حين ألقيتُ نظرةً خاطفةً على القضايا السبعين الغريبة التي درستُ من خلالها، على مدار
السنوات الثماني الماضية، أساليب صديقي شيرلوك هولمز، وجدتُ أن كثيرًا منها مأساوي،
وبعضها كوميدي، وعددًا كبيرًا منها غريبٌ فحسب، لكن لم يكن أيٌّ منها عاديٍّا؛ لأنه نظرًا
لاضطلاعه بهذا العمل حُبٍّا في فنه أكثر من تحصيل الثروة، كان يرفض الانضمام إلى أيِّ
تحقيق لا يتسم بطابع الغرابة، بل والعجب. ومع ذلك، من بين كل هذه القضايا المتنوعة، لا
يمكنني تذكُّر أيِّ قضية بها من السِّمات الفريدة أكثر من قضية عائلة رويلوت الشهيرة من
ستوك موران في مقاطعةسَري. وقعت أحداث هذه القضية في بداية معرفتي بهولمز، حين
كنا نعيشكعازبَين في شقة مشتركة في شارع بيكر. كان بإمكاني تدوينها في سجلاتي قبل
هذا، ولكني أقسمتُ على السِّرية في حينها، ولم أتحرر من هذا القَسم إلا الشهر الماضيمع
الوفاة المفاجئة للسيدة التي تعهدتُ لها به. ولعل من الأفضل أيضًا خروج هذه الحقائق
للنور؛ إذ تبادر إلى علمي انتشار شائعات بشأن وفاة الدكتور جريمسبي ويلوت، وهي
تجعل المسألة تبدو أسوأ من حقيقتها.
كنا في بداية شهر أبريل من عام ١٨٨٣ ، واستيقظتُ من نومي لأجد شيرلوك هولمز
واقفًا بجوارسريري مرتديًا ملابسه بالكامل. كان من عادته الاستيقاظ متأخرًا، إذ كان هذا
إحدى قواعده، وظهر لي من الساعة الموجودة على رفِّ الموقد أنها لم تتعدَّ السابعة والربع،
فنظرتُ إلى الأعلى إليه ورمشتُ له بعينيَّ في نوع من الدهشة، وربما قليل من الاستياء؛ لأني
كنتُ منتظمًا في عاداتي أيضًا.
آسف للغاية لأني أيقظتُك يا واطسون، لكنه قدرُنا المشترك هذا الصباح. فقد » : قال لي
«. استيقظت السيدة هادسون وهرعت إليَّ، وهرعتُ أنا إليك
«؟ ماذا حدث إذن، حريق »
لا، عميل. فيبدو أن سيدة شابة وصلت في حالة من الإثارة البالغة، وتُصر على »
مقابلتي، وهي تنتظر الآن في غرفة الجلوس. وعندما تتجول سيدات شابات في العاصمة في
هذه الساعة من الصباح، ويوقظن أشخاصًا نائمين من نومهم، أفترضأن ثمة أمرًا مُلحٍّا
للغاية عليهن الإبلاغ عنه. وإن اتضح أنها قضية مثيرة للاهتمام، فأنا متأكد من أنك سترغب
«. في متابعتِها من البداية. ظننت أن عليَّ إيقاظك، على أيِّ حال، وإعطاءك هذه الفرصة
«. يا صديقي العزيز، ما كنتُ لأفُوِّت هذه الفرصة بأيِّ ثمن »
كنتُ أجد أقصىسعادتي في اتباع هولمز في تحقيقاته المهنية، والإعجاب باستنتاجاته
السريعة، التي تتبادر إليه فيسرعة الأفكار البديهية، لكنها دومًا ما كانت ترتكز على أساس
منطقي يستخدمه في حلِّ المشكلات التي تُوكَل إليه. ارتديتُ ملابسيسريعًا وأصبحتُ جاهزًا
في غضون دقائق قليلة لمرافقة صديقي إلى غرفة الجلوس في الأسفل. وعند دخولنا الغرفة،
قامت سيدة مُتَّشحة بالسواد، وتُغطي وجهها بالكامل، من مجلسها بجوار النافذة.
صباح الخير يا سيدتي. أنا اسمي شيرلوك هولمز، وهذا صديقي » : قال هولمز بمرح
العزيز وزميلي الدكتور واطسون، ويمكنكِ الحديث أمامه بحُرية تمامًا مثلما تتحدثين إليَّ.
