كرة السلّة، وسْط صراخ اللاعبين وهُتاف المشجعين المعتاد في مثل هذا التوقيت من كل عام، حيث ذُروة دوري المدارس بالولاية .. وفي أقصى اليسار كانت مجموعةٌ مختلطةٌ من تلاميذ المرحلة الوسْطى يتبادلون الحديث في حماسٍ ومرح.
أما خلف تلك الشجرة الوارفة، فقد تحلّقت مجموعةٌ من المراهقين على شكل دائرةٍ قطرُها ثلاثة أمتار فقط؛ لإخفاء مباراةٍ حامية تجمع ما بين فنّ الملاكمة وفنون الركل والعضّ والصفع، وربما البصق في بعض الأحيان! يحييها اثنان من ثيران المرحلة الثانوية المفتونين بطاقتهم العاطلة .. حيث مركّب الصبي-الفتى، فلا هو مازال يرتع في طفولته، ولا هو شابٌ ناضجٌ بعد! .. تلك المرحلة العاثرة، حين تتدفّق حِمم الهرمونات الوليدة بين العضلات الإرادية، لتفصحَ عن نفسها في أيّ شيء، ولو كان وجه الآخرين!
خمس دقائق مرّت، وكان وجه أحد الذكريْن قد بدأ تختلف معالمه قليلاً، بينما الآخرُ كما هو، فقط لو استثنينا ذلك الخدش البارز على خدّه الأيمن، والذي راح ينزّ خيطاً من الدماء على استحياء! وكان الحاضرون من مراهقي الفصل والفصول التي تجاورها يتابعون المعركة في حماسٍ بالغ، وودّوا لو يهتفون بملئ أفواههم، ولكنهم كانوا قد تعلموا شيئاً من فنّ الحذر كيْ لا يلفتوا انتباه "الكبار" - على حد قولهم - فتنتهي هذه المتعة الدامية بمأساة تحطّ على رؤوسهم جميعاً!
غير أن أحدهم شعر بدَفعةٍ في كتفه من الخلف، وقبل أن يصيح معترضاً رأى جسماً عريضاً يجتاح الموضع الذي كان يقف فيه منذ لحظات ويندفع إلى حيث المتلاكميْن؛ ليفصل بينهما في صوتٍ حازم لا يقبل النقاش! .. فظلّ الفتى المدفوعُ من خلفه ينظر إلى هذا الدخيل في حنق: تباً، إنه فريد، ذلك الفتى العربيّ الذي دوماً يظن نفسه "بابا" الجميع هنا! .. وتوقفت المباراة على الفور، فصاح عددٌ من المراهقين بفورة الأدرينالين في عروقهم:
- فريد .. لا شأن لك!
- دعهما يكملان المباراة أيها السخيف، كادت تنتهي لصالح جون!
- ستلفت انتباه الكبار .. وسأخسر مبلغ المراهنة أيها الأخرق!
لكنه استوقف الجميع بكفيّ يده، وقال بصوتٍ أرهبهم رغم كل شيء:
- فلتتوقف الآن هذه الحماقة .. ماذا تنتظرون؟ أن يقتل أحدهما الآخر!
- لا شأن لك، في كل مرة تفسد الأمر بتدخلك فيما لا يعنيك..!
اقترب فريد من قائل تلك الكلمات الأخيرة في صمت، فلم يشعر الأخيرُ إلا بقدميه تنتكسان للخلف في رهبةٍ من هذا المجسّم الواقعي لهيركليز، فقط لو كان الأخيرُ عربياً! .. وساد الصمت لعدة ثوانٍ، إلى أن فوجئوا جميعاً بمستر بروسنان مدير المدرسة – أو رأس الإجوانا كما يطلقون عليه سرّاً- يدخل من فُرجةٍ بدت من بين الحلقة البشرية، فقط ليجدوه واقفاً بينهم! .. فانسلّ اثنان من على الطرف، حيث البقعة العمياء لمستر بروسنان، وركضا بأسرع ما أوتيا من قوة .. حاول آخران الهروب حذوهما، إلا أنه لاحظهما، فقال في لكنةٍ يعرفونها جيداً:
- لا أحد يتحرك من موضعه.
أخذ يدور بعينيه بين الماثلين أمامه ليحفظ وجوههم، ثم هزّ رأسه في أسف، تلك الهزّة التي يعرفونها جيداً:
- احتجازٌ لجميع الحاضرين .. إلى غرفة العقوبة، جميعاً!
تحركوا مطرقي الرأس في غضبٍ مكتوم تجاه تلك الغرفة البائسة التي أغلبهم يحفظها جيداً .. احتجاز! تلك الكلمة البائسة التي تعني البقاء في غرفة ليس فيها سوى طاولة عريضة ومقاعد وأقلام رصاص مبرية جوار حزمة من الورق الأبيض .. احتجاز تعني كتابة تلخيص عن أحد المؤلفات المملةّ الراقدة في كسلٍ على أرفف المكتبة داكنة اللون! .. احتجاز تعني غياب عن كل ما هو ممتع لمدة ثلاث ساعاتٍ كاملة، لفعل كل ما هو سخيف وبالغ الإملال .. احتجاز عندهم كلمة تعني الموت! فقط لو كان الموتى يُجبرون على كتابة ملخصاتٍ بائسة!
انطلق البؤساء إلى حيث مقصلة غرفة الاحتجاز في صمت .. فأشار مستر بروسنان للمتلاكميْن أن يتوقفا .. فانطلق الجميعُ وتوقّف البائسان في جزَع .. فنظر إليهما بعينيه التي للأسف يعرفانهما جيداً، وانتظرا الأسوأ، فسمعا صوته الرتيب الذي يكاد يشعّ سقيعاً، رغم أن الفزياء تؤكد أن السقيعَ لا يشعّ:
- عِراكٌ من جديد..؟!
- لا سيدي، ليس عراكاً .. إنه هو، ذلك الثور الذي يختال علينا بشحمه وعضله!
- نعم سيدي، فريد الذي فعل بنا هذا!
نظر مستر بروسنان إليهما في عدم تصديق .. إنه يعرف فريد جيداً، ذلك النوع من مفتولي العضلات ورقيقي الفؤاد، مركّب "العملاق-الوديع" الذي يمكنه أن يدمّر المدينة لو أراد، ولكنه يبكي كطفلٍ إن رأى قطةً تشعر بالبرد! .. ثم نظر إلى فريد في شيءٍ من الفضول، فرآه يحدّق فيهما بذهول .. فدار في خلده: "آه لو انفلتت أعصاب ذلك الفتى، فلسوف تكون مأساة المدينة بحق!" ولكنه اختطفه بسؤالٍ حاول أن يبدو حاسماً:
- ما قولك فيما يدّعيان يا فتى؟
- سيدي .. كانا يتلاكمان بوحشيّة، وجئتُ لأفصلَ بينهما .. يمكنك أن تسأل من كان حاضراً إن أردت.
قالها في براءةٍ لا تناسب ديناصورية حجمه مطلقاً، لذا فقد كادت تضحك الفتيين، بل تضحك مستر بروسنان ذاته، إلا أنه تماسك، فسأل الفتيين من جديد:
- تقولان أنه من فعل بكما هذا إذن .. فلمَ فعل؟
نظر أحدهما إلى الآخر، فقال الثاني في صوتٍ أقرب إلى البكاء:
- لأنني أردتُ أن أمازحه قليلاً، فسألته هل كل العرب هكذا في مثل نسبة جسمك إلى عقلك؟! .. فأطاح بي كما ترى سيدي!
- نعم .. وأنا أشهد على ذلك، وهي ليست المرّة الأولى سيدي.
كان مستر بروسنان يرى الكذب في عينيهما جليّاً كما يرى قرص الشمس فوقهما، إلا أنه توجّه بعينيه إلى فريد، فسأله في برودٍ عمليّ من جديد:
- هما اثنان كما ترى، بينما أنت واحد .. هل عندك من دليل يثبت صدق قولك؟
ظل فريد يحدّج الفتيين اللاهثين وهو مازال مشدوهاً لفُحش كذبهما، ولكنه اندهاشٌ لا يزال على شفير الغضب بعد:
- أنقذتكما من حماقة ما تفعلان، فتفتريان عليّ زوراً..!
- انظر سيدي إلى ما فعله بجانب وجهي، لقد صفعني فقط، فماذا لو كان لكمني ذلك الخرتيت؟! كان ذلك سيغضب والدي حقاً كما تعرف سيدي!
- بل انظر سيدي إلى أنفي وعيني اليسرى، لقد كاد يقضي على مستقبل وجهي للأبد..!
