artherconan

شارك على مواقع التواصل

في النهاية، وبعد أن توصلتم جميعًا إلى نتائجكم الحتمية والخاطئة تمامًا، غادرتم
المكان إلى الفندق وبقيتُ أنا وحيدًا. وظننتُ أني قد وصلت إلى نهاية مغامراتي، ولكنَّ حادثةً
بعيدةً تمامًا عن التوقعِ وقعتْ لتُظهر لي أنه لا يزال ينتظرني المزيدُ من المفاجآت؛ فقد
انحدرتْ صخرةٌ عظيمةٌ من أعلى، واندفعتْ بِدويٍّ شديدٍ من فوقي، حتى ارتطمتْ بالممر
وقفزتْ إلى داخل الهُوَّة. وظننتُ للحظةٍ أنَّها كانت مصادفةً؛ ولكن بعد لحظة، نظرتُ
لأعلى، فإذا بي أرى رأس رجلٍ في مواجهةِ السماءِ الآخذة في الإعتام، وإذا بصخرةٍ أخرى
تصطدم تحديدًا بالحافة التي كنت ممددًا عليها، وعلى مسافةِ قدمٍ من رأسي. بالطَّبع، كان
معنى ذلك واضحًا. لم يكن موريارتي بمفرده. إنَّه شريكٌ — وحتى هذه النظرة الخاطفة
أخبرتْني كم هو رجلٌ خطيرٌ ذلك الشريك — وقد كان يراقب المكان بينما كان البروفيسور
يهاجمني. وقد شَهِدَ، من على بُعدٍ خارجَ مدى رؤيتي، وفاةَ صديقِهِ وهروبي. لقد انتظرَ،
ثُمَّ اتخذ لنفسه طريقًا إلى قمَّة الجرف، مُحاولًا النجاحَ فيما أخفقَ فيه زميله.
لم أستغرقْ كثيرًا للتفكير في الأمر يا واطسون؛ فقد رأيتُ ذلك الوجهَ الصَّارمَ مجدَّدًا
وهو ينظر من أعلى الجرف، وأدركتُ أنَّه يُنذِرُ بانحدارِ صخرةٍ أخرى؛ فزحفتُ نزولًا إلى
الممر. لا أظن أنني كنت قادرًا على فعلها في الظروف العادية؛ لقد كانت أصعب مائة مرةٍ
من النزول على قدميَّ، لكنْ لم يكن لديَّ وقتٌ للتفكير في الخطر؛ إذ مرَّت صخرةٌ أخرى
بجواري بينما كنتُ متعلِّقًا بيديَّ في أطراف الحافة الصخرية. وفي منتصفِ المسافة إلى
الأسفل أفلتُّ يديَّ، ولكنِّي هبطتُ ببركةِ الربِّ، مجروحًا نازفًا، فوق الممر. وأسرعتُ بالفرار،
حتى قطعتُ عشرة أميالٍ فوق الجبال في الظلام، وبعد أسبوع وجدتُ نفسي في فلورنسا،
وكُلِّي يقين أنْ لا أحدَ في العالم يعرفُ ما آلَ إليه أمري.
لم يكن لديَّ غير كاتمِ أسرارٍ واحد وهو أخي مايكروفت. إنني مَدينٌ لك ببالغ الاعتذار،
عزيزي واطسون، ولكنه كان مهمٍّا جدٍّا أنْ يُعتقد أنني قد متُّ، ولا شكَّ أنك ما كُنتَ لتكتب
مثل هذه الرواية الشديدة الإقناعِ عن نهايتي التعيسة إذا لم تكن أنت نفسك قد اعتقدت
وقوعها. وقد تناولتُ قلمي مراتٍ عديدةً على مدار السنوات الثلاث الماضية لأكتب إليك،
ولكنني دائمًا كنتُ أتهيَّبُ ذلك خشيةَ أنْ يسوقك اهتمامُك الشديد بي إلى عملٍ طائشٍ قد
يكشف سرِّي؛ ولهذا السبب انصرفتُ عنك هذا المساء عندما أسقطتَ كتبي، حيث كنتُ في
خطرٍ ساعتها، ولو كنتَ أظهرتَ أيَّشيءٍ يدلُّ على الدهشةِ أو التأثُّر، لكُنتَ لفتَّ الانتباه إلى
هُوِيَّتي، ولأدَّى هذا إلى أشنعِ النتائج وأكثرِها تعذُّرًا على الإصلاح. أمَّا مايكروفت، فكان عليَّ
أن أضعَ ثقتي به من أجل الحصول على المال الذي كنتُ أحتاجه. لم تجرِ الأحداثُ في لندن
بالطريقة الجيدة التي كنت أرجوها، حيثُ لم تُدِنْ محاكمةُ عصابة موريارتي اثنين من
أكثر أعضائها خطرًا، وهما أكثر أعدائي رغبة في الانتقام مني؛ ولذلك سافرتُ إلى منطقة
التبت لمدةِ سنتَين، ورفَّهتُ عن نفسي بزيارةِ مدينة لاسا وتمضيةِ بعض الأيامِ مع اللاما
الأعظم. ربما قرأتَ عن الاستكشافات البارزة لشخصنرويجيٍّ يُدعى سيجرسون، ولكني
متأكدٌ أنه لم يخطر ببالك قطُّ أنَّك كنتَ تستقبل أخبارًا عن صديقك. بعد ذلك مررتُ ببلاد
فارس، وعرَّجتُ على مكةَ، ثم زرتُ الخليفة في الخرطوم، وكانت زيارةً قصيرةً لكنها مثيرة،
وقد أبلغتُ وزارة الخارجية بنتائج هذه الزيارات. ثم عدتُ إلى فرنسا حيث قضيتُ بضعةَ
أشهرٍ في إجراءِ بحثٍ عن مشتقات قطران الفحم، وقد أجريتُه في معملٍ في مونبلييه بجنوب
فرنسا. وبمجرد أن انتهيتُ من هذا البحث على النحو الذي أردتُ، وعلمتُ أنَّه لم يبقَ من
أعدائي في لندن غير واحدٍ فقط، كنتُ على وشك الرجوع، والذي عجَّل به أخبارُ لغز بارك
لين البارز، الذي لم يحُز على إعجابي فقط بسبب ملابساته، بل لأنه بدا مُبشِّرًا بتقديمِ
بعضِالفُرصالشخصية المميَّزة جدٍّا؛ فأتيتُ على الفور إلى لندن، وذهبتُ إلى بيتي بشارع
بيكر حيث استعدتُ حياتي وحريتي، وتسببتُ للسيدة هدسون في نوبةِ هستيريا عنيفة،
ووجدتُ أنَّ مايكروفت قد احتفظَ بغُرفي وأوراقي تمامًا على الوضع الذي كانت عليه دائمًا.
