artherconan

شارك على مواقع التواصل

كان المنزل كبيرًا للغاية ومُتراميَ الأطراف، حتى إنَّ كتيبةً كاملة قد تختبئ داخله دون
أن يدري بها أحد؛ وإن كان السرُّ كامنًا داخله، فلن يكون كشفُه أمرًا سهلًا. لكنَّ الباب
الذي سمعتُ صوت إغلاقه لم يكن داخل المنزل على وجه اليقين. لذلك كان عليَّ استِكشاف
الحديقة ورؤية ما قد يتمخَّضُ عنه البحث. لم يكن ثمَّةَ صعوبةٍ في كيفية تنفيذ عملية
البحث؛ فالعجوزان مُنشغِلان بأمورهما الخاصَّة وترَكاني وشأني.
كان هناك عدَّة مبانٍ خارجية صغيرة في الحديقة، لكن في نهايتها يوجَد مبنًى مُنعزل
كبير نوعًا ما، تكفي مساحته لإقامة بُستانيٍّ أو حارسحيوانات. أيُمكن أن يكون هذا المبنى
هو المصدر الذي انبعثَ منه صوت الباب المُوصَد ليلةَ أمس؟ اقتربتُ من المبنى مُتظاهرًا
باللامُبالاة وكأنَّني أتجوَّل في الأنحاء على غير هدى، وإذا برجلٍ ضئيل رشيق ذي لِحيةٍ
ومِعطفٍ أسود وقُبَّعة مُستديرة — لا يُشبِهُ عُمَّال الحدائق بأية حال — يدلف خارجًا من
باب المبنى. ما أثار استِغرابي أنَّهُ أغلق الباب وراءه ووضع الِمفتاح في جَيبه. التفتَ الرجل
إليَّ مُتعجِّبًا بعضالشيء.
«؟ هل أنت من زُوَّار هذا المكان » : بادَرَني سائلًا
فرددتُ بالإيجاب وأوضحتُ أني صديق لجودفري.
«. من المُؤسِف أنه غائب في أسفاره؛ إذ كان سيرغب بشدَّةٍ في رؤيتي » : ثم تابعتُ قائلًا
تمامًا. بالضبط. لكنك ستُجدِّد » : علَّق الرجل وقد بدا عليه الشعور بالذنب نوعًا ما
ثم مضىفي طريقه، لكنِّي حين التفتُّ لاحظتُ أنه «. الزيارة بالتأكيد في وقتٍ أكثر مُلاءمة
يقِف ليُراقِبني، وقد توارى نِصفه وراء أوراق الغار المُتدلِّية في أقصىالحديقة.
أنعمتُ النظر في المنزل الصغير وأنا أمرُّ بجانبه، لكن النوافذ كانت مُغطَّاة بستائر
كثيفة، وقد بدا لي المنزل خاليًا، بقدْر ما أجلى لي نظري. فكرتُ أنَّني ربما أفُسد خُطَّتي بل
أطُرَد من المُتنزَّه لو بالغتُ في الجرأة؛ فقد كنتُ لا أزال مُدركًا أنَّني قَيد المُراقبة؛ ولذلك عدتُ
أدراجي إلى المنزل وانتظرتُ حلول الليل قبل استئنافبحثي. وعندما خيَّم الظلام والسكون
على كلِّ شيء، تسلَّلتُ من نافذة غرفتي وشققْتُ طريقي إلى الكوخ الغامض مُحاولًا قدر
الإمكان التحرُّك في سكونٍ تام.
كنتُ قد ذكرتُ أن الكوخ مُغطٍّى بستائر كثيفة، لكنِّي وجدتُ حِينها أنَّ النوافذ
تحجُبها عن الأعيُن شبابيكُ خشبية أيضًا. غير أني لاحظتُ ضوءًا ما نافذًا عبر إحداها
فأوليْتُه تركيزي. كنتُ محظوظًا؛ إذ لم يكن ستار النافذة مُحكمَ الغلق، وكان ثَمَّة شقٌّ في
الشبَّاك الخشبي سمَح لي باختِلاس النظر إلى داخل الغُرفة. بدا لي المكان مُبهِجًا بما يكفي
بما فيه من مِصباح ساطع الضوء ونار وهَّاجة. لمحتُ في مُقابلي الرجل الضئيل الذي لاقيتُه
«. صباحًا. كان جالسًا يُدخِّن غليونه ويقرأ جريدة
«؟ أي جريدة » : قاطعتُه سائلًا
بدا على عميلي الانزِعاج لمُقاطعة قصَّته.
«؟ أيُهمُّ ذلك » : تساءل
«. إنه أمرٌضروري للغاية »
«. في الحقيقة لم ألحَظ »
لعلَّك لاحظتَ إن كانت صفحاتها عريضةً أم صغيرة كتلك التي تُميِّز المجلَّات »
«. الأسبوعية
أما وقد ذكرتَ نوع الصَّفحات الآن، فإني أذكر أنها لم تكن كبيرة. ربما كانت مجلة »
لكني لم أعُِر مثل هذه التفاصيل انتباهًا؛ فقد رأيتُ رجلًا آخَرَ جالسًا .« ذا سبيكتيتور »
مُولِّيًا ظهره إلى النافذة وبِوُسعي أن أقُسِم أنه كان جودفري. لم أتمكَّن من رؤية وجهه
لكنني أعلَمُ مَيل كتِفَيه المألوف. كان مُستندًا إلى مرفقه كالمَكروب ومائلًا بجسده نحوَ نِيران
الِمدفأة. وقفتُ مُتردِّدًا بشأن ما ينبغي فِعله حين فاجأتْني نَقرَةٌ حادَّةٌ على كتِفِي، لأجِدَ
الكولونيل إمزورث واقفًا إلى جواري.