- بل تستحقان ذلك بالفعل أيها الكاذبـــ ..
قالها فريد وانطلق تجاههما وقد بدت على وجهه شرارةُ الغضب، فاستوقفه مستر بروسنان بيده في حزمٍ أقرب إلى التوسّل، وقال في عجالةٍ ليطفئ شرارة مأساةٍ دامية على وشْك الوقوع:
- أنتما، درجتان تخصمان منكما لسوء التلفّظ على زميلٍ لكما .. وأنت، فريد، فصلٌ مؤقت لمدة ثلاثة أيام، وطلب لحضور وليّ الأمر.. يمكنك أن تستلم القرار من مكتب السكرتاريا بعد عشر دقائق من الآن.
قالها رأسُ الإجوانا وأخذ الصبيين -أو الفتيين- معه إلى غرفة العناية الطبية، فقط كيْ لا يتركهما معه؛ يفترسهما إن بقيا أمام عينيه دقيقة أخرى! .. إنه – مستر بروسنان – يعرف جيداً أن الصبيين يكذبان حتى النخاع، ولكنه لا يملك أمام هذا التلفيق إلا أن يلفّق حكماً هو الآخر، أم يتحمّل هو مغبّة حمقِهما أمام مجلس الآباء! .. وظل يردد في نفسه: "تباً لرجال الأعمال أولئك الذين يمطرون مدارس المدينة بأموالهم الطائلة، بينما يتركون لها مراهقيهم عديمي التربية ليعيثوا فيها .. تباً لسخائهم! فقط لو كانوا أبخل قليلاً!"
* * *
كانت صوفيا تمشي هي وزميلتها معاً، على الطريق النهريّ المشمسِ تثرثران إلى حيث موقف الحافلات، كعادة كل يوم بعد انتهاء يومٍ دراسيٍ آخر .. كان موقف الحافلات يعمل كمفترق طرق لهما؛ حيث تستقلّ زميلتها الحافلة الحمراء إلى بيتها، بينما تكمل هي مشيتها اليومية إلى البيت في غضون الدقائق الست أو السبع المعتادة.
وضعت الفتاةُ أناملها أمام شفتيها لتستر ضحكاتها المتعاقبة، بينما صوفيا تبتسم وهي تراقب ظلّهما الطويل يسبقهما على الطريق، وهي تستمع:
- مسكين، كان يريد أن نتمشى اليوم إلى البيت معاً .. هذه هي ثالث مرة يُحتجز فيها هذا الربيع!
- لا أظن أنه مسكين، إنهم يشجّعون بعضهم على هذه المباريات الصبيانية الدامية، هل رأيت وجه جون اليوم؟!
- جون!.. لقد تغيرت ملامحه حقاً، تُرى ماذا سيفعل والده غداً برأس الإجوانا؟!
- لا شيء، وإلا فلمَ تم فصْل فريد إذن؟ سينفضون أيديهم ويقولون في برود: "ها قد عاقبنا المخطئ بالفصل".. فينتهي الأمر في هدوء،كعادتهم!
- نعم، مسكين ذلك العملاق! .. دوماً يعدّونه قربان المدرسة .. أتعرفين؟ أحياناً أشعر بأنه يستحق!
فنظرت إليها صوفيا في عتاب، فأكملت الفتاة وهي تخرج هاتفها المحمول تستكشف من أرسل إليها تلك التغريدةَ الأخيرة:
- ليس لكونه عربيّاً إن كنت تفهمين ما أقصد، ولكن لأنّه اعتاد على تقبّل هذه المعاملة.
كانت صوفيا لا تريد أن تستكمل الحوار؛ فقد شعرت بضيق لا تدْرِ لمَ! فساد الصمتُ قليلاً وهما يكملان مشيتهما في خطواتٍ غير متعجلة المسير .. إلى أن لمحت صوفيا جسداً شُبّه عليها، جالساً إلى حافة الطريق على الجهة المقابلة لهما .. إنه هو! مولياً ظهره بكتفيه العريضين إلى الطريق، ومرخياً ساقيه إلى جدول المياه أسفله! فنظرت إلى صاحبتها التي كانت شاردة في نقْر رسالةٍ ما على شاشة هاتفها، ثم قالت في صوتٍ مرتبك:
- اسبقيني أنت ليديا، سأراك الليلة في حفلة العشاء.
- أسبقك! .. لماذا؟ .. أوه، فهمت!
نظرت إليها صوفيا في توسّل أن: "تقدمي بدون سخافةٍ أرجوكِ"، فابتسمت ليديا في مكر:
- حذار صديقتي، يقولون أن عتبة الشفقة مزلقة بطبيعتها .. كثيرٌ من العاشقين بدأوها هكذا، مشفقين!
- ليست شفقة، وليس كما تظنين .. أشعر أحياناً بأنه يريد أن يقول شيئاً ما!
- نعم، وتودّين الآن أن يُسمعك هذا الشيء، أليس كذلك؟
تنهّدت صوفيا في نفاد صبر، فضحكت صاحبتها في تهكّم، واستكملت طريقها وهي تكمل بإبهاميها ما كانت تنقره على شاشة هاتفها منذ قليل.
ظلّت صوفيا تراقب خطوات صاحبتها الوئيدةَ من الخلف،" تلك العابثة تتباطأ في مشيتها لتثير حنقي!" تنهّدت في ضجر وهي تفكّر .. وانتظرت حتى ابتعدت الأخرى بمسافةٍ تكفي، فتحركت هي في تردّد إلى حيث كان يجلس ذلك الشارد .. وظلّت واقفةً خلفه لمدة نصف دقيقةٍ لا تعرف ماذا تقول، إلى أن تنحنحت بصوتٍ ضعيف، فالتفت إليها، فلمّا لمحها قفز واقفاً! .. غير أنه ظلّ يبادلها النظر هو الآخر لنصف دقيقةٍ أخرى .. مرّ فتيان، فضحكا في سخريةٍ من طرافة مشهدهما! تماماً كتمثالين من تماثيل الإغريق؛ هو ينظر إليها من علّ وكأنه الربّ زيوس، بينما بدت وهي تصبو إليه بناظريها كأنها قديسة تناجي السماء! .. ومرّ الفتيان كما يمرّ كل شئ عابر .. وبقيا هما معاً.
قالت في صوتٍ حاولت أن يبدو عفوياً، فبدا مفتعلاً:
- فريد!.. لماذا تجلس هنا وحدك؟
احتاج الأمر لبضع ثوانٍ حتى يُخرج صوتَه الغافي منذ ما يزيد عن الساعتين:
- كنتُ أفكّر ..
- آسفة لما صار لك اليوم، ولكنها عادتك، تفيض شهامتك أحياناً على من لا يستحق!
ابتلع ريقه الجاف، وهزّ رأسه في تفهّم، ثم قال:
- كنت أفكّر في أبي وأمي .. لا أحب أن أعود إليهما بخطابٍ من المدير مجدداً!
أخذت تنظر في عينيه، وكأنها تريد أن تستكشف أعماق هذه العين البنيّة اللامعة وسْط بياضٍ تشوبه حُمرة الدموع .. ثم همست:
- لماذا..؟!
- سليهم هم .. لماذا دوماً أنا من يدفع الفواتير؟!
- فريد، أرجوك كفّ عن هذا السلوك الغريب .. أسمع أحياناً عن شهامة الرجال في وطنك، ولكنك .. ولكنك هنا لست في وطنك! .. هل تفهم ما أعني؟
هزّ رأسه في تفّهم، فأردفت في نبرةٍ لا يدري أبدت حانية فعلاً، أم أنه فقط تمنى ذلك:
- أنت تمارس دور فارسٍ على صهوة جواده في مواجهة دبابةٍ يقودها تافهون! .. مهما كانت فروسيتك، فلسوف ينتهون منك بكبسة زرّ وهم يضحكون!
فمسح دمعةً فرّت من بين جفنيه رغماً عنه، ثم قال وهو لا ينظر إليها:
- لا أدري كيف أتصرّف هكذا حقاً!.. أحياناً أفكّر بألا أتدخّل فيما لا شأن لي به، بل وأكاد أربط رسغي بأقرب قائم كيْ لا أندفع لأفضّ اشتباكاً أو أغيث نازفاً أو أُمسك سارقاً .. ولكني دوماً لا أجد رباطاً يحتوي رسغي ..!