وهكذا كان الأمرُ، عزيزي واطسون، أنْ وجدتُ نفسي في الساعة الثانية اليومَ على كرسيِّي
القديمِ وفي غرفتي القديمةِ، لا أتمنى غيرَ رؤيةصديقي القديم واطسون جالسًا على الكرسي
«. الآخر الذي كثيرًا ما زيَّنه بالجلوس عليه
تلك كانت القصةَ العجيبة التي استمعتُ إليها في مساء ذلك اليوم من شهر أبريل؛
إنها قصةٌ ما كنتُ لِأصُدقها أبدًا لولا أنْ أكَّدتها رؤيتي الفعلية لتلك القامة الطويلة النحيلة،
وذلك الوجه المُتوقِّد حماسةً اللذَين ما ظننتُ قطُّ أنْ أراهما ثانيةً. وقد أَدركَ بطريقةٍ
العملُ أفضلُ ترياقٍ » : ما فجيعتي وحزني، فأظهرَ تعاطفَه بسلوكِه لا بكلماتِه، وقال
للحزن، عزيزي واطسون، وعندي بعضٌمنه الليلة لكلَينا، وإذا استطعنا أنْ نُنجزَه بنجاحٍ،
وعبثًا رجوتُه أنْ يخبرني «. فسيجعلنا في حدِّ ذاته نستحق الحياة على ظهر هذا الكوكب
ستسمع وترى ما فيه الكفاية قبل الصباح. إنَّ لدينا قصصًا من الثلاث » : المزيد، فأجاب
سنواتٍ الفائتة لنناقشها. فلنكتفِ بهذا حتى تحين التاسعةُ والنصف، حينَ نبدأ مُغامرةَ
«. المنزلِ الخالي البارزة
كان الأمرُ حقٍّا يشبه الأيامَ الخوالي، عندما وجدتُ نفسي، في تلك الساعة، جالسًا بجواره
داخل عربة أجرة، ومسدسي في جيبي ورِعشةُ المغامرةِ في قلبي. كان هولمز باردًا وعابسًا
وصامتًا. وعندما لمعَ وميضُمصابيح الشارع فوق ملامحِه المتجهِّمة، رأيتُه يعقد حاجبَيْه
مستغرقًا في التفكير وقد أطبقَ شفتيه الدقيقتيْن. ولم أعلمْ أيُّ وحشٍ ضارٍ ذاك الذي كُنَّا
على وشك مُلاحقته في الغابةِ المظلمة للإجرام بلندن، ولكني كنتُ متأكدًا تمامًا من هيئةِ
ذلك الصيَّاد الخبير أنَّ المغامرةَ كانت بالغةَ الخطورة، بينما كانت الابتسامةُ الباهتة التي
تكسر تجهُّمه الشديد بين الحينِ والآخر لا تبشِّرُ بأي خير فيما يتعلق بمهمتنا.
كنتُ أظنُّ أنَّنا متوجِّهَان إلى شارع بيكر، لكنَّ هولمز أوقفَ عربةَ الأجرة عند ناصيةِ
ميدان كافيندِش. ولاحظتُ أنه بمجرد خروجه أخذَ يُلقي نظرة فاحصة ناحيةَ اليمين
والشمال، وبذلَ غايةَ جهده عند ناصيةِ كُلِّ شارعٍ تالٍ ليتأكدَّ أنْ لا أحدَ هناك يُلاحقه.
لقد كان طريقنا بالتأكيد ذا اتِّجاهٍ واحد. وكان هولمز على درايةٍ استثنائيةٍ بالطُّرقِ
الجانبيةِ للندن، وفي هذه الليلةِ كان يتنقلُّ بسرعةٍ، وبخطًى واثقةٍ، عبر مجموعة من الأزقَّة
والإسطبلات التي لمْ أكن أعلم بوجودها مطلقًا. وانتهينا أخيرًا إلى طريقٍ صغير، تُطلُّ من
جانبَيْهِ منازلُ قديمةٌ مظلمة، وقد أدَّى بنا إلى شارعِ مانشستر، ومنه إلى شارعِ بلاندفورد.
وهنا انعطف هولمزسريعًا إلى ممرٍّ ضيق، وشقَّ طريقَه عبْرَ بوابةٍ خشبيةٍ إلى فناءٍ مهجور،
ثم فتحَ بمفتاحٍ معه البابَ الخلفيَّ لأحد المنازل. ودخلنا معًا وأغلقَ هولمز البابَ خلفنا.
كان المكانُ مُعتمًا جدٍّا، وكان واضحًا لي أنَّه منزلٌ خاوٍ. كانت أرجُلُنا تُحدِثُصريرًا
وطقطقةً فوق الأرضيةِ الخشبية العارية، وقد لامستْ يدي الممدودةُ جدارًا تتدلَّى منه أشرطة
ورقية. طوَّقتْ أصابعُ هولمز الباردةُ النحيلةُ معصمي وقادتني إلى الأمام نحو ردهةٍ طويلة،
حتى تمكنتُ بالكادِ من رؤيةِ النافذة المروحيةِ المعتمة الموجودة فوق الباب. وهنا انعطفَ
هولمز فجأةً ناحيةَ اليمين، فوجدنا أنفسنا داخلَ حجرةٍ مُربعةٍ كبيرةٍ فارغة، كانت الظلالُ
تكتنفأركانها بكثافةٍ، لكنَّ أضواءَ الشارعِ البعيدةَ كانت تُلقي في وسطهاضوءًا خافتًا. ولم
يكن هناك مصباحٌ قريب، وكانت النافذةُ مغطاةً بطبقةٍ كثيفةٍ من التُّراب؛ لذا لم نستطعْ
أن نُميِّزَ غيرَ شخوصِنا بالدَّاخل. ووضَعَ رفيقي يدَه فوق كتفي وشفتَيه قريبًا من أذُُني.
