artherconan

شارك على مواقع التواصل

لقد صارتْ لندن من وِجهة نظرِ الخبيرِ الجنائي مدينةً مُملَّةً » : قال السيد شيرلوك هولمز
«. إلى حدٍّ غير عادي منذ وفاة المأسوف عليه البروفيسور الراحل موريارتي
«. لا أكاد أتوقَّع أنك ستجِد كثيرًا من المواطنين الشُّرفاء يوافِقونك الرأي » : فأجبتُه
حسنٌ، حسنٌ، » : قال مُبتسمًا، وهو يدفَع كرسيه للخلْف مُبتعدًا عن طاولة الإفطار
يجِب ألَّا أكون أنانيٍّا، فالمجتمع هو الرابح بالتأكيد، وما من خاسرٍغير المُتخصِّصالمسكين
العاطل عن العمل، الذيضاعتْ وظيفته. لقد كانت الجريدةُ الصباحية تُتحِفُ المرءَ بفُرص
غيرِ مُتناهيةٍ عندما كان هذا الرجل حاضرًا في الميدان. لمْ يكن يُوجَد في كثيرٍ من الأحوال غيرُ
أَهْوَن الآثار وحسْبُ يا واطسون؛ أضعف الإشارات. ورغم هذا فقد كانتْ كافيةً لتُخبرني أنَّ
ذلك العقل الخبيث الكبير كان موجودًا هناك، مثلما تُذَكِّر المرءَ أخفُّ الارتِعاشات في أطراف
الشبكة بذلك العنكبوت البشِع الكامِن في مركزها. سرقاتٌ بسيطة، اعتداءات غير مُبرَّرة،
انتهاكات جُزافية، لكن بالنسبة إلى من يمتلك الأدلَّة فقد كان من المُمكن ربطُها جميعًا في
وَحدةٍ واحدةٍ متَّصِلة. لمْ تكن عاصمةٌ في أوروبا تُتيح للطالب المُتخصِّصالذي يدرُسعالم
وهزَّ كتفَيه في استهجانٍ «… الجريمة العتيدة ما كانتْ تمتلِكه لندن في ذلك الحين. لكن الآن
ساخرٍ من الموقف الذي بَذلَ هو نفسُه الكثيرَ لتحقيقه.
في هذا الوقت الذي أروي فيه تلك القصة، كان قد مرَّ على عودةِ هولمز بضعةُ أشهر،
وكنتُ، بِناءً على طلبه، قد بِعتُ عيادَتي وعدتُ لمُشارَكته السكن القديم في شارع بيكر
ستريت، حيث اشترى طبيبٌ شاب، يُدعى فيرنر، عيادتي الصغيرةَ الواقعة في مُقاطَعة
كينزينجتن، ودفعَ دون كثير تَردُّد، وعلى نحوٍ مُدهشٍ، أعلى قيمةٍ جرؤتُ على طلَبِها، وهي
حادثة لمْ تتَّضحْ حقيقتُها إلَّا بعد بضع سنين عندما اكتشفتُ أنَّ فيرنر كان أحد معارف
هولمز البَعيدِين، وأنَّ صديقي هو الذي أمَدَّه بالمال في واقع الأمر.
لمْ تكن شهورشراكتنا خاليةً من الأحداث إلى هذا الحدِّ الذي ذَكرَه هولمز؛ حيث إنني
وجدتُ، وأنا ألقي نظرةً على مُفكرتي، أن تلك الفترة تضمَّنتْ قضيةَ أوراق الرئيس السابق
موريُّو، وكذلك القضية المُروِّعة المُتعلِّقة بالباخرة الهولندية فريسلاند، التي أوشكَت للغاية
أن تُكلِّفنا حياتَنا نحن الاثنين. لكنَّ طبيعته الفاتِرة المشاعِر والمُعتزَّةَ بذاتِها كانتْ تَنفِر
دائمًا من أيِّ مظهر من مظاهر الإطراء العَلَني، وقد ألزَمَني، بأشدِّ العبارات صرامةً، ألَّا
أنبِسَ ببِنت شَفةٍ عنه، أو عن أساليبه، أو نجاحاته؛ وهو إلزام، كما سبَقَ أنْ أوضحتُ، لمْ
يُرفَع إلَّا الآن.