هاه! يُسعدني أن أرى أن السيدة هادسون قد تصرفت بحكمة وأشعلت النار. أرجوكِ، عليكِ
«. الاقتراب منها، وأنا سأطلب لكِ كوبًا من القهوة الساخنة، إذ أرى أنكِ ترتجفين
ليس البرد » : قالت المرأة بصوتٍ منخفض، وهي تغير مقعدها كما طلب منها هولمز
«. هو ما أرتجف منه
«؟ مِمَّ إذن »
هنا رفعت الخِمار عن وجهها وهي تتحدث، «. من الخوف يا سيد هولمز، من الرعب »
فاستطعنا رؤية أنها بالفعل في حالة يُرثى لها من الانفعال؛ فكان وجهها شاحب اللون
وبدا عليه الإعياء، وترى في عينيها جزعًا وخوفًا، كالذي تراه في عينَي حيوان مُطارَد. كانت
ملامحها وهيئتها تنُمَّان عن سيدة في الثلاثينيات من عمرها، لكن غزا شعرَها لونٌ رمادي
سابق لأوانه، ودلت تعبيرات وجهها على التعب والإرهاق. تفحَّصَها شيرلوك هولمز بإحدى
نظراته السريعة والشاملة.
لا تخافي، فأنا متأكد أننا » : قال مهدئًا لها، وهو ينحني إلى الأمام ويُربِّت على ساعدها
«. سنُعيد الأمور إلى نِصابها في أسرع وقت. أرى أنكِ حضرتِ بالقطار إلى هنا
«؟ أنتَ تعرفني إذن »
لا، ولكني لاحظتُ النصف الثاني من تذكرة العودة في راحة قفازك الأيسر. لا بدَّ أنكِ »
بدأتِ رحلتك مبكرًا، ومع ذلك قطعتِ مسافة طويلة في عربة تجُرها الكلاب، في طرق وعرة،
«. قبل الوصول إلى محطة القطار
انتفضت السيدة بقوة وحدَّقت في صديقي في ذهول.
هذا واضح تمامًا، يا سيدتي العزيزة؛ فقد تناثر الطمي على » : قال صديقي مبتسمًا
الذراع اليُسرى لسُترتِك في سبعة مواضع على الأقل. وهذه الآثار ما زالت حديثة تمامًا. ولا
توجد مركبة تبعثر الطمي على هذا النحو إلا العربة التي تجرها الكلاب، وهذا لا يحدث إلَّا
«. إن جلس المرء على يسار السائق
أيٍّا كانت حُجَجك فأنت محقٌّ تمامًا؛ فقد بدأتُ رحلتي من المنزل قبل » : قالت السيدة
السادسة، ووصلتُ إلى ليذرهيد في السادسة والثُّلث، ووصلتُ إلى هنا بأول قطار مُتَّجه إلى
ووترلو. سيدي، أنا لم أَعُد أطُيق الاحتمال أكثر من هذا؛ فسأجنُّ إن استمر هذا الوضع.
ولا أحد ألجأ إليه، لا أحد، فيما عدا شخصًا واحدًا يهتم لأمري، وليس في وسع هذا المسكين
مساعدتي بشيء. وسمعتُ عنك يا سيد هولمز، سمعتُ عنك من السيدة فارينتوش التي
ساعدتها عندما كانت في أمسِّ حاجة للمساعدة. فحصلتُ منها على عنوانك. آه يا سيدي،
أترى أن بإمكانك مساعدتي أنا أيضًا، وعلى الأقل أن تشع بعضالضوء في الظلام الحالك
الذي يحيط بي؟ ليس باستطاعتي في الوقت الحالي مكافأتك نظير خدماتك، لكنني في
غضون شهر أو ستة أسابيع سأتزوج، وسأكون مُتحكِّمة في دخلي الخاص، وعلى الأقل
«. عندها لن تجدني ناكرة لمعروفك
استدار هولمز واتجه نحو مكتبه، وفتحه وأخرج منه دفترًاصغيرًا للقضايا، وبحث فيه.