«؟ أتدري أين نحن » : وهمسَ قائلًا
«. بالتأكيد هذا شارع بيكر » : فأجبتُ، وأنا أحدِّق عبرَ النافذةِ المعتمة
«. بالضبط. إننا في منزل كامدن، الذي يوجَد في مواجهةِ مسكننا القديم »
«؟ لكن، لِمَ نحنُ هنا »
لأنَّ هذا المكان يُطِلُّ من زاويةٍ مُمتازةٍ على تلك المباني الرائعة. أتسمح، عزيزي »
واطسون، بالتحرُّكِ قليلًا قُربَ النافذة، وأخذِ جميعِ الاحتياطاتِ كي لا تُظهِرَ نفسك،
ثم النظرِ إلى أعلى ناحيةَ مسكننا القديم؛ الذي كان نقطة انطلاقِ العديد والعديد من
مغامراتنا الصغيرة؟ سوف نرى إنْ كانت سنواتُ غيابي الثلاثُ قد ذهبتْ تمامًا بقُدرتي
«. على مفاجأتِك
فتزحزحتُ ببطءٍ ناحيةَ الأمام ونظرتُ نحو النافذة المألوفة، وبمجرد أنْ وقعتْ عيني
عليها شهقتُ وصرختُ صرخةَ ذهول؛ فقد أزيلت الستارةُ وراحَ ضوءٌ شديدٌ يتوهَّجُ في
الغرفة. كان ظِلُّ رجُلٍ جالسٍ على كرسيٍّ بالداخل ترتمي حُدوده السوداءُ الحادَّة فوق
الحاجز السلكي المضيء للنافذة. لم يكن هناك أي لبس فيما يتعلق بهيئةِ الرأس، ولا
تربيعة الكتفين، ولا حِدَّةِ الملامح. وقد اتَّخذَ الوجهُ شكلًا نصفَ دائريٍّ، وظهَرَ كواحدةٍ منْ
تلكَ الصُّوَرِ الظِّلِّيَّةِ السوداء التي كان أجدادُنا يُحبونَ وضعها في إطارات. لقد كان نُسخةً
مطابقة من هولمز، لقد كنتُ مشدوهًا جدٍّا لدرجةِ أنني مددتُ يدي لأتأكَّد أنَّ الرجل نفسَه
كان واقفًا بجانبي. كانَ هولمز يهتز بضحك مكتوم.
«؟ ما رأيك » : قال هولمز
«. يا إلهي! هذا مُدهش » : فصِحتُ
«. إنني واثقٌ أنَّ حِيَلي لا تنضَبُ بمرورِ السِّنينَ ولا تبلَى بالأُلفةِ والتَّعوُّد » : فقال
إنَّه حقٍّا يُشبهني نَوْعًا ما، » : وأحسستُ في صوتِه نشوةَ الفنَّانِ واعتزازَه بإبداعِه. وقال
«؟ أليس كذلك
«. إنني مُستعدٌّ للقَسَمِ إنَّه أنت »
يرجعُ الفضل في تنفيذِهِ إلى السيد أوسكار مونييه، من مدينة جرنوبل الفرنسية، »
الذي قضى بضعةَ أيَّامٍ في صُنعِ القالَب. إنَّه تمثالٌ نِصفيٌّ من الشمع. والباقي أعددتُه
«. بنفسي أثناءَ زيارتي شارعَ بيكر بعدَ ظُهرِ اليوم
«؟ لكن لماذا »
لأنَّه، عزيزي واطسون، كانَ لديَّ ما يدفعني بشدة لأتمنَّى أنْ يحسبَ قومٌ بعينهم »
«. أني كنتُ هناك في حين كنتُ في الواقع في مكانٍ آخر
«؟ وكُنتَ تظنُّ أنَّ الغُرفَ مراقَبة »
«. بل كنتُ على يقينٍ أنها كانت تحتَ المُراقبة »
«؟ مراقبة مَنْ »
مراقبة أعدائي القُدامى، يا واطسون. تلكَ العصابة السَّاحرةُ التي يقبعُ زعيمُها في »
قاع شَلَّال رايكنباك. يجبُ أنْ تتذكرَ أنهم يعلمون، وأنهم هُمْ فقط مَن يعلمون، أنِّي ما زلتُ
على قيدِ الحياة. وبعد قليلٍ من الوقتِ أو كثيرٍ فقد بدءوا يعتقدونَ أنني سأعود حتمًا إلى
«. منزلي؛ وقد راقَبوه بصورةٍ مستمرة، وفي هذا الصَّباح رأوني وأنا أصلُ إليه
«؟ كيف عرفتَ هذا »
لأنني تعرَّفتُ على حارِسِهِم عندما ألقيتُ نظرةً خارجَ نافذتي. إنَّه رجلٌ غيرُ مؤذٍ »
إلى حدٍّ كبير، يُدعى باركر، ويحترفُ خنق ضحاياه من الخلف، وهو عازفٌ مميَّزٌ على آلة
قيثارِ اليهوديِّ الموسيقية. لمْ أوُلِه أيَّ اهتمامٍ، ولكنِّي أوليْتُ اهتمامًا بالغًا للشخصِالأكثر
منه إفزاعًا بكثير والذي كانَ ورَاءَه، وهو صديقُ موريارتي المُقرَّب، والرجلُ الذي أسقطَ
الصُّخورَ من فوق الجرف، والذي يُعَدُّ أشدَّ المجرمين مكرًا وخطورةً في لندن. ذاك هو الرجل
«. الذي يلاحقُني الليلةَ، يا واطسون، وهو ذاتُه الرجلُ الغافلُ تمامًا أنَّنا نلاحِقُه
كانت خُططُصاحبي تتكشَّفُتدريجيٍّا؛ فمِن هذا الملاذِ المُناسِب كان المُراقِبون يُراقَبون
والمُتَعقِّبون يُتَعَقَّبون. كان ذلك الظِّلُ هُناك في الأعلى هو الطُّعم وكنَّا نحن الصيَّادين. وقفنا
معًا في الظَّلام في صمتٍ، وأخذنا نراقبُ الأشخاصَالمُسرعين الذين كانوا يمرون ويعيدون
المرورَ من أمامنا. كان هولمز صامتًا وساكنًا، ولكنني لاحظتُ أنَّه كان مُتنبِّهًا بشدة، وأنَّ
عينيه كانتا مثبَّتتين بتركيزٍ على ذلك السَّيلِ من المارَّة. كانت ليلةً كئيبةً عاصِفةً، وكان للريحِ
صفيرٌ مُدوٍّ على مدى الشارع الطويل. كان كثيرٌ من الناس يتحركون جيئةً وذهابًا، وكان
معظمُهم متلفِّعًا بالمعاطف وأربطة العُنق. وخُيِّلَ إليَّ مرةً أو مرتَين أنِّي رأيتُ الشخصَ
نفسَه من قبلُ، وقد فطنتُ إلى رَجُلَين تحديدًا بدا أنهما كانا يحتميان من الريح في مدخل
أحد المنازل الواقعة على مسافةٍ قصيرة في نفسالشارع. وحاولتُ لفتَ انتباهِ رفيقي إليهما،
لكنَّه صاح على نحوٍ ينمُّ عن نفادِ صبرِه وواصلَ التحديقَ إلى الشارع. وجعلَ أكثرَ من مرةٍ
يهزُّ رجليه تململًا وينقرُ بأصابِعِه بسرعةٍ على الحائط. كان واضحًا لي أنَّه بَدَأَ يقلق وأنَّ
خُطَطَه لم تكنْ تعملُ بفاعليةٍ كاملةٍ كما كان يرجو لها. وفي النهاية، عندما اقتربَ منتصفُ
الليل وبدأَ الشارع يخلو تدريجيٍّا، أخذَ هولمز يَذْرَعُ الغُرفةَ جيئةً وذهابًا في توتُّر شديد.
