Darebhar

شارك على مواقع التواصل

كان لك معايا
ما يفسده الدهر يصلحه أبي، وما أفسده أنا يصلحه أبي، وما يفسد بصفة عامة يصلحه أبي.
كان ذلك هو منهجي في الحياة دائماً، ينفذ راتبي فأتصل بأبي لأطلب منه المال، تتعطل سيارتي فأطلب من أبي أن يتولى عملية تصليحها والذهاب للميكانيكي وعلى نفقته الخاصة، أتلقى عرض عمل فأطلب مشورته التي عادة لم أكن آخذ بها.
ولكن كل ذلك كان قبل يوم الثاني عشر من مارس 2021.
أبي، أسمعك تتساءل عن أحوالي التي أنت بها أعلم، وربما تتساءل كذلك عن أحوال أمي وأختي وابني يونس.
يونس... آه يا يونس، ألمي الدائم وهمي الأزلي.
أشعر برغبة عارمة في أن أقص عليك كل ما حدث منذ يوم الثاني عشر من مارس 2021 وحتى الآن، وأرى أن هناك الكثير من الوقت كي أقص عليك القصة برمتها.
وصلت الإسكندرية منذ ساعة تقريباً، ماذا؟.. تتساءل عن الحاج مصطفى، صديقك المقرب ومالك فندق الرياض المطل على البحر مباشرة؟... كلا يا أبي، لم أمر عليه، لقد اتجهت مباشرة لمقهى تريانون.
أنا في حاجة إلى أن أجلس مع نفسي في ذلك المقهى، أحتسي قهوتي الفرنسية التي أعشقها، وأفكر. ولكن بمجرد أن دخلت المقهى، اجتاحتني رغبة عارمة في أن أكتب.
ماذا؟؟؟،،، نعم، نعم... لا زلت أحب الكتابة كما كنت دائماً، أنا هو أنا لم أتغير نهائياً. ولكني يا أبي لم أحترف الكتابة كما كنت أتمنى دائماً، حتى أنني لم أستطع أن أكمل أية قصة بدأتها، لا أعلم أهو فقدان الشغف، أم أنها مشاغل الحياة؟ سأخبرك عن أحوالي كلها لا تقلق ولا تتعجل الأمور، أراك أمامي الآن جالساً تدخن غليونك الذي كنت تحبه، والذي أودى بحياتك. أراك تبتسم وأنت تراني أكتب، ولكن يا أبي بمناسبة الغليون، ألا تعرف لماذا يموت المرء دائماً بفعل ما ومن يحب؟!
ماذا؟،،، ستجيبني لاحقاً؟ تريد أن تسمع يا أبي ولا تريد أن تتكلم، أنا أعلم ذلك جيداً.
المهم، طلبت يا أبي من النادل القهوة الفرنسية وقلماً ومجموعة من الأوراق فعاد لي بعد قليل بكل ما طلبت، وها أنا الآن أكتب.
من أين أبدأ؟ منذ طفولتي؟، لا لا، أنت تعلم كل شيء عنها، هل أبدأ من يوم الثاني عشر من مارس 2021؟، أم أبدأ من اليوم الذي تزوجت فيه؟، فهو علامة فارقة في حياتي كما تعلم.
آه، عرفت، سأبدأ يا أبي من يوم الحادي عشر من مارس 2021.
_
_
_
لا يا أبي، عيناي لا تدمع، وقلبي لا يتمزق، ولكنه يختلج إن أردت الصدق.
ولكن قبل أن أبدأ الحكاية، أريد أن أخبرك بشيء لم أخبرك به من قبل مطلقاً، أنا أحبك، ولطالما أحببتك، وسأظل أحبك إلى الأبد، ولم أكن أعرف يوماً أنني أحبك لتلك الدرجة إلا حين فارقتنا.

كنت مستلقياً على الأريكة وقد مددت جسدي عليها أشاهد التلفاز، أتعلم ماذا كان يعرض حينها يا أبي؟، مسلسل أوبرا عايدة للرائع يحيى الفخراني. نعم لقد كنت تحبها وأنا أيضاً أحبها، كنا نشاهدها سوياً كلما كانوا يعرضونها.
ولكني أصدقك القول لم أكن حينها أشاهدها بتمعن أو تركيز، فلقد كانت الدموع تنساب من عيني بهدوء وسلاسة. لماذا كنت أبكي؟، أحقاً لا تعلم؟!... حسناً سأخبرك، كنت أبكي لأنك كنت في المشفى (مستشفى العزل) بالعناية المركزة منذ قرابة الأسبوعين، وحالتك لا تتحسن، كنت أبكي لأن أمي كانت وحدها في المنزل لأنني كنت مصاباً بالكورونا حينها وعزلت نفسي في منزلي بعيداً عنها. كنت أبكي كلما كانت تقع عيني على يونس وأنا أعلم أننا قد نفترق إن فارقتنا أنت، لأنك تعلم جيداً أن زوجتي لن تقبل أن تعيش مع أمي وحينها لن أترك أنا أمي وحيدة وسأعيش معها وأفترق عن ابني.