فضحكت رغماً عنها، ولا يدري حقاً أسالت منها دمعةً؟ أم أنه فقط تمنى ذلك .. وراحت تنظر إلى أيّ شيء سوى عينيه، ثم قالت:
- أنت فريد حقاً .. لك من اسمك حظٌ وافر على ما يبدو .. لا أفهم من أين لك هذه الطباع وأنت تعيش بيننا منذ أن كنت في السابعة حسبما سمعت؟! أهي الجيناتُ إذن؟
فابتسم .. وابتسمت .. وأخذا يمشيان إلى حيث بيتها .. معاً.
* * *
كان باب المنزل الخشبيّ المتهالك ينفتح في صرير، فنظر فريد إلى ساعة الحائط -شبه البالية- المعلّقة بغرفة نومه فوجدها تشير إلى السابعة إلا خمس دقائق .. سمع صوت بعضِ الأكياس توضع على المائدة، وسمع صوت أمّه الذي طالما أحبّه أكثر من أيّ صوتٍ على الإطلاق:
- فري .. أين أنت؟
اصطنع النوم، أغمض جفنيه وهدّأ أنفاسه .. فسمع باب غرفته ينفتح في حماسة، وسمع صوتها الدافئ وهي تقترب نحوه:
- ليس هذا وقت نومك، أفق أيها العملاق الوديع.
اصطنع فتْح عينين غلبهما النعاس، وأخذ ينظر إليها وهي ترتّب حاجياته كعادة كل ليلة .. ثم سمعها تسأله وهي توليه ظهرها:
- ألن تأتي معي الليلة إلى حفل عشاء مسز باولا؟ .. لقد أبلغوني دعوتك لتكون معهم.
لم يردّ .. لم يشأ أن يردّ .. فتابعت:
- فري .. لا تمارس دور النائم فأنت لا تجيد هذه الأمور، أنت صادق يا بنيّ فلا تكن إلا أنت.
فتنحنح، واعتدل ليجلس إلى طرف الفراش، الذي بالكاد أساع جسده، فأردفت هي من جديد:
- سمعتُ ما جرى اليوم مع مستر بروس هذا! .. أخبرتني ليديا ابنة جارتنا منذ قليل.
أطرق .. فالتفتت إليه، ثم تابعت وهي تبتسم:
- لقد منحوك ثلاثة أيام إجازة من تلك المدرسة، ألن تحتفل بهذا النبأ السعيد؟!
- إجازة..!
- نعم .. أليس قد أعفاك من الحضور ثلاثة أيام؟ إن لم تكن هذه إجازة فما تكون إذن؟
ثم أكملت في صوتٍ بدا في أذنيه مرحاً:
- اعتبرها إجازة يا صغيري الجميل، وإن أبدلوا بعض حروفها!
ظل مطرقاً لا يعرف ماذا يقول .. فوضعت هي ما كانت تطويه داخل خزانة الثياب، وأزاحت الستائر قليلاً لتفتح النافذة، فتسلل إلى الغرفة هواءٌ نقيّ منعش، ليس بباردٍ ولا دافئ.
اقتربت منه وهي ما بين الابتسام واللوم .. كان يعرف هذه النظرات جيداً .. إنها تريد أن تعاتبه، ولكنه عتابٌ من وراء القلب، كأنه عتابٌ روتينيّ لابد منه!.. جلست إلى جانبه، فانتظر أن تقول شيئاً، وساد الصمت قليلاً .. ثم أحسّ بشعاع دفئها ينسابُ في أذنيه:
- هم الخاسرون، لا أنت .. من أين لهم بـ "هالك" Hulk وسيم مثل حبيبي هذا؟ .. فليبحثوا لهم عن واحدٍ آخر، فليأتوا بذلك الأخضر البدين من بَكرَات أفلامهم القديمة لو استطاعوا!
ابتسم في شجن .. "هذه الحنون تعرف كيف تعبث بداخلي حقاً" .. فتابعت وهي تحاول أن تحتضنه بيمينها، فقط لتصل يدها إلى جانبه المقابل فحسب:
- كنت أريدُ أن أعنّفك .. لا أخفيك أنني جئتُ وفي نيّتي أن أقضم أنفك وأعصر أذنيك .. ولكني، لا أدري .. ربما وجدتُ قلبي، يفخر بك.
فنظر إليها في تبسّمٍ دامع .. فأردفت في تأثّر وهي تتنشّق:
- أتدري ما المشكلة؟ .. أنك وردةٌ من نوعٍ فريد، أوراقها تتفتّحُ هنا، بينما رحيقها يهفو من هناك..!
* * *
دقّت أجراس الباب .. فسمع أمه تسرعُ إلى حيث مدخل البيت وهي تتمتم بكلماتٍ لم يتبيّنها .." رقيقةٌ هذه المرأة!" حدّثته نفسه، كان يعرف أنها تستبطئ عودة أبيه من رحلة صيده التي غيّبته عن بيته ثلاث ليالٍ بأهلّتهن .. فلربما كانت تغنّى وهي تفتح الباب له، أو ربما كانت تلعن الظروف التي تضطرهم إلى هذا القلق المستمر! لا يدري .. ولكنه بعد لحظاتٍ سمع صوت الباب يُفتح، وقد توقّع أن يسمع صوت أبيه في حماسته التي ترتجّ له جنباتُ البيت كعادته! .. ولكنه صادف سكوناً .. فوضع الكتاب الذي كان بيديه جانباً، وتحرّك تجاه باب غرفته منتصطاً .. فلما لم يجد أي صوت، ارتاب قليلاً، وأخذ يُصغي أكثر .. فسمع صوت الباب يُغلق من جديد، ففهم أنه قد يكون أحد الجيران أتى ليتعاقد مع أمه من أجل تنظيف بيته استعداداً لاستقبال بعض الضيوف المهمّين، أو من أجل إعداد سفرة عشاءٍ شهيّة لإحدى مناسباتهم السعيدة أو الحزينة، وما أكثرها! .. " لا يهم، طالما أننا نرتزق من أحزانهم وأفراحهم، فلا يهم!" .. قالها واستلقى على الفراش من جديد.
هنا سمع طرقاتٍ على باب غرفته، تلك الطرقات ليست كالطرقات! .. حدّثته نفسه أنه قد يكون صاحبه بيكي بشاربه النابت المثير للضحك، أو ربما جريج المفتون بوسامته في المرآة، أو حتى جون الوقح الذي وشى به زوراً .. بائسٌ إن أتى أحدهم أمامه الليلة!.. وانطلق في دفقةِ من أدرينالين حانقة ليفتح الباب متجهّماً، فقط ليراها أمامه .. صوفيا!
* * *
لا يدري ما سرّ هذا الوجه! .. سألته نفسُه: " كيف بالله تغيّر الطقسُ في أقلّ من ثانيتين؟.. هل هفت الآن نسائمٌ رقيقة من نافذة غرفتي، أم أنني أهذي؟ .. كيف تحوّل الأدرينالين في عروقي إلى دوبامين؟! .. ما سرّ هذا الوجه؟! .. ما سرُّ صوفيا؟!"
كان واقفاً كأثبت ما يكون صنم! .. فابتسمت من إجفاله، وهمست:
- كيف حالك؟
- لا أدري ..
- لمَ لمْ تأتِ الليلة إلى حفل العشاء؟ انتظرناك كثيراً!
- كنتُ هنا .. لم أردْ أن ..
وسكت .. ابتلع ريقه، ثم لاحظ أنه لم يدعها للجلوس، فأشار لها أن تدخل غرفته .. فسمع أمه تقول في صوتٍ ظاهره مزاح، لكن باطنه حنق:
- فري .. الجوّ هنا في غرفة المعيشة ألطف حبيبي.
فابتسمت صوفيا وهي تتوجه إلى الصالة حيث الأريكة الخشبيّة ذات الوسائد الرقيقة، وجلست في انكماشٍ إلى أحد طرفيها، ذلك النوع من الأرائك التي بالكاد تتسع لاثنين متلاصقين .. فراح ليشاطرها الجلوس إلى طرفها المقابل، فسمع صوت أمّه المازح يعود من جديد:
- حذار، ستقذف بها إلى الأعلى إن جلست جوارها! إنها أريكة حبيبي، ولكنها معك أرجوحة..!
فضحك، ورأى أسنانها البيضاء تبتسم .. فجلس إلى مقعد مواجه لتلك الأريكة، فقالت هي:
- لأنك لم تأتِ، أعددتُ لك طبقاً من تلك الأصناف التي أعشقها.