كنتُ على وشك إبداءِ ملحوظة له عندما رفعتُ بصري ناحيةَ النافذةِ المُضاءَةِ، وتلقيتُ مرةً
أخرى مفاجأةً عظيمةً كسابقتها تقريبًا. فقبضتُ على ذراعِ هولمز وأشرتُ إلى أعلى.
«! لقد تحرَّكَ الظِّل » : صرختُ قائلًا
في الواقع، لم يَعُد الجزءُ الجانبيُّ من التمثال هو الذي في مواجهتنا، بل الظَّهر.
ثلاثُ سنواتٍ مرَّتْ ولم تُلطِّف من حدَّةِ طِباعِهِ قطُّ، ولا من نفاد صبره السريع من
عقلٍ أقل نشاطًا وذكاءً من عقلِه.
بالطبع لقد تحرَّك. هل أنا أخرَقُ سخيفٌ يا واطسون كي أنصبَ دُميةً » : قال هولمز
جليَّةً وأتوقع أنْ ينخدعَ بها بعضُأذكى الرجال في أوروبا؟ إننا في هذه الغرفة منذ ساعتين،
وقد أجْرَت السيدةُ هدسون بعض التعديل في هذا التمثال ثماني مرات، أو مرةً كل ربع
وأخذ يتنفس بحدَّةٍ «! ساعة. وهي تقوم بذلك من ناحيةِ الأمام كي لا يُرى ظِلُّها أبدًا. آه
وانفعال. في الضَّوء الخافتِ رأيتُ رأسَه مائلًا للأمام، وهيئته كلها صارمة مُتنبِّهة. في
الخارج، كان الشارعُ خاليًا تمامًا. ربما لا يزالُ هذانِ الرجلانِ قابعَين عند المدخل، لكنني
لم أعُد قادرًا على رؤيتهما. كان كلُّشيءٍ ساكنًا ومظلمًا، ما عدا ذلك الحاجز السلكي المضيء
وحده أمامنا وفي وسطه ترتسمُ حُدودُ التمثال السوداء. ومجددًا وفي الصمت المُطبقِ سمعتُ
ذلك الصوتَ الصفيريَّ الواهنَ الذي صدرَ عن انفعالٍ حادٍّ مكبوت. وبعدَ لحظة، جذبني
للخلفِ ناحيةَ أكثرِ أركانِ الغُرفةِ ظُلمةً، وشعرتُ بيدِهِ المحذِّرة على شفتيَّ. كانت الأصابعُ
التي أمسكتْ بي ترتعش. لم أرَ صديقي من قبلُ شديد الانفعال هكذا، غير أن الشارع
المظلم كان لا يزال يمتدُّ أمامنا خاليًا وساكنًا.
ولكنني تنبَّهتُ فجأةً لذاكَ الذي كانت حواسُّه الأكثرُ توقُّدًا قد تبيَّنَتْه بالفعل؛ فتسلَّلَ
صوتٌ خفيضٌإلى أذُُنيَّ، ليس من جهةِ شارع بيكر، ولكنْ من الجزء الخلفي للمنزلِ نفسِه
الذي كنا مختبئَين فيه. فُتِحَ بابٌ ثم أغُلق. وبعد هُنَيهةٍ بدأتْ خُطواتٌ تتسللُ أسفلَ الممر؛
خطواتٌ كان يُرادُ لها أنْ تكونَ صامتةً، ولكنَّها دوَّتْ بقسوةٍ في أرجاءِ المنزل الخالي. جَثَا
هولمز ناحيةَ الوراءِ تِجاهَ الحائط وفعلتُ مثله، واضعًا يدي بالقرب من مقبض مسدسي.
وعندما حدَّقتُ في الظلام رأيتُ صورةً مبهمةً لرجُل، طيفًا تزيدُ حُلكتُه على حُلكةِ الباب
المفتوح. وقفَ للحظة، ثُمَّ تسلَّلَ إلى الأمام وهو جاثٍ على رُكبتيه، وهيئتُه تُنذِرُ بالسُّوء،
إلى أنْ دخلَ الغرفة. كان على مقربة ثلاثِ يارداتٍ مِنَّا، ذلك الطَّيفُ المشئوم، وقد هيأتُ
نفسي لمواجهةِ انقضاضِه، قبل أن أدرك أنه لم تكن لديه فكرةٌ عن وجودنا. مرَّ قريبًا
مِنَّا، وانسلَّ ناحيةَ النافذة، وبرفقٍ وهدوءٍ بالِغَيْن رفعها مسافةَ نصفِ قدم. وبمجردِ أنْ
أصبح في مستوى هذه الفتحة سقطَ ضوءُ الشارعِ — الذي لم يعد خافتًا بسببِ الزجاج
المُترب — بالكامل على وجهه. لقد بدا الرجلُ في غمرةٍ من الانفعال؛ كانت عيناه تلمعان
كالنجوم وكانت قسماتُ وجهه تتشنج. كان رجُلًا كبير السن، ذا أنفٍ رفيع ناتئٍ، وجبهةٍ
صلعاء عاليةٍ، وشاربٍ أشيبَ ضخم، وكانت تلتصقُ بمؤخرةِ رأسِه قبعةٌ من قبعات الأوبرا،
وتلتمعُ مقدمةُ قميصٍمن قمصان البدلات الرسمية من تحت معطفِه المفتوح، كان وجهُه
ضامرًا أسمر اللون، موسومًا بخطوط وحشية عميقة، وكان يحمل في يده شيئًا بدا وكأنه
عصا، ولكنَّه أحدثَ رنينًا كرنينِ الأشياء المعدنية بمجرد أن أنزلَه على الأرض، ثمَّ استلَّ من
جيبِ معطفِه شيئًا ضخمًا، وانشغلَ في عملٍ انتهى بصوتِ تكَّةٍ حادَّةٍ مدوِّية، وكأنما كان
زُنبركًا أو مسمارًا لولبيٍّا قد استقرَّ في موضعه. ثم انحنى إلى الأمام وهو لا يزال جاثِيًا
على الأرضوألقى بكامل وزنِه وقوَّته فوقشيءٍ كالرافعة؛ مِمَّا أحدثَ ضوضاء ذاتصريرٍ
كأنها دوامة، استمرَّتْ لوقتٍ طويل، وانتهتْ بتكَّةٍ قويةٍ أخُرى. ومن ثمَّ عدَّلَ هيئته، فرأيتُ
أنَّ ما كانَ يحمله في يده هو بندقية من نوعٍ ما، وكان لها عقِبٌ مشوَّهٌ بطريقةٍ غريبة،
وفتحها من عند العقِب، ووضع شيئًا بالداخل، ثم صَكَّ مِغلاقَ العقِب، ثم انحنى لأسفل،
وأسند طرفَ ماسورة البندقية على حافة النافذة المفتوحة، ورأيتُ شاربَه الطويلَ يتدلى
فوق مقبضالبندقية وعينَه تلمع وهي تحدِّق في جزء التصويب. وسمعتُ منه تنهيدةَ رِضًا
قصيرةً عندما ضمَّ عقِبَ البندقية إلى كتِفِه، ورأى ذلك الهدفَ المُذهل؛ الرجلَ الأسودَ عند
الخلفية الصفراء، شاخصًا بوضوحٍ عند نهايةِ بندقيتِه. بقي الرجلُ لحظةً مُتجمِّدًا ساكنًا،
ثم ضغطَ إصبعه على الزِّناد؛ فانطلقَ أزيزٌ مدوٍّ غريب، ورنينٌ قويٌّ طويلٌ لزجاجٍ يتكسَّر.