ولكن أتعلم يا أبي أكثر ما كان يبكيني؟...
زوجتي، أتعلم أين كانت زوجتي ليلتها يا أبي؟، كانت في فرح أختها وقد تركت لي يونس كي أعتني به، وفي الليلة السابقة لتلك الليلة كانت في حنة أختها. نعم يا أبي.. كنت أنا أمر بكل هذا وكانت هي ترقص وتتمايل مع قريناتها وقريباتها.
في مثل تلك المواقف التي كنت أشعر فيها بتخليها عني، كنت أنظر ليونس فأنسى كل شيء، وأقول لنفسي "ابنك معك.. فمعك الدنيا وما فيها... فليذهب أي شيء آخر إلى الجحيم"، ولكن في تلك الليلة بالذات كنت كلما أنظر ليونس وهو يلهو ويلعب... كنت أبكي وأشعر أن الفراق آت لا محالة.
"كما كما كما" كانت تلك هي الكلمات التي يصيح بها يونس وهو يلعب، لقد كانت تلك الكلمات هي اسمك كما يستطيع هو أن ينطقه يا أبي. وبينما هو يصيح بتلك الكلمات رن هاتفي، فوجدته أنت. كنت تتصل بي يا أبي لسبب لم أكن أعلمه حينها، ويا ليتني أدركته، لقد كانت تلك هي المرة الأولى التي أتلقى فيها اتصالاً منك منذ دخولك للمستشفى وللأسف كانت الأخيرة كذلك. أتتذكر ماذا قلت يا أبي؟!.
كلمات قليلة، تساءلت عن حالي، وطلبت مني أن أصور لك يونس فيديو وهو ينادي عليك "كما كما كما"، ثم أخبرتني أنك لا تستطيع التحدث كثيراً وأن نفسك لا يسعفك، فأغلقت الهاتف، وانفجرت أنا بالبكاء مجدداً.
صورت لك يونس، وأرسلت لك الفيديو على الماسنجر فأجبتني بجملة مقتضبة غير متزنة علمت من خلالها أنك تفقد تركيزك تدريجياً "جميل مصطفى يخليه ويبارك فيه".
"لو بس كنت عارف إن دي المرة الأخيرة
مية مية كات هتفرق في الوداع"
تلك الجملة من أغنية مكي هي ما انطبعت بعقلي في اليوم التالي يا أبي.
أغلقت الهاتف ثم اتصلت بكل معارفك وأحبابك، كنت تودعهم، ظننا حينها أنك تتحسن، ولكن حسن ظننا هذا لم ينفذ لنا جميعاً مرادنا ومبتغانا.
وبينما أنا كذلك يا أبي، وصلتني رسالة من زوجتي، كانت تلومني على تركي لها تحضر زفاف أختها وحدها، كتبت كلاماً كثيراً عن كيف أنها لن تنسى ذلك الموقف لي طوال عمرها، وأن الجميع يتساءل عني مما يجعل "شكلها زي الزفت" كما قالت، ولكنني لم أعر أي انتباه أو اهتمام لتلك الكلمات، قرأتها ثم أغلقت الهاتف مجدداً.
بعد عدة دقائق اتصل بي أبوها، قال لي بنبرة معاتبة:
 أيصح أن تكون في المنزل وزوجتك تحضر زفاف أختها وحدها؟
لا أخفيك سراً يا أبي كدت أفقد أعصابي وكنت على وشك الانفجار به قائلاً: "وهل يصح أن تقيموا أنتم حفلاً لزفاف ابنتكم بينما أبي يحتضر بالمستشفى؟، وإن صح ذلك فهل يصح أن تتركني زوجتي أموت كمداً وحزناً على أبي الذي اقترب أجله؟، وإن صح هذا وذاك، أيصح أن تتصل بي معاتباً إياي على حزني على أبي وعدم حضوري لزفاف ابنتك؟، وإن صح كل ذلك فهل يصح أن تكونوا سفهاء إلى تلك الدرجة فاقدين للإحساس والتقدير إلى هذا الحد؟".
ولكني يا أبي آثرت الصمت، فإن أجبت السفيه أقمت له وزناً، لذلك أجبته بهدوء بينما تغرورق عيناي بالدمع:
 اعذرني لم أستطع الحضور فإن أبي يحتضر في المستشفى إن كنت لا تعلم.