وهنا لاحظ ولأول مرة أنها كانت تحمل بيديها شيئاً .. فتناول منها طبقاً مغلّفاً وراح يبحث له عن موطنٍ يليق به وسط هذه الحاجيات هنا وهناك، فأفسح له مكاناً بجوار مزهرية الريحان وهو يقول:
- لو كنتُ أعلم أنك ستأتين، لاهتممتُ بالبيت وبمظهري أكثر.
فسمع صوت أمّه من المطبخ تصيح في حماسها المعهود:
- هنيئاً يا فري .. صوفيا أتت لك بأجود شرائح الخنزير المشويّ..!
فضحكت صوفيا، وعلّقت بصوتٍ حاولت أن يبلغ آذان المطبخ:
- بالطبع لا .. فأنا أعرف أنكم لا تأكلونه مطلقاً .. اطمئني مسز أمين.
فسمعا صوتها من جديد عبر المطبخ تصيح:
- إذن فلتستمتع بأشهى باستا بكرات اللحمٍ البقري غير المذبوح!.. عذراً حبيبي فأنا الذي أعددتُ وليمة الليلة وأعرف كل أصنافِها عن ظهر قلب!
- لا مسز أمين، أتيت لفريد بقطعةٍ من كعكةِ الجزر التي أعددتها أنتِ لنا كذلك .. أرجو أن يحبّها كما أحبها أنا.
هنا قام فريد وأخذ صوفيا من يدها وفتح باب غرفته ليدخلها .. فنظر فإذا برأس أمّه يطلّ من خلف نافذة المطبخ يرمقهما، وكادت أن تقول شيئاً، إلا أن صوت انغلاق الباب قد سبقها..!
* * *
استندا إلى إطار النافذة وهما يتنشّقان نسيم ليلٍ ربيعي ساحر .. فلامس كتفُه العريض كتفَها دون قصد، فتحرّج وابتعد شيئاً، وهي تنظر إلى السماء وكأنها لم تلحظ شيئاً! تكرر هذا الأمر ثلاث مرات، حتى اضطر إلى أن يعكس اتجاهه، فأولى للنافذةِ ظهره .. فكانت هي ترقب السماء، بينما هو إلى جانبها يرقب مرآة غرفته ..!
كان يراها في المرآة من خلفها، ويفكّر .. كان يحاول أن يفهم سرّ اقترابها منه رغم كل ما يُقال عنه ويُصنع معه، رغم اختلاف الديانة والثقافة والعرْق، رغم تباين الحجم والفكر .. إنها تحاول أن تكون معه، رغم أنها ترى وتدرك عنه كل شيء! .." إنها تعرفني حقاً، حتى أنها تعرف ما لا يمكن أن أتناوله احتراماً لديني وثقافتي! .. أهي تتقرّب مني حقاً؟ أم أن الأمر لا يتعدّى حدود ذلك الإحساس الذي أمقته، الشفقة؟!"
نظر إلى المرآة في شرود، فسمع: "إشفاق من أي شئ أيها المريض؟!" .. سمع انعكاسه في المرآةِ يصدح بها حانقاً .. كان قد اعتاد على هذا الضرب من الخبال منذ عدة أشهر، منذ أن راح يتحاكى مع مرآته كل ليلة، حتى فاجأته ذات مرة وهي تجيب سؤاله! ومن ليلتها، وهو معتادٌ على تعليقاتها المؤلمة بصلفها معه كلما حكى معها .. سمعها من جديد تصدح في أذنيه: "إشفاق بالتأكيد، ولمَ لا؟ مازال شعورك بالتدنّي يحني ظهرك وروحك بالركوعِ أمامهم، يبدو أنك ستظل هكذا، تحتهم!"
- فيمَ تفكّر فريد..؟
أخذه صوتها من جنون مرآته، فالتفت إليها صامتاً .. فتابعت:
- ألا تودّ أن تقول شيئاً؟
- نعم، أريدُ أن أسألك شيئاً.
- سل ما بدا لك، إلا أن تسأل لماذا جئت اليلة إلى هنا..!
- لا، اطمئني .. ولكن، لماذا جئت اليلة إلى هنا؟
فضحكت، وأدهشها حقاً أنه لم يكن يضحك! .. فأجابت في ذهول:
- فريد، إننا زملاء في نفس الفصل، وجيران أيضاً .. ثم إن أبي يعمل مع أبيك منذ سنين، فلمَ لا تجمعنا صداقة ليس فيها أسئلة من هذا النوع؟!
"يا لتواضع هذه الأميرة مع الخدم! زملاء وجيران؟!" .. صدح صوت المرآة يخنق أذنيه .. فهزّ رأسه في ضيقٍ أجفلها منه قليلاً .. فلما لاحظ عدم ارتياحها من ردّة فعله، قال بصوتٍ منكسر:
- أعتذر إن كنتُ ضايقتك في شيء.
- فريد، ما بك؟
- لا أدري ..
- لمَ أشعر أحياناً أنك .. أنك تخفي شيئاً، أو تطوي بصدرك سرّاً يثقل لسانك؟
- صوفيا أنا ..
- تكلم فريد، قل ما بدا لك.
- صوفيا .. أنا ..
"جبانٌ كعادتك أيها البالون الممتلئ بالهواء، تكفيك وخزةً واحدة من إبرةٍ لا قيمة لها لتطيش في الهواء، فتُضحك الجميع .. كعادتك".
ملأ الصوتُ أذنيه من جديد .. فهزّ رأسه طارداً، إلا أن الصوت باغته مجدداً: "أنت لا تستحي منها لحسن خلقك، بل أنت خجلانٌ من بؤس منبتك أيها الفرعُ الهجين!" .. فصاح بحنق:
- كفى ..!
فتحركّت إلى الوراء خطوتين في فزع، ونظرت إلى ما كان ينظر إليه في المرآة، ثم التفتت إليه من جديد، فوجدته دامعَ العينين، فلم تفهم شيئاً:
- فريد، هل .. تعاني من شيء؟
- نعم .. أنا أعاني من نفسي، إنها تخنقني، إنها قيدي الذي يحبسُ أملي..!
- فريد، اجلس واهدأ قليلاً .. ما الذي تقصد؟
- لا شيء صوفيا، أرجوك ارحلي الآن، فأنا لستُ بالشخص المؤتمن عليك ..!
- فريد، لن أرحل قبل أن أفهم ما بك.
- قلت لك لا شيء، إننا لا شيء .. هل تدركين معنى لا شيء؟!
- من أنتم؟
- نحن، من نعيشُ بلا جدوى، من نحيا بلا جذور، من نخدم غيرنا فقط لنأكل ونشرب كالأنعام!
- فريد، إن كنت تقصد أسرتك، فأنتم لا تخدمون أحداً، أنتم تعملون بأجر!
"نعم، تماماً كعبيدٍ لديهم حقوق يكفلها الدستور .. لا عجب في أن يلد التعيسُ تعيساً!".. فردّ على المرآة في حنق لم يفزعها هذه المرة:
- قلت كفى، لستُ كما تقولين .. لستُ كما تقولين!
ابتلعت ريقها في حذر، ثم ربّتت كتفه، وهي تهمس إليه:
- فريد، ربما هناك شيءٌ يحدثُ بداخلك، أستطيع أن أفهمه الآن .. إنك تحتاج أن تسترخي قليلاً.
- صوفيا، لا يمكن أن نكون صديقين، مهما قلت، مهما فعلت، لا يمكن أن نكون.
- لماذا؟!
- لأنهم يرونني أقلّ منهم..!
- من هم؟ أنسيت أنك تحمل جنسية هذا البلد؟!
- لا شأن لي بالورق، إنها نظراتُ العيون .. أريد أن أستريح من نظراتهم!
- أنت لست أقلّ من أحد، ولا أكثر من أحد أيضاً، أنت إنسان حيثما كنت، مجرد فرد لا يدور في فلك حول الشمس، ولا يدور حوله قمر..!
- فلتقولي هذا لهم، قولي لزملائك في الفصل، قولي لرأس الإجوانا الذي يعتبرني مسماراً يصلح لأي حائط، أو جداراً يصلح لتعليق أي شئ .. قولي لأفراد الشرطة الذين يراقبوننا بشكّ كلما رحنا أو جئنا .. قوليها لبعض الجيران الذين يبالغون في الارتياب عند التعامل معنا .. قوليها لهذه المرآة اللعينة التي لا تكفّ عن إهانتي وهدم أعمدة كرامتي كلّ يوم ..!
نظرت إليه في حنق هذه المرة، ثم قالت:
- فريد، المرآة لا تقول شيئاً .. إنما قزمٌ غبي في صدرك هو الذي يقول .. ليست العيونُ هي التي تراك أقلّ، بل عيناك أنت أيها العملاق .. بل، أيها القَزم..!