وفي تلك اللحظة وثَبَ هولمز كالنمر على ظهر ذلك القناصوطرَحه أرضًا على وجهه. لكنَّ
الرجُلَ قامَ من فورِه مجدَّدًا، وأمسكَ هولمز من رقبته بقوةٍ وتشنُّجٍ، لكنني ضربته على
رأسه بعقبِ مسدسي؛ فسقط مجددًا على الأرض، ثم ألقيتُ بنفسي فوقه، وعندما تمكنتُ
منه أطلق رفيقيصفيرًا عاليًا باستخدامصافرة؛ فسمعتُ دبيبَ أقدامٍ تعدو على الرصيف،
واندفعشرطيان يرتديان الزيَّ الرسميَّ، مع مخبرٍ يرتدي ملابسمدنية، عبْرَ المدخلِ الأمامي
للمنزل ومنه إلى داخل الغرفة.
«؟ أهذا أنت، يا لستريد » : قال هولمز
«. نعم، يا سيد هولمز. لقد توليتُ المهمة بنفسي.سُرِرتُ بعودتك إلى لندن، يا سيدي »
أظنك تحتاج إلى بعضالمساعدة غير الرسمية؛ فوجود ثلاث جرائم قتلٍ دون حلٍّ في »
عام كاملٍ ليس بالأمر الجيِّد، يا لستريد. لكنك تعاملتَ مع لغزِ مقاطعة مولسي بأكثر مما
«. هو معتادٌ منك؛ أي إنك تدبرت أمرَه بطريقة جيدة إلى حدٍّ كبير
نهضنا جميعًا على أقدامنا، كان أسيرُنا يتنفس بصعوبة، وقد وقفَ على كل جنب من
جنبَيه شرطيٌّ قوي البنية. وكانت مجموعة من المارة قد بدأتْ بالفعل تتجمع في الشارع.
وتقدَّم هولمز ناحية النافذة، فأغلقها، وأنزل الستائر. وأشعلَ لستريد شمعتين وأضاءَ كلٌّ
من رجُلَي الشرطة مصباحه؛ فتمكنتُ أخيرًا من رؤية أسيرنا بوضوح.
لقد كان وجهًا مُفعمًا جدٍّا بالحيوية ذاك الذي استدار ناحيتنا، لكنه لمْ يكن يخلو
من الشر؛ فكان أعلاه جبينُ فيلسوف وأسفله فكٌّ شهوانيٌّ، لا بُد أنَّ الرجُلَ قد ابتدأ وبه
قابليةٌ عظيمةٌ لكُلٍّ من الخير والشر، لكنْ لم يكن المرءُ ليستطيعَ النظر في عينيه الزرقاوين
القاسيتين، ذواتَي الأجفان الساخرة المرتخية، ولا في أنفه العدواني الشرسوجبهته المتوعِّدة
ذات الخطوط العميقة، دُون أنْ يقرأَ فيه أوضحَ مؤشراتِ الطبيعةِ دلالةً على الخطر. لمْ
يكترث الرجلُ لأيٍّ منَّا، لكنَّ عينيه كانتا مثبتتَين على وجه هولمز وبهما تعبيرٌ امتزجتْ فيه
أنت أيها الشيطان! أنت أيها الماكر، » : الكراهيةُ والدهشة معًا بالقدْر نفسه. وأخذ يُتمتم
«! أيها الشيطان الماكر
آه، حضرةَ الكولونيل! الرحلات تنتهي » : فأجابه هولمز، وهو يعدل ياقته المتغضِّنة
بلقاء الأحبة، كما تقول المسرحيةُ القديمة. لا أظن أني حظيتُ بشرفِ رؤيتك منذُ تفضَّلتَ
«. عليَّ بعطاياك عندما كنتُ ممددًا على الحافة أعلى شَلَّال رايكنباك
ظلَّ الكولونيل يُحدِّق في صديقي كما يفعل مَن يتعرضلغيبةٍ تنويمية. وكان كل ما
«! أنت أيها المخادع، أيها الشيطان المخادع » : استطاع قوله هو
لمْ أعُرِّفبعضكم ببعضٍبعدُ. هذا، أيها السادة، هو الكولونيل سباستيان » : قال هولمز
موران، الذي كان يومًا ضمن جيش صاحبة الجلالة في الهند وكان أفضل صائدِ طرائد
كبيرة أنجبته إمبراطوريتنا الشرقية على الإطلاق. أعتقد أني مُصيبٌ، أيها الكولونيل، في قولي
«؟ إنَّه لا يدانيك أحد بعدُ في عدد النمور التي اصطدتها، أليس كذلك
لم ينبس العجوزُ الشرسُ ببنتِ شفة، لكنه ظلَّ يُحملِق في صاحبي بغضب؛ وكان هو
نفسه — بعينيه الضاريتَين وشاربِه الكبير — يُشْبه النَّمِرَ بصورةٍ مذهلة.