ارتجف صوته، فلم يكن يتوقع مثل تلك الكلمات، كان يتوقع مني أن أعتذر بأي شيء، فلقد كان كما قلت لك سفيهاً يا أبي.
لا تبتسم بخبث هكذا يا أبي، أنا أعلم جيداً أنك حذرتني كثيراً، ولقد كنت دائماً تقول لي أنني من النوع الذي لن يوقن أن النار تحرق إلا عندما يحترق وينكوي بلهيبها الحارق.
على أية حال، بقيت هكذا على تلك الحال، أتابع التلفاز، أبكي، أنهار، ثم آخذ يونس في أحضاني، ثم أتصل بأمي لأطمئن عليها. حتى انتهت الليلة وعادت زوجتي من حفل زفاف أختها. كانت غير طبيعية، كانت تريدها عراكاً، كان الشرر يتطاير من عينيها، إلا أنني لم ألتفت لكل ذلك، تركت لها الولد ثم دخلت غرفتي ونمت.

عندما فتحت عيني يوم الثاني عشر من مارس 2021 لم أكن على ما يرام، لا أقصد أنني كنت أشعر بالإعياء أو أن علة جسدية قد اعترتني، ولكن كنت أشعر أن هذا اليوم مختلف، حدث جلل سيحدث وسيغير حياتي كلها، ويقلبها رأساً على عقب.
اتصلت بأمي عندما استيقظت، وسألتها إن كنت قد اتصلت بها أو هي اتصلت بك، ولكنها أجابتني أنها تحاول الاتصال بك منذ الفجر ولكنك لم تكن تجيبها. كانت قلقة، ولكنها كانت تحاول إخفاء قلقها. شعرت برجفة خفيفة تعتري جسدي، إلا أنني حاولت إخفاء ذلك القلق والخوف، حاولت الاتصال بك كثيراً وكثيراً، أكثر من عشرين مرة، رأيت كل تلك المحاولات مسجلة على هاتفك عندما سلموني إياه في المستشفى باليوم التالي بعد أن سلموني جثمانك.
مرت ساعة أو ربما ساعتان، ولم يتغير الأمر، اتصلت بخالي فلقد كان على علاقة بالعاملين في مستشفى العزل، أخبرته بالأمر وطلبت منه أن يتصل بمعارفه ليعرف ماذا هنالك. بعد دقائق اتصل بي، لم يكن صوته على ما يرام.
 مات؟
تساءلت وأنفاسي تلاحق بعضها البعض، سألته وصدري يعلو ويهبط، وقلبي يخفق خفقاناً يكاد أن يوقفه، ولكنه أجابني بالنفي. تنفست الصعداء ولكنه أخبرني أن حالتك ساءت بعد الفجر وأنهم قد وضعوك على جهاز التنفس الصناعي. عندها علمت أنها النهاية وأنه لن يكون هناك رجعة، فمن يوضع على جهاز التنفس الصناعي لا يعود يا أبي. أنت طبيب، أنت سيد العارفين.
ارتديت ملابسي سريعاً، وهممت بالنزول، إلا أن زوجتي طلبت مني أن أوصلها لأمها، كنت أبكي، فأخذتني في حضنها وتساءلت لماذا أبكي؟!، أخبرتها أن أبي قد مات. كنت أعلم يا أبي أن الأمر قد انتهى وأن أمر الله قد صدر وليس منه مناص.
أوصلتها لأمها ثم ذهبت لأمي، وبينما كنت أصف السيارة تحت منزلها، اتصلت بي زوجتي لتخبرني أن يونس كسر "فاسة" ببيت أمها، وأنه علي أن أدفع ثمنها. كدت أشخر، لولا أن أخلاقي لم تسمح لي بالقيام بذلك.
علام تضحك يا أبي؟، أهذا هو الهم الذي يضحك؟، لم أشعر يوماً معها أن الزواج مشاركة، وأن الأزواج هم السند والظهر كما يقال دائماً، وكنت دائماً أتساءل: أهذه هي السكينة والرحمة؟ تلك المبادئ التي تعتبر ميثاق الزواج الأعظم؟!
على أية حال، أغلقت الهاتف بوجهها وصعدت لشقة أمي، كانت متماسكة وكان عندها خالي، عندما رأتني قالت لي بثبات وجمود.
 أبوك خلاص يا مصطفى، أبوك خلاص، أنت رجل وعليك تحمل المسئولية.
هززت رأسي يا أبي، هززتها ولم أقل شيئاً، لم أكن يوماً قوياً، كنت هشاً جداً أعتمد عليك في كل شيء.
