سار الشرطي الضخم على استحياءٍ حتى دخل الغرفة في انفعال وندم شديدَين.
لمْ أتعمَّد أيَّ أذًى يا سيدي، أقسم لك. لقد أتت السيدة الشابة إلى باب المنزل » : وقال
أمس، وكانت قد أخطأَت وجهتها، هذا ما حدث. ثم رُحنا نتكلم. إنه لَشعورٌ موحش حين
«. تتولى الخدمة هنا طوال اليوم
«؟ حسنٌ، وماذا حدث بعد هذا »
أرادَت أن ترى أين وقعت الجريمة؛ لأنها قرأتْ عنها في الجرائد، هكذا قالت. كانت »
شابة عذبة الحديث وفي غاية الاحترام يا سيدي، ولمْ أرَ بأسًا في أن أدعها تُلقي نظرة. وعندما
رأت تلك العلامة التي على السجادة سقطتْ على الأرض، وتمدَّدتْ وكأنها ميتة؛ فأسرعتُ إلى
الخلف وأحضرت بعض الماء، ولكن لمْ أستطع إفاقتها؛ ومن ثَمَّ خرجتُ مُتوجِّهًا إلى حانة
آيفي بلانت القريبة من هنا لأحُضربعضًا من البراندي، وعندما أحضرته كانت الشابة قد
«. استعادتْ وعيها وانصرفتْ، أظنُّها خجلت من نفسها، ولمْ تجرؤ على مواجهتي
«؟ وماذا عن تحريك هذا البساط من مكانه »
حسنًا يا سيدي، لقد وجدته متجعِّدًا قليلًا عندما عدت، لا شك في هذا. لكن، كما »
تعلم، لقد سقطتِ المرأة عليه، وهو موضوع على أرضيةٍ مصقولة بلاشيء يُثبته في مكانه.
«. وقد سويتُه بعد ذلك
هذا درسٌ لك لتعلم أنك لا تَستطيع خداعي أيها الشرطي » : قال ليستراد في هيبة
مكفيرسون. لا شك أنك كنت تَعتقِد أنه لن يتسنَّى لأحد أبدًا أن يكتشف ما ارتكبته من
إخلالٍ بواجباتك الوظيفية، ولكن كانت مجرد نظرة خاطفة لهذا البساط كافيةً لكي أَقتنع
أنه قد سُمِح لأحدٍ ما بدخول الغرفة. ومن حُسْن حظِّك أيها الشرطي أن شيئًا لمْ يُفقَد، وإلَّا
لَوجدتَ نفسك واقعًا في مأزِق عويص. أعتذر يا سيد هولمز أنني قد استدعيتُك من أجل
شيء تافه كهذا، ولكني ظننتُ أن موضوع البُقعة الثانية التي لا تتطابق مع الأولى قد يثير
«. اهتمامك
بالتأكيد، لقد كان مشوِّقًا للغاية. مَا أتتْ تلك المرأة إلى هنا غير مرة واحدة أيها »
«؟ الشرطي، أليس كذلك
«. بلى يا سيدي، لمْ تأتِ سوى مرة واحدة فقط »
«؟ ومَن كانت هذه المرأة »
لا أعرف اسمها يا سيدي، لكنها كانت قادمة تلبيةً لإعلان يطلب كاتبًا على الآلة »
«. الكاتبة، فأتت إلى العنوان الخطأ، وكانت شابة دمثة وجذابة جدٍّا يا سيدي
«؟ أكانت طويلة وجميلة »
نعم يا سيدي؛ كانت شابة يافعة، وأعتقد أنه يُمكنك القول إنها كانت جميلة. وقد »
«! أوه، أيها الضابط، دعني ألقِ نظرة » : يقول بعضهم إنها كانت فائقة الجمال. وقد قالت لي
كان أسلوبها، إذا جاز القول، فاتنًا مُتملِّقًا، ولمْ أرَ بأسًا في تركها تدخل رأسها وحسب عبر
«. الباب
«؟ كيف كانت ملابسها »
«. مُحافِظةً يا سيدي؛ كانت تَرتدي عباءة طويلة تصل إلى قدميها »
«؟ ومتى كان هذا »
كنا آنذاك في بداية وقت الغسق. كانوا يُوقدون مصابيح الشوارع عندما عدتُ »
«. بالبراندي
جيد جدٍّا. هيا بنا يا واطسون، أظن أن لدينا عملًا أكثر أهميةً في مكان » : قال هولمز
«. آخَر
عندما تركنا المنزل بقيَ ليستراد في الغرفة الأمامية، بينما فتح لنا الشرطي التائب
الباب لكي نغادر. واستدار هولمز وهو على عتبة الباب وكان شيءٌ ما في يده. فحدَّق إليه
الشرطي في اهتمام.
