كانت تعلم بالطبع ما أتينا لأجله؛ فذلك الوغد لم يُضِع وقتًا في تسميم أفكارها ضدنا.
وأعتقد أنها ذهلت لحضور الآنسة وينتر، لكنها أشارت إلينا ليجلس كلٌّ منا في مقعده كما
يستقبل رئيس دير اثنين من الشحاذين المصابين بالبرص. إن كنت تريد أن تتعلم الخُيَلاء
يا عزيزي واطسون، فادرس شخصية الآنسة فيوليت دي ميرفيل.
حسنًا يا سيدي، يبدو اسمك مألوفًا » : قالت لي بصوت كأنه رياح هبَّت من جبل جليدي
لي. أعلم أنك أتيت للافتراء كذبًا على خطيبي، البارون جرونر. لم أَلْقَك إلا نزولًا على رغبة
«. أبي، وأحذِّرك من البداية من أن لاشيء مما ستقول يمكن أن يترك أدنى أثرٍ في رأيي
شعرت بالأسف من أجلها يا واطسون. فقد اعترتني الشفقة عليها كما لو كانت
ابنتي. قلَّما تواتيني فصاحة اللسان؛ فأنا أستخدم عقلي، لا قلبي، إلا أنني رجوتها بدفء
كل الكلمات التي استطعت أن أجدها بداخلي. رحت أصور لها الوضع الفظيع الذي تصير
فيه المرأة التي لا تدرك شخصية الرجل الذي ارتبطت به إلا بعد أن تصير زوجته؛ المرأة
التي عليها الخضوع لملاطفة يدَين ملطختَين بالدماء وشفتَين فاسقتَين. لم أخُْفِ عنها
شيئًا؛ صارحتها بكل ما سيترتب على هذه الزيجة من خزيٍ وخوفٍ وعذابٍ ويأسٍ. لكن
كل كلماتي اللاذعة لم تستطع أن تجعل الدماء تتدفق إلى تلكما الوجنتَين العاجيَّتَين، أو
تجلب وميضًا من عاطفة إلى تلكما العينَين الشاردتَين. تذكرت ما قاله النذل عن تأثيرِ ما
بعد التنويم المغناطيسي. كان لك أن تظنها تعيش فوق الأرض في نشوة حلم، ورغم ذلك
لم يكن في ردودهاشيء مبهم.
لقد تحلَّيت بالصبر وأنصتُّ إليك يا سيد هولمز، ولم يترك كلامك في ذهني » : قالت لي
إلا التأثير المتوقع تمامًا. أدُرِك أن أديلبرت، خطيبي، قد جابهَ حياةً عاصفة عانى فيها من
ضغائن مؤلمة وافتراءات غاية في الإجحاف. ولست إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة من أشخاص
جاءوا ليفردوا افتراءاتهم أمامي. قد تكون نواياك طيبة، وإن كنت أعلم أنك عميل مدفوع
الأجر على استعداد لأن تنوب عن البارون كاستعدادك للتصرف ضده. لكن على أي حال
أرجو أن تفهم على نحوٍ قاطع أنني أحبه وهو يحبني، وأن رأي العالم بأَسْره لا يعدو
تغريد الطيور خارج النافذة. وإن كانت طبيعته النبيلة قد انحدرت لبعض الوقت، فلعلِّي
وهنا أدارت «. قد أرُسلت خصوصًا لأرتقي بها إلى مكانتها الرفيعة الحقة. لست على بينة
«. من هذه السيدة الشابة » : ناظرَيها إلى رفيقتي
كنت على وشك أن أجيب حين قاطعتنا الفتاة مثل دوامة عنيفة. إن لم يكن قد تسنَّى
لك من قبلُ أن ترى النار في مواجهة الثلج، فقد رأيتهما متجسدَين في هاتين المرأتين.