بعد دقائق، اتصل خالي بأحد معارفه بالعناية المركزة بالمستشفى، تبدلت ملامح وجهه وهو يتساءل:
 منذ متى؟
كنت قد مت يا أبي، لم أكن في حاجة إلى أن أكمل الاستماع لتلك المكالمة كي أعرف ذلك، فكل شيء واضح وضوح الشمس، وحتى قبل تلك المكالمة لم أكن في حاجة لأن أعرف أنك قد مت، فلي قلب ينبض بحبك ويشعر بك. أخبرنا خالي بعد أن أنهى المكالمة أن "الدوام لله". نظرت لأمي فوجدت وجهها جامد، صلب، فأشفقت عليها، كانت ملامحها ثابتة والدموع تنهمر من عينيها كالسيول دون أن تتبدل ملامحها.
أخبرتني أن أدخل معها الغرفة، كي نجمع الأوراق الهامة ونضع أية أموال في مكان واحد سري، فالبيت بعد قليل سيمتلئ بالناس، ولكن البيت لم يمتلئ يا أبي. بعد دقائق، كنا في السيارة متجهين للمستشفى بالعبور كي ننهي الإجراءات، ولكي ألقي على جثمانك نظرة قالوا أنها ستكون الأخيرة.
 بعد الفجر حدث نزيف من كل فتحات جسده، حاول الأطباء التعامل مع الحالة ووضعوه على جهاز التنفس الصناعي. خرج السر الإلهي بالثالثة مساءً، فوضعوه على الأجهزة لمدة ثلاث ساعات وعندما تأكدوا من أن الأمر قد انتهى، أخبرونا بالوفاة.
ذلك ما قاله خالي لي ونحن في السيارة. وصلنا المستشفى، ووقفنا أمام الثلاجة، ثم أخبرونا أن جثمانك لم ينزل بعد وأنهم سيحضرونه خلال دقائق. حينها حضر حماي -كتر خيره- وكان معي خالي ونسيبه. الكل يواسيني، الكل يمطرني بكلمات التشجيع والمواساة. لست في حاجة إلى ذلك، لست في حاجة للمواساة، لست في حاجة لأن أسمع أية كلمة. لست في حاجة إلا للبكاء.
الكل يفكر في كل شيء، يفكرون في الجنازة غداً، يفكرون في استخراج تصريح الدفن، واستئجار ميكروباص لكي نذهب به للبلد حتى يقل كل من يريد السفر لحضور الجنازة، يفكرون في التربة والكفن وما إلى ذلك من تلك الأمور.
وأنا لا أفكر سوى في شيء واحد، لقد فقدتك. فقدتك إلى الأبد يا أبي. كنت أبكي، أبكي ولا أريد لشيء أن يمنعني عن البكاء، أكنت أبكي عليك أم أبكي على نفسي وحالي؟
لا أعلم علم اليقين علام وعلى من كنت أبكي، كل ما أعلمه أنني مكسور، مجروح، مهزوز، مهزوم. خذلتني الأيام يا أبي. خذلتني وطعنتني وهزمتني وأنت تعلم ذلك، ولكن تلك الليلة لم تكن سوى البداية، بداية الانهزامات والانكسارات والفراق والفقدان. إن كل الأيام والسنوات التي تلت تلك الليلة وحتى الآن لم تحمل لي سوى فواجع الأمور وأمرها.
 هي عند أمك الآن، أنا سعيد حقاً أنها ذهبت إليها.
كان ذلك حماي، يخبرني أن زوجتي قد تنازلت -والحمد لله- وذهبت لأمي في بيتها، وأنه سعيد حقاً لأنها قامت بمثل ذلك الأمر البطولي، وهل كان هناك بديل؟، أكان هناك أي تصرف آخر يجب أن تقوم به غير أن تذهب لبيت حماها المتوفي؟! نظرت له بوجه خالي من أي تعبير وهززت رأسي.
مكالمات عديدة انهالت على هاتفي، إبراهيم صديقي اتصل بي من الإمارات وقال لي تعبيراً كان الأصدق فعلاً، فلقد قال بعد البقاء لله، وشد حيلك، ومحتاج حاجة؟:
 ربنا يقوي ويشد ضهرك يا صاحبي.
تعبير صادق، فإبراهيم الوحيد الذي عرف أو شعر بما كنت أشعر به حرفياً، ظهري يؤلمني، ليس ألم فيزيائي، ولكنه ألم معنوي، ظهري مكسور يا أبي، كسر بفقدانك. كذلك اتصل بي صديقي يامن، ثم حضر في اليوم التالي ليعزيني، على الرغم من أنني أعفيته من الحضور فالجميع كانوا خائفين من الكورونا.