ثم سار فيصمتٍ إلى المنزل وتَبِعتُه إلى غرفتي، «. من هنا يا سيِّدي » : قال بصوتٍ خافِت
وكان قد التقط جدول مواعيد من الرَّدْهة.
ثَمَّة قطار مُتَّجِه إلى لندن الساعة الثامنة والنصف. ستكون العربة » : التفتَ إليَّ قائلًا
«. في انتظارك في الثامنة
كان الرجل مُمتقِع الوجه من الغضب. والحقُّ أنَّني أحسستُ بمدى صعوبة مَوقفي
حتى إنَّني لم أجرؤ إلَّا على التلعثُم ببضعة اعتِذاراتٍ مُفكَّكة، حاولتُ من خلالها التِماس
العُذر لنفسي لقلقي على صديقي.
لن يتحمَّل الأمر نِقاشًا. لقد انتهكتَ خصوصيَّة أسُرتي انتِهاكًا أشدَّ » : قاطعَني بقوله
ما يكون بُغضًا. كنتَ زائرًا هنا ثم أمسيتَ جاسوسًا. ليس لديَّ ما أقول يا سيِّدي إلَّا أنَّني
«. أرجو ألَّا أراك مُجدَّدًا أبدًا
عندها فقدتُ أعصابي يا سيِّد هولمز، وتحدَّثتُ ببعضالانفِعال:
لقد رأيتُ ابنك وأنا على قناعةٍ بأنك تُخفيه عن العُيون لسببٍ ما خاصٍّ بك. ليس »
لديَّ أدنى فكرة عن دَوافِعك وراء عَزله بهذه الطريقة، لكنَّني مُتأكِّد أنه لم يَعُد حُرَّ الإرادة.
إنَّني أنُذِرك يا كولونيل إمزورث أنَّني، إلى أن أطمئنَّ على سلامة صديقي، لن أدَّخِرَ جُهدًا
«. للتوصُّل إلى حقيقة هذا اللُّغز، وبالتأكيد لن أدع أقوالك أو أفعالك تُرهِبُني
بدا العجوز بَشِعَ المنظر، وظننتُ حقٍّا أنه على وشْكِ مُهاجمتي. ذكرتُ سلفًا أن العجوز
كان ضخم الجُثَّة، عنيفًا، شرِسًا، ورغم أنَّني لستُ ضعيف البِنية، لكن ربما كنتُ سأواجِهُ
مَشقَّةً بالِغةً في الدِّفاع عن نفسي في مُواجهته. وخلافًا لتوقُّعاتي، وبعد نظرةٍ طويلة مُتَّقِدة
غضبًا، استدار فجأةً وخرَج من الغرفة. أما من جانبي، فقد استقللتُ القِطار المُحدَّدصباحًا
«. وكلِّي عزم على التوجُّه إليك مُباشرةً طالبًا نُصحَك وعونك في المَوعد الذي راسلتُك طالبًا إياه
كانت تلك هي القضية التي عرَضها ضَيفي أمامي، وقد طرحت، كما سوف يتبيَّن
بالفعل للقارئ الأرَِيب، بضعةَ مَصاعِبَ في حلِّها؛ إذ ليس أمامنا إلَّا الاستِعانة بِعدَدٍ محدودٍ
للغاية من الخيارات للوصول إلى حقيقة المسألة. لكنَّ القصة لا تخلو، على بَساطتها، من
الإثارة والغرابة، وهو ما قد يُبرِّرُ لي إدراجها في مُذكراتي. أقدمتُ على تضييق الحلول
المُمكنة، مُستخدِمًا منهجي المُعتاد في التحليل المنطقي.