إنني أَعجبُ كيف استطاعتْ حيلتي البسيطةُ جدٍّا هذه أنْ تخدعَ صيادًا » : قال هولمز
محترفًا واسع التجربة مثلك؛ لا بد أنها مألوفة جدٍّا لك. ألمْ تُقيِّد جدْيًا صغيرًا من قبلُ
تحتَ شجرةٍ، وتكمن فوقها ومعك بندقيتك، وأنت تنتظر الطُّعمَ حتى يجذبَ لك النمر الذي
تريده؟ هذا البيت الخالي هو شجرتي وأنت نَمِري. كان من المحتمل أن يكون معك أسلحة
احتياطية أخرى في حال وُجد أكثر من نمر، أو تحسبًا للفرضية غير المحتمَلة أنْ يخذلك
«. تصويبُك. هؤلاء — وأشارَ حوله — هُم أسلحتي الأخرى. والحالتان متطابقتان تمامًا
وثبَ الكولونيل موران إلى الأمام، وهو يزمجر من الغيظ، لكنْ جرَّه الشرطيان إلى
الخلف. كان الحنَق في وجهه أفظع من أن تنظر إليه.
أعترف أنك فاجأتني مفاجأةً صغيرة، فلمْ أكن أتوقع أنك ستستخدم هذا » : قال هولمز
المنزل الخاوي وهذه النافذة الأمامية الملائمة. لقد تصورتُ أنك تدير مهمتك من الشارع،
حيث كان صديقي لستريد ورفيقاه المرحَين ينتظرونك. وباستثناء هذا، فقد سارَ كلُّشيءٍ
«. كما توقعتُه
التفتَ الكولونيل موران نحو المحققِ الرسميِّ.
قد يكونُ لديك دافعٌ مشروعٌ لاعتقالي وقد لا يكون، لكن على الأقل لا يمكن أن » : وقال
يُوجد أيُّ مُبرر لخضوعي لاستهزاءِ هذا الشخص. وإذا كنتُ بين يدَي العدالة، فدع الأمورَ
«. تجري بطريقةٍ قانونية
حسنٌ، هذا مقنعٌ جدٍّا، ألدَيكشيءٌ آخر تريد قولَه قبل أن نغادر، يا سيد » : قال لستريد
«؟ هولمز
كان هولمز قد التقط بندقية ضغط الهواء الضخمة من على الأرضوأخذ يفحصآلية
عملها.
سلاحٌ رائعٌ وفريدٌ من نوعه؛ لا يُحدِث ضجيجًا عاليًا وقوَّتُه مُروِّعة. إنني » : وقال
أعرف فون هيردير، الحِرَفي الألماني الأعمى، الذي صنعَه بناءً على طلب الراحل البروفيسور
موريارتي. وكنتُ على درايةٍ بوجودهِ منذ سنواتٍ، لكن لم تُتح لي الفرصةُ كي أمسكه بيدي
«. من قبلُ مطلقًا. وأنا أوُدِعه أمانة بين يديك، يا لستريد، والرصاصالخاصبه كذلك
يمكنك الوثوق بنا للعناية بهذا الأمر، » : فقال لستريد، والجمع كُلُّه يتحرك تجاهَ الباب
«؟ يا سيد هولمز. أتريد قولَ أيِّشيءٍ آخر
«؟ فقط أريد أن أعرفَ أيَّ تُهمةٍ تفضِّل أن نوجِّهها إليه »
«. أيَّةُ تهمة، يا سيدي؟ لِمَ؟ بالطبع، محاولة قتل السيد شيرلوك هولمز »
ليس كذلك، يا لستريد؛ فأنا لا أعتزم الظهورَ في الأمر مطلقًا. فإليك، وإليك وحدك، »
يرجع الفضلُ في الاعتقال الاستثنائي الذي أنجزتَه. نعم، يا لستريد، إنني أهُنِّئك! فقد
«. أمسكتَ به بفضل جمعِك المُوَفق والمعهود بين البراعة والبسالة
«؟ أمسكتُ به! أمسكتُ بمن، يا سيد هولمز »
الرجل الذي كانت قوة الشرطة بكاملها تبحث عنه دون جدوى؛ الكولونيل سباستيان »
موران، الذي أطلق النار على النبيل رونالد أدير من بندقيةِضغط هواءٍ وباستخدام رصاصة
قابلة للتمدُّد والانفجار داخل الجسم عبرَ النافذة المفتوحة في الغرفة الأمامية بالطابق
الثاني للمنزل رقم ٤٢٧ ، بشارع بارك لين، في الثلاثين من الشهر الماضي. هذه هي التهمة،
يا لستريد. والآن، يا واطسون، إذا كنتَ تستطيع تحمُّلَ تيار الهواء من نافذةٍ مكسورة،
«. فأظن أنَّ نِصفَ ساعةٍ في مكتبي ومع دخان السيجار يُمكِن أنْ تُقدِّم لك تسلية مُثمرة
لم تتدهور حالة مسكننا القديم بفضل إشرافِ مايكروفت هولمز والرعاية المباشرة
للسيدة هدسون. وبمجرد دخولي لاحظتُ ترتيبًا غير مألوف، لكنَّ المعالم الرئيسية القديمة
كانت جميعها في مكانها؛ فكان هناك ركن الكيمياء والطاولة التي يعلوها لوحٌ من خشب
الصنوبر والملطَّخة بالأحماض. وعلى أحد الرفوف اصطفَّتْ دفاترُ مهولةٌ تحوي قصاصات
ومراجع، كان كثير من سكان مدينتنا سيصبحون سعداء جدٍّا لو أنهم أحرقوها. والرسوم
التوضيحية، وصندوق الكمان، وحامل البايب، حتى الخُفُّ الفارسيالذي كان يحتوي على
التبغ؛ كلُّها رأيتُها عندما أدرتُ النظرَ حولي. كان يشغلُ الغرفةَ اثنتان؛ إحداهما هي السيدة
هدسون، التي تبسَّمتْ بابتهاجٍ لكلينا عندما دخلنا؛ والأخري تلك الدمية الغريبة التي أدَّتْ
دورًا بالغ الأهمية في مغامرة الليلة. كانت مُجسمًا شمعيٍّا ملوَّنًا لصديقي، وقد صُنعتْ على
نحوٍ بارعٍ بحيث كانت صورةً طبق الأصل تمامًا منه. كانت تقوم على منضدةٍ صغيرة
وعليها رداءٌ منزليٌّ قديم من أردية هولمز وقد التفَّ حولها جيدًا بحيث بدا خيالُها من
الشارع مثاليٍّا تمامًا.