أما المكالمة التي شعرت بالسعادة الحقة عند استقبالها، كانت مكالمة "منار" ابنة طنط سناء، كلمتني عبر الماسنجر من فرنسا. أخبرتني أنها حزينة حقاً، وطلبت لي من الله الصبر والجلد. أتعرف يا أبي لماذا استحسنت اتصالها؟، أتعلم لماذا حتى الآن لم أزل أتذكر لها تلك المكالمة والمؤازرة؟، لأن علاقتي بها ليست قوية، بل لم تكن هناك علاقة على الإطلاق، هي مجرد صديقة عندي على الفيس بوك، ونادراً ما يقوم أحدنا بالتفاعل على منشورات الآخر. ولكن عندما وقعت بمحنة وبمصيبة -وليس كالموت مصيبة- اتصلت بي، شعرت حينها أن البشر لا يزالون بخير، تذكرت حينها أن الدنيا لا يزال بها الخير وأن الإنسان لم يفقد كل مشاعره الإنسانية بعد، الإنسان يا أبي في أوقات المحن والشدائد يحتاج بجانبه أناساً آخرين.
بعد دقيقة رأيت مجموعة من الفضائيين، أقصد المسعفين وهم يرتدون ملابس العزل، كانوا يحملون محفة ممدد عليها جثمان ملفوف بمجموعة من الأغطية، كنت أنت ذلك الجثمان يا أبي.
لا تنظر لي معاتباً هكذا، فلا أستطيع وأنا أتذكر مثل تلك اللحظة أن أمسك دموعي. طلب منا المسعفون أن ندخل الثلاجة كي نلقي عليك نظرة، فدخلت أنا وخالي -فهو على كل حال ابن عمك- لكي نلقي عليك نظرة لن تكون الأخيرة فسأراك غداً بالغسل. أخرج المسعف جثمانك من إحدى الثلاجات وكشف وجهك، نظرت بجانبي لأجد حماي واقفاً. طلبت من الجميع المغادرة، فلقد كنت أصبو إلى لحظة انفراد أخيرة معك.
خرج الجميع، وبدأت أبكي، وأنا أردد كلمة واحدة أو ربما كان تساؤلاً "خلاص كدة؟"، كانت رائحتك جميلة يا أبي، وتلك الرائحة التي كانت تخرج منك ملأت المكان بأكمله حتى استحال بستاناً. لم أكن أصدق في تلك الأمور ولكنني حينها صدقت وتيقنت أن لحسن الخاتمة علامات. فإن لم يذهب مثلك إلى الجنة، وإن لم يرسلك الله رأساً إلى الفردوس فمن سيدخلها إذن؟!.
أتعرف يا أبي أكثر ما كان يؤلمني حينها؟!، هو أنك كنت وحيداً، تألمت طوال أسبوعين العزل وحيداً، ولكن ما كان يؤلمني أكثر هو تخيل مشاعرك عندما باغتك النزيف. من المؤكد أنك كنت خائفاً يا أبي، من المؤكد أنك كنت بحاجة لنا لنكون بجانبك في تلك اللحظات الأخيرة، وبالرغم أنه من المؤكد أن الأطباء والمسعفين كانوا رحيمين بك إلا أنهم لن يكونوا أبداً كزوجتك وابنك. ثم أن تخيلي لذعرك وخوفك حينها وأنت وحيد هو ما كان يزيد حرقة ألمي وحدة بكائي. لقد مات أبي وحيداً، نزف حتى الموت وحيداً، اهترأت رئتاه وحيداً، وتلك الفتحة التي بجانب رقبتك قاموا بفتحها لك لإدخال جهاز ما بداخلك وأنت وحيداً. لشد ما كانت صعبة لحظاتك الأخيرة يا أبي، فلتكن شفيعة لك في رحلتك الأبدية بالعالم الآخر.

عندما عدت للبيت ليلتها، كانت زوجتي هناك، أخذتني في حضنها لفترة طويلة أمام كل الحاضرين، لماذا يا أبي لم أشعر بصدق مشاعرها؟!، لماذا لم أشعر بدفء حضنها يومها؟! لماذا لم أشعر بالاحتواء، ولماذا لم تكن متأثرة؟، ولماذا لم تكن تبكي؟!.
أتعلم أين وجدت الدفء والاحتواء والحنان ليلتها، وجدتهم في حضن يونس، احتضنته، ولكن -حقيقة- هو من كان يحتضنني، هو من ضمني لأحضانه. كان ينادي عليك طوال تلك الليلة "كما، كما، كما" ومع كل نداء كانت دموع أمي تزداد وألم قلبي ينكشف.