«؟ بالنسبة إلى الخدَم، كم كان عددُهم في المنزل » : سألت السيد دود قائلًا
على حدِّ علمي، لم يكن هناك إلَّا كبير الخدَم العجوز وزوجته. وكان نمَط حياتهما، »
«. فيما يبدو، أبسط ما يكون
«؟ إذن لم يكن ثَمَّ خادِم في المنزل المُنعزِل »
لا، اللَّهُم إلَّا إذا كان الرجل الضئيل ذو اللِّحية خادمًا. لكنه بدا لي أرفعَ منزلةً من »
«. ذلك
يبدو ذلك مفعمًا بالدِّلالات. أتذْكُر أيَّ إشارة إلى أنَّ الطعام كان يُنقَلُ من هذا المنزل »
«؟ إلى الآخر
لقد ذكَّرتَني بسؤالك هذا أنَّني رأيتُ بالفعل رالف العجوز حاملًا سلَّةً وهو يسير في »
«. الحديقة صوب هذا المنزل. لم تخطُر على بالي حينها فكرة الطعام
«؟ هل أجريتَ أيَّ تحرِّياتٍ في الجوار »
أجل فعلت، فقد تحدثتُ إلى ناظر المحطة وصاحب الحانة في القرية. سألتهما ببساطة »
إذا ما كانا يَعرِفان أيَّ شيءٍ عن صديقي، لكنهما أكدا لي أنه غادَرَ في رحلةٍ بحرية حول
العالم، وأنه قد عاد إلى الوطن لكن ما لَبِثَ أن انطلق مرَّةً أخرى في أسفاره. كان من الواضح
«. أنَّ قصَّة سفره تَلقى قَبولًا من الجميع
«؟ ألم تَبُح إليهما بشيء من شكوكك »
«. لا»
تصرُّفٌ حكيم للغاية. لا شكَّ أنَّ المسألة تحتاج تحقيقًا لسَبْر أغوارها. سوف أعود »
«. معك إلى توكسبري أولد بارك
«؟ اليوم »
تصادَف حِينها أنَّني كنتُ أفكُّ خُيوط القضية التي أشار إليها صديقي واطسون
بقضية مدرسة آبي، وهي القضية التي كان دوق جرايمينستر ضالعًا فيها بشدَّة. هذا إلى
جانِبِ المُهمَّة التي كلَّفَني بها سُلطان تركيا التي كانت تتطلَّبُ اتِّخاذ إجراءٍ فَوريٍّ نظرًا
لخُطورة العواقب السياسية التي قد تنجُم عن إهمال هذه المُهمة؛ ومن ثَمَّ لم أتمكَّن من
البدء في مأموريتي إلى بدفوردشاير بصُحبة السيد جيمس إم دود إلَّا مَطلَعَ الأسبوع التالي،
حسبما تُشير مُذكراتي. اصطحبْنا في طريقنا إلى يوستن رجلًا وقورًا كتومًا مُتَّشِحًا بلَونٍ
رمادي داكنٍ كنتُ قد اتَّفقتُ معه على الترتيبات اللازمة.
هذا صديق قديم لي. ربما يكون وجوده غيرَ مُهمٍّ على الإطلاق، » : أخبرتُ دود مُوضِّحًا
«. وقد يكون، على النقيضمن ذلك،ضروريٍّا. لا داعي حاليٍّا للخَوضِفي هذه المسألة
لا شكَّ أن القُرَّاء قد ألِفوا، من واقِع مَروِيَّات واطسون، طريقتي في عدَمِ إهدار الوقت
في الحديث، أو البَوح بأفكاري والقضايا لم تَزلْ رَهْنَ البحث. بدا دود مُتعجِّبًا، لكن الحديث
انتهى عند هذا الحدِّ وواصَلَ ثلاثتنا الرحلة معًا، ولم يَقطعْ صمتَنا إلَّا سؤال آخَرُ ألقيتُه
على دود بينما نحن في القطار ووددتُ أن يسمعَهُ رفيقُنا الثالث.
تقول إنك رأيتَ وجه صديقِك واضحًا تمامًا في النافذة، بحيث لا يُراوِدُك شكٌّ في »
«؟ شخصيته
ليس لديَّ أدنى شكٍّ في ذلك. لقد كان أنفه مُلتصِقًا بالزُّجاج وضوء الِمصباح مُسلَّطًا »
«. بالكامل عليه
«؟ ألا يُمكن أن يكون شخصًا آخر يُشبِهُه »
«. كلا، كلا، كان جودفري »
«؟ لكنك تقول إنه تغيَّر »
في لَونِه فقط. كان وجهه — كيف عساي أن أصِفَه؟ — باهتَ البياض. كان أمْهَقَ »
«. اللون
«؟ وهل كان باقي جسده باهتًا »
«. أعتقد لا. كانت جَبهتُه هي ما رأيتُه بوضوحٍ لالتِصاقها في الزجاج »
«؟ هل ناديتَهُ »
أصابني من الذُّهول والفزَعِ حِينها ما ألْجَمَني، لكنني لاحقتُه بعدها، مِثلما أخبرتُك، »
«. لكن لم أفُلِح في اللَّحاق به
كانت القضية شِبهَ مُكتملة لا ينقُصُها إلا واقعة بسيطة لإنهائها. بعد رحلة طويلة،
وحينوصلْنا إلى المنزل الغريب القديم المُترامي الأطرافالذي وصفَهُ عميلي، كان في استقبالنا
رالف، كبير الخدَم العجوز. طلبتُ بقاء العربة طوال اليوم وسألتُصديقي الكهل أن يَمكُثَ
فيها ما لم نَستدْعِه. كان رالف، الذي كان رجلًا عجوزًا ضئيل الحجم مُجعَّد الوجه، يرتدي
زيَّ الخدَم التقليدي المكون من مِعطفٍ أسودَ وسروالٍ مُلوَّنٍ بالأبيضوالأسود، ولم يُخالف
هذا المظهر التقليدي إلَّاشيءٌ غريب لافِتٌ للانتباه؛ إذ كان الرجل يرتدي قفَّازَين من الجلد
لهما لونٌ بُنِّي، وبِمُجرَّد أن رآنا خلعَهُما ووضعهما على طاولة الرَّدْهة فيما كُنَّا ندلف إلى
الداخل. حسبما أخبرَكم صديقي واطسون من قبل، فإن لديَّ طائفة من الحواسِّ الشديدة
الدِّقَّةِ على نحوٍ غير مألوف، وهو ما مَكَّنَني من استِشعار رائحةٍ حادَّة لكنها خافِتة. بدا
لي أن الرائحة مُنبعثة من مُنتصف طاولة الرَّدْهة. فالتفتُّ ووضعتُ قُبَّعتي على الطاولة،
ثم أسقطتُها وانحنيتُ لألتقِطها مُتعمِّدًا أن أدنُوَ بأنفي على مرمى قدَمٍ من القفَّازَين. أجل،
هذان القفَّازان هما بالتأكيد مصدر تلك الرائحة الغريبة الشَّبيهة برائحة القَطِران. توجَّهتُ
إلى غُرفة المكتب وقد اكتملَتْ خُيوط قضيَّتي. من المؤسِف أن أضُْطَرَّ إلى كشْف أوراقي وأنا
أقصُّروايَتي! لا شكَّ أنَّ ما مكَّن واطسون من تقديم نِهاياته البرَّاقة هو إخفاؤه لِمثل هذه
الحلقات في سلسلة الأحداث.