سأخبركِ من » : فقدصاحت قافزة من مقعدها وقد اعوجَّ فمها من فرط الانفعال قائلة
أنا. أنا آخِر عشيقاته، واحدة من مائة امرأة أغراها واستغلها ثم ألقى بها في كومة النفايات،
مثلما سيفعل بك. لكن الأرجح أن كومة النفايات التي سيتخلص منكِ فيها ستكون قبرًا،
على أفضل تقدير.صدقيني أيتها الحمقاء، إن تزوجتِ هذا الرجل فستكون تلك نهايتك. قد
يكون ذلك بأن يحطم قلبك أو عنقك، لكنه سيقضيعليكِ بطريقة أو بأخرى. لست أتحدث
بدافع حبي لك؛ فأنا لا آبَهُ سواء عشتِ أم قضيتِ نحبكِ. وإنما أتحدث مدفوعة بكرهي له
ونكايةً فيه، ولأثأر منه على ما اقترفه في حقي. لكن الأمر سيَّان بالنسبة لي، ولست بحاجة
إلى أن تنظري إليَّ هكذا يا سيدتي الفاضلة؛ فقد تصيرين إلى مكانة أشد وضاعة من التي
«. وصلت لها أنا قبل أن ينتهي الأمر
أفضِّل ألَّا أناقش تلك الأمور. دعيني أقل لآخر مرة » : قالت الآنسة دي ميرفيل ببرود
إنني على دراية بأن خطيبي قد مرَّ في حياته بثلاث مراحل تورَّط فيها مع نساء ماكرات،
«. وأنا على يقين من ندمه العميق والصادق على أيِّ إثم قد يكون ارتكبه
«! ثلاث مراحل! أيتها الحمقاء! إن حماقتك فاقت الوصف » : صرخت رفيقتي قائلة
سيد هولمز، أرجوك أن تُنهي هذا اللقاء. لقد أطعت » : قالت صاحبة الصوت الجليدي
«. رغبة أبي في مقابلتك، لكنني لست مرغمة على الاستماع لهذيان هذه الشخصية
اندفعت الآنسة وينتر للأمام وهي تتمتم بالسباب، ولولا أنني قبضت على معصمها،
لأمسكت هذه السيدة المثيرة للأعصاب من شعرها. سحبتها ناحية الباب وحالفني الحظ
لأعيدها للسيارة الأجرة دون إثارة فضائح أمام المارة؛ إذ كانت في قمة الغضب. حتى أنا
شعرت ببعض الحنق على نحوٍ بارد يا واطسون؛ فقد كان ثمة شيء مزعج لدرجة يتعذر
وصفُها في اللامبالاة الهادئة والرضا الشديد عن النفس اللذَين تحلَّت بهما السيدة التي كنا
نحاول إنقاذها. ها قدصرت على علم بموقفنا بالضبط من جديد، ومن الواضح أنني يجب
أن أخطط لبداية جديدة؛ بما أن هذه الحيلة لن تُجدي. سأظل على اتصال بك يا واطسون؛
فأغلب الظن أنه سيكون لك دور لتقوم به، وإن كان من المحتمل أن الخطوة التالية قد
«. تتوقف عليهم لا علينا
وهذا ما حدث بالفعل؛ فقدضرباضربتهما، أوضربته على الأرجح؛ فلم أستطع أن
أصدِّق أن السيدة كانت على دراية بالأمر. أعتقد أن بإمكاني أن أريكم البلاطة التي كنت
أقف عليها حين وقعت عيناي على اللافتة الإعلانية، وسرَت وخزة رعبٍ مفاجئة في حنايا
روحي. كان ذلك بين جراند أوتيل ومحطة تشيرينج كروس، حيث راح بائع صحف مبتور
الساق يعرضالجرائد المسائية. كان ذلك بعد محادثتنا الأخيرة بيومين. وهناك رأيت الخبر
الرهيب المنشور بلون أسود على خلفية صفراء:
هجوم قاتل على شيرلوك هولمز.
أعتقد أنني قد وقفت مذهولًا بضع لحظات. ليس لديَّ إلا ذكرى مشوشة لما حدث حين
انتزعت إحدى الصحف واعتراضالرجل الذي لم أدفع له ثمنها، ثم وقوفي أخيرًا في مدخل
إحدى الصيدليات بينما أفرد الصفحة التي حملت المقال المشئوم، الذي جاء فيه:
لقد نمى إلى علمنا ببالغ الأسفأن السيدشيرلوك هولمز، المحقق الخاصالمشهور،
كانضحية اعتداء قاتل أرداه في حالة خطيرة. ليسفي متناولنا تفاصيل محددة،
لكن يبدو أن الواقعة قد حدثت في الساعة الثانية عشرة تقريبًا في شارع ريجينت،
أمام مقهى رويال. نفَّذَ الاعتداء رجلان مسلحان بالعصي، وقد طال الضرب
رأس السيد هولمز وجسده؛ مما أسفر عن إصابات وصفها الأطباء بأنها شديدة
الخطورة. وقد نُقل إلى مستشفى تشيرينج كروس، ثم أصرفيما بعد على نقله
إلى مسكنه في شارع بيكر. أما المجرمان اللذان اعتديا عليه، فقد بدا على ملبسهما
الوقار، وقد هربا من المارة بالمرور عبر مقهى رويال ومنه إلى شارع جلاسهاوس
الواقع خلفه. ولا مجال للشك في انتمائهما للرابطة الإجرامية التي كثيرًا ما كانت
تئن بنشاط المصاب وعبقريته.
لست بحاجة إلى أن أقول إن عينيَّ ما كادتا تقعان على الخبر حتى قفزت في عربة ذات
عجلتين في طريقي إلى شارع بيكر. وهناك وجدت السير ليزلي أوكشوت، الجراح الشهير،
في الردهة بينما كانت عربته تنتظره عند الرصيف.
الإصابات ليست ذات خطورة مباشرة؛ فلديه جرحان قطعيان في » ورد في تقريره أن
فروة الرأس وبعضالكدمات البليغة، مما استلزم إجراء بعضالغرز. كذلك حُقِن المصاب
«. بالمورفين ويلزمه الهدوء، لكن إجراء مقابلة لعدة دقائق ليس ممنوعًا تمامًا
وبموجب هذا التصريح تسللت إلى الغرفة المعتمة، لأجد المريض مستيقظًا تمامًا،
وسمعته يهمس باسمي بصوت أجش. كانت الستائر مسدلة حتى ثلاثة أرباعها، إلا أن
شعاعًا من الشمس اخترقها واستقر على رأس الرجل المصاب الذي شُدَّت عليه الضمادات،
بينما تسربت بقعة قرمزية عبر الرباط الكتاني الأبيض. فجلست بجانبه خافضًا رأسي.