لم يعد في المنزل سواي أنا وزوجتي ويونس وأمي، كلما نظرت لزوجتي كان ألمي يزداد وحيرتي تتسع أكثر وأكثر، ماذا ستفعل؟، ربما يحن قلبها، وربما لا، من الجائز أن تقدر الظروف، من الجائز أن ترأف بحال أمي مريضة القلب والسكر والضغط والتي تباغتها نوبات ضيق التنفس في أي وقت وبدون سابق إنذار، من الوارد أن ترأف بحالي وألا تفرق بيني وبين ابني الذي لا أحب في الدنيا أحداً كما أحبه. ولكن من الجائز جداً ومن الوارد ألا تفعل؟!، وهذا هو المتوقع فإنها لم تقم بشيء منذ عرفتها سوى خذلاني، تخذلني وتخذل توقعاتي فيها منذ عرفتها.
كنت أنظر لها، وكلما هممت بسؤالها عما تنوي فعله كان شيء ما يمسك لساني ويمنعني من النطق، كنت خائفاً يا أبي، كنت حزيناً عليك، خائفاً من تصرفها المرتقب والذي لن يؤدي لشيء سوى لفقدان ابني، وكنت مشفقاً على أمي من كل ما هي فيه، فأنا متأكد أنها تفكر الآن فيما أفكر أنا فيه بالإضافة لحزنها عليك، فكان قلبي مفطوراً على حالي.
أخبرتني زوجتي حينها أنها لن تركب معنا الميكروباص الذي أجرته لينقلنا جميعاً للبلد غداً، وطلبت مني أن أوصلها لأبيها صباحاً حتى تسافر معه بسيارته. وأنت تعرف يا أبي أن راحتها الجسدية أهم بكثير من كل ما يمر به زوجها، لم أجادلها بل إنني طلبت منها ألا تحضر الجنازة ولكنها أصرت فأنت تعلم كم هي تفهم في الأصول.
أوصلتها صباحاً لبيت أبيها ثم عدت لأمي، لا شيء في المنزل سوى الفراغ والحزن، أهذا هو البيت الذي كان ممتلئاً بالحب والأصوات واللعب والمرح من قبل أبناء أختي قبل أن تلحق بزوجها بالخليج؟، أخذ البيت يفرغ مرة بفعل السفر ومرة بفعل الموت ومرة أخرى بفعل الخذلان والتخاذل، حتى لم يتبقَ فيه سواي أنا وأمي. أتصدق يا أبي أن في صباح اليوم الذي دفنت فيه كنت أنا وأمي وحيدين تماماً؟، أين الناس؟، أين الأقارب والأصدقاء؟، أين أختي؟.. لماذا لم تأتي؟، لأنها إن نزلت من الخليج فربما لم تكن لتستطع العودة بسبب قيود السفر المفروضة من البلاد كلها حول العالم لمواجهة فيروس كورونا، لعنة الله على الغربة في كل وقت وحين. تصور يا أبي أن أمي هي من قامت بنفسها بتحضير الفطار قبل أن ننزل لنذهب للمستشفى لنوصلك إلى مثواك الأخير؟ بيضتان وكوبان من اللبن، كان هذا هو الفطار الذي يجب أن تتناوله أمي لتأخذ الدواء.
نزلت من البيت حاملاً في يدي الكفن الذي اشتريته لك بنفسي بالأمس، وأمي متأبطة ذراعي. كان الميكروباص واقفاً أمام الجامع الواقع على أول الشارع وقد امتلأ نصفه، أخوالي الاثنين كانا يتناولان إفطارهما على عربة فول، وعمي "ههههههه" لماذا تضحك يا أبي وأضحك أنا مثلك؟!، نعم عمي "أخوك" كان يقف بجانب الميكروباص يبكي بكاءً شديداً.
لا تضحك هكذا يا أبي ولا تفقد وقارك المعهود، نعم أقسم لك أن أخاك كان يبكي بحرقة أدهشتنا جميعاً، وليس ذلك فحسب، بل أنه نزل معك التربة يومها وهو يبكي بكاءً حارقاً، حتى ظننا أنه لن يفارق التربة وسيظل معك هكذا ليوم تبعثون.
ما علينا، انطلقت السيارة، وبعد برهة أخبرت أمي أنني نسيت شراء العطر الذي سنعطر به كفنك بعد أن نلفك به، فقالت لي أمي أنك لن تدفن دون أن نعطرك وأننا سنرسلك لله بأجمل رائحة، ولكن أتعلم يا أبي؟... كانت الرائحة التي تنبعث منك أجمل من كل العطور التي عطرنا بها كفنك، لا تصدقني؟... أقسم لك على ذلك وسأثبت لك بعد قليل.