لم يكن الكولونيل إمزورث في غُرفته، لكنهسُرعان ما أقبل حين أبلَغَه رالف بِمَقْدَمِنَا.
سمِعْنا خطواتِه الحثيثة الصاخِبة في المَمر، ثم ما لبِثَ أن انفتح الباب واندفع الرجل داخلًا
بلِحيةٍ شعثاء وملامِح ممسوخة، وأحسَب أنِّي لم أرَ عجوزًا قطُّ أفظعَ منه هيئةً. أمسك
بطاقتَي التعريف الخاصَّتَين بنا ومَزَّقَهما ثُمَّ وَطِئَ بقاياهما بقدَمِه.
ألَمْ أحُذِّرْك أيها المُتطفِّل اللعين من الاقتراب من هذا المنزل؟ لا تتجرَّأ ثانيةً أبدًا على »
أن تُريني وجهك اللعين هنا. لو دخلتَ هنا مُجدَّدًا دون إذني، فسوف يكون لي مُطلَق
ثم التفتَ إليَّ مُنذِرًا: «! الحقِّ في استعمال العُنف. سأطلِقُ النار عليك يا سيِّدي! قَسَمًا لأفعلنَّ
وبالنسبة إليك أيها السيد، فإني أوَُجِّه إليك التحذير نفسه. أعرِفُ مِهنتَكَ الوضيعة، لكن »
«. عليك أن تأخُذ مَواهِبَك المزعومة إلى مكانٍ آخر. لا مكان لكما ها هنا
لن أبرَح هذا المكان حتى يُخبِرني جودفري بنفسه أنه ليس رهنَ » : ردَّ عميلي بحزْم
«. حبْس
دقَّ مُضيفنا المُكْرَه الجرَس.
رالف، اتَّصِل بشُرطة المُقاطعة واطلُب من المفتِّش إرسال » : قال مُخاطبًا رالف
«. شُرطيَّين. أَخبِرْه أن بالمنزل لُصوصًا
لحظةً واحدة. عليك أن تُدرِك يا سيد دود أنَّ الكولونيل إمزورث » : عندئذٍ تحدثتُ قائلًا
يُمارِس أحدَ حقوقه، وأنَّنا ليس لنا وضعٌ قانوني داخِل مَنزله. لكن في المُقابل، ينبغي عليه
أن يُدْرِكَ أنَّ تصرُّفَك مدفوع بالكلية بقلقِك على ابنه. لديَّ من الإقدام ما يسمَح لي أن آمُل
في أن يُتيح لي الكولونيل خمس دقائق للحديث معه، وأنا على يقينٍ أنَّني سأنجحُ في تغيير
«. نظرته للأمر
نظرَتي لا تتغيَّر بتِلك السُّهولة. رالف، افعل ما أمرتُك به. ماذا » : أجاب المُقاتل العجوز
«! تنتظِر بحقِّ الجحيم؟! اتَّصِل بالشُّرطة
لن يحدُث شيء من هذا. أيُّ تدخُّلٍ من الشرطة سوف » : قلتُ مُوصِدًا الباب بظهري
وأخرجتُ دفتر مُلاحظاتي وخطَطْتُ كلمةً واحدة «. يؤدِّي إلى حدوث الكارثة التي تخشاها
«. ذلك هو ما ساقنا إلى هنا » : على ورقةٍ فصلتُها منه وناولتُها الكولونيل قائلًا
حدَّق الرجل في الوَرَقة بِوَجهٍ تلاشىمنه كلُّ تعبيرٍ عدا الذُّهول.
«؟ كيف عرفت » : ارتمى الكولونيل على مقعده وهو يسألني وقد انقَطَعَتْ أنفاسُه
«. وَظيفَتي هي معرفة الأمور. إنَّهُ عملي »
جلس الكولونيل مُستغرِقًا في تفكيرٍ عميقٍ جاذِبًا لِحيتَهُ الشَّعثاء، ثم أومأ بإشارةٍ دلَّتْ
على استِسْلامه.
حسنًا، إذا كنتَ تودُّ رؤية جودفري، فلك هذا. لا أرغبُ في ذلك، لكنك أكرهْتَني. رالف، »
«. أبلِغِ السيِّد جودفري والسيِّد كِنت أنَّنا سنكون مَعهما بعد خمس دقائق
بعد خمس دقائق اجتزْنا ممرَّ الحديقة لنجِد أنفُسنا في النهاية أمام المنزل الغامِض،
وقد وقَفَ لدى الباب رجل ضئيل ذو لِحيةٍ بدا عليه ذهول شديد.