قالتها وسحبت حقيبةَ يدها الصغيرة من فوق المنضدة؛ لتغادرَ في غضب .. أو لتتركَه مع هذا الوجه المنعكس في المرآة، ذلك الوجه العابث الذي أخرجَ لسانه ساخراً .. فأخذ يدورُ بعينيه بين باب غرفته المفتوح، حيث خرجت هي منذ لحظات، وذلك الوجه الماجن الساخر في المرآة .. فقط ليجد نفسه وقد أجهش في البكاء!
* * *
اقتربت أولُ نسائم الفجر .. حين اقتربَ الأبُ العائد من رحلة صيده في خطواتٍ منهكة إلى حيث باب البيت .. حاول أن يفتحه في هدوء كيْ لا يوقظ النائمين، وخلع نعليه عند عتبة الباب الخشبيّ، ودخل .. وضع حقيبة كتفٍ عملاقةٍ على الأرض، بينما أسند بعض أدوات الصيد إلى الحائط عن يمينه .. وراح ليدخلَ المطبخ ومعه بعض الأكياسِ الممتلئةِ طعاماً .. فسمع باب غرفة فتاه الصغير ينفتح، فالتفتَ مندهشاً! فلما رأى فريد، وضع الأكياس عن يده وأسرع إليه يدسّه في حضنه دسّاً .. وأخذ يقبّل رقبته وكتفه معانقاً .. ثم نظر إلى عينيه، فرآهما حمراوين .. فسأله:
- أمِن السهر؟
فهزّ الفتى رأسه أنه نعم .. فتابع الأب متهكّماً:
- أم من البكاء يا صغيري الذي لا يعرف الكذب؟!
- تأخرت عليّ يا أبي .. تأخرت كثيراً!
* * *
جلسا إلى طرف الحديقة على أنسام الصبح الوليد يتحدّثان .. كانا يبدوان منهكيْن تماماً، غير أنهما كانا في حاجةٍ إلى أن يجلسا معاً، على أنسام الفجر بخواطره النقيةِ الصافية ..!
كان قد أطرق رأسه كعادته، وسكت .. فسمع صوت والده يقول في حنق:
- ألم تعدْني ألا تتدخّل في تلك الشجارات من جديد؟ .. ماذا تظنّهم فاعلين معك؟ أن يمنحوك وساماً!
- أبي ..
- أنت تعرف جيداً أن الأمر لا علاقة له بالفصْل .. رأس الإجوانا ذاك أمرُه هيّن، كما تعوّدنا معه، إن هي إلا وجبةُ عشاءٍ فاخرة من تلك المأكولات البحريّة التي تعدّها له أمّك وسينسى الأمر برمّته .. أنا أتحدّث عنك أنت، إلى متى ستظل تجلب لملابسك النقيّة بقعاً من أدران الآخرين؟!
ساد الصمت وكل منهما ينظر في اتجاهٍ معاكس .. فتابع الأبُ في صوتٍ مختنق:
- للمرة المائة أكرر لك .. نحن نعيش بينهم، فلنحيا إذن بقوانينهم هم، لا بما نحمله في طيّاتنا من عاداتِ هناك، التي لا ثمن لها هنا! .. أنت تعلم أن الفتييْن يتلاكمان في المدرسة، بينما والداهما يتلاكمان في سوق البورصة كل يوم .. أنت تعلم أن أصحابهما يشاهدون عراكهما ويتراهنون، وأن المدير يعرف ويغضّ عنهما الطرْف، وأن الفتيات يسمعن بما يحدث فيتضاحكن بإعجاب، فما بالك أنت تحمل عنهم الوقر؟! في النهاية كلٌ عاد إلى بيته راضياً عن نفسه، بينما أنت عدت بأطنانٍ من الهمّ والشعورِ بالنقصان .. أترضاه لنفسك؟!
- لا يا أبي .. ولذلك فأنا أسألك دوماً أن ...
- أن نعود إلى الوطن .. أليس كذلك؟!
فنظر إليه فريد في جزع .. فأردف هو:
- حبيبي .. الوطن هو حضنُ أبيك وحجرُ أمك .. الوطن هو بيتُك وغرفتُك .. كفاك حنيناً إلى شئٍ أنت أصغر سنّاً من أن تدركه!
- أبي أنا أشعر هنا بأنني .. غريب!
- حبيبي .. الغربةُ آفةٌ في جوفك أنت .. فحتى لو عدت إلى وطنك بهذا الصدر، فلا أظنك ستكون سعيداً هناك أيضاً.
- أبي ألا تلاحظهم كيف يعاملونك هنا؟ .. إنك لا تبيع صيدك إلا إلى متاجرٍ صغيرة تعرف أنك لن تبيع لسواها؛ فيشترون منك بأثمانٍ يحددونها هم، لا أنت! .. ألا تلاحظ كم مرة استدعاك المحققون للإدلاء بإفاداتٍ حول حوادث أو سرقات لا علاقة لك بها؟!
- وهل شكوت لك يوماً؟ .. نعم يستدعونني لأنني في نظرهم أوّل المشتَبهين، ولكن هل سمعت أنهم اعتقلوني يوماً أو حتى داسوا كرامتي؟!
- أبي .. هل تعلم كيف ينظرون إليّ في مدرستي؟ كيف يعاملني الطلاب؟ .. أنا .. أنا معزولٌ كحامل وباءٍ، يتجنبني الجميع!
فقام والده في إرهاق بدا على وجهه وحركته .. ونظر إلى ولده مليّا، ثم قال قبل أن يمضي:
- هم لا يرونك هكذا، بل هكذا أنت ترى نفسك!
* * *
كانت الأرضُ قد استكملت عشرَ دوراتٍ حول شمسها .. وكلما دارت، تغيرت معها الوجوه والنفوس والمشاعر! .. عشْر دورات، كانت كفيلةً بأن يكمل دراسته الثانوية، ثم يتخرج في كليةٍ عريقة تؤهله لتدريس الأدب اللاتيني الذي طالما عشقه ونبغ فيه، لعله ينقل عشقه هذا إلى عقولٍ ناشئة تتفتح كالزهور، كفراشاتٍ ملوّنة تبحث عن النور!
لطالما كان عقله يحلّق به في آفاق الثقافة وفنون الفكر، بينما كانت نفسه مثقلة بأعباءِ القلق وهمومِ الاغتراب .. وهو بينهما، في صعودٍ وهبوطٍ مستمر، فلا عجب أن بات يشعر دوماً بالدوار!
لكنها نفسه، تلك القَلِقةُ البائسة التي صارت تُعيق أجنحة خياله بثقلها ونزقها .. أينما راح كانت معه، بنفس أحمالها وأوجاعها وتساؤلها اللحوح الذي لا يكاد ينتهي ولا يكاد يرسو به إلى أقرب ميناء لليقين! .. فما كان منه إلا أن سافر هرباً منها .. ركب أول باخرة صادفتها عيناه ووسعتها مدخراته .. إلى أين؟ لا يهم، إلى أي ميناء بعيد؛ لعله يهرب من موطن آلامه ومن ذلك الماجن الذي يتبدّى له بالمرآة كلما خلا إلى ذاته .. فعبرت به الباخرة عرض المحيط الأطلسي بأكمله، حتى رست به أخيراً في ميناء مارسيليا.
* * *
كان فناءُ المدرسةِ صاخباً .. ما بين صبيان يركضون في ضحِك، وفتياتٍ يتقاذفن كرة السلة في دائرةٍ كيْ لا تمسك بها إحداهن في الوسط، ومجموعة من ذوي الشوارب النابتة يتنابذون في مرحٍ أقرب إلى العنف، و .. مصطفى.
كان مصطفى أحد الخمسة من ذوي الأصول العربية المقيّدين بهذه المدرسة الشهيرة بوسط مارسيليا .. كان جالساً بجوار زميلين له على تلك الأريكة الخشبيّة بطرف الفناء .. وكان فريد يقف بشرفة الطابق الأوّل للمدرسة يتابعُ في تبسّم عبثيةِ مشاهد الصبية وهم يكرّرون ما يفعله المراهقون منذ بدْء الخليقة، متلازمة "الصبي-كثير العنف-قليل الإكتراث" تتجلّى أمامه! .. هو يعرف جيداً هذه الفوضى، فقد كان أحد روّادها يوماً حين كان يناهز الحُلُم أثناء دراسته بتلك البلاد البعيدة في القارّة المجاورة إلى غرب المحيط!