فوضع هولمز إصبعه على شفتَيْه، «! يا إلهي، سيدي » : ثم صاح، والدهشة على وجهه
وأعاد يده مرةً أخرى إلى جيب صدرِه، ثم انفجر في الضحك ونحن نستدير ناحية الشارع،
ممتاز! هيا بنا يا صديقي واطسون، إنَّ الستارة على وشك الانفراج عن الفصل » : وقال
الأخير. وسوف تشعر بالارتياح حين تسمع أنه لن تكون ثمة حرب، وأن سعادة الشريف
تريلوني هوب لن يُعاني من عقبة في مسيرته المهنية المرموقة، وأن الملك الطائش لن
يُعاقَب على طيشه، ولن تكون لدى رئيس الوزراء أزمة بخصوصالشأن الأوروبي عليه أن
يعالجها، وأنه بقليل من البراعة وحُسْن التصرف من جانبنا، لن يُصاب أيُّ أحد بمثقال
«. ذرة من أذًى بسبب ذاك الذي كان من المحُتمل أن يكون حَدَثًا في غاية البشاعة
امتلأتْ نفسي إعجابًا بهذا الرجل الرائع.
«! لقد حللتَ القضية » : وصحتُ قائلًا
ليس تمامًا يا واطسون، لا تزالُ بعضُ النقاط غامضةً كالمعتاد. ولكن لدينا الكثير »
وإذا لمْ نَستَطِع الحصول على البقية فسيكون هذا خطأنا نحن. سوف نتجه مباشَرةً إلى
«. وايتهول تيراس ونشعل فتيلًا في القضية
عندما وصلنا إلى مقر إقامة وزير الشئون الأوروبية، سأل شيرلوك هولمز عن السيدة
هيلدا تريلوني هوب، فأدخلونا إلى حجرة الجلوس الصباحية.
سيد هولمز! إن تصرُّفك هذا لفي غاية الجور » : قالت السيدة ووجهُها متورِّدٌ غضبًا
والبُعد عن النُّبل بلا ريب. وقد كنت أرغب، كما أوضحتُ من قبلُ، أن أبُقيَ زيارتي لك
سرٍّا، مخافةَ أن يظن زوجي أنني كنت أتدخل في شئونه. وبالرغم من هذا فإنك تُعرِّضني
«. لفضيحةٍ بمجيئك إلى هنا ومن ثَمَّ إظهارك أن ثمة علاقاتِ عملٍ بيننا
للأسف يا سيدتي، لمْ أجد بديلًا آخَر. لقد كُلِّفتُ باستعادة هذه الوثيقة البالغة »
«. الأهمية؛ ولهذا فلا بد لي أن أطلب منكِ، سيدتي، أن تَتفضَّلي وتُسلِّميني إياها
انتفضت السيدة واقفةً، وقد تلاشَت كلُّ نضرةٍ من وجهها الجميل في لحظة. كانت
عيناها تلمعان — وبدأت تترنَّح — واعتقدتُ أنه سيُغشى عليها. وبجهدٍ جهيدٍ استجمعَتْ
قواها بعد الصدمة، وراح ذهولٌ وغضبٌ شديدان يَطرُدان كل تعبير آخر من تعابير وجهها.
«. إنك … إنك تُهينني يا سيد هولمز » : قالت
«. دعي عنكِ هذا يا سيدتي، فلا طائلَ من ورائه. أعطيني الخطاب »
فأسرعتْ باتجاه الجرس.
«. سوف يُوصِلكما كبيرُ الخدم إلى الخارج » : وقالت
لا تقرعي الجرس يا سيدة هيلدا، وإلَّا ضاع كل ما أبذله من جهودٍ مُخلِصة لتجنُّب »
وقوع فضيحة سُدًى. أعطيني الخطاب وسيُسوَّى كل شيء. إذا تعاونتِ معي، يُمكنني
«. إصلاح كلشيء. أما إذا وقفتِ في طريقي، فلن أجد بُدٍّا من كشف أمرك
وقفت مُنتصِبة في تحدٍّ وغرور، كهيئة الملوك، وثبَّتتْ عينيها في عينيه كأنما كانت تُريد
قراءة ما يدور في أعماق نفسه. كانت يدها على الجرس، لكنها أحجمتْ عن قرعه.