هذا أمر مُفاجئ للغاية أيُّها الكولونيل إمزورث. إنَّ من » : بادر الرجل قائلًا للكولونيل
«. شأنه أن يُفسد كلَّ خُططِنا
لا يُمكنُني منع ذلك يا سيد كِنت. نحن مُجبَرون. هل يُمكن للسيد جودفري أن »
«؟ يُقابِلنا
استدار الرجل وقادَنا إلى غرفة جلوسٍ كبيرة بسيطة «. أجل، إنه مُنتظِر بالداخل »
الأثاث، حيث يقِف رجلٌ مُولِّيًا ظهرَه صوبَ نِيران الِمدفأة، وبمُجرَّد أن لمَحَه عميلي اندفع
مُقبلًا عليه باسطًا ذِراعَيه نحوَه:
«! جودفري، يا صَاحِ، هذا رائع »
لكن جودفري ردَّه:
لا تلمِسْني يا جيمي. لا تقترِب. أجل، ستُحدِّق فيَّ بالطبع! لا أبدو مُطلقًا الجندي »
«؟ الأول إمزورث الذي كان يخدُم فيسَرِيَّة الخيالة (ب). أليس كذلك
كانت هيئته غريبة بالطبع. بوُسعِ المرء أن يلحَظ أنه كان بالفعل رجلًا وسيمًا، ذا
تقاسيمَ واضحةٍ لفحَتْها شمس أفريقيا، غير أنَّ هذه التقاسيم الداكنة تعلوها بُقَع غريبة
ضاربة إلى البياض، ظهَرَ جِلدُه بسبَبِها باهِتًا.
لهذا لا أرُحِّب بالزائرين. لستُ مُنزعِجًا منك أنت يا جيمي، » : أردفَ جودفري قائلًا
لكنِّي كنتُ أفُضِّل عدم حضورصديقك. أعتقِد أنَّ ثَمَّةسببًا وجيهًا لحضوره، لكنك وضعتَني
«. في موقِفٍ ضعيف
أردتُ التأكُّد أنَّ كلَّ شيءٍ على ما يُرام يا جودفري. رأيتُك في تلك الليلة وأنت تنظُر »
«. عبر نافذتي ولم أستطِع أن أدَعَ المسألة تمرُّ مرور الكرام حتى أستوضِحَ الأمور
أخبَرَني رالف العجوز بوجودك، ولم أستطِعْ منع نفسيمن رُؤيتك خِلسة. وددتُ لو »
«. أنك لم تَرَني، واضطُررتُ إلى الرَّكضنحوَ مخبئي حين سمعتُ صوتَ فتح النافذة
«؟ لكن بِحقِّ السماء أخبِرْني، ما الأمر »
حسنًا، إنها قِصَّة ليست طويلة. أتذكُر تلك » : أجاب جودفري وهو يُشعل سيجارة
المَعركة التي نشبَتْصباحًا في بافلسبريت، خارج مدينة بريتوريا، على خطِّ السكة الحديدية
«؟ الشرقي؟ أظنُّك قد سمِعْتَ أني أصُِبْت. أليس كذلك
«. بلى، سمعتُ ذلك، لكنِّي لم أعرِف أيَّ تفاصيل »
انفصل ثلاثة مِنَّا عن باقي الكتيبة. قد تذكُر أنَّ جنوب أفريقيا كان بلدًا وعرًا للغاية. »
كان معي سيمبسون — ذلك الشابُّ الذي كنَّا ندعوه بالدي سيمبسون — وأندرسون. كنَّا
نُطارِد أحدَ البوير، لكنَّه توارى عن أنظارنا ثم تربَّصلنا وقبَضَعلى ثلاثَتِنا. قُتِلَ زَميلايَ
وأصُِبْتُ أنا برصاصة من إحدى البنادق الضخمة في كتِفي، لكنَّني نجحتُ في التشبُّثِ بفَرَسي
الذي ظلَّ يعدو عدَّة أميالٍ حتى أغُْشِيَ عليَّ وتدحرجتُ ساقطًا من فوق السرج.
لمَّا أفقتُ كان الليل قد حلَّ. استجمعتُ قواي لأنهض، وكنتُ في غاية الوَهَن والإعياء.
فُوجِئْتُ بمنزلٍ قريبٍ منِّي، منزل كبير نوعًا ما ذي مدخلٍ واسع ونوافذ كثيرة. كان البرد
قارسًا. تذكر ذلك البرد الذي كان يَحلُّ مساءً فيُفقِدك الإحساسبأطرافك، برد رهيب يجلب
المَرَض، مُختلِف تمامًا عن الصقيع المُنعش الصِّحِّي. حسنًا، كدتُ أتجمَّد من البرودة، وبدا
أملي الوحيد يكمُن في الوصول إلى ذلك المنزل. نهضتُ مُترنِّحًا ورحتُ أجرُّ قدميَّ، لا أكاد
أعي ما أفعل. لديَّ ذكرى ضبابية عن ارتقائي الدَّرَج ببطءٍ ودخولي عبر بابٍ مفتوح على
مصراعيه دالفًا إلى غرفة كبيرة تضمُّ عدَّةَ أسرَّة وارتمائي على أحدِها مُطلِقًا شهقةَ رضًا.