فارينتوش، آه نعم، أذكر هذه القضية، كانت تتعلق بتاج من العقيق. أعتقد » : قال
أنها كانت قبل معرفتي بك يا واطسون. لا يسعني إلا أن أقول لكِ يا سيدتي إنني سأعطي
لقضيتكِ الاهتمام نفسه الذي أعطيته لقضية صديقتكِ. وأما عن المكافأة، فمهنتي هي
مكافأتي الحقيقية، لكن لكِ الحرية في تعويضيعما أضُطر إلى دفعه من نفقات في الوقت
«. الملائم لكِ. والآن رجاءً أخبرينا بكلِّشيءٍ من شأنه أن يساعدنا في تكوين رأيٍ عن القضية
وا أسفاه! إن المُفزع في وضعي هو حقيقة أن مخاوفي مبهمةٌ » : ردت زائرتنا قائلة
للغاية، وتعتمد شكوكي بالكامل على أشياء صغيرة للغاية، ربما تبدو تافهة لأيِّ شخص
آخر، حتى إن الشخصالوحيد الذي لديَّ الحق في اللجوء إليه، بحثًا عن العون والنصيحة،
اعتبر كل ما أخُبره به أوهام امرأة متوترة. وبينما لم يخبرني بهذاصراحةً، فإني استطعتُ
استنباطه من إجاباته المهدئة وعينيه اللتين أشاح بهما عني. لكني سمعتُ يا سيد هولمز
أنك تستطيع سبر غور الشر المُتشعب في النفس البشرية. فربما يمكنك نصحي وإرشادي
«. لطريقة أستطيع بها السير وسط الأخطار المحيطة بي
«. كلي آذان صاغية يا سيدتي »
اسمي هيلين ستونر، وأنا أعيشمع زوج والدتي، وهو آخر المنتمين لواحدة من أقدم »
الأسُر السكسونية في إنجلترا، وهي أسرة رويلوت من ستوك موران، التي تقع على الحدود
«. الغربية لمقاطعةسَري
«. هذا الاسم مألوف لي » : أومأ هولمز برأسه، وقال
كانت هذه الأسرة من أغنى الأسُر في وقتٍ من الأوقات في » : واصلتْ حديثها قائلة
إنجلترا، وامتدتضيعاتُها عبر الحدود وصولًا إلى باركشير في الشمال، وهامبشير في الغرب.
إلا أنه عبر القرن الماضي، تعاقب في الأسرة أربعة ورثة لديهم نزعة ماجنة ومُبذرة، واكتمل
دمارُ الأسرة في النهاية على يد مُقامر في عصرالوصاية على العرش. لم يبقَشيءٌ إلا بضعة
أفدنة من الأراضي، ومنزل عمره مائتا عام مرهون بمبلغ كبير. قضىآخر سكواير حياته
في هذا المنزل، حيث عاش حياة الأرستقراطي الفقير المريرة، لكن ولده الوحيد — زوج
والدتي — من منطلق إدراكه لضرورة التكيف مع الظروف الجديدة، حصل على قرض
من أحد أقاربه، مكَّنه من الحصول على درجة جامعية في الطب والذهاب إلى كلكتا، حيث
استطاع بمهارته العملية وقوة شخصيته إنشاء عيادة كبيرة. إلا أنه في نوبة من الغضب
نتجت عن بعض السرقات التي حدثت في المنزل، ضَرَب كبير الخدم الهندي حتى الموت،
وأفلت بأعجوبة من عقوبة الإعدام. والواقع أنه عانى من السجن لفترة طويلة وبعدها عاد
إلى إنجلترا وهو إنسانٌ مكتئبٌ ومحبط.
حين كان الدكتور رويلوت في الهند تزوَّج من والدتي، السيدة ستونر، الأرملة الشابة
للواء ستونر في سلاح المدفعية البنغالي. أنا وأختي جوليا توءمان وكنا في الثانية من عمرنا
عندما تزوجت والدتنا لمرة أخرى. كانت أمنا تمتلك مبلغًا كبيرًا من المال — لم يكن دَخْلُها
يقل عن ألف جنيه إسترليني في السنة — ووضعتْه بالكامل تحت تصرف الدكتور رويلوت
حين أقمنا معه، شريطة حصول كلِّ واحدة منا على مبلغٍ سنويٍّ محدَّد في حال زواجنا.
ولم يمضِ وقتٌ طويل على عودتنا إلى إنجلترا حتى تُوفِّيت والدتي؛ إذ قُتلت منذ ثمانية
أعوام في حادث قطار بالقرب من مدينة كرو. عندئذٍ تخلَّى الدكتور رويلوت عن محاولاته
لإثبات نفسه في مزاولة الطب في لندن وأخذَنا لنعيش معه في منزل أجداده القديم في
ستوك موران. كان المال الذي تركتْه والدتنا كافيًا لتلبية كافة احتياجاتنا، ولم يبدُ أن ثمة
عائقًا أمام سعادتنا.