لا بأسيا واطسون. لا تجزع هكذا. الإصابة ليست » : تمتم هولمز بصوت واهن للغاية
«. سيئة كما تبدو
«! حمدًا لله على ذلك »
إن لديَّ قدْرًا من الخبرة في المبارزة بالهراوات كما تعلم. لقد صددت أغلب الضربات »
«. في البداية، لكنني لم أستطع مقاومة الرجل الثاني
ما الذي يمكنني القيام به من أجلك يا هولمز؟ لا شك أن ذلك الرجل اللعين هو الذي »
«. حرضهما على مهاجمتك. سوف أذهب إليه وأوُسعهضربًا إن وافقت على ذلك
مهلًا يا عزيزي واطسون! كلا، لا يمكننا القيام بأي شيء حيال الأمر إلا إذا ألقت »
الشرطة القبض على الرجلين. ولكن هروبهما كان مدبَّرًا جيدًا. هذا أمر لا شك فيه. تريَّث
قليلًا، فلديَّ خطط؛ أولًا: سنبالغ في وصف الإصابات. سيأتون إليك لمعرفة الأخبار، وعندئذٍ
عليك أن تبالغ في إظهار التأثر يا واطسون. لتقُل إنني سأعيش حتى نهاية الأسبوع إن
حالفني الحظ، واذكر ما يحلو لك من إصابات؛ ارتجاج، هذيان، قل ما شئت! ولتبالغ بقدْر
«. ما تستطيع
«؟ لكن ماذا عن السير ليزلي أوكشوت »
«. أوه، لا تقلق من ناحيته؛ فسوف يرى أسوأ ما لديَّ. سأتولى هذا الأمر »
«؟ هل ثمةشيء آخر »
نعم. أخبر شينويل جونسون أن يُبعد تلك الفتاة عن الطريق؛ فأولئك المجرمون »
سيلاحقونها الآن. لا شك أنهم يعلمون أنها كانت معي في القضية. وما داموا قد تجاسروا
«. على محاولة قتلي، فليس من المرجح أن يتركوها. هذه مسألة ملحة، فلتقُم بها الليلة
«؟ سأذهب الآن. هل هناكشيء آخر »
ضع غليوني على الطاولة، والخف الذي أحتفظ فيه بالتبغ. حسنًا! فلتأتِ كل صباح »
«. حتى نخطط لحملتنا
في ذلك المساء رتبت مع جونسون أن نأخذ الآنسة وينتر إلى ضاحية هادئة ونطمئن
أنها ستظل محتجبة عن الأنظار حتى زوال الخطر.
ظل الاعتقاد السائد بين الناس أن هولمز على أعتاب الموت طوال ستة أيام؛ فقد
تناولت النشرات الأمر بجدية شديدة، واحتوت الصحف على مقالات تدعو إلى التشاؤم.
ولكن زياراتي المستمرة طمأنتني أن الأمر ليس بذلك السوء؛ فقد كانت بنيته التي جمعت
بين النحالة والقوة في الوقت نفسه وإرادته الصلدة تصنعان الأعاجيب. كان يتعافىسريعًا،
حتى إنني أحيانًا ما كان الشك يساورني في كونه يستعيد قواه أسرع مما يتظاهر به حتى
أمامي؛ فقد كان لدى الرجل نزعة غريبة نحو التكتم كانت تؤدي إلى كثير من النتائج
المثيرة، لكنه كان يترك حتى أقرب أصدقائه يخمن ما الذي يخطط له بالتحديد. وقد بلغ
الأمر مبلغه إلى حد أن تبنَّى مبدأ أن السبيل الوحيد للأمان حين تخطط لشيء هو أن تخطط
وحدك. ورغم أنني كنت الأقرب إليه من أي شخص آخر، فإنني كنت دائمًا ما أستشعر
الهوة التي تفصل بيننا.
في اليوم السابع أزُيلت الغرز، ورغم ذلك نشرت الجرائد المسائية خبرًا عن إصابته
بالتهاب الحُمرة. وقد حملت الجرائد المسائية عينها نبأً كان عليَّ أن أنقله إلى صديقي،
صحيحًا كان أو عليلًا. كان الخبر ببساطة عن مرْكب روريتانيا التابع لخطوط كونارد،
الذي سيغادر من ليفربول يوم الجمعة ويحمل بين المسافرين البارون أديلبرت جرونر،
الذي سيذهب لتسوية بعض الأمور المالية المهمة في الولايات المتحدة قبل زفافه الوشيك
على الآنسة فيوليت دي ميرفيل، الابنة الوحيدة ل … إلخ. أنصت هولمز إلى الخبر وعلى وجهه
الشاحب نظرة باردة مستغرقة في التفكير؛ مما حدثني بأنه قد صدمه بشدة.