كان السيد شيرلوك هولمز مُتكئًا على كرسيه بعد أن انتهى من شكواه الهزْلية، وقد
بسَط جريدته الصباحية على مهَل، حين اجتذَب انتباهَنا دقٌّصاخِب للجرس، تَبِعه مباشَرةً
صوتُ قرعٍ أجوفُ، وكأنما كان شخصٌما يطرُق بقبضته على الباب الخارجي. وما إن فُتِح
الباب حتى سمِعنا اندفاعةً صاخِبة إلى داخل الردْهة، ثم دوَّى وقْعُ أقدامٍ سريعةٍ صُعودًا
على الدَّرَج، وبعد لحظةٍ اندفعَ إلى الغرفة شابٌّ هائج العينَين شديدُ الاضطراب، وقد بدا
شاحِبَ اللون، أشعثَ الشَّعر، مُرتجفًا. أخذ بصرُه يتردَّدُ بين كلٍّ مِنَّا. وتحت تأثير نظراتنا
المُتسائلة أدركَ الشابُّ أنَّ عليه تقديمَ بعضالاعتِذار بسبب دُخوله المُفتَقِر إلى اللباقة.
أعتذر، يا سيد هولمز، ينبغي ألَّا تلومَني؛ فقد كدتُ أفقد عقلي. » : صرخَ الشاب قائلًا
«. أيها السيد هولمز، أنا البائس جون هيكتور مكفارلِن
صرَّح الشاب باسمه وكأنما الاسمُ وحده يكفي لتبريرِ كُلٍّ من زيارته وكيفيَّتها، ولكني
رأيتُ من جمود وجهِ رفيقي أنَّ ذلك لمْ يعنِ له أكثرَ مما عنى لي.
تناوَل سيجارة، يا سيد مكفارلِن. أنا متأكدٌّ » : قال هولمز وهو يمرِّر علبةَ سجائره
أنه في ظلِّ ما تُعانيه من أعراض، فإن صديقي الدكتور واطسون سوف يصِف لك عقارًا
مُهدِّئًا. لقد كان الجوُّ حارٍّا جدٍّا على مدار الأيام القليلة الماضية. والآن، إذا كنتَ تشعُرُ أنك
أصبحتَ أهدأ قليلًا، فسيُسعِدني لو تفضَّلْتَ بالجلوس على ذلك الكرسي وأخبرتَنا بتمهُّلٍ
وهُدوءٍ شديدَيْن مَن أنتَ وماذا تريد. لقد ذكرتَ اسمك وكأنه من المُفترَضأن أكون عارفًا
به، ولكنِّي أؤكد لك أنني لا أعلَم عنك أيَّشيءٍ مُطلقًا، باستِثناء تلك الحقائق الواضِحة وهي
«. أنك محامٍ أعزب، وأنك عضوٌ في مُنظَّمة البنَّائين الأحرار، وتُعاني من داء الربو
ولحُسن مَعرفتي بأساليب صديقي، لمْ يكن صعبًا عليَّ أن أستوعِب استنتاجاته، وأن
ألُاحظَ الأمور التي دفعَتْه إليها وهي هيئته غير المُهندَمة، وحزمة الأوراق القانونية، والحِلية
المُتدلِّية من سلسلة الساعة، وطريقة تنفُّسه. أمَّا عميلنا، فقد حدَّقَ في اندِهاش.
نعم، كلُّ ما قلتَه عنِّي صحيح يا سيد هولمز، وفوق هذا فإني أتعسُ الناس حظٍّا في »
لندن في هذه اللحظة. بربِّك لا تتخلَّ عنِّي يا سيد هولمز! إذا أتَوْا للقبضِعليَّ قبل أن أنُهيَ
سردَ قصتي، فاجعلْهم يُمهِلونني؛ لعلِّي أتمكَّن من إخبارك بالحقيقة كاملةً. إنَّ بإمكاني أنْ
«. أدخل السجنَ راضِيًا إذا علمتُ أنك تعملُ خارجَه من أجلي
يقبِضون عليك! إنَّ هذا حقَّا ليبعثُ على المُتع … أقصد يبعث على الاهتمام » : قال هولمز
«؟ البالِغ. بأيَّةِ تُهمةٍ تتوقَّع أن يُقبضَعليك
«. بتُهمة قتل السيد جونيس أولديكر، من ضاحية لُووِر نوروود »
أظهرتْ ملامحُ وجه رفيقي المُعبِّرةُ تعاطُفًا، لكنِّي أخشى أنه لمْ يكن خاليًا كليةً من
الرِّضا.