إلا أن تغيرًا رهيبًا اعترى زوج والدتنا في هذه الفترة؛ فبدلًا من إقامة صداقات مع
جيراننا وتبادل الزيارات معهم، وهم الذين سعدوا للغاية في البداية بعودة أحد أفراد عائلة
رويلوت إلى منزل العائلة القديم في ستوك موران، انغلق على نفسه في منزله ولم يكن يخرج
إلا نادرًا لينخرط في مشاجراتٍ عنيفةٍ مع أيِّ شخصٍ يعترض طريقه. إن الطبع العنيف
الذي يقترب من حدِّ الجنون وراثيٌّ في رجال عائلته، وأعتقد أنه في حالة زوج والدتي زاد
بفعل إقامته لفترة طويلة في المناطق الاستوائية. حدثت سلسلة من المشاجرات المخزية،
انتهت اثنتان منها أمام الشرطة، حتى أصبح في النهاية مصدرًا للرعب في القرية، ويهرب
الناس عند رؤيته، فهو رجل ذو قوة هائلة، وغضب لا يُسيطر عليه على الإطلاق.
في الأسبوع الماضيدفع حَدَّاد القرية من فوق حاجز الجسر فسقط في المجرى المائي،
ولم أستطع تجنُّب فضيحة علنية أخرى إلا بدفعي له كل ما تمكنتُ من جمعه من مال.
لم يكن لديه أصدقاء على الإطلاق فيما عدا مجموعة من الغجر الرَّحَّالة، وقد سمح لهؤلاء
المتشردين بالتخييم في الأفدنة القليلة المغطاة بالعُليق التي تُمثل ضيعة الأسرة، ونظير هذا
كانوا يستضيفونه في خيامهم، وكان يتجوَّل بعيدًا معهم أحيانًا لأسابيع متتالية. كما أن
لديه شغفًا بالحيوانات الهندية، التي يرسلها إليه شخصيراسله، ويملك في الوقت الحالي
فهدًا وقرد بابون، يتجوَّلان بحُرية في الأرضويخاف منهما أهالي القرية تمامًا كخوفهم من
مالكِهما.
يمكنك أن تتخيل مما قلته أنني وأختي جوليا المسكينة لم يكن لدينا أيُّ متعة كبرى
في حياتنا؛ فلم يكن أي خادم يبقى عندنا، ولوقت طويل ظللنا نقوم بكافة أعمال المنزل
بأنفسنا. ولم تكن أختي قد جاوزت الثلاثين من عمرها عند وفاتها، ومع ذلك فكان شعرها
«. قد بدأ بالفعل يتحوَّل إلى اللون الأبيض، تمامًا كحال شعري
«؟ إذن فقد تُوفِّيت أختك »
تُوفِّيت منذ عامين فقط، وأريد الحديث عن واقعة وفاتها. يمكنك أن تتفهم أن في نمط »
الحياة التي شرحتها لتوِّي كان من غير المرجح بشدة أن نتعرف على أيِّ شخصٍفي نفس
عمرنا ومكانتنا. ومع ذلك فقد كان لدينا خالة، وهي أخت غير متزوجة لوالدتنا، تُدعَى
الآنسة أونوريا ويستفيل، تعيش بالقرب من مدينة هارو، وكان مسموحًا لنا بزيارتها بين
الحين والآخر زيارات قصيرة في منزلها. ذهبت جوليا إلى هناك في الكريسماس منذ عامين،
والتقت برائد في البحرية يتقاضىنصف أجر، وخُطبت له. عَلِم زوج والدتي بالخطبة عند
عودة أختي ولم يُعارض الزيجة بأيِّ شكل، لكن قبل أسبوعين من اليوم المحدد للزفاف،
«. وقع الحادث المريع الذي حرمني من رفيقتي الوحيدة في الحياة
كان شيرلوك هولمز مستلقيًا إلى الخلف في مقعده وعيناه مغلقتان ورأسه يغوص في
الوسادة، لكنه فتح فمه نصف فتحة وأمعن النظر في زائرته.