الجمعة! بعد ثلاثة أيام كاملة فقط. أعتقد أن الوغد يريد الابتعاد عن » : صاح هولمز
طريق الخطر. لكنه لن يفعل واطسون! أقسم أنه لن يفعل! والآن أريدك أن تقوم بشيء
«. من أجلي يا واطسون
«. أنا رهن خدمتك يا هولمز »
حسنًا، إذن لتقضِالأربع والعشرين ساعة القادمة في دراسة الخزف الصيني دراسة »
«. مكثفة
لم يبُح بأي تفسيرات، ولم أطلب أي تفسير في المقابل. فقد علَّمتني الخبرة الطويلة
الحكمة من الطاعة. لكن حين تركت منزله،سرت عبر شارع بيكر قادحًا ذهني حول كيفية
تنفيذ ذلك الطلب الغريب. وفي النهاية توجهت إلى مكتبة لندن في ميدان سانت جيمس،
وطرحت الأمر على صديقي لوماكس، مساعد أمين المكتبة، ثم غادرت إلى مسكني حاملًا
مجلدًا ضخمًا تحت ذراعي.
يقال إن المحامي الذي يدرس قضية بعناية شديدة حتى يستطيع استجواب شاهد
خبير في يوم الاثنين، ينسى كل المعلومات التي أقحمها في ذاكرته قبل يوم السبت. بالتأكيد
لن أدعي الآن أنني حجة في الخزف. غير أنني ظللت أستقي المعلومات وأحفظ الأسماء طوال
ذلك المساء وطوال الليل ملتمسًا الراحة لفترة قصيرة حتىصباح اليوم التالي. وهكذا عرفت
دمغات فناني الديكور الكبار، وغموضالتقويم الدوري الصيني، وآثار الإمبراطور هونجوو
وتحف يونجلي، وكتابات تانج يينج، وأمجاد حقبة أسرتي سونج ويوان القديمتين. كنت
محمَّلًا بكل هذه المعلومات حين زرت هولمز مساء اليوم التالي. وجدته قد غادر الفراش،
وهو ما كان لأحدٍ أن يتخيله من التقارير المنشورة، وجلس مسندًا رأسه الذي أحاط به
لفافات من الضمادات على يده في أعماق مقعده ذي المسند المفضل.
«. ما بالك يا هولمز! لو أن أحدًا صدَّق ما نُشرفي الصحف، لظن أنك تُحتَضر » : قلت له
هذا هو الانطباع الذي قصدت أن يصل إلى الناس. ماذا عنك يا واطسون؟ » : قال هولمز
«؟ هل ذاكرت دروسك
«. حاولت على الأقل »
«؟ جيد. هل تستطيع إذن أن تجاري حديثًا متخصصًا حول هذا الموضوع »
«. أظنني أستطيع »
«. ناولني إذن تلك العلبة الصغيرة على رف المدفأة »
فتح هولمز غطاء العلبة وأخرج شيئًا صغيرًا ملفوفًا بحرصبالغ في قطعة من الحرير
الشرقي الفاخر، وحين أزاح عنه الغطاء كشف عن صحن فنجان رقيق صغير ذي زرقة
داكنة غاية في الجمال.
يجب التعامل معه بحذر يا واطسون. هذه إحدى قطع الخزف الرقيق » : قال هولمز
الذي يعود لأسرة مينج. لم تعرضقطعة بهذه الفخامة فيصالة مزادات كريستي من قبلُ.
إن طقمًا كاملًا منه يساوي مبالغ طائلة، بل إنه من المستبعد أن يكون ثمة طقم كامل
منه خارج حدود قصربكين الإمبراطوري. إن رؤية هذه القطعة كفيلة بأن تثير جنون أي
«. خبير حقيقي
«؟ وماذا سأفعل بها »
«. د. هيل بارتون، ٣٦٩ شارع هاف مون » : فناولني بطاقةً طُبع عليها
ذاك اسمك الليلة يا واطسون. سوف تتصل بالبارون جرونر. لديَّ بعض » : ثم قال
المعلومات عن عاداته، وغالبًا لن يكون لديه ارتباطات في الثامنة والنصف. ستُعلِمه مسبقًا
برسالة أنك ستزوره، وستُخبره فيها أنك ستأتيه بعينة من طقمٍ فريد من نوعه من خزف
أسرة مينج. يمكنك تقديم نفسك بصفتك طبيبًا؛ بإمكانك أن تلعب هذا الدور دون أن تكون
مخادعًا. أخبِره كذلك أنك جامع تُحَف، وحصلت على هذا الطقم مصادفة، وأنك سمعت عن
«. اهتمام البارون بهذا المجال، ولا تمانع في بيعه إياه مقابل سعر باهظ
«؟ أي سعر »
سؤال في محله يا واطسون. سوف تفشل فشلًا ذريعًا لا محالة إن لم تعرف قيمة »
بضاعتك. هذا الصحن جاءني به السير جيمس، وهو يعود، حسبما فهمت، إلى المجموعة
«. الخاصة بموكله؛ لذا لن يكون من قبيل المبالغة إن قلت إنه ليس له مثيل في العالم
«. ربما يمكنني أن أقترح أن يقوم أحد الخبراء بتثمين الطقم »
ممتاز يا واطسون! إنك متألق اليوم. اقترح عليه كريستي أو سوثبي؛ فحساسية »
«. موقفك تمنعك من تحديد السعر بنفسك
«؟ لكن ماذا لو رفضمقابلتي »
بل سيقابلك؛ فهو مصاب بهوس حاد بجمع التحف الثمينة؛ وخاصةً في هذا المجال »
الذي شُهِد له فيه بالخبرة. اجلس يا واطسون حتى أمُلي عليك الخطاب. لست بحاجة إلى
«. رد. ستقول فقط إنك آتٍ وسبب الزيارة
خرج الخطاب بديعًا؛ قصيرًا، ومهذبًا، وجديرًا بإثارة فضول خبير التحف. وفي حينه
حمله أحد سعاة بريد الحي إلى العنوان المدوَّن. وفي مساء اليوم نفسه، بدأت مغامرتي
حاملًا الصحن الثمين في يدي وبطاقة دكتور هيل بارتون في جيبي.