إنك تُحاول أن تخيفني. وليس من الرجولة في شيء يا سيد هولمز أن تأتي إلى هنا »
«؟ وتَسْتأسِد على امرأة. تقول إنك تعلم شيئًا ما، فما هذا الذي تعرفه
اجلسي أرجوكِ يا سيدتي؛ فسوف تُؤذين نفسك إذا سقطتِ هناك. ولن أتكلم حتى »
«. تَجلسي. أشكرك
«. سوف أمُهلكَ خمس دقائق يا سيد هولمز »
دقيقة واحدة تكفي يا سيدة هيلدا. إنني أعلم بزيارتك لإدواردو لوكاس، وإعطائك »
إياه تلك الوثيقة، وعودتك البارعة إلى الغُرفة ليلةَ أمس، وأعلم كذلك بالطريقة التي أخذت
«. بها الخطاب من المخبأ الذي تحت السجادة
حدَّقتْ فيه بوجهٍ شاحبٍ وابتلَعتْ ريقها مرتين قبل أن تتمكَّن من الكلام.
«! أنت مجنون يا سيد هولمز … مجنون » : وأخيرًا صاحت قائلةً
فأخرج من جيبه قطعةصغيرة من الورق المقوَّى. كانت عبارة عن وجه امرأة مُقتطَع
من لوحة.
«. لقد أخذتُ هذه ظنٍّا مني أنها قد تكون مفيدة، وقد تعرَّف الشرطي عليها » : وقال
فشهقتْ ولم يَلبث رأسها أن سقط إلى الوراء على الكرسي.
اهدئي يا سيدة هيلدا. إن الخطاب معك، ولا يَزال إصلاح الأمر مُمكنًا. أنا لا أريد »
أن أتسبَّب لك في المشاكل. إن مهمَّتي تنتهي عندما أسُلِّم زوجك الخطاب المفقود؛ فتقبَّلي
«. نصيحتي وكوني واضحةً معي؛ فهذه هي فرصتك الأخيرة
كانتْ شجاعتها مُبهرة. فعلى الرغم مما حدث، لمْ ترغَب في الاعتراف بهزيمتها.
«. مرةً أخرى يا سيد هولمز، أنت واقع تحت تأثير وهمٍ سخيف »
فنهضهولمز مِن مقعده.
أنا في شدة الأسف يا سيدة هيلدا. لقد بذلتُ ما في وسعي من أجلك، ولكني أرى » : قال
«. أن كل ما فعلتُه كان دون جدوى
وقرع الجرس، فدخل كبير الخدم.
«؟ هل السيد تريلوني هوب في البيت »
«. سيَصل في الواحدة إلا الربع يا سيدي »
فنظر هولمز إلى ساعته.
«. لا يزال أمامنا ربع ساعة، جيد جدٍّا، سوف أنتظر » : وقال
ولمْ يكد كبير الخدم يُغلِق الباب خلفه حتى جثَتِ السيدة هيلدا على ركبتَيها عند قدمَيْ
هولمز، ويداها ممدودتان، ووجهُها الجميل مرتفعٌ لأعلى وقد بللته الدموع.
أرجوك، اعفُ عني يا سيد هولمز! » : أخذت تتوسَّل إليه، في نوبة محمومة من التضرع
اعفُ عني! أتوسل إليك، لا تُخبِره! إنني أحبه جدٍّا! ولم أكن أرغب في إفساد حياته ولو
«. بمِثقال ذرة، وأنا أعرف أن هذا سوف يَفطر قلبه النبيل
أنا ممتنٌّ لكِ يا سيدتي أنكِ قد عُدتِ إلى رشدك حتى ولو » : أنهضهولمز السيدة، وقال
«؟ كان هذا في اللحظة الأخيرة! ليس لدينا وقتٌ نُضيِّعه. أين الخطاب
هرولتْ باتجاه مكتبٍ ما، وفتحتْه، وسحبتْ منه مظروفًا طويلًا أزرق.
«! ها هو ذا يا سيد هولمز. ليتَني ما رأيته قط » : وقالت
كيف يُمكننا إعادته؟ بسرعة، بسرعة، لا بد أن نفكر في طريقةٍ ما! » : تمتم هولمز قائلًا
«؟ أين خزينة حفظ الأوراق الرسمية
«. لا تزال في غرفة النوم »
«! يا للحظ السعيد! أسرعي يا سيدتي، أحضريها إلى هنا »
وبعد لحظاتٍ جاءتْ وفي يدها صندوق أحمر مسطحٌ.