لم يكن الفِراش مُرتَّبًا لكن هذا لم يُزعِجْني البتَّة. ما كان مِنِّي إلَّا أنْ ألقَيتُ الملابس على
جسدي المُرتَعِش وغططتُ في سُباتٍ عميق في ثوانٍ.
استيقظتُ صباحًا، وبدلًا من أنْ أفُيق على عالمٍ عاقل، وجدتُ نفسي، كما بدا لي، في
كابوسٍ شديد الغرابة. تسلَّلتْ أشعة الشمس الأفريقية عبر النوافذ الضخمة العارية من
الستائر وانْجَلى واضحًا أمام ناظريَّ عنْبرٌ مُتَّسِع قليل الأثاث ذو جُدران بيضاء. رأيتُ
أمامي رجلًا ضئيلًا يُشبِهُ الأقزام له رأس ضخم مُنتفِخ يرطُنُ بانفِعال بكلماتٍ هولندية،
مُلوِّحًا بِكفَّين مُخيفتَين بدَتا لي مثل الإسفنج البُني، وخلفَه مجموعة من الأشخاص يبدو
عليهم الاستِمتاع الشديد بالمَوقف، لكنِّي بمجرَّد أن رأيتُهم سرَتْ قشعريرة في أوصالي. لم
يبدُ أحد منهم إنسانًا طبيعيٍّا؛ فكلُّ فردٍ فيهم كان مُحوَّرًا، أو مُتوَرِّمًا، أو مُشوَّهًا بطريقةٍ
ما غريبة. كان لضَحِكات تلك المُسوخ الغريبة وقْعٌ مُروِّع على مَسامعي.
بدا لي أنَّهم لا يُجيدون الإنجليزية، لكنَّ المَوقِفَ كان في حاجةٍ إلى توضيح؛ إذ ازداد
ذلك الكائن الكبير الرأسغضبًا، وراح يُطلِق صيحاتٍ مَسعورة وهو يضع كفَّيه المُشوَّهتَين
على جسدي ويَجُرُّني من فوق الفِراش، غير عابئ بالدَّم المُتدفِّق من جُرحي. كان الوَحش
الصغير قويٍّا كالثيران، ولا أدري ما كان سيُصيبني على يديه لولا تدخُّل رجلٍ مُسنٍّ استرْعَتِ
انتباهه تلك الجلبة، وكان من الواضح أنه ذو سلطة في المكان؛ إذ نَطَق ببضع كلماتٍصارمة
باللغة الهولندية فتراجِعَ القِزْم مُنكمشًا، ثُمَّ التفتَ الرجل إليَّ مُحدِّقًا فيَّ وعلى وجهه أشدُّ
أمارات الدَّهشة.
كيف وصلتَ إلى هنا؟ انتظر قليلًا. أرى أنك مُنهَك القوى وأنَّ » : سألني الرجل في ذهول
كتِفك المُصابة في حاجةٍ إلى عِناية. أنا طبيب وسوف أضُمِّد جُرحَك حالًا. ولكن، يا للهول!
إنَّ الخطر الذي يُحدق بك هنا أشدُّ كثيرًا ممَّا كنتَ تُواجِهه في ميدان المعركة. أنت داخل
«. مستشفى الجُذام، وقد نمتَ في فِراش مُصاب بالجُذام
هل من حاجةٍ إلى أنْ أخبرك المزيد يا جيمي؟ يبدو أنه مع اقتِراب المعركة، جرى إجلاء
جميع هذه المخلوقات البائسة قبل نُشوبها بيَوم، وحين تقدَّمتِ القوَّات البريطانية أعادهم
إلى المستشفى هذا المُشرِف الطبي، الذي أكد لي أنه لم يَجْرؤ قطُّ على ارتكاب ما فعلتُه، رغم
ثِقته بحَصانتِه ضِدَّ المرَض. وضعَني الرجل في غرفةٍ خاصَّة وأحسَنَ مُعاملتي وسُرعان ما
نُقِلت إلى المستشفى العام في بريتوريا خلال أسبوع تقريبًا.
ها قد علمتَ مأساتي. ظللتُ مُتشبِّثًا بأهداب الأمل، لكن بمجرَّد أنْ وصلتُ إلى منزلي
ظهرتْ تلك الأعراضالبَشِعة التي تراها على وَجهي، لتُخبرَني أنَّني لم أنجُ. ماذا كان عسايَ
أن أفعل؟ أقمتُ في ذلك المنزل المُوحِش مع خادِمَين نَثِقُ بهما ثقةً تامَّة، وكان هناك منزل
يُمكنني أن أعيش فيه؛ لذلك أبدى السيد كِنت، وهو جرَّاح، استِعداده للمُكوث معي، مع
تعهُّدٍ بإبقاء الأمر سرٍّا. بدا الأمر بسيطًا بما يكفي في ظلِّ هذه الترتيبات. أما البديل فكان
مُريعًا، عَزْلي للأبَدِ وسط غُرَباء دون أملٍ مُطلقًا في إطلاقسراحي. لكن السرِّيَّة التامَّة كانت
ضرورةً حتمية، وإلَّا لشهِدَتْ تلك المنطقة الريفية، على هدوئها، احتجاجًا جماعيٍّا يَسوقُني
إلى مصيري المُروِّع. حتى أنت يا جيمي، كان لا بُدَّ من إخفاء الأمر عنك. لا أكاد أتصوَّر
«. السبب الذي دفع والدي للرُّضوخ
أشار الكولونيل إمزورث نحوي.