«. أرجو أن تكوني قد أخذتِ جميعَ احتياطاتك، سيدة هدسون » : قال هولمز
«. كنتُ أذهب إليه زحفًا على ركبتيَّ، يا سيدي، تمامًا كما أمرتَني »
«؟ رائع. لقد نفَّذتِ المهمة بصورةٍ جيدة جدٍّا. أما لاحظتِ أين ذهبت الرصاصة »
بلى، سيدي. ولكنها للأسف أتلفتْ تمثالَك الجميل؛ إذ اخترقت الرأسمباشرةً واندكَّتْ »
«! في الحائط. لقد التقطتُها من على السجادة. ها هي ذي
طلقةُ مسدسٍ ذاتُ رأسٍ ناعم، كما تلاحظ، » : أمسك بها هولمز وأراني إياها وقال
يا واطسون. إنَّ هذا يدلُّ على عبقرية؛ فمَنْ كان يتوقع أنْ يُطلقَ شيءٌ كهذا من بندقيةِ
ضغط هواء. حسنٌ، سيدة هدسون، إنني ممنونٌ جدٍّا لتعاوُنِك. والآن، يا واطسون، فَلْأرََكَ
«. في مقعدك القديم مرةً أخرى؛ إذ لديَّ نقاط عديدة أودُّ أنْ أناقشها معك
خلع المعطفَ الرَّثَّ المشقوقَ الذَّيْل، وأصبح الآن هولمز الذي كنت أعرفه عندما ارتدى
الرداء المنزلي ذا اللون الفيراني الذي خلعه من تمثاله.
لمْ تفقد أعصابُ الصياد العجوز » : ثم قالَضاحكًا، وهو يفحصُجبهةَ تمثاله المهشَّمة
ثباتَها ولا فقدتْ عيناه حدَّتَها.
إصابة عمودية في منتصف مؤخر الدماغ اخترقت المخ مباشرةً؛ لقد كان أفضل قنَّاص
«؟ في الهند، وأعتقد أنه لا يوجَد الكثير ممن هم أفضل منه في لندن. ألمْ تسمع بالاسم
«. لا، لمْ أسمع به »
حسنٌ، حسنٌ، هكذا هي الشهرة! لكن، أيضًا — إن لمْ أكن واهمًا — فإنك لمْ تسمع »
باسم البروفيسور جيمس موريارتي، الذي كان يتمتع بعقلٍ من أذكى عقول هذا القرن.
«. فقط أعطني قائمتي الخاصة بالسِّيَر الذاتية من على الرفِّ
وأخذ يقلِّب الصفحات ببطء، وهو متكئٌ على كرسيِّه ينفثُ سُحُبًا كثيفةً من سيجارِه.
إن مجموعة حرفالميم عندي من النوع الممتاز، موريارتي وحده يكفي لإعطاء » : وقال
أيِّ حرفٍ شُهرةً واسعة، وها هو مورجان المُسمِّم، وميريديو صاحب الذاكرة الغريبة،
وماثيوس الذي هشَّمَ نابي الأيسر في حجرة الانتظار في محطة قطار تشيرينج كروس،
«. وأخيرًا، ها هو صاحِبنا الليلة
وناولَني الكتاب، فقرأتُ:
موران، سباستيان، كولونيل. عاطل. فرقة رُواد بنجالور العسكرية الأولى سابقًا.
من مواليد لندن، ١٨٤٠ . ابن السير أوجستس موران، الحاصل على وسام
الاستحقاق برتبة رفيق من الدرجة الأولى، والسفير السابق لبريطانيا في بلاد
فارس. درسَ في مدرسة إيتون وجامعة أكسفورد. خدمَ في حملة جوفاكي،
وحملة أفغانستان، وجهار آسیاب (المراسلات)، وشيربور، وكابُل. مؤلِّف كتاب
،« ثلاثة أشهرٍ في الغابة » ١٨٨١ ؛ وكتاب ،« الطرائد الكبيرة في غرب الهيمالايا »
١٨٨٤ . عنوان السكن: شارع كوندويت. النوادي: نادي ذي أنجلو إنديان، ونادي
تانكرفيل، ونادي باجاتل لألعاب الورق.
كان مكتوبًا على الهامش، بخط هولمز الدقيق:
ثاني أخطر رجل في لندن.
هذا مُذهل، إنَّ مسيرة الرجل هي مسيرة جنديٍّ جديرٍ » : قلتُ، وأنا أعُيد إليه المجلد
«. بالاحترام
هذا صحيح. فقد أبلى بلاءً حسنًا حتى مرحلةٍ معينة. وكان دائمًا » : فأجابني هولمز
رجلًا ذا أعصاب حديدية، ولا تزال قصةُ زحفِه في أحد مصارف المياه وراءَ نمرٍ جريحٍ من
آكلي لحوم البشر تُروى في الهند. بعضُ الأشجار، يا واطسون، تنمو إلى ارتفاعٍ مُعيَّن ثُم
فجأةً تُنبِتُ بعضَالشذوذ البشع. إنك كثيرًا ما سترى هذا في البشر. إن لديَّ نظريةً مؤداها
أن الفرد يُمثل — في مراحل تطوره — مسيرةَ أجداده كاملةً، وأن مثل هذا التحوُّل المفاجئ
إلى الخير أو الشر يشير إلى بعض التأثير القوي الذي يرثه من سلسلة نسبه. ويصبح
«. الشخص— كما كان الحالُ هنا — نموذجًا لتاريخ عائلته
«. إنها بالتأكيد خيالية نوعًا ما »
حسنٌ، أنا لا أصرُّ عليها. وأيٍّا كان السبب، فإن الكولونيل موران بدأ ينحرف عن »
الصواب. ورغم عدم وجود أي فضيحة معلَنة، فإن الهند لا تزال تسعى بشدة للإمساك
به. لقد تقاعدَ، وأتى إلى لندن، واكتسبَ سُمعة سيئة مرة أخرى. وفي هذا الوقت سعى
البروفيسور موريارتي إلى أن يقرِّبه إليه، وقد عمل لصالحه مدةً ما رئيسًا لمساعديه. وقد
أغدق موريارتي عليه المال بسخاء ولم يستخدمْه إلَّا في مهمة أو مهمتَين رفيعتَي المستوى
جدٍّا لمْ يكن يستطيع مجرمٌ عادي أن يتولاهما. ربما تذكُر شيئًا عن وفاةِ السيدة ستيورت،
من بلدة لودر، عام ١٨٨٧ . أنت لا تذكر، أليس كذلك؟ حسنٌ، أنا متأكدٌ أن موران هو
المسئول الحقيقي عن وفاتها؛ لكن لا يمكن إثبات أيِّ شيء. وقد استتر الكولونيل ببراعة
فائقة؛ حتى إننا لم نستطع إدانته عندما تفرَّقت عصابة موريارتي. أتذكُر عندما زرتُك في
شقتك، في هذا التوقيت، كيف أغلقتُ مصاريع النوافذ خشيةً من بندقيات ضغط الهواء؟
لا شك أنك ظننتني واهمًا. لقد كنتُ أعرفُ تمامًا ما الذي كنتُ أفعله؛ لأنني كنتُ على
علمٍ بوجود هذه البندقية المميَّزة، وكنتُ على علمٍ كذلك أنها ستكون في يد واحدٍ من أمهر
القناصين في العالم. وقد تعقَّبَنا هو وموريارتي عندما كُنَّا في سويسرا، وكان هو بلا شكٍّ
مَنْ جعلني أقُاسيتلك الدقائقَ الخمسَ الأليمةَ على حافة شَلَّال رايكنباك الصخرية.