كيف فتحتِه من قبلُ؟ هل تملكين نسخةً من المفتاح؟ نعم، بالطبع تملكين نسخة. »
«! فَلْتفتحِيه
أخرجت السيدة هيلدا مفتاحًا صغيرًا من صدر ثيابها، وفتحت الصندوق الذي كان
مكدَّسًا بالأوراق. فأقحم هولمز المظروف الأزرق في وسطها، بين صفحات مُستنَد آخر.
وأغُلق الصندوق، وقُفل بالمفتاح، ثم أعُيد إلى غرفة النوم.
نحن الآن مُستعدُّون لاستقباله، لا يزال أمامنا عشر دقائق. إنني مُستعِدٌّ » : قال هولمز
لفعل أي شيء لسَتْر أمرك يا سيدة هيلدا. وفي المقابل ستُمضين الوقتَ المتبقي في إخباري
«. بصراحةٍ عن الغاية الحقيقية من وراء هذه المسألة الغريبة
سوف أخُبرك بكلشيء يا سيد هولمز. آهٍ يا سيد هولمز، لَأهون » : صاحت السيدة باكية
عليَّ أن أقطع يميني قبل أن أتسبَّب له في لحظة أسًى واحدة! ما مِن امرأةٍ في لندن كلها
تحب زوجها مثلي، ولكن لو عرَفَ بما فعلتُه — أو بما أجُبرتُ على فعله — لما سامحني
أبدًا. فمقامه وسُمعته أعلى من أن يستطيع نسيان أو مسامحة هفوات الآخرين. ساعِدني،
«! يا سيد هولمز! إن سعادتي وسعادته وحياتنا نفسها صارَت على المحك
«! أسرعي يا سيدتي، الوقت يداهمنا »
لقد بدأ الأمر برسالةٍ كتبتُها أنا يا سيد هولمز، رسالةٍ طائشةٍ كتبتُها قبل زواجي، »
رسالةٍ حمقاء من فتاةٍ عاشقةٍ مُتهوِّرة. ما كنتُ أقصد وقوعَ أذًى، ولكن كان من الممكن أن
يَعُدَّها هو إثمًا. ولو كان قرأ هذه الرسالة، لَانهارت ثقتُه بي إلى الأبد. لقد مرت سنوات منذ
كتبتُها، وظننت أن الأمر كله قد صار طيَّ النسيان. وأخيرًا عرفتُ من هذا الرجل، لوكاس،
أنها قد وقعتْ في يده، وأنه سوف يُطلِع زوجي عليها. توسلت إليه أن يكون رحيمًا. فقال
إنه سوف يعيد إليَّ رسالتي في حال أحضرتُ له وثيقةً معينة وصفَها لي موجودةً فيصندوق
حفظ الأوراق الرسمية الخاصبزوجي. وكان هناك جاسوسفي الوزارة يعمل لحسابه هو
الذي أخبره بوجودها. وقد أكد لي أنه لن يُصيبَ زوجي أيُّ أذًى من جرَّاء ذلك. ضع نفسك
«؟ مكاني يا سيد هولمز! ماذا كان عليَّ أن أفعل
«. أطلِعي زوجك علىسرِّك »
لا أستطيع يا سيد هولمز، لا أستطيع! فقد بدا الأمر — من جهةٍ — سيتسبَّب في دمارٍ »
حتمي؛ ومن جهة أخرى، بقدر ما يبدو الأمر كارثيٍّا أن أسرق مُستندات زوجي، لكنني
لم أستطع فهْمَ عواقب أمرٍ سياسي كهذا، أمَّا فيما يتعلق بأمور الحب والثِّقة، فقد كانت
العواقب واضحة تمامًا لي. وقد فعلتُها يا سيد هولمز! أخذتُ طبعةً من مفتاحه على قطعة
من الشمع، وبواسطتها زوَّدني هذا الرجل لوكاس بنسخة من المفتاح. ففتحتُ صندوق
«. زوجي، وأخذتُ المستند، ثم أخذته إلى شارع جودولفين
«؟ وماذا حدث هناك يا سيدتي »
طرقت الباب كما اتفقنا، وفتح لي لوكاس. فتبعتُه إلى غرفته، وتركتُ باب الردهة »
مواربًا خلفي؛ خوفًا من أن أكون بمفردي مع الرجل. أذكر أنني عندما دخلتُ، كانت ثمة
امرأةٌ خارج المنزل. وقد انتهى موضوعنا سريعًا؛ فقد كانت رسالتي على مكتبِه؛ فسلمتُه
الوثيقة، وأعطاني الرسالة. وفي هذه اللحظة كان ثمة صوتٌ عند الباب، ثم وقْعُ أقدامٍ في
الرواق. فأسرع لوكاس بقلب البساط، وأقحم الوثيقةَ في مخبأٍ تحتها، ثم غطَّاه بالبساط.