لم نجد المسك في أي مكان خاصة وأن الوقت كان لم يزل مبكراً ومعظم المحال كانت مغلقة، لذلك اتصلت أمي بزوجة أخيها المقيمة بالبلد وأخبرتها أن يجهزوا ذلك المسك، وهو ما وعدت به ووفت. وكدنا أن نصل للمستشفى، كنا كلما نقترب منها أشعر بانقباض في قلبي لم أستطع سبر غوره، ولكننا على كل حال وصلنا. كانت رائحة الموت تفوح من كل شبر بالمكان، وللموت رائحة يا أبي، أنت كطبيب أعلم بها مني. الموت فجيعة يا أبي، والفجيعة في الأحباب مؤلمة وقاتلة، تؤلم النفس وتقتل الأمل في الحياة، وهذا ما فعله بي موتك حرفياً.
دخلنا الثلاجة مرة أخرى، قاموا بإخراج جسدك من إحدى الثلاجات ثم وضعوه فوق المنضدة الرخامية التي تتوسط تلك الغرفة، امتلأ الجو برائحة جميلة انبعثت بمجرد خروجك من الثلاجة، سألت عامل الثلاجة إن كانوا قد قاموا برش معطر ما، فأجابوا بالنفي، وقال لي أحدهم "دي حاجات من عند ربنا، رزق جميل، متفكرش في الحاجات دي كتير يا بيه". نعم يا أبي، إنه رزق من عند الله، السكينة التي على وجهك رزق، وموتك يوم الجمعة رزق، وتلك الرائحة الجميلة التي تفوح منك رزق. وأسأل الله أن يكون رزقك في الآخرة أوفر وأوسع من رزقك في الدنيا.
بدأوا في إجراءات غسلك يا أبي، ولم يشهد غسلك سواي أنا وخالي الأصغر وأخوك، وأرجوك لا تضحك مجدداً. ولكن للأمانة يا أبي، كنا جميعاً نبكي، كنا نبكي عليك ونبكي على أنفسنا ونبكي على البشرية كلها لما وصلت إليه. كنا نبكي لما وصلنا جميعاً إليه. لم يدم الغسل لفترة طويلة، فلقد غسلوك سريعاً بإتقان، ولفوا جسدك بذلك الكفن الأبيض ناصع البياض ولم يتركوا سوى وجهك مكشوفاً لمن يريد الوداع، ألقى عليك خالي النظرة الأخيرة، ثم قبلك أخوك -ولا تضحك- ثم وقفت أنا بجانبك وملت على أذنيك وقلت لك شيئاً ما، أتتذكره؟، نعم أخبرتك أنني لن أترك أمي ما حييت، تلك كانت وصيتك لي قبل أن أتركك بمستشفى العزل. لم يكن يشغل بالك سواها، كنت تتألم وتوصيني وتوصي خالي عليها، ألهذا الحد كنت تحبها يا أبي؟
أتذكر جيداً عندما أخذتك للطوارئ بالمستشفى قبل أن يحولوك لمستشفى العزل، كلمتني زوجتي حينها وأعطيتك إياها، أوصيتها علي وعلى يونس وعلى أمي، ولكنك ألححت عليها بتوصيتها على أمي، كنت تعلم يا أبي، ولقد ازداد يقينك بأنها لن تنفذ وصيتك وازداد قلقك عندما لم تتصل بك وأنت في المستشفى ولو لمرة واحدة لتطمئن عليك. أتذكر جيداً كم كنت حزيناً لأنها لا تتصل بك، وكنت أنت من تسألني عليها وتقول لي "أهي جيدة، هل بها مكروه، لماذا لا تتصل بي؟" فأجيبك بأنها لا تريد أن ترهقك، ماذا كان عساي أن أقول يا أبي؟، أكان من المعقول أن أخبرك أنها لا تتصل بك عمداً؟، وأنها تسمعني وأنا أحدثك وأنت بالرعاية المركزة ولا تطلب مني حتى أن أوصل السلام. ولكن يا أبي، أنت الآن في دار الحق، فلا تضمر في نفسك الحزن والأسى على خيانة أحدهم لحبك وودك، ودعني أخبرك أنك أنقى وأطهر من عرفت ومن قابلت في حياتي، ووالله حتى لو لم تكن أبي لشهدت لك بذلك.
في الطريق يا أبي للمقابر كنت أنا راكباً بالخلف مع جثمانك، وكنت من وقت لآخر أكشف غطاء النعش كي أرى جسدك فكانت تنبعث منه الروائح الجميلة، حتى أن تلك الروائح كانت تلفت انتباه من كان بالسيارة على الرغم من أن السيارة كانت مسرعة والهواء الذي يدخلها بفعل السرعة كان قادراً على تقليب أية رائحة بداخلها، إلا أن رائحتك يا أبي كانت أقوى من كل ذلك، ساعتان مرا ونحن في الطريق، لم أكن أستطع تقبل فكرة أن تلك هي آخر الرحلة، وأن ذلك المشوار سيكون آخر مشوار أرافقك فيه.