دلَّ المنزل البهي والأرضالمحيطة به على أن البارون جرونر رجل شديد الثراء، كما قال
السير جيمس. فكان يضم ممرٍّا طويلًا متمعجًا، على جانبيه صفان من الشجيرات النادرة،
ويؤدي إلى ميدان كبير مفروشبالحصىومزدان بالتماثيل. بنى المكانَ أحد ملوك الذهب في
جنوب أفريقيا إبان الطفرة الاقتصادية الكبرى، ورغم أن المنزل الممتد المنخفضبما تحتويه
زواياه من أبراج يبدو ككارثة معمارية، فإنه مهيب في حجمه ومتانته. أدخلني رئيسالخدم
الذي بدا كأحد الأساقفة، وتركني مع خادم يرتدي زيٍّا من القطيفة، اصطحبني بدوره إلى
البارون.
كان واقفًا عند الواجهة الأمامية المفتوحة لخزانة كبيرة وُضعت بين النوافذ، كانت
تحوي جزءًا من مجموعة الخزف الخاص به. وحين دخلت التفت إليَّ حاملًا بين يديه
مزهرية صغيرة بنية اللون.
تفضل بالجلوس يا دكتور. لقد كنت أستعرض كنوزي وأتساءل هل كنت » : ثم قال
أستطيع حقٍّا إضافةشيء إليها. ربما يثير اهتمامك هذه العينة الصغيرة من آثار أسرة تانج
الحاكمة التي تعود إلى القرن السابع. أنا على يقين من أنك لم ترَ حرفية بهذه الدقة أو
«؟ طلاء بهذه القيمة. هل بحوزتك صحن مينج الذي تحدثت عنه
أزلت الغلاف عن الصحن وناولته إياه بحذر. فجلس إلى مكتبه، وقرَّب المصباح؛ إذ
كان الظلام قد حل، وبدأ يفحصه. وأثناء انشغاله بذلك انعكسالضوء الأصفر على ملامحه؛
مما أتاح لي تفحُّصها بتأنٍّ ويُسر.
كان رجلًا غاية في الوسامة بلا ريب. لم يكن الصيت الذي اكتسبه على مستوى أوروبا
لوسامته من فراغ. ورغم أنه كان متوسط الطول، فقد كان له قوام رشيق. أما وجهه فكان
داكنًا، يكاد يكون شرقيٍّا، بعينين واسعتين داكنتين خاملتين تحملان جاذبية لا تقاومها
النساء. وكان السواد الحالك يكسو شعره وشاربه، وكان الأخير قصيرًا ومدهونًا بعناية.
كانت ملامحه متناسقة وجذابة، عدا فمه المستقيم بشفتَيه الرفيعتَين. كان فمه كفمِ قاتل؛
كان كشجٍّ قاسٍ وغليظٍ في الوجه؛ منكمشًا ومتصلبًا ومخيفًا. لكنه أخطأ بتشذيب شاربه
دون أن يغطي فمه؛ فهو بمثابة علامة خطر وضعتها الطبيعة لتحذير ضحاياه. كان
صوته جذابًا، وأسلوبه مثاليٍّا. أما بالنسبة إلى سنِّه، فكان يبدو أنه قد تعدَّى الثلاثين بقليل
في تقديري، رغم أن سجلَّه الجنائي كشف فيما بعدُ أنه في الثانية والأربعين.