أما ما حدث بعد ذلك فكان أشبه بحلم مُفزع. أتذكرُ وجهًا عابسًا ثائرًا، وصوتَ امرأةٍ
ثم «! لم يذهب انتظاري أدراج الرياح. أخيرًا، أخيرًا وجدتُك معها » : تصرخ بالفرنسية قائلةً
وقعصراعٌ عنيف. رأيتُ في يده كرسيٍّا، وفي يدِها سكينًا لامعًا، فأسرعتُ بالهروب من هذا
المكان المرعب، وركضتُ خارجةً من المنزل، ولمْ أعلم بالعاقبة المروِّعة لما حدث إلَّا في صباح
اليوم التالي من الجريدة. شعرتُ في تلك الليلة بالسعادة؛ لأنني أخذتُ رسالتي، ولم أكن
أعلم بعدُ بما سيَجلِبُه المستقبل.
وفي صباح اليوم التالي أدركتُ أنني لم أفعل شيئًا سوى أن استبدلتُ بمشكلة مشكلةً
أخرى؛ فقد تسرَّبتْ لوعةُ زوجي على ضياع مستنده إلى قلبي. وجاهدتُ أيما جهاد حتى
أمنع نفسي من الركوعِ عند قدمَيه في الحال وإخبارِه بما فعلت. ولكنْ، مرةً أخرى، كان
ذلك سيَعني اعترافًا بالماضي. وأتيتُ إليك في ذاك الصباح لكي أفهم بشاعةَ جريمتي كاملةً.
ومن لحظةِ أن أدركتُها، توجَّهَ عقلي بكامله إلى فكرة واحدة، وهي استعادة الوثيقة الخاصة
بزوجي. لا بد أنها لا تزال هناك حيث وضعها لوكاس؛ لأنها أخُفيَت قبل أن تدخل هذه المرأة
المخيفة الغرفة. ولولا مجيئُها لما عرفتُ مكان مخبَئه. أمَّا كيف استطعتُ دخول الغرفة،
فقد ظللتُ أراقب المكان على مدى يومَين، ولكن الباب لمْ يُترك مفتوحًا قط. وأمس أجريتُ
محاوَلةً أخيرة. أمَّا ما فعلته وكيف نجحتُ فيه، فقد علمتَه أنت بالفعل. وعُدتُ بالمستند
معي، ولكني فكرتُ في تدميره؛ إذ لمْ أجد طريقةً لإعادته دون أن أضُطرَّ إلى الاعتراف
«! بجريرتي لزوجي. يا إلهي، إنني أسمع وقْعَ خُطاه على الدَّرَج
اندفع وزير الشئون الأوروبية إلى داخل الغرفة في حماس.
«؟ هل من أخبار يا سيد هولمز، هل من أخبار » : وصاح قائلًا
«. لديَّ بعضالآمال »
آه، حمدًا للرب! سوفيتناول رئيسالوزراء غداءه معي، فهلَّا » : قال وقد أشرق وجهه
تُشركه فيما لديك من آمال؟ إن لديه أعصابًا من حديد، وبالرغم من هذا فأنا أعرف أنه لم
يَذُقِ النوم إلَّا نادرًا منذ وقوع هذا الحدث المريع. جيكوبس، هلَّا طلبتَ من رئيس الوزراء
أن يتفضَّل بالصعود إلى هنا؟ أمَّا أنتِ يا عزيزتي، فأنا أرى أن هذا أمرٌ من أمور السياسة.
«. سوف نَلحق بكِ بعد قليل في غرفة الطعام
كان رئيس الوزراء يَكبتُ انفعالاته، ولكنني أدركتُ من بريق عينَيه واختلاجات يدَيْه
ذات العظام الناتئة أنه كان يشارك زميلَه الشاب حماسه.