«. أرجو إخبارنا بالتفاصيل بدقة » : قال لها
من السهل عليَّ فعل هذا، فكل حدثٍ من أحداث هذا الوقت العصيب » : فردَّت قائلة
محفور في ذاكرتي. إن بيت المزرعة، كما أخبرتكما، قديم للغاية، ولم يَعُد إلا جناح واحد
منه صالحًا للسكن الآن. تقع غرف النوم في هذا الجناح في الطابق الأرضي، بينما تقع غرف
الجلوس في وسط المبنى. وغرف النوم هي كالآتي: أولًا غرفة الدكتور رويلوت، ثم غرفة
أختي، والغرفة الثالثة هي غرفتي. لا وجود لاتصال بينها لكنها كلها تفتح على الممر نفسه،
«؟ هل كلامي واضح
«. تمامًا » : رد عليها
تطل نوافذ الغرف الثلاث على الحديقة. وفي هذه الليلة المشئومة ذهب الدكتور إلى »
غرفته مبكرًا، مع أننا عرفنا أنه لم يذهب إليها للنوم؛ إذ كانت أختي منزعجة من الرائحة
القوية لسيجاره الهندي الذي اعتاد تدخينه؛ ولذلك تَركَت غرفتها وجاءت إلى غرفتي حيث
جلست لبعض الوقت تتحدث معي حول زفافها الذي اقترب موعده. وفي تمام الحادية
عشرة نهضت لتغادر، لكنها وقفت عند الباب ونظرت إلى الخلف وقالت:
«؟ أخبريني يا هيلين، ألم تسمعي قطُّ أحدًا يُصفِّر عند منتصف الليل »
«. مطلقًا » : فرددت عليها
«. أعتقد أنكِ لا تستطيعين التصفير في أثناء نومك » : فقالت
«؟ بالطبع نعم، لكن لماذا »
لأنني كنت أسمع دومًا في الليالي القليلة الماضية، عند الثالثة صباحًا تقريبًا، صوتَ »
صفيرٍ واضح. وأنا نومي خفيف، فكان هذا الصوت يوقظني. لا يمكنني تحديد من أين
يأتي بالضبط، ربما من الغرفة المجاورة، وربما من الحديقة. ففكرتُ أن أسألكِ إن كنتِ
«. قد سمعتِه
«. لا، لم أسمعه، لا بد أنه صادر من هؤلاء الغجر البائسين في الحقول »
«؟ احتمال كبير، لكن إن كان قادمًا من الحديقة، فلماذا لم تسمعيه أنتِ أيضًا »
«. آه، لكني لا أستيقظ بسهولة مثلك »
وابتسمت لي وأغلقت الباب، وبعدها «. حسنًا، على أيِّ حال ليس للأمر عواقب وخيمة »
«. ببضع دقائق سمعتها تغلق الباب بالمفتاح
صحيح، هل كان من عادتكما إغلاق الباب بالمفتاح على أنفسكما في » : قال هولمز
«؟ الليل
«. دومًا »
«؟ لماذا »
أعتقد أني ذكرت لكما أن الدكتور يحتفظ بفهدٍ وقرد بابون في المنزل، ولم نكن »
«. نشعر بالأمان إلا إذا أغلقنا الأبواب على أنفسنا بالمفتاح
«. الأمر كذلك إذن، أرجوكِ أكملي حديثك »
لم أستطع النوم في تلك الليلة، وانتابني شعور غامضباقتراب وقوع حدث مشئوم. »
كما تذكر فأنا وأختي توءمان، وكما تعلم ثمة روابط خفية بين رُوحَين تجمعهما مثل
هذه الرابطة الوثيقة. كانت هذه الليلة موحشة؛ فكانت الريح تعصف بالخارج، والأمطار
تتساقط وتضرب بقوة على النوافذ. وفجأة، وسط كلِّ صخب الرياح العاتية، انطلقت
صرخة مروعة لامرأة مذعورة، وعلِمتُ أنه صوتُ أختي. انتفضتُ من سريري، وتلفحتُ
بشال، وهرعتُ إلى الممر. وعندما فتحتُ باب غرفتي سمعتُ صوتَ صفيرٍ منخفض، مثل
ذلك الذي وصفتْه لي أختي، وأعقبه بعد بضع لحظات صوتُ جَلْجَلة، كما لو أن كتلة من
المعدن سقطت. وحينما ركضت إلى آخر الممر، وجدتُ باب غرفة أختي مفتوحًا، ويتأرجح
ببطء حول مفصلاته. نظرتُ إليه والخوف يعتريني؛ إذ لم أكن أدري ما الذي على وشك
الخروج منه. وفي ضوء مصباح الممر رأيتُ أختي وهي تخرج من فتحة الباب، ووجهها
شاحب من الهلع، ويداها تتحسَّسان الأشياء بحثًا عن مساعدة، وجسمها كله يترنَّح إلى
الأمام والخلف مثل السِّكِّير. هرعتُ إليها وأحطتها بذراعيَّ، لكن في هذه اللحظة يبدو أنَّ
ركبتَيها لم تستطيعا احتمال الأمر أكثر من هذا فسقطتْ على الأرض. صارت تتلوَّى كالذي
يُعاني مِن ألمٍ بالغ، وتشنَّجت أطرافها تشنجًا مُروعًا. في البداية اعتقدتُ أنها لم تتعرفعليَّ،
يا إلهي! » : لكن عندما انحنيت فوقهاصرخت فجأة بصوت لا يمكنني نسيانه أبدًا وقالت
ثمة شيءٌ آخر أرادت قوله، ومدت إصبعها في «! هيلين! إنها العصابة! العصابة الرقطاء
الهواء مشيرةً باتجاه غرفة الدكتور، لكنها أصُيبت بتشنج آخر خنق الكلمات في فمها.