ووصلنا المقابر، أنت تعرف المشهد جيداً، لقد اجتمع كل أهل البلد أمام المقابر، من عائلة زوجتي كانت هناك خالتها وزوجها وزوج أختها بالإضافة لها هي وأبوها وبالطبع يونس. قبل أن ننزلك من السيارة، أخذنا المسك من زوجة خالي وقام خالي بتعطير كفنك. فتحنا باب السيارة الخلفي الذي سينزل منه النعش، فأتت أمي لتودعك الوداع الأخير يا أبي، وبعد أن ودعتك بكثير من الدموع وقليل من الكلمات أخرجناك من السيارة ووضعنا نعشك أمام المقابر. لم نكن قد صلينا عليك بعد، فالمساجد كانت مغلقة بسبب الكورونا، لذلك صلينا عليك أمام المقابر، فقدم الناس أخاك ليصلي بنا صلاة الجنازة.
لماذا قدموه؟، لأنه أخوك، ولو كانوا قدموني يا أبي ما كنت لأفعل، لقد كنت رافضاً للفكرة برمتها، فكرة أنها النهاية، بل إنها آخر خطوة في النهاية، لحظات ونضعك في قبرك ثم نغادر. كانت الصلاة سريعة جداً، كدت أصرخ بعمي لأطلب منه أن يطيل الصلاة، وعندما حملوا النعش واتجهوا به مسرعين ناحية تربة عائلتنا كدت أصيح بهم "مهلاً، مهلاً" لماذا العجلة؟. ولكن كل شيء تم في غمضة عين يا أبي. نزل رجل للتربة وتلقى جثمانك من أسفل بينما مرره رجلين من أعلى، مددك الرجل بالتربة بجانب جثمان ابن عمك "محمد" الذي وافته المنية منذ أقل من عام، شيء ما في أذني قال لي أنه سعيد الآن لأنك ستؤنس وحشته وغربته منذ الآن وحتى ينفخ في الصور، ثم نزل أخوك للتربة وجلس بجوارك، أرقدك التربي على جانبك الأيمن ودعمك ببعض التراب حتى لا يفقد الجثمان تلك الوضعية، ثم لقنوك.
"يا كامل يا ابن نعيمة".
كنت أبكي ولا أستوعب الفكرة، إن كل هذا الذي يحدث هراء، بل إنه محض تخيلات ليس أكثر.
"تذكر شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
لماذا هذا التعجل، اصبروا قليلاً، دعوا لي فرصة، دعوني أقول له بعض الأشياء. لا تتسرعوا سيقوم من نومته تلك فأنا على يقين من ذلك.
"الله ربك، والإسلام دينك".
أخوك بجانبك يبكي ويكاد أن يهيل التراب على رأسه ويلطم على صدره، أنا بالأعلى أبكي، وأمي بجانبي منفصلة عن الواقع تماماً.
"ومحمد رسول الله".
ثم خرج التربي من التربة بينما بقى أخوك بجانبك لبرهة، وعندما انتبه التربي له جذبه بعنف وأخرجه من التربة.
لقد بدأوا في إغلاق الباب. روحي تنسحب مني، لا يا أبي، لا أقصد تلك الروح التي هي سر الله في الوجود وسبب حياتنا، أقصد أن نفسي تنسحب مني رويداً رويداً كلما شارف باب التربة على الانغلاق، جزء مني سيبقى حبيساً معلقاً بداخل تلك التربة إلى نهاية حياتي، وحتى أعود لها مجدداً جثة هامدة.
عندما انغلق الباب تماماً، وغبت عن ناظري كلياً، بدأ الناس في المغادرة، أبهذه السرعة؟، ألن نبقى معك قليلاً كي نؤانسك ونخفف عنك غربتك ووحدتك ووحشتك؟. يا الله، إن الأمر أصعب من أن يوصف. أمطلوب مني الآن أن أغادر وأن أترك أبي في تلك الغرفة القذرة ليخلد فيها حتى يوم القيامة وحيداً في الظلام؟، كان ذلك كل ما يسيطر علي حينها، ماذا سيفعل أبي عندما يسود الظلام، هل ستخاف يا أبي؟، هل خفت؟.
 هيا بنا.
كان ذلك صوت أمي، قالتها بيأس، فتأبطت ذراعي وخرجنا من الترب.
ومن حينها يا أبي لم تفارقني مشاعر الجزع والالتياع.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.