وأخرج القُصاصة الورقيَّة التي كتبتُ عليها كلمة «. هذا السيد هو من أرغمني »
رأيتُ أنَّهُ ما دام على هذا القدْر من الاطِّلاع على الأمر، فمِن الأحوط أن يعرِف » .« الجُذام »
«. كلَّشيء
وهو كذلك بالفعل؛ فمن يدري؛ لعلَّ اطِّلاعي على المشكلة يأتي بخير؟ » : قلتُ مُعلقًا
أعرِف أن السيد كِنت فقط هو من رأى المريض. أتسمَح لي يا سيدي أن أسأل إن كنتَ
مُتخصِّصًا في مثل هذه الشكاوى المرَضية ذات الطبيعة الاستوائية أو شِبه الاستوائية،
«؟ حسبما أفهم
«. لديَّ المَعرفة العادية التي تُميِّز الأطباء المُتعلمين » : ردَّ السيد كِنت بتحفُّظٍ نوعًا ما
لا شكَّ لديَّ يا سيدي في كفاءتك التامَّة، لكنَّني مُتأكد أنك ستتَّفِق معي أنه من الأهمية »
بمكانٍ في مثل هذه الحالات طلَبُ رأيٍ ثانٍ. أتفهَّم أنك تجنَّبتَ هذه الخطوة خشيةَ تعرُّضك
«. لضغوطٍ تدفعك إلى عزْل المريض
«. الأمر كذلك بالفعل » : تدخَّل الكولونيل مؤيِّدًا
لقد توقَّعتُ هذا الموقِف وأحضرتُ معي صديقًا يُمكن الوثوق الكامل » : قلتُ مُوضِّحًا
في كِتمانه الأمر. أسديتُ له ذات مرَّةٍ خِدمة مِهنيَّة وهو على استعداد لإسداء المَشورة كصديقٍ
«. لا كمُتخصِّص. إنه يُدْعَى السير جيمس سوندرز
كان العَجَب والسرور البادِيَين الآن على وجه السيد كِنت لا يَقلَّان عمَّا كان سيُثيره
تطلُّع مُلازمٍ أول لمُقابلة اللورد روبرتس.
«. يُسعِدني ذلك بالفِعل » : تمتمَ السيد كِنت مُوافقًا
إذن سوف أطلُب من السير جيمس القدوم. إنه في العربة عند الباب. في تلك الأثناء »
«. ربما يَسعُنا الاجتماع في مكتبك يا كولونيل إمزورث لأقَُدِّم التَّوضيحات اللازمة
أجِد نفسي في تلك المرحلة مُفتقدًا صديقي واطسون؛ فبِفضل تَساؤلاته البارِعة
وتعبيراته المُفاجئة عن الدَّهشة، كان ينجَح في الارتقاء ببراعَتي البسيطة، والتي لا تعدو
كونَها إعمالًا منهجيٍّا للمنطِق السليم، إلى منزلة الأعجوبة، وهو عونٌ أفتقِده حين أقصُّ
رُوايَتي بنفسي. ورغم ذلك، سأشرحُ العملية الفكرية التي توصَّلتُ من خلالها لحلِّ القضية،
تمامًا كما أوضحتُها لجمهوري المحدود داخل مكتب الكولونيل إمزورث، والذي ضمَّ والدة
جودفري.
تبدأ تلك العملية بافتِراضأنه بعد تنْحِيةِ كلِّ ما هو مُستحيل، » : استهللتُ حديثي قائلًا
فإن ما يتبقى، أيٍّا ما كان، حتى وإن كان غير وارد، هو الحقيقة لا رَيب. غالبًا ما تتبقَّى
عدَّة تفسيرات، يُجرِّب المرء عندئذٍ اختبارًا تلوَ اختبارٍ حتى يتبيَّن له أنَّ أحد تلك التفسيرات
يَحظى بقدْرٍ مُقنِعٍ من الشَّواهد الداعمة. سوف نُطبِّق هذا المبدأ على القضية محلَّ بحثنا.
حين طُرِحَت عليَّ القضية في البداية، كان أمامي ثلاثة تفسيرات مُحتملة لانعِزال هذا الشاب
أو احتِجازه في مبنًى خارجي في قصر والده: إما أنه مُختبئ لارتكابه جريمة، وإما أنه
مجنون ويودُّ ذَووه تجنُّب إيداعه مصحَّةً عقلية، وإما أنه مُصابٌ بمرضٍما تسبَّب في عزْله.
لم أستطع التفكير في أيِّ حلولٍ أخرى مُلائمة. كان عليَّ بعد ذلك تَمحيص تلك الحلول
والمُوازَنة بينها.
لم يكن ثَمَّة ما يُبرِّر التحقيق في الحلِّ الجنائي؛ إذ لم ترِد من تلك المُقاطعة تقارير
عن وقوع جرائم لم يُتوصَّل إلى مُرتكبيها. كنتُ مُتيقِّنًا من ذلك. أما إن كانت جريمة لم
يُكشَف بعدُ عنها، فلا بدَّ أنه سيكون من مصلحة العائلة التخلُّص من المُذنِب بترحيله إلى
خارج البلاد لا بإخفائه في منزلهم. ولا أجِد تفسيرًا لمثل هذا التصرُّف.