انطلقتُ أنادي بصوت مرتفع على زوج والدتنا، وقابلته وهو يخرج مسرعًا من غرفته في
رداء النوم. حين وصل إلى أختي كانت قد غابت عن الوعي، وعلى الرغم من أنه سكب الخمر
في حلقِها وأرسل طلبًا للمساعدة الطبية من القرية، ذهبت كل الجهود سُدًى؛ إذ تدهورت
«. حالها ببطءٍ وتُوفِّيت دون أن تستعيد وعيها. وهكذا كانت النهاية المُروعة لأختي الحبيبة
لحظة واحدة، هل أنتِ متأكدة من صوت الصفير والجلجلة هذا؟ أيمكنك » : قال هولمز
«؟ القَسَم على ذلك
هذا ما سألني عنه محقق الوفيات في المقاطعة عند التحقيق في القضية، وأنا لديَّ »
شعورٌ قويٌّ بأني سمعته بالفعل، ومع ذلك ربما تعرضتُ وسط صوت هبوب الرياح
«. وصرير المنزل القديم للخداع
«؟ هل كانت أختك ترتدي ملابس الخروج »
لا، كانت ترتدي ملابس النوم، وعُثر في يدها اليمنى على عقب ثقاب محروق، وفي »
«. يدها اليسرى على عُلبة ثقاب
يُشير هذا إلى إشعالها للضوء ونظرها حولها عندما حدث ما أفزعها. هذا أمر مهم، »
«؟ وماذا كانت استنتاجات المحقق في القضية
لقد حقَّق في القضية بعناية بالغة؛ نظرًا لذيوع سوء سلوك الدكتور رويلوت منذ »
وقتٍ طويلٍ في المقاطعة، لكنه لم يتمكن من العثور على أيِّ سببٍ مقنع للوفاة. وأظهرت
إفادتي أن الباب كان موصدًا من الداخل، وأن النوافذ مُزوَّدة بمصاريع قديمة الطراز
وقضبان حديدية عريضة وتُغلَق كل ليلة. خضعت الجدران للفحصالدقيق، واتضح أنها
سليمة تمامًا في كل أجزائها، وتعرضت الأرضيات أيضًا للفحص، ونتج عن الفحصالنتيجة
نفسها؛ ومِن ثَمَّ تأكد أن أختي كانت بمفردها تمامًا عندما لقيتْ حتفها. وبالإضافة إلى
«. هذا، لم تظهر أيُّ آثار للعنف على جسدها
«؟ وماذا عن السُّم »
«. فحصها الأطباء بحثًا عنه، لكن دون جدوى »
«؟ ماذا في اعتقادك إذن أدَّى إلى وفاة هذه المرأة البائسة »
أعتقد أنها ماتت من الخوف المحضوالصدمة العصبية، على الرغم من عدم قدرتي »
«. على تخيل الشيء الذي أخافها إلى هذا الحد
«؟ وهل كان الغجر في المَزارع في هذا الوقت »
«. أجل، فيوجد بعضٌمنهم هناك طوال الوقت تقريبًا »
«؟ حسنًا، وماذا فهمتِ من هذه الإشارة إلى العصابة، العصابة الرقطاء »
أحيانًا أفكر في الأمر أنه حديث غريب لشخصيهذي، وأحيانًا أفكر في أنها تُشير إلى »
عصابة من الناس، وربما إلى هؤلاء الغجر الموجودين في الحقول. فأنا لا أعلم ما إذا كانت
المحارم المرقطة التي يرتديها كثير منهم على رءوسهم هي السبب في هذه الصفة الغريبة
«. التي استخدمتها
هزَّ هولمز رأسه كشخصٍلم يقنعه هذا التفسير.