يا للعَجَب! لقد كنتُ لتوِّي أقول لصديقي الدكتور واطسون، ونحن على مائدة » : وقال
«. الإفطار، إنَّ القضايا المُثيرةَ قد اختفت من صُحفنا
مدَّ ضيفُنا يدًا مُرتعِشة وتناوَل بها جريدةَ الديلي تليجراف، التي كانتْ لا تزالُ فوق
رُكبَة هولمز.
لو أنكَ كنتَ نظرت فيها يا سيدي، لكُنتَ عرفتَ على الفور سبب زيارتي لك هذا »
وقلبَ «. الصباح. إنني أشعُر وكأنَّ اسمي ومُصيبتي قد أصبحا ملء الأفواه لا محالة
ها هي ذي، وإذا سمحتَ لي فسأقرؤها » . صفحات الجريدة ليعرِض الصفحة الوسطى
قضية غامِضة في ضاحية لووِر » : عليك؛ استمِع لهذا سيد هولمز. تقول العناوين الرئيسية
«. نوروود. اختفاء بنَّاء مشهور. اشتِباه في قتل وإحراق مُتعمَّدَين. دليل على هُوية المجرم
ذاك هو الدليل الذي يتَتبَّعونه بالفعل سيد هولمز، وأنا أعلَم أنه سيقودُهم حتمًا إليَّ. إنهم
يُلاحقونني من محطَّة مترو أنفاق لندن، وأنا مُتأكدٌ أنهم ينتظِرون فقط حتى تصدُر
وأخذ يفرُك يدَيه «! مُذكرة توقيف للقبض عليَّ. سيُحطم ذلك قلبَ أمُِّي، سيُحطم قلبها
حسرةً وإشفاقًا، ويهتزُّ في كرسيِّه للخلْف والأمام.
نظرتُ باهتمامٍ إلى ذلك الرجل المُتَّهم بارتكاب جريمة عُنف. كان أشقر الشَّعر، وسيمًا
على نحوٍ ذابلٍ باهِت، ذا عينَين زرقاوَين تفيضان خَوفًا، ووجهٍ حليق اللِّحية والشاربَين، له
فمٌ صغير حسَّاس. ربما كان عمره يُناهِز السابعة والعشرين، وكانتْ ثيابُه وهيئتُه تدُلَّان
على نُبله، وقد برزتْ من جَيب مِعطفه الصَّيفي الخفيف حزمةٌ من المُستندات المُوقَّعة التي
أفصحَت عن مِهنته.
يجِب أن نستثمِر ما لدينا من وقت. واطسون، هلَّا تناوَلتَ الجريدة من » : ردَّ هولمز
«؟ فضلك وقرأتَ لي الفقرة المقصودة
فقرأتُ أسفل العناوين الرئيسية الساخِنة التي أوردَها عميلنا هذه القصةَ المُثيرة:
وقعتْ في وقتٍ مُتأخر من الليلة الماضية، أو باكرًا هذا الصباح، في منطقة لووِر
نوروود حادثةٌ يُخشى أنها تُشيرُ إلى جريمةٍ خطيرة. السيد جونيس أولديكر هو
أحد السكان المعروفين في هذه الضاحِية التي ظلَّ يعمل فيها بنَّاءً مدةَ سنواتٍ
عديدة. السيد أولديكر أعزب، يبلُغ الثانية والخمسين من العمر، ويُقيم في منزل
ديب دين هاوس، عند نهاية الطريق المارِّ بمقاطعة سيدنام الذي يحمِل الاسم
نفسه، وقد اشتُهِر عنه أنه رجلٌ غريب الأطوار، وأنه مُتحفِّظٌ ومُنطوٍ على ذاتِه.