إنه بديع جدٍّا؛ قمة في الإبداع حقٍّا! قلت إن لديك طقمًا من ست قطع على » : وأخيرًا قال
الشاكلة نفسها. ما يحيرني أنني لم أسمع بهذه القطع المذهلة من قبل. لا أعلم إلا واحدة
فقط تضاهيها في لندن، ومن غير المحتمل أن تكون للبيع بكل تأكيد. هل ستكون حماقة
«؟ مني إن سألتك كيف حصلت عليها يا دكتور هيل بارتون
هل في ذلك ما يهم حقٍّا؟ تستطيع أن ترى أن » : سألته بلا مبالاة قدْر ما استطعت
«. القطعة أصلية، أما بالنسبة لقيمتها، فيفضَّل أن نلجأ لتقدير أحد الخبراء
شيء غريب للغاية. » : قال البارون وقد توهجت عيناه بوميض سريع يثير الريبة
من الطبيعي أن يودَّ المرء معرفة كل ما يتعلق بالصفقة عند التعامل في أشياء بهذه
القيمة. لا شك أن القطعة أصلية. لا يساورني أدنى شك في ذلك. لكنني مضطر لوضع كل
«؟ الاحتمالات في الحسبان. لنفترضأنه قد تبيَّن لاحقًا أنك لم تكن مخولًا بالبيع
«. سأمنحك ضمانًا ضد أي دعاوى من هذا القبيل »
«. سيُثير ذلك بالطبع تساؤلات عن قيمة الضمان الذي ستقدمه »
«. سيجيب المصرفيون الذين يعملون على حسابي عن هذا السؤال »
«. بالطبع. لكن رغم ذلك تبدو لي الصفقة ككلٍّ غريبة وغير معهودة »
لك أن تقبل الصفقة أو ترفضها. لقد كنت أول من جئته بالعرض؛ » : قلت له بفتور
«. لأنك خبير حسبما سمعت، لكن لن أجد صعوبة في العثور على أشخاصآخرين
«؟ من قال لك إنني خبير »
«. عرفت أنك قد ألفت كتابًا في هذا الموضوع »
«؟ هل قرأت الكتاب »
«. لا»
يا إلهي! ما زدت الأمر إلا عسرًا على إدراكي! إنك خبير وجامع تحف بحوزتك قطعة »
ثمينة للغاية، ورغم ذلك لم تكلفنفسك عناء الرجوع إلى الكتاب الوحيد الذي كان سيُخبرك
«؟ بالمعني والقيمة الحقيقيَّين لما تحمله. هل لديك تفسير لذلك
«. أنا رجل كثير الأعباء؛ فأنا أزاول مهنة الطب »
هذه ليست إجابة مقنعة؛ فالإنسان حين يشغف بهواية يتابعها، مهما كانت أنشطته »
«. الأخرى. وقد ذكرت في رسالتك أنك خبير تحف
«. أنا كذلك بالفعل »
هل لي أن أطرح عليك بعضالأسئلة حتى أختبرك؟ فأنا مضطر لإخبارك أيها الطبيب »
—إن كنت طبيبًا حقٍّا— أن المسألة ما زالت تزداد ريبة. سأسألك عما تعرفه عن الإمبراطور
شومو وكيف ربطت بينه وبين خزينة كنوز شوسو إن الواقعة بالقرب من مدينة نارا.
ويحي، هل يربكك السؤال؟ فلتحدثني قليلًا إذن عن أسرة وي الشمالية ومكانتها في تاريخ
«. الخزف
قفزت من مقعدي في غضبٍ مفتعَل.
هذا شيء لا يُحتمل يا سيدي. لقد جئت إلى هنا لأسُْدي إليك معروفًا، وليس » : قلت له
لكي تختبرني كما لو كنت تلميذًا بالمدرسة. ربما لا ترقى معلوماتي في هذه المجالات
«. لمستواك، لكنني بالتأكيد لن أجيب على أسئلة طُرحت بهذا الأسلوب المهين
حدجني بنظرة ثابتة وقد غادر الخمول عينَيه اللتين اشتعلتا غضبًا فجأة، بينما
كشفت شفتاه القاسيتان عن أسنان لامعة.
ما اللعبة التي تلعبها؟ أنت جاسوس، وهولمز هو الذي أرسلك. إنك تحتال » : وقال
عليَّ. لقد أرسل إليَّ الرجل مساعديه لأنه يُحْتَضر. لقد دخلت منزلي دون استئذان، وأقسم
«. بالله إنك ستجد صعوبة في الخروج أكبر من التي وجدتها عند الدخول
ثم هبَّ واقفًا، فتراجعت خطوة للوراء مستجمعًا قواي تحسُّبًا لهجوم منه؛ إذ كان
يشتعل حنقًا. قد يكون ارتاب فيَّ من البداية؛ ولا شك أن هذا الاستجواب قد كشف له
الحقيقة؛ لكن كان جليٍّا أنني لم يكن بوسعي خداعه. دبَّ يده في درجٍ جانبي وأخذ يفتش
فيه وهو يتميز من الغيظ. ثم باغته صوتٌ ما، فوقف يُصغي بانتباه.
وانطلق إلى الغرفة التي خلفه. «! آه! آه » : صاح البارون
قطعت خطوتين أوصلتاني إلى الباب المفتوح، حيث رأيت بالداخل مشهدًا ستظل
صورته مطبوعة في ذهني إلى الأبد. رأيت النافذة المطلة على الحديقة مفتوحة على مصراعيها،
وبجانبها وقف شيرلوك هولمز كشبح مرعب، برأسٍ شُدَّت عليه ضمادات ملطخة بالدماء
ووجهٍ مُنهَكٍ وشاحب. في اللحظة التالية كان قد قفز من النافذة، وسمعت صوته حين
ارتطم بشجيرات الغار بالخارج. فانطلق سيد المنزل بإثره متجهًا نحو النافذة المفتوحة
مطلقًا صيحات غاضبة.