«؟ أرى أن لديك ما تُخبرنا به يا سيد هولمز، أليس كذلك »
لاشيء يُذكَر مطلقًا حتى الآن، لقد بحثتُ في كل مكان يُحتمَل » : فأجابه صديقي قائلًا
«. أن تكون الوثيقة فيه، وأنا واثقٌ أنه ما منشيءٍ تُخشى خطورته
ولكن هذا لا يكفي يا سيد هولمز. لا يُمكننا أن نعيشإلى الأبد فوق فوَّهة ذلك البركان. »
«. لا بد أن نضع أيدينا علىشيء مؤكد
آملُ أن أحصل عليه. وهذا سبب وجودي هنا. فكلَّما فكرتُ في الأمر، ازدادت قناعتي »
«. أن الخطاب لمْ يبرح هذا المنزل مطلقًا
«! سيد هولمز »
«. لو كان قد غادرَه، لَصار أمرُه الآن مذاعًا لا محالة »
«؟ ولكن لِمَ قد يأخذه أحد من أجل أن يَحتفظ به في بيته »
«. لا أعتقد أن أحدًا قد أخذه »
«؟ فكيف غادر صندوق حفظ الأوراق إذن »
«. لا أعتقد أنه غادر صندوق حفظ الأوراق على الإطلاق »
«. سيد هولمز، هذا مزاحٌ في غير وقته بالمرة. أؤكد لك أنه قد غادَرَ الصندوق »
«؟ هل فحصتَ الصندوق منذ صباح يوم الثلاثاء »
«. لا، لمْ يكن هذاضروريٍّا »
«. من الجائز أن تكون غفلتَ عنه وهو موجود »
«. مستحيل، غير معقول »
لكنني غير مُقتنِع بهذا؛ فمثل هذه الأمور تحدث حسب علمي. أعتقد أنَّ في الصندوق »
«. بعضالأوراق الأخرى. من الممكن إذن أن يكون الخطاب قد اختلط بها
«. لقد كان فوق الأوراق كلها »
«. ربما يكون أحدهم قد رجَّ الصندوق فأبدلَ مكان الخطاب »
«. لا، لا؛ لقد أخرجتُ كل ما كان به »
من اليسير قطعًا أن نقف على حقيقة الأمر يا هوب. فَلْنُحضِر » : قال رئيس الوزراء
«. صندوقَ حفظ الأوراق إلى هنا
دقَّ الوزير الجرس.
جيكوبس، أحضر صندوق حفظ الأوراق الخاص بي. تلك مضيعة هزلية » : وقال
للوقت، ومع ذلك، فإذا كان لن يُرضيَك غير هذا، فسوف يُنفَّذ. أشكرك يا جيكوبس؛ ضعْهُ
هنا. إنني أحتفظ بالمفتاح دومًا في سلسلة ساعتي. ها هي ذي الأوراق، كما ترون. خطابٌ
من اللورد مِرُو، تقريرٌ من السير تشارلز هاردي، مذكرةٌ دبلوماسية من بِلجراد، رسالةٌ عن
ضرائب القمح الروسية والألمانية، خطابٌ من مدريد، رسالةٌ من اللورد فلاورز … يا إلهي!
«! ما هذا؟ لورد بلينجر! لورد بلينجر
انتزع رئيس الوزراء المظروف الأزرق من يده.
«. نعم، إنه هو … والخطابُ لمْ يُمسَّ. أهُنِّئك يا هوب » : وقال
أشكرك! أشكرك! يا له من عبء أزُِيحَ عن صدري. لكن هذا لا يُصدَّق … مُستحيل. »
«؟ سيد هولمز، إنك عبقري، أنت ساحر! كيف عرفتَ أنه هنا
«. لأنني تأكدتُ أنه ليس في أي مكان آخر »
ثم أخذ يجري في جموح باتجاه الباب. وسمعنا صوته «! لا أصدق عينيَّ » : قال الوزير
أين زوجتي؟ لا بد أن أخُبرَها أن كل شيء أصبح على » : وهو على درجات السلم يقول
«! ما يرام. هيلدا! هيلدا
راح رئيس الوزراء ينظر إلى هولمز بعينَين لامعتَين.
بربك يا سيدي، إن في هذا الأمر أكثر مما يَبدو للعين. كيف عاد الخطاب مرةً » : وقال
«؟ ثانية إلى الصندوق
أشاح هولمز وجهه مُتبسمًا كيْما يتفادى النظرات الفاحصة الحادة المنبعثة من هاتَين
العينَين الرائعتَين.
وأخذ قبَّعته واتجه صوب الباب. «. نحن أيضًا لدينا أسرارنا الدبلوماسية