كان السيد جونيس شِبه مُعتزِلٍ لِمهنته منذ بضع سنواتٍ، تلك الِمهنة التي يُقال
إنه جمَع منها ثروةً طائلة. لكنَّه، برغم هذا، لا يزالُ يمتلك مَخزنَ أخشابٍ صغيرًا
في الجُزء الخلفي من منزله. وفي الليلة الماضية، وفي حوالي الساعةِ الثانية عشرة،
انطلَق تحذيرٌ من اندلاع النار في إحدى أكوام الحطب هناك. هُرعَتْ سيارات
الإطفاء إلى المكان في الحال، ولكنَّ النيران اضطرَمَت في الأخشابِ اليابسةِ في
ضراوةٍ شديدة، وكانَ من المُستحيل السيطرةُ على الحريق إلى أن الْتَهَمَ كومة
الحطب بالكامل. حتى هذا الحدِّ فإن الواقعة بدت كأنها حادثة عادية، لكن
هناك إشاراتجديدة تُنبئ بوقوع جريمة خطيرة؛ فقد أبدى الحاضرون دهشتَهم
لغيابصاحب المُنشأة عن مَوقع الحريق، فتَلَتْ ذلك تحرِّياتٌ أسفرَت عن اختفائه
من المنزل. أظهرت مُعاينةُ غرفته أنَّه لمْ ينَمْ على فراشه، وأن الخِزانة التي في
الغرفة مفتوحة، وأنَّ عددًا من الأوراق المُهمة كان مُتناثِرًا في أرجاء الغرفة. وأخيرًا،
فقد أظهرت التحرِّيات وجودَ علاماتٍ على وقوعصراعٍ عنيف؛ حيث وُجدت آثارُ
دمٍ خفيفة داخل الغرفة، وعصا مَشيٍمصنوعةٌ من خشب السنديان، وقد لطَّخَت
مِقبضَها هي الأخرى بُقَعُ دماء. هذا ومن المعلوم أنَّ السيد جونيس أولديكر كان
قد استقبل ضيفًا في حجرةِ نومه في وقتٍ مُتأخر من تلك الليلة، وقد تَبيَّنَ أنَّ
العصا التي عُثِر عليها تعود ملكيَّتها لهذا الشخص، وهو محامٍ شابٌّ من لندن
يُدعى جون هيكتور مكفارلِن، وهو شريك ثانوي في شركة جِرايم ومكفارلن،
وعنوانها مبنى رقم ٤٢٦ ، مباني جريشم، منطقة إيسترن سنترال البريدية في
لندن. تعتقد الشرطة أنَّ بِحَوزتها دليلًا يقدِّم دافعًا مُقنعًا جدٍّا لارتكاب الجريمة،
وعلى كُلٍّ فلا شكَّ أنه سوف يتبَع هذا تطوُّراتٌ مُثيرة.
في وقتٍ لاحق أشُيعَ، ونحن نُعدُّ الخبرَ للنشر، أنَّه قد قُبِضبالفعل على السيد
جون هيكتور مكفارلِن بتُهمة قتل السيد جونيس أولديكر. من المؤكد على أقلِّ
تقديرٍ أنه قد أصُدرَت بحقِّه مُذكرة اعتقال. هذا وقد تضمَّنَ التحقيق الذي أجُري
في نوروود المزيدَ من التطوُّرات المُنذِرة بالسوء؛ فبالإضافة إلى آثارِ الصراع في
حُجرة البنَّاء التعيس الحظِّ فقد عُثِر على أنَّ النوافذَ الفرنسية لحُجرته (الواقِعة
بالطابق الأرضي) كانت مفتوحة، وأنَّ هناك آثارًا على الأرض، وكأن شيئًا ضخمًا
قد جُرَّ حتى كومة الحطب. وأخيرًا، يجزِم التحقيقُ بأنه عُثِرَ على رُفاتٍ مُتفحِّمٍ
بين الرماد الفحمي الذي خلَّفَه الحريق. ذهبت تخميناتُ الشرطة إلى ارتكاب
جريمة من أشدِّ الجرائم إثارة؛ حيثضربَ المُتَّهمُ القتيلَ في غرفة نومه بهراوةٍ
حتى الموت، وفتَّشَ أوراقه، وسحَب جُثته إلى كومة الحطب؛ ومن ثَمَّ أضرَم فيها
النار لإخفاء جميع آثار الجريمة. وقد أوُكِل الإشرافُ على التحقيق الجنائي إلى
المُفتِّشالمُتمرِّسلستريد، منشرطة سكوتلاند يارد، وهو يتعقَّبُ الأدلَّةَ بحماسته
وحصافته المعهودتَين.