وبعد ذلك! وقع الأمر في لحظة، لكنني رأيته بوضوح. رأيت ذراعًا — كانت لامرأة —
تنطلق من بين أوراق الشجر. وفي اللحظة نفسها ندَّت عن البارونصرخة مفجعة؛صرخة
سيظل صداها يتردد في ذاكرتي إلى الأبد. ثم غطى وجهه بيديه وانطلق في أنحاء الغرفة،
وهو يخبط رأسه بشدة في الجدران. بعد ذلك سقط على البساط، وأخذ يتقلب ويتلوى بينما
راح صدىصرخاته المتوالية يتردد في أرجاء المنزل.
«! ماء! ماء بحق الرب » : أخذ يصرخ
أخذت إبريقًا من فوق المنضدة الجانبية وهُرعت لإنقاذه، وفي اللحظة نفسها توافد
رئيس الخدم وعدَّة من الخدم من البهو راكضين. أذكر أن أحدهم فقد الوعي حين جثوت
على ركبتي بجانب الرجل المصاب وأدرت وجهه المريع ناحية ضوء المصباح. كان حمض
الكبريتيك يأكل في وجهه ويتساقط من أذنَيه وذقنه، في حين صارت إحدى عينيه بيضاء
وعليها غشاوة، والأخرى حمراء وملتهبة. بدت الملامح التي أبديت إعجابي بها قبل دقائق
معدودات أشبه بلوحة جميلة مرَّر عليها الرسام قطعة إسفنج مبتلة ومتسخة، فصارت
مطموسة بلا لون، ومرعبة وأبعد ما تكون عن ملامح البشر.
شرحت لكم ما حدث بالضبط فيما يتعلق بالهجوم بحمضالكبريتيك في بضع كلمات
قليلة. صعد البعض عبر النافذة وخرج آخرون مسرعين إلى الحديقة، لكن الظلام كان قد
حلَّ وبدأت الأمطار في الهطول. أخذ الضحية يصرخ وبينصرخاته يثور ويهذي بكلمات
إنها تلك الساقطة، كيتي وينتر! آه، تلك الشيطانة! » : حادة ضد المنتقم؛ إذ جعل يصيح
«! ستدفع ثمن ما اقترفته! ستدفع الثمن! آه، يا إلهي! الألم يفوق قدرتي على التحمل
مسحت وجهه بالزيت، ووضعت حشوة قطنية على الأجزاء السحيجة، وحقنته
بالمورفين. وتحت وطأة هذه الصدمة، زالت عن ذهنه كل الشكوك بشأني، وتشبث بيديَّ
كما لو كان لديَّ القوة القادرة حتى على إبراء هاتين العينَين الخاليتَين من الحياة، اللتين
حدق إليَّ بهما، مما حل بهما. كنت سأبكي على ما ناله من هلاك، لولا الذكرى الجليَّة
في ذهني لحياة الرذيلة التي آلت به إلى ذلك التغيير الشنيع. كانت ملامسة راحتَيْ يديه
المحروقتين تُثير الاشمئزاز، وتنفست الصُّعَداء حين جاء طبيب أسرته متبوعًا بمتخصص
لإعفائي من عبئي. جاء كذلك مفتشمن الشرطة، فأعطيته بطاقتي الحقيقية؛ فقد كان من
العبث والحماقة أيضًا أن أفعل خلاف ذلك؛ إذ كنت معروفًا بالشكل لدى سكوتلانديارد
شأني شأن هولمز نفسه. بعد ذلك غادرت ذلك المنزل بكل ما سكن جنباته من كآبة ورعب،
وفي غضون ساعة كنت في شارع بيكر.
كان هولمز جالسًا في مقعده المعتاد وقد بدا عليه الشحوب والإنهاك. فبخلاف إصاباته،
تركته أحداث المساء مصدومًا رغم أعصابه الحديدية، فراح يُصغي في هلع وأنا أقصُّعليه
روايتي عن التحول الذي حل بالبارون.