لاحظ فريد أن زميلي مصطفى قد وقفا أمامه معاً، بينما بقيَ هو جالساً في موضعه، والتحم كتفا الزميلين ليخفيا بجسديهما مَن يجلس أمامهما، فلا يكاد يراه أحد .. استرعى هذا المشهد اهتمامه، ولا يدري لمَ، لكنه كاد يتنبأ ببقية المشهد جيداً .. وزاد من تأكيده أن مصطفى حاول أن يقف مثلهما فأقعداه بشيءٍ من العنف! فقرر أن الأوان قد آن لينزل إليهم؛ فهو لن يسمح بهذا، خاصةً وأن الضحية أمامه كانت تُدعى "مصطفى"! .. وفي ثوانٍ معدودة كان عند طرف الفناء .. أسرع الخُطا، لكنه صادف رئيس القسم يقطع عليه الطريق في حماسته المعتادة، قائلاً في شغف:
- فري، لم أرك اليوم، أين كنت؟
- عذراً مسيو آلان .. فقد أتيتُ اليوم متأخراً، ولم أجد وقتاً للمرور بغرفتكم.
- لا عليك، فقط كنت أريد أن أسألك عن ...
ظلّ الرجل يتكلم مسترسلاً في حماس، بينما ظلّت عيناه وأذناه هناك؛ عند مصطفى الذي حاول القيام مرةً أخرى فأقعده الفتيانِ قهْراً من جديد .. بل ورأى حذاء أحدهما يدهس قدم مصطفى، فتأوه، إلا أن صوت تأوه الفتى تاه سُدىً وسْط هذا الصخب ..!
- فما رأيك فري؟ هل نضيف هذا الجزء في منهج الصف السادس أم ننتظر قليلاً؟
لاحظ الرجل أن فريد لم يكن معه على الإطلاق، فسأله في مرح:
- فري، أين أنت؟!
- نعم مسيو، أعتذر .. ماذا كنت تقول؟
- لا عزيزي، أنت لست معي على الإطلاق .. ما الذي يشغلك هكذا؟
هنا لاحظ فريد أن مصطفى أخذ يبكي! .. نعم، هو قد سمع صوت بكاءٍ ليس بمكتوم، غير أن الضوضاء جعلته صوتاً تائهاً لا سمات له .. فاعتذر وهو يربّت كتف رئيس القسم معتذراً، وسار بخطواتٍ جادة إلى حيث هذيْن الصبييْن وهما يمارسان مع مصطفى تنمّراً يعرفه جيداً .. فما أن وضع كفّ يده على كتف أحدهما حتى التفت إليه الأخير بوجهٍ محتقن! نظر فريد إلى مصطفى وقد توقّع أن يرى على وجهه علاماتٍ يعرفها جيداً .. غير أنه رأى مصطفى مبتسماً في خبث! .. وأثار دهشته أنه لاحظ الفتى الآخر هو الذي كان يبكي! .. ما الذي يحدث؟! سأل بعينيه في عدم فهم .. وكأنهم سمعوا ما كادت تنطق به عيناه، فأجابه الصبي الواقف عن يمينه في حنقٍ أقرب للبكاء:
- مسيو فريد، لا أصدق أن السماء قد جاءت بك الآن! .. هذا المراوغ يحتال علينا! أدركنا منه أرجوك.
عقّب الصبي الآخر وهو يمسح طرف أنفِه السائل قليلاً وينشق:
- نعم مسيو، منذ أن تولّى مصطفى تجميع المراهنات وهو يختلس منها لجيبه بلا خجل!
- مراهنات! .. عمَ تتحدثان بالضبط؟
- أنت تعرف مسيو أن دوري المدارس لكرة القدم بمرسيليا يكاد يشتعل هذه الأيام، والكل يراهن على مدرسة الحيّ المجاور .. الآن وقد وصلتْ إلى الدور النهائيّ بالفعل، يأبى هذا الماكر إلا أن يعطينا ثلاثة أرباع مبلغ الرهان فقط! ماذا تحسب نفسك أيها الخبيث؟!
وكاد الصبي في نوبة حنقه العاتية تلك أن يمسك بمعطف مصطفى الجالس في برود، إلا أن يداً عملاقة ابتلعت كفّ يده! احتاج الأمر إلى عدة ثوانٍ ليدرك أنها كانت يد مسيو فريد ذاته، الذي أمسك بيده قبل أن تصل إلى معطف مصطفى، قائلاً للفتييْن في هدوء:
- بيير، جان .. اذهبا أنتما الآن، وسأجلس معكما لأرى أمر الرهان هذا فيما بعد .. هيا.
فنظرا في غيظ إلى زميلهما مصطفى الذي زادهما حنقاً بابتسامته الباردة التي لا تكاد تفارق طرف فمه! .. ولكنهما ابتلعا غيظهما، ومضيا وهما يتمْتمان بعبارات سبابٍ تاهت لحسن حظهما في صخب الفناء.
جلس فريد إلى جوار مصطفى بجسدٍ مهزوم .. فسمع الأخير يهمس في ثقةٍ أدهشته:
- لا تظن أنني أحتال عليهما كما زعما، فقد اتفقنا أن لي الربع إن فاز ذلك الفريق .. هما نسيا ما تعاهدنا عليه فقط.
فالتفت إليه في عدم تصديق .. فتابع الصبي-الفتى وهو يدسّ عملاتٍ في جيب سترته:
- هكذا نحن، دوماً يظنون بنا الظنون..!
- أنتم!
- بالتأكيد .. العربيّ مهضوم الجانب حيثما حلّ! كلّ أفعاله موضعُ شكّ .. يبدو أنه انطباعٌ لصيقٌ بنا لن يزول..!
فأطرق فريد في شيءٍ من العجْز! .. ولا يدري ما هذا الحامض المرّ الذي تصاعد عبر مريئه الجريح إلى فمه! .. فامتعض وجهه، وأخذ يسعل حتى احمرّت عيناه .. فأردف مصطفى في شغف مصطنع:
- ألف سلامة عليك .. هل تحتاج إلى شربة ماء؟
رنّ الجرس .. فأسرع كلّ من كان بالفناء في الاصطفاف على الفور، وقام مصطفى هو الآخر بعد أن سلّم عليه .. وما هي إلا دقائق، حتى كان الفناء قد فرغ من الفوضى، وعاد الهدوء من جديد!
كان هو لايزالُ جالساً حيث موضعه، لم يفق من شروده بعد، حتى سمع صوتها يهمس من خلفه:
- من جديد؟ .. لمَ تدخّلت بينهم فري؟! ألم نتفق؟
فالتفت إليها، فإذا هي ناتالي، زميلته الشقراء، "قلب النعامة" كما كان يحبّ أن يطلق عليها .. قالتها وجلست إلى جواره في رقةٍ تليق بها .. ثم تابعت في نبرةٍ أمومية أحسّ هو بدفئها:
- مازلت تحمل في قلبك هموم الناس كعادتي بك!
- لا ناتالي، فقط كنتُ أحاول أن ..
- لا تقل شيئاً عزيزي، فأنا أفهم جيداً ما يدور بداخلك .. مازلت تظنّ أن بعض التلاميذ هنا مثل مصطفى وزُبير وإسماعيل ونائلة وسمر يعيشون بمركّب المُغترب-المعذَّب بيننا، لا لشيء إلا لأنهم عربٌ، أيْ أقليةٌ مستضعفةٌ مثلك، أليس كذلك؟
فنظر إليها في عينٍ لا تقولُ شيئاً .. فأردفت في عتاب:
- لقد كنت أتابع ما يحدث منذ قليل .. رأيتك وأنت تكاد تقفز لتدافع عن مصطفى، بعد أن توهمت بأنهه يتعرض للتنمّر، لمجرد أنه "مصطفى"! وبأن بيير وجان هما من يمارسان معه ذلك التنمّر، لمجرد أنهما ليسا "كمصطفى"! .. حتى تفاجأت بما لم يخطر ببالك من الأساس، بما لم يكن مطروحاً في مخيلتك من الأصل؛ أن مصطفى هو ذاته من كان يمارس معهما نوعاً من الاحتيال!