«. هذا أمر شائك، أرجوكِ أكملي حديثك » : ثم قال
مرَّ عامان على هذه الحادثة، وعشتُ في وحدة لا نظير لها حتى وقت قريب. لكن منذ »
شهر مضى شَرَّفني صديقٌ عزيزٌ عليَّ، امتدت معرفتي به لسنوات طويلة، بتقدمه لطلب
يدي. اسمه أرميتاج — بيرسي أرميتاج — الابن الثاني للسيد أرميتاج من منطقة كرين
ووتر بالقرب من ريدينج. لم يعارض زوج والدتي الزواج على الإطلاق، ومن المقرر عقد
الزواج في الربيع. منذ يومين بدأت أعمال ترميم في الجناح الغربي للمبنى، وحدث ثقب
في جدار غرفتي؛ لذا اضطُررتُ إلى الانتقال إلى الغرفة التي تُوفيت فيها أختي، والنوم في
السرير نفسه الذي كانت تنام فيه. ولك أن تتخيل إذن مدى الرعب الذي شعرت به في الليلة
الماضية حينما سمعتُ فجأة، وأنا مستلقية مستيقظة أفكر في المصير الرهيب الذي لحق
بها، في صمت الليل صوتَ الصفير المنخفض الذي كان نذير وفاتها. انتفضتُ من السرير
وأشعلت المصباح، لكني لم أرَ شيئًا في الغرفة. ومع ذلك، كنتُ أشعر برعب بالغ منعني
من الخلود إلى النوم مرةً أخرى؛ لذا ارتديتُ ملابسي وبمجرد بزوغ ضوء الصباح تسللتُ
إلى خارج المنزل، وركبتُ عربة تجرها الكلاب من نُزل كراون، المقابل لمنزلنا، وذهبتُ إلى
ليذرهيد، ومن هناك جئتُ إليك في هذا الصباح وهدفي الوحيد أن أقابلك وأطلب النصيحة
«. منك
«؟ خيرًا فعلتِ. لكن هل أخبرتِني هكذا بكلِّشيء » : قال صديقي
«. نعم، كلشيء »
«. لا يا آنسة رويلوت، ليس كلشيء. فأنتِ تتسترين على زوج والدتك »
«؟ ماذا؟ ما الذي تعنيه »
كي يجيب هولمز عليها أزاح الحافة المزخرفة من الدانتيل الأسود الذي يحيط بيد
زائرتنا التي تضعها على ركبتها. فظهرت خمسة آثار صغيرة زرقاء اللون، علامات لأربع
أصابع وإبهام، مطبوعة على رسغ السيدة الأبيض.
«. لقد تعرضتِ لعنفٍ بالغ » : وقال هولمز
إنه رجل قاسٍ، لا » : احمرَّ وجه السيدة خجلًا وغطت مكان الإصابة في رسغِها، وقالت
«. يكاد يدرك مدى قوته
سادت فترة طويلة من الصمت، أسند فيها هولمز ذقنه على يديه، وحدق في النار
هذا أمر في غاية الخطورة. وثمة آلاف التفاصيل الأخرى التي أرغب » : المشتعلة. وأخيرًا قال
في معرفتها قبل تحديد التصرفالمناسب. لكن لا وقت لدينا لنُضيعه. إذا تمكنا من الوصول
«؟ إلى ستوك موران اليوم، فهل يمكننا تفقُّد هذه الغرف دون معرفة زوج والدتك
تصادفأنه تحدث عن مجيئه إلى المدينة اليوم من أجل بعضالأعمال البالغة الأهمية، »
ومن المحتمل أن يظل غائبًا عن المنزل طوال اليوم، ولن يزعجكما أحد. توجد لدينا حاليٍّا
«. مُدبِّرة منزل، لكنها كبيرة السن وحمقاء، ويمكنني بسهولة إبعادها عن طريقكما
«؟ ممتاز، أتمانع الذهاب في هذه الرحلة يا واطسون »
«. على الإطلاق »
«؟ إذن سنأتي نحن الاثنان، وماذا ستفعلين أنتِ »
ثمة أمر أو أمران أريد فعلهما بما أني جئتُ الآن إلى المدينة، لكني سأعود في قطار »
«. الثانية عشرة، حتى أكون هناك في وقت حضوركما
إذن عليكِ ترقُّب حضورنا في وقت مبكر من بعد الظهيرة، فلديَّ أنا أيضًا بعض »
«؟ الأمور الصغيرة التي يجب القيام بها، هل ستمكثين لتناول الإفطار
لا، عليَّ الذهاب، فقد زال الهم من قلبي بالفعل بعدما أسررتُ إليكَ بمشكلتي. أتطلع »
أعادت تغطية وجهها بخمارها الأسود السميك وخرجت «. للقائكما مرةً أخرى بعد الظهيرة
بهدوء من الغرفة.