ربما تعتقد أني قرأتُ الصُّحُفَ بشيءٍ من الاهتمامِ أثناءَ إقامتي المؤقتة في فرنسا، ترقُّبًا
لأيِّ فرصةٍ لاعتقالِه. لمْ تكن حياتي لتستحق أن أحياها بحقٍّ طُوال مُدةِ بقائه طليقًا في
لندن. كان طيفُه سيظل يطاردني بالليل والنهار، وعاجلًا أو آجلًا كانت الفرصةُ ستُواتيه
حتمًا لمواجهتي. ماذا كنتُ أستطيع أن أفعل؟ ما كنتُ لأطلقَ عليه النار بمجرد رُؤيته، وإلا
لأوُدِعتُ أنا نفسيفي قفصِالاتهام. كان من العبث الاحتكامُ إلى القُضاة؛ فهم لا يستطيعون
التدخل لأنَّ الأمر كان سيبدو لهم أنه اتِّهامٌ غيرُ مُبرَّر؛ لذا لمْ أستطع فعلَ شيء، ولكني
تابعتُ أخبار المجرمين، مُوقنًا أنني كنتُ عاجلًا أو آجلًا سأمُسك به. ثُمَّ وقع موتُ رونالد
أدير هذا؛ فواتتني الفرصةُ أخيرًا! وهل يكون من غير المؤكد أن الكولونيل موران هو من
فعلها، إذا أخذنا في الاعتبار كلَّ ما قمتُ به؟ لقد لعب إحدى ألعاب الورق مع الشاب،
وقد لاحقه وهو عائد من النادي إلى منزله، ثُم أطلق عليه النار من النافذة المفتوحة. لم
يكن هناك شكٌّ في هذا. والطلقات وحدها تكفي ليطوِّق عنقه حبلُ المشنقة. لقد جئتُ إلى
لندن في الحال، ورآني الحارس، الذي أعلم أنه كان سيخبر الكولونيل بوجودي. ما كان
الكولونيل ليفشلَ في الربطِ بين عودتي المفاجئة وجريمتِه، وكان سيشعر بالقلق الشديد.
كنتُ مُوقنًا أنه كان سيحاول إزاحتي من طريقه في الحال، وأنه سوف يأتي بسلاحه الفتَّاك
لتحقيق هذه الغاية. لقد تركتُ له علامة ممتازة على النافذة، ولأنني كنتُ قد نبهتُ الشرطة
أننا قد نحتاج إليهم — بالمناسبة، يا واطسون، لقد تبيَّنتُ وجودهم عند ذلك المدخل بدِقَّةٍ
شديدة — فقد اتخذتُ لنفسي موقعًا رأيتُ أنه مناسب للمراقبة، ولم أتصوَّرْ قط أنه كان
سيختار الموقع ذاتَه لتنفيذ هجومه. والآن، عزيزي واطسون، هل بقيَ أيُّشيءٍ يحتاج مني
«؟ أن أوضِّحه
«. نعم، إنك لمْ توضح ما الذي دفعَ الكولونيل موران لقتلِ النبيل رونالد أدير » : قلتُ
آهٍ! عزيزي واطسون، ها نحن نصل إلى تلك النقاط المتعلقة بالتخمين؛ حيث من »
الممكن لأكثر العقول تنظيمًا أن يقع في الخطأ؛ فقد يؤسس كلٌّ منا فرضيته الخاصة
«. اعتمادًا على الدليل القائم، واحتمال الصحة متساوٍ في فرضيتَينا كلتَيهما
«؟ لقد تبنيتَ فرضيةً، أليس كذلك »
أظن أنه ليس من العسير تفسير الحقائق. لقد أظهرت شهادةُ الشهود أنَّ الكولونيل »
موران والشاب أدير قد فازا مناصفةً بمبلغٍ كبيرٍ من المال. إن موران قد غشَّ في اللعب
بلا شك — أنا على يقينٍ من هذا — وأعتقد أنه في يوم الجريمة اكتشفَ أدير أنَّ موران كان
يغُشُّ. ومن المحتمل جدٍّا أن يكون قد تكلَّم معه على انفراد، وهدَّده أنه سوف يُشَهِّرُ به إذا
لمْ يتخلَّ طواعيةً عن عضوية النادي ويتعهَّد بعدم ممارسة ألعاب الورق ثانيةً. فمن غير
المحتمل أنَّ شابٍّا مثل أدير كان ليُسارع بعمل فضيحةٍ شائنةٍ ويكشف أمرَ رجلٍ معروفٍ
يكبُرُه كثيرًا في السن. لقد تصرَّفَ على الأرجح كما افترضتُ. إن إقصاءَ موران، الذي كان
يتعيَّش على مكاسبه غير الشريفة من ألعاب الورق، من أنديته كان يعني الانهيار بالنسبة
إليه؛ لذا فقد قتل أدير، الذي كان يحاول في ذلك الوقت أن يعرفَ كم من المال يتوجَّب عليه
إعادتُه؛ لأنه لمْ يَقبلْ أن يستفيد من اللعب غير الشريف لزميله. وقد أغلقَ البابَ خشيةَ أن
تُفاجئه السيدتان وتُصمِّما على معرفةِ ما كان يفعل بتلك الأسماء والعملات. ما رأيك في
«؟ فرضيتي
«. لا أشكُّ أنك أصبتَ كبدَ الحقيقة »
سوف تُؤكَّد أو تُنفى في المحاكمة. وحتى ذلك الحين، وأيٍّا كان ما سيحدث، فلن »
يزعجنا الكولونيل موران بعد الآن، وستُزيِّن بندقيةُ فون هيردير الشهيرةُ متحفَ سكوتلاند
يارد، وسيكون السيد شيرلوك هولمز حرٍّا مجددًا كي يكرِّسحياته للتحقيق في تلك القضايا
«. الصغيرة المشوقة التي تفرزها بوفرة الحياةُ المعقدة في لندن
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.