بدا الجُنون سببًا أكثر معقولية. ووجود شخصثانٍ داخل المبنى الخارجي يُوحي بأنه
حارس. وممَّا عزَّز تلك الفرضية وأوحى بفكرة الحبْس هو إغلاقه الباب عقب خُروجه.
لكن هذا الحبْس، في المُقابل، لم يكن مُشدَّدًا، وإلَّا لما استطاع الفتى الشاب التحرُّر من
محبَسِه والخروج لاختلاس النظر إلى صديقه. تذكَّر يا سيد دود أني كنتُ أتحسَّس بحثًا
ذا » عن أيِّ دليل، إذ سألتُك مثلًا عن الجريدة التي كان يقرؤها السيد كِنت. فلو كانت
لساعَدَني ذلك على تدعيم تلك الفرضية. غير « ذا بريتيش ميديكال جورنال » أو « لانست
أنه لا يُحْظَر قانونًا إبقاء شخصٍمجنون داخل المُنشآت الخاصَّة ما دام في صُحبة شخصٍ
مُؤهَّل للتَّعامُل معه وطالما أبُلِغَت السُّلطات على النحو الواجب. ما السبب، إذن، وراء هذه
الرَّغْبة المُستميتة في إبقاء الأمرسرٍّا؟ عجزتُ مجدَّدًا عن التوفيق بين الفرضية والوقائع.
لم يتبقَّ إلَّا الاحتمال الثالث، والذي يبدو، على نُدرة وقوعه وضعف إمكانيته، مُتفقًا مع
كلِّ الحقائق؛ فالجُذام من الأمراض الشائعة في جنوب أفريقيا، وربما انتقل إلى الشابِّ في
مُصادفةٍ ما غريبة. لا شكَّ أن ذَويه سيكونون في وضعٍ رهيب للغاية؛ إذ سيَرغبون في إنقاذ
ابنهم من العزْل؛ ولذلك لا بُدَّ من إحاطة الأمر بالسرِّيَّة الشديدة منعًا لانتشار الشائعات
وما يتبَعُها من تدخُّل السُّلطات. من السهل العثور على طبيبٍ مُتفانٍ يَقبل تولِّي مسئولية
المُصاب مُقابِلَ أجرٍ مادِّيٍّ مُجزٍ. وليس ثَمَّة ما يمنع منح المُصاب حُرِّيته بعد حلول الظلام.
يعَدُّ بَهَتُ الجلد إحدى نتائج الجُذام الشائعة. كانت الدلائل قوية، قوية إلى الحدِّ الذي
جعلني عازمًا على التصرُّف وكأنَّ القضية مَحسومة بالفعل. عندما وصلتُ إلى هنا ولاحظتُ
ارتداء رالف، الذي يَحمِل الوجبات، قُفَّازَين مُشبَّعَيْن بالمُطهِّرات، زال آخِرُ شكوكي. إنَّ كلمةً
واحدة أثبتَتْ لك يا سيِّدي أنَّسرَّك قد انكشف، وإخبارك بها كتابةً لا لَفْظًا إنما كان لأثُْبِتَ
«. لك أنِّي جدير بكِتمانسرِّك
كنتُ بصدَدِ خِتام هذا التحليل القصير للقضية حين انفتح الباب ليدخل طبيب
الأمراض الجلدية الكبير ذو الهيئة الوَقورة والملامح الصارمة. ولكني لاحظتُ أن مَلامِحَه
الجامِدَة قد تهلَّلَت، على غير العادة، ولمستُ في نظراته دِفء المشاعر الإنسانية. أقبل الطبيب
نحو الكولونيل مُسرِعًا وصافَحَه.
قدَري أن أجلب الأنباء المُؤلِمة في الغالِب والأنباء السارَّة فيما » : استهلَّ الطبيبُ قوله
«. نَدَر. هذه المرة هي الأكثر قَبولًا. إنه ليس بِجُذام
«؟ ماذا »
حالةٌ واضِحة من الجُذام الكاذِب أو السُّماك، وهو مرَضٌجلديٌّ قِشريٌّ بشِعُ المَنظر »
يصعُبُ عِلاجُه لكن لا يستحيل، وهو يَقينًا غَيرُ مُعدٍ. أجل يا سيد هولمز، إنها مُصادَفةٌ
عجيبة. لكن أهي مُصادَفَةٌ حقٍّا؟ أليس هناك قُوى خَفِيَّة مُؤثِّرة لا ندري عنها إلَّا القليل؟
هل نحنُ مُتأكِّدون أنَّ الهلع الذي عانى منه هذا الشاب بالتأكيد مُعاناةً رهيبة منذ تَعرُّضه
لمُسبِّبات العدوى لم يُحْدِثْ تأثيرًا جسديٍّا من شأنه أن يُحفِّز المرَضَالذي يَخْشاه؟ على أيِّ
حال، إنَّني أرُاهن على ذلك التشخيص بِسُمعَتي الِمهنيَّة، لكن السيدة غُشِيَ عليها! أظنُّ أنه
«. من الأفضل أن يبقى السيد كِنت معها إلى أن تتَعافى من صدْمة الفرَح
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.