وأضاف وهو يلتقط «! إنها عاقبة الخطيئة يا واطسون؛ عاقبة الخطيئة » : قال هولمز
إنها تأتي عاجلًا أو آجلًا. يعلم الرب أنه قد بلغ الحد من الخطايا. » : مجلدًا بنيٍّا من المنضدة
ها هو الكتاب الذي تحدثت عنه السيدة. إن لم يوقف هذا الكتاب الزواج، فلن يوقفه شيء
آخر، لكنه سيوقفه يا واطسون، لا بد من ذلك؛ فلا يمكن لامرأة تحترم ذاتها أن تتحمل ما
«. فيه
«؟ هل هذه هي يوميات مغامراته العاطفية »
بل يوميات شهواته. سمِّه كيفما تشاء. في اللحظة التي أخبرتني فيها السيدة بشأنه، »
أدركت أنه سيكون سلاحًا رهيبًا إن استطعنا أن نضع أيدينا عليه. لكنني لم أنبس بكلمة
حينها من شأنها أن تلمِّح بشيء لما يدور بخلَدي؛ إذ كان من الممكن أن تُفشيه هذه السيدة،
إلا أنني أمعنت التفكير في الأمر، ثم أعطاني الاعتداء الذي وقع عليَّ الفرصة لأجعل البارون
يعتقد أنه ليس بحاجة إلى اتخاذ أي تدابير احترازية ضدي. لقد كان كل شيء يصب في
صالحي. كنت سأنتظر أكثر قليلًا، لكن رحلته إلى أمريكا أرغمتني على الإسراع؛ فقد كان
من المستحيل أن يترك وثيقةً خطيرةً كهذه من شأنها أن تفضح أمره دون أن يأخذها؛ لذا
كان علينا التحرك على الفور. ولأنه يتخذ احتياطات أمنية، فقد كان السطو على المنزل ليلًا
أمرًا مستحيلًا. لكن بدت الفرصة ممكنة في المساء فقط لو استطعت التأكد من انشغاله،
وهنا طرأت لي فكرة الاستعانة بك وبالصحن الأزرق. لكن كان عليَّ التأكد من مكان الكتاب،
وكنت أعلم أن أمامي بضع دقائق فقط؛ فالوقت المتاح كان مقيدًا بمعلوماتك عن الخزف
الصيني؛ لذا اصطحبت الفتاة في اللحظة الأخيرة. كيف كنت سأخمن ما في العبوة الصغيرة
التي حملتها أسفل عباءتها؟ ظننتها قد جاءت لتنفيذ خطتي فقط، لكن يبدو أنها كان
«. لديها خطة خاصة بها
«. لقد خمَّن أنني جئت من طرفك »
هذا ما خشيته. لكنك شغلته مدة كافية حتى حصلت على الكتاب، وإن لم تكن كافية »
«! للهروب دون أن يلاحظني أحد. آه، سير جيمس، كم يسعدني مجيئك
جاء صديقنا المرموق تلبية لاستدعاء مسبق، واستمع ببالغ الاهتمام لرواية هولمز لما
حدث.
لقد أتيت بعجائب؛ عجائب بحق! لكن إن » : وبعد أن استمع إلى القصة صاح قائلًا
كانت هذه الإصابات بالفظاعة التي وصفها الدكتور واطسون، فقد ظفرنا بما نستهدفه
«. من إحباط الزواج دون الحاجة إلى هذا الكتاب المريع
هز هولمز رأسه.
ليس هكذا تتصرف النساء على شاكلة الآنسة دي ميرفيل؛ فسوف تزداد حبٍّا » : ثم قال
له وهو ضحية مشوهة. لا، لا. علينا القضاء على جانبه الأخلاقي، لا الشكلي. وهذا الكتاب
سيجعلها تعود إلى الواقع؛ لا شيء آخر يستطيع ذلك. إنه بخط يده، ولا يمكنها التغاضي
«. عنه
رحل السير جيمسحاملًا الكتاب والصحن الثمين. ولما كان الوقت قد تأخر بي، نزلت
معه إلى الشارع، حيث كانت هناك عربة في انتظاره. قفز السير داخل العربة، وسريعًا
أصدر أوامره للسائق الذي كان يعتمر قبعة ذاتشريط معقود، فانطلق بالعربة على جناح
السرعة. ورغم أنه ألقى بنصف معطفه الطويل خارج النافذة ليغطي شعارات النبالة
الموضوعة على اللوحة، فقد رأيتها في الضوء المنبعث من النافذة المشبكة، فشهقت لهول
المفاجأة، ثم استدرت عائدًا وصعدت الدرج متوجهًا إلى حجرة هولمز.
لقد عرفت من هو » : دخلت الحجرة متلهفًا لإخباره بالخبر العظيم، وصحت قائلًا
«… موكلنا. ويْحِي يا هولمز! إنه
إنه صديقٌ وفيٌّ وسيِّدٌ نبيل. دعنا » : قال هولمز وهو يرفع يده ليمنعني من الاسترسال
«. نكتفِ من الأمر بذلك الآن وللأبد
لا أعلم كيف استُخدِم كتاب الإدانة. ربما تولى السير جيمس أمره. أو الأرجح أن هذه
المهمة الحساسة قد عُهد بها لوالد السيدة الشابة. على أي حال، فقد جاءت النتيجة كما كان
يقول إن الزواج المرتقب « مورنينج بوست » مرجوٍّا؛ فبعد ثلاثة أيام نُشر خبر في صحيفة
بين البارون أديلبرت جرونر والآنسة فيوليت دي ميرفيل لن يتم. وأوردت الجريدة نفسها
أوُلى جلسات محكمة الشرطة في الدعوى القضائية المرفوعة ضد الآنسة كيتي وينتر بتهمة
خطيرة، ألا وهي إلقاء حامضالكبريتيك. وقد تكشفت خلال المحاكمة ظروف مخففة أدت
إلى إصدار حكم سيظل يُذكر بأنه أخف حكم ممكن لمثل هذه الجريمة. أما شيرلوك، فقد
كان مهدَّدًا بالمقاضاة بتهمة السطو، لكن حين تكون الغاية طيبة والعميل شخصية بارزة
لدرجة كافية، حتى القانون البريطاني الصارم يُضحِي شفوقًا ومرنًا؛ فصديقي لم يَمْثُل
حتى الآن في قفص الاتهام