ماذا تستنتج من هذا كله » : سألني شيرلوك هولمز وهو متكئٌ إلى الخلف في كرسيه
«؟ يا واطسون
«. تبدو لي قضية غامضة ومشئومة لأقصىحد »
«. غامضة ومشئومة للغاية بالفعل »
ومع ذلك، إن كانت السيدة محقة فيما تقوله بشأن سلامة الأرضيات والجدران، وأن »
الباب والنافذة والمدفأة لا يمكن اختراقها، فلا شكَّ أن أختها كانت بالتأكيد وحدها حين
«. لقيت نهايتها الغامضة
«؟ ماذا إذن عن الصافرات الليلية، وعن الكلمات الفريدة للغاية للمرأة المحتضَرة »
«. لا فكرة لديَّ »
عندما تربط بين أفكار الصفير في الليل، ووجود عصابة من الغجر على علاقة طيبة »
بالدكتور السابق، وحقيقة أن لدينا سببًا وجيهًا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الطبيب من
مصلحته منع زواج ابنة زوجته، والإشارة عند الوفاة لعصابة، وأخيرًا حقيقة أن الآنسة
هيلين ستونر سمعتْ صوت جلجلة معادن، وهي التي من الممكن أن تكون صوت إعادة
وضع أحد القضبان الحديدية التي تغلق المصاريع في مكانه، أعتقد أنه ثمَّة ما يقودنا بشدة
«. إلى التفكير في أن حلَّ هذه القضية يأتي من هذا الاتجاه
«؟ لكن ما الذي فعله الغجر إذن »
«. لا يمكنني التصور »
«. لديَّ كثير من الاعتراضات على مثل هذه النظرية »
وأنا أيضًا، ولهذا السبب تحديدًا نحن ذاهبان إلى ستوك موران اليوم. فأريد أنْ أرى »
ما إن كان لهذه الاعتراضات أساسٌ من الصحة أم يمكن استبعادها، لكن ما هذا بحق
«! الشيطان
صدر هذا التعبير عن صديقي لأن باب غرفتنا انفتح فجأةً بعنفٍ وظهر أمامنا رجل
ضخم الهيئة. كانت ملابسه مزيجًا فريدًا بين زي المهنيين والمُزارعين، فكان يرتدي قبعةً
عاليةً سوداء، ومعطفًا طويلًا مشقوق الذيل، وجرموقين طويلين، ويتدلى من يده سوطُ
صيد. كان طويلًا للغاية لدرجة أن قبعته ارتطمت بالفعل بعارضة مدخل الغرفة، وبدا
كأنما عَرْضجسمه يملأ المدخل بالكامل. كما أن وجهه كان كبيرًا، يمتلئ بالتجاعيد، وكان
يتنقل بيني وبين صديقي، بينما عيناه الغائرتان الغالب عليهما اللون الأصفر، وذقنه
المرتفع وأنفه النحيل، جعلته جميعها يبدو إلى حدٍّ ما أشبه بطائرٍ جارحٍ عجوز.
«؟ أيكما هولمز » : سأل هذا الشبح
«. هذا اسمي يا سيدي، لكن هكذا أصبح لديك أفضلية عليَّ » : ردَّ رفيقي بهدوء
«. أنا الدكتور جريمسبي رويلوت من ستوك موران »
«. حقٍّا، دكتور، إذن تفضل بالجلوس » : قال هولمز بلطف
«؟ لا لن أفعل، لقد كانت ابنة زوجتي هنا، لقد تعقبتها، ماذا كانت تقول لك »
«. إن الطقس بارد قليلًا عن المعتاد في هذا الوقت من السنة » : قال هولمز
«؟ ما الذي كانت تقوله لك » : صاح الرجلُ العجوزُ بانفعال
«. لكني سمعتُ أن الزعفران مفيد » : واصل صديقي حديثه بهدوء أعصاب قائلًا
قال زائرنا الجديد، وهو يتقدَّم خطوةً للأمام ويهز السوط الذي يمسكه في يده:
حسنًا! أنت تراوغني، أليس كذلك؟ أنا أعرفك، فأنت وغد! لقد سمعتُ عنك من قبل. فأنت »
«. هولمز المتطفل
«! هولمز الفضولي » : ابتسم صديقي، فاستمر قائلًا
«. هولمز، مخبر سكوتلاند يارد » : اتسعت ابتسامة صديقي أكثر، فقال
إن حديثك ممتع للغاية، رجاءً عندما تذهب أغلق » : انفجر هولمز في الضحك وقال له
«. الباب وراءك، فثمة تيار هواء قادم
سأذهب عندما أقول ما عندي، إياك أن تجرؤ على التدخل في شئوني. أنا أعرف أن »
«. الآنسة ستونر كانت هنا، فقد تعقبتها! أنا رجل خطير للغاية عندما أغضب! انظر هنا
ثم تقدم بسرعة إلى الأمام، وأمسك بقضيب إذكاء نار المدفأة المعدني وثناه بيديه البُنِّيتَين
الكبيرتَين حتى أصبح مقوَّسًا.