ظل ينظر إليها بعينٍ تغالب الدمع .. إنه يشعر الآن بمزيجٍ جديدٍ من الانهزام والإحباط وعدم الفهم! لقد تبيّن له حقاً كمْ أنه ساذجٌ قليلُ الخبرة بهذه الحياة!.. إلا أنها أكملت في صوتٍ دافئ:
- مصطفى تلميذٌ بهذه المدرسة، وجان وبيير أيضاً تلميذان هنا، لا فارق بينهم إلا بمستوى السلوك والتحصيل الأكاديميّ .. وأنت كذلك، أنت هنا بصفتك مسيو فريد مدرس الأدب اللاتيني، بفضل شهادتك وقدراتك وعلمك، لا دخل هنا لأصولك ولا لعرقك ولا لديانتك .. إلا إذا كنت مصرّاً على إقحام مثل تلك العناصر لتفسير الأمور!
التفت بعينيه عنها في تأثر .. إنه الآن يشعر بشيء في صدره غير مفهوم .. لعله إحساسٍ بالضآلة! كطفلٍ صغيرٍ تاهت منه كفّ أبيه وسط الزحام المخيف، فوجد نفسه وحده بين أمواج عالمٍ كبيرٍ شاسع غير مفهوم! .. ابتلع ريقع، ثم أجاب في صوتٍ مخنوق:
- أنا لا أقحم شيئاً، ولكني مازلت أشعر بأشياء لا أعرف كيف أصفها لك!
- هل تشعر بأن أحداً هنا يعاملك بجفاء؟ أو يسيءُ إليك؟
- لا .. أنا لا أقصد المعاملة، إنها .. إنها نظراتٌ أراها في العيون.
- فري .. أنا لا أفهم ماذا تقصد؟ ولا أظن أحداً يفهم عنك ما تقول!
فتنهّد، ثم قام معها يتمشيان عبر الفناء .. فسمعته يقول وكأنه يحدّث نفسه في تبسّم:
- أتعلمين أنني قد حاولتُ أن أتزوج مرتين؛ مرةً في الولايات، ومرةً هنا .. ولكن الأمور كانت دائماً لا تتم.
- وما دخل هذا بما تقول أنك تشعر به؟
سكت قليلاً في تفكير، ثم استطرد:
- أتعلمين كذلك أنني قد تقدمتُ عدة مرات بطلبٍ للتدريس في مدينة ليون؟ كنت أتقدم بجواز سفري العربيّ، الذي كان أبي يحرص كل عدّة سنواتٍ على تجديده، فكان الرفضُ حاسماً .. ثم تقدمتُ بطلبٍ للتدريس هنا في مرسيليا، لكن هذه المرة بهويّتي الأمريكية، فكان القبولُ حاسماً..!
فضحكت .. وتنهّدت:
- ببساطة لأنك أمريكي متخصص في الأدب اللاتيني، وقد قررَتْ لجنةُ التعليم في مدينتنا أن تدرج مادة الأدب اللاتيني كأحد المواد التجريبية في هذه المرحلة التعليمية، فلما تقدمت أنت بشهادتك ولسانك الأمريكي، قُبلتَ على الفور .. ولو كنت تقدمت بجواز سفرك العربيّ هنا لرفضوك بالتأكيد.
دخلا إلى قاعةٍ مغلقة .. فاستند هو إلى طرف المقعد الجلديّ في تفكير، فتابعت في همس:
- كل شيء في هذه الحياة يمكنك أن تفسّره من جانبٍ واحدٍ فقط، ويمكنك أيضاً أن تفسّره من عدة جوانب .. فقط افسح لعقلك أفقاً.
فنظر إليها وقد بدأ يهضم ما تقوله شيئاً .. إلا أنه لاحظ تلك المرآة من خلفها، ورأى ذلك الوغد يطلّ بوجهه الساخر من جديد .. وسمع صوته يملأ أذنيه: "الذلّ شهوة .. وقد أدمنتَ الشعور بالدونية بينهم .. استمرّ واستمتع بركوعك أيها الذليل!" .. فتجاهل كلامه السخيف كعادته، فقد سأم تعليقات مرآته الباردة منذ ما يربو على عقدين! .. ثم سمع ناتالي، "قلب النعامة" كما كان دوماً يشعر بها، تسأله:
- أحياناً أفكّر في أمرك وأتساءل، لمَ لمْ تحاول من قبل أن تعود إلى بلدك؟ لقد كانت لديك فرصة جيدة قبل أن تأتي إلى فرنسا، فلمَ لمْ تحقق ما كنت تحلم به؟
فكاد أن يقول شيئاً، إلا أنه سمع مرآته تصيح في أذنيه:" لن يفعل .. فأمثالُه ضُربت عليهم الذلة والمسكنة أينما رحلوا .. لو لم يحيا مضطهداً لقتله الملل!" .. فهزّ رأسه طارداً ذلك الخاطر السخيف، ثم أجاب في امتعاض:
- ليس لي أحدٌ في بلدي أعود إليه .. لذا فقد أحببتُ إن عدتُ يوماً أن أعود بأسرة ..
فابتسمت .. وقالت:
- فري، أتصدقني إن قلتُ لك؟ .. أنت مرعوبٌ من أن تعود!
فسمع المرآة من جديد تصيح في سخف لا حدّ له: "ها ها .. لقد لمحت شوارب الفأر الذي يستتر خلف عضلات صدرك! ارفع أذنيك وأجبها أيها الجرذ الحزين!" .. فالتفت إليها متجاهلاً مرآته، ثم همس في صوتٍ ضعيف:
- ناتالي، ليس الأمر متعلقاً بخوفي من الرجوع، بل .. بل .. أريدك أن تفهمي مقصدي..!
فابتسمت في رقة:
- بل أنت ونفسك تحتاجان أن تتفاهما معاً! .. فري، كنتَ مع والديك معذّباً بإحساسِ البُعد قهراً عن الوطن كما حكيت لي .. فلمّا صار أمرُك بيدك، صرتَ أيضاً معذّباً بإحساسِ البُعد، لكن هذه المرّة طوعاً عن الوطن! .. صارح نفسك، أنت لا تريد شيئاً، أنت فقط مريضٌ بلوعة الاغتراب، أو ربما تعاني رهاباً من كل ما هو أجنبيّ، زينوفوبيا كما يسمونها .. بل ولا يبدو أنك تريدُ أن تُشفى من تلك الاضطرابات التي تعبث بنفسك!
سمع الصوت من المرآة يضحك في تشفٍّ .. فشعر بغصّة في حلقه، وسألها:
- وكيف لمثلي أن يمتثل للشفاء يوماً؟
فرفعت كتفيها في تلقائية، وقالت:
- ببساطةٍ مذهلة .. عُد إلى الوطن!
* * *
كان قد تعب من طولِ المسير .. لثلاث ساعاتٍ أو يزيد ظلّ يتمشي حول الميناء في دوائر حتى كادت تتورّم قدماه، فجلس إلى أقرب أريكةٍ صادفته، تحت ظلال تلك الشجرةِ الوارفة .. وأخذ نفساً عميقاً وقد أغمض عينيه طلباً للارتخاء وصفاء الذهن؛ فقد أنهكه كثرةُ التفكير، كما أنهكه طول المسير.
فتح عينيه، فأدهشه هذا الموضع الذي اختارته قدماه ليجلس إليه! .. إنه موضع يطلّ على رصيف الميناء في مشهدٍ بانوراميّ يسلب العقل! .. فضحك، وظل يراقب تلك السفينة العملاقة وهي تتأهّب للمغادرة بعد أن استكملت حمولتها وصارت آهلةً للرحيل.
أخذ يتابع صوتها الصاخب وكأنها تتمطّى بعد طول الرقاد؛ استعداداً للإبحار .. وكيف أنها مكثت ساعاتٍ طوال لتنال الإذن بالمغادرة، بعد أن أثقلوها بجبالٍ من الحاويات متعددة الألوان! .. وكأنها قد نفد صبرها، فأطلقت صفارتها المطوّلة، ولملمت مرساتها، وأعلنت في صياح: إني الآن راحلة!
ظل يتابع حركة السفينة الوئيدة في شرود، ثم همس إلى نفسه وهو يبتسم: "يبدو أن حبال صبري تفوق حبال مرساتِك عزيزتي! فأنا لم أطلق صافرة رحيلي بعد! .. ولكن، ما جدوى طول الصبر؟ أليست الحمولة تزداد كلما طال البقاء؟ وكلما زادت الحمولة ثقُلت الرحلة وطال مسارها؟! .. أتُراني أنا الذي على صواب؟ أنا الذي أختال عليكِ بصبري وحكمتي! .. أم تُراكِ أنتِ، حين قررتِ الرحيل أخيراً لتصلي إلى ميناءٍ بعيد تضعين فيه تلك الحمول عن ظهرك؟ .. لم أعد أعرف عزيزتي، لم أعد أعرف.."
وراحت السفينة تدور في تؤدة؛ لتضبط اتجاهها قِبل البحر المفتوح .. وراح يشاهدها وهي تمضي في طريقها إلى أرضٍ جديدة، أم تراها تمضي عائدةً إلى منشئها الذي صنعت فيه؟ .. ضحك في وهن: "لا يهم، إنها فقط تمضي في طريق رحلتها ولا تبالي بفلسفتي العابثة تلك! .. وبعد أيامٍ أو أسابيع أو حتى شهور، سترسو من جديد، لتضع حمولتها وتستريح! فهل يا تُرى سيأتي عليّ يومٌ ترسو فيه سفينتي، فأضع حمولتي، وأستريح؟! أم أني سأظل غريباً أبداً على رصيف الميناء، أو تائهاً في عرض البحر..؟!"
وبدأت قطرات المطر تتساقط على وجهه في حنوّ .. ولا يدري لمَ أخذ الآن يتذكر وجه أبيه وصوت أمه الحنون! .. وكأن تلك السفينة وهي تمضي قد أثارت من خلفها غبار الماضي ورذاذ الأمس، حين كان صغيراً يهفو إلى حلمٍ بعيد، حلمٍ كلما مرت به الأيام بات أشد ضموراً وأكثر بُعداً .. وظل يتساءل في صمته، وقد اختلطت دموعه الدافئة بقطرات المطر الباردة: "هل الأحلام هي التي تبتعد عنا حقاً، أم نحن الذين لا نقترب..؟!"
* * *


(القلم: ضبْط الفلاش، ضبْط العدسة: أعتقد يا صديقي أن ما تعانيه ليس في جوهره اغتراباً عن الوطن، إنما هو اغترابٌ عن النفس! فحتى لو عادت بك السفن يوماً كما تأمل، فسيظل هذا الألم يلازمك ما حييت.. أتدري؟ ربما أنت تحتاج إلى زوجة تلهيك عن هذا الألم .. زوجة تشعر معها بأن الدنيا مليئة بأنواع أخرى من الآلام تستحق الـ ! .. لا عليك صديقي، امسح دموعك، فأنا الآن سألتقط):




أمي .. متى نعودُ إلى الوطن؟
يوماً سنعود حبيبي .. حتماً ذات يوم
ومتى سيشرق ذلك اليوم؟
ألا تمل تكرار السؤال؟!
وكيف أملُّ يا أمي بريقَ الأمل!
على أيةِ حال .. نحن في انتظار العمل
نعم .. عملٌ بلا أمل!
ماذا قلت؟!
أعتذر .. أقصدُ أملاً بلا عمل!
لا أفهم ما حل بك!
أنا الذي لا أفهمك أمي .. لمَ هاهنا تبحثان؟
وأين نبحثُ إذن؟
نبحثُ في قلب الوطن
عجباً .. فلمَ هاجرنا من الأساس؟
أم تُرانا حبيبي نعشقُ دوارَ السفن!
أمي أنت هنا تخدِمين .. بيتاً بعد بيت!
هذا ما تيسّر حبيبي .. ولو كان بأمري لانتقيت!
أمي لمَ تقبلين؟!
لتأكلَ وتدرسَ وتَنْعَمَ بالسكن
أراكِ هنا تقنعين .. فلم هناك لم تقنعي؟!
حبيبي .. ودّ كثيرٌ من هناك لو ينالوا موضعي!
أمي .. ألا تشتاقين إلى دفء الوطن؟
آآه .. ومن يشتاقُ إلى المحن؟!
أمي لا وطنَ بلا محن
حبيبي .. دنيانا هناك لم تضحك
وهنا يا أمي كذلك لا ضحك .. إلا على نفسٍ تستهين!
أمي .. لمَ لا ترحلين؟!
كفاك ..!
لن نعود إلا بشيٍ يستحقُ الاغتراب ..
وإلا فقد اغتربنا في السراب!
أمي أمازلتِ تحسبين .. أن الطهو أو محو التراب
عملاً يستحق الاغتراب؟
أنسيتِ أنكِ كنتِ معلمةً رائعة؟!
تقصد معلمةً جائعة!
ولكني كنتُ يا أمي .. بين الناسِ أفتخر!
لا تظن أني سأدمع لقولك أو أعتذر ..
فلو عاد بي الزمانُ ألف مرةٍ لفررتُ .. ولما كنتُ لأنتظر!
وسواءٌ عليك أوعيتَ أم لم تفهم مقصدي
فكل ما يعنيني أنك تأكلُ وتدرسُ ..
وتبيتُ وترتدي
أمي .. فمتى تعود بنا السفن؟
ليس قبل أن نذوق شيئاً مما حُرمنا
بعدها ربما قد نشتاقُ .. إلى كلمة وطن!
* * *
أبي .. متى نعودُ إلى حضنها؟
عجباً .. ومن لك فيها لتشتاق لها؟
لا أحد .. ولكني أفكر فيها ..
وأشعرُ بها!
ربما نعود يوماً .. أو لا نعود
كيف يا أبتي لا نعود؟!
تماماً كما يخرجُ المطرود .. فكيف له أن يدخلَ من جديدٍ؟
ولكنهم أبتي لم يُخرجونا!
كذلك بُنيّ لم يحتوونا .. ومن يأبانا فنحن لا نريد!
أبي .. إنها بلدي!
وهي من قبلِك أرضي وكبدي ..
ولكنها يا بُنيّ قَسَت!
وهل يا أبتي هذي البلادُ لا تقسو؟
ربما .. لكنّ قسوةَ الأم تؤسي وتغُم!
يا أبتي .. إننا فيها ضيوفٌ ما بقينا!
ومن نحن فوق أراضينا؟! ..
ألسنا ضيوفاً نأكلُ بثمن؟!
أبتي .. أشعر أن قلبي كلما حنّ ..
زاد اغترابي من جديد
اشتقتُ يا أبتي إلى دفءٍ بعيد!
صغيري أنت أرقّ من أن تدرك ..
أن الحبَّ ليس بالدفءِ الوحيد!
فهنا لا أحدَ يحنو علينا .. ولكنْ رغم القساوةِ والجليد
فإنا نأكل ما اشتهينا .. ونبيع ما نصيد!
أمّا هناك .. فغلاء ٌبلا سبب
يعقبهُ عرضٌ بلا طلب ..
ثم ركودٌ في الوريد!
فأيهما حبيبي أبقى دفئاً!
من أكسبني دخلاً.. أم من أغرقني في دراما الشجن؟
أتعني يا أبتي أننا حقاً لن نعود؟!
ليس قبل أن تعود .. بلادُنا إلى وطن!
* * *
أنبئيني بصدقٍ مرآتي ..
متى أعودُ إلى الوطن؟
أحين أشيب؟
أم بعد سباتي؟!
أريدُ أن أعودَ أنا
لا أن يعود يوماً رفاتي!
آلافٌ من الأميال تحول
بين جذوري وهذي الحقول!
فكيف بالله أنبتُ هنا ..
بينما بذوري نُثرت هناك!
أنا لستُ من هنا .. أنا من هناك!
ولو أبت وثيقة هُويّاتي
مهما ادّعوا ..
فإن ورقي ليس بذاتي!
أنا من هناك!
ولو كان هنا أجمل
أو عشتُ هنا أكمل
أو دلّت سماتي!
لا أرضى أن أكون هجيناً
مزجوا ترابي من شتاتي!
أنا من هناك!
ولو باحت لغتي بغيرِ ذلك
أو صاحت صفتي بغيرِ ذلك
كل ذلك تذروه الرياح
وتبقى حقيقةُ ذاتي!
أنا لستُ منهم .. مهما بقيتُ معهم
فهم من هنا نبتوا ..
ونبتَت من هناك جيناتي!
هل تسمعين مرآتي؟ .. أنا من هناك!
يأبى الشجر .. وتأبى الشمسُ والقمر
كلّ الكواكب والأفلاك
تعرف أني لستُ من هنا
بل من هناك!
يا كلّ الورود من حولي..
يا كلّ الطيورِ والهواءِ والمطر
يا جيران الطفولةِ وصحبةَ السفر
مهما طال معكم بقائي
مهما أتاه بي القدر
فلن يثمر غصني
أو يورقَ الشجر
حتى تُنثر البذورُ هناك
وتسقيها الشمسُ هناك
هكذا يقولُ جذري وساقي
وترضاه كلّ غصوني وأوراقي
أنبئيني بصدق مرآتي ..
متى أنسج بالليل شراعي هنا
لأُلقي بمرساتي صباحاً هناك؟!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.