استمَع شيرلوك هولمز إلى هذه القصة العجيبة وهو مُغلقٌ جَفنَيه وضامٌّ أنامِل أصابعه
بعضها إلى بعض.
إنَّ في القضية بعضالنقاط المُثيرة للاهتمام بالتأكيد. هل » : ثم قال بطريقته الفاترة
لي أن أسأل، أولًا يا سيد مكفارلن، كيف لا تزال طليقًا، رغم وجود ما يكفي من الأدلَّة
«؟ لتبرير اعتِقالك
إنَّني أقُيم مع والدَيَّ في تورينجتن لودج، بمقاطعة بلاكهيث، يا سيد هولمز، لكن »
اللَّيلةَ الماضية، اضْطُررتُ لعقد مُقابلة عملٍ في وقتٍ مُتأخرٍ جدٍّا مع السيد جونيسأولديكر،
فنزلتُ في فندقٍ في منطقة نوروود، وأتيتُ إلى المُقابلة من هناك. ولمْ أعلم أيَّشيءٍ عن هذه
القضية إلَّا وأنا في القطار، عندما قرأتُ ما سمِعتَهُ لتوِّكَ الآن، فأدركتُ من فوري الخطورةَ
المُفزعةَ التي تكتنِف موقِفي، وهُرِعتُ لوضعِ القضية بين يدَيك. لا شكَّ لديَّ في أنه كان
ينبغي أن أكونَ قد اعتُقلتُ إمَّا من مكتبي بلندن أو من بَيتي. لقد لاحَقَني رجلٌ من محطة
«؟ مترو أنفاق لندن، ليس عندي شكٌّ … يا إلهي! ما هذا
كان هذا صوت رنين الجرس، وقد تَبِعه على الفور وقعُ خطوات ثقيلة على الدَّرَج،
وبعد لحظةٍ ظهرَ صديقُنا القديم لستريد عند مدخل الباب، ولمحتُ وراءَ كتِفِه رجُلًا أو
اثنين من رجال الشرطةِ واقفَيْن بالخارج في ملابِسهما الرسمية.
«؟ السيد جون هيكتور مكفارلن » : قال لستريد
فقام زبوننا التعيسُ ووجهُه شاحبٌ كالموتى.
«. إنني أعتقلك بتُهمةِ قتلِ السيد جونيسأولديكر، المُقيم بمنطقة لووِر نوروود، عمدًا »
التفتَ إلينا مكفارلن الْتِفاتةً يائسة، ثمَّ غاصَفي كرسيِّه مرةً أخرى مُنكسرًا.
انتظِر قليلًا يا لستريد؛ فحوالي نصف ساعة لا تُشكل فارقًا بالنسبة إليك، » : قال هولمز
وقد كان الرجل على وَشكسرْد أحداث هذه القضية المُثيرة على مسامِعنا، عسىأنْ يُساعدنا
«. هذا على حلِّها
«. أظنُّ أنه لن تُوجَد صعوبة في حلِّها » : فقال لستريد مُتجهِّمًا
«. لكن مع ذلك، وإذا سمحتَ لي، فإنني مُتطلِّع جدٍّا لسَماع قصته »
حسنٌ يا سيد هولمز، من الصعب عليَّ أن أرفُضَ لك أيَّ طلب، فلقد » : قال لستريد
ساعدتَ قوةَ الشرطةِ مرةً أو مرَّتَين فيما مضى. ونحن —شرطة سكوتلاند يارد — مَدينون
لك بالشكر على معروفك، لكن يجِب في الوقت نفسه أن أبقى مع سجيني، وأنا مُلزَم بتحذيره
«. أنَّ أيٍّا مِمَّا قد يقوله سوف يُؤخذُ دليلًا ضدَّه
لا أطمَع فيما هو أكثر من هذا. كلُّ ما أطلبُه هو أن تَسمعوا وتتعرَّفوا » : قال عميلُنا
«. على الحقيقة الكاملة
«. سوف أمنحُكم نصف ساعة » : نظر لستريد إلى ساعته، وقال
ينبغي أن أوضِّح أولًا أنني لم أكن أعرِف أيَّشيءٍ عن السيد جونيس » : قال مكفارلن
أولديكر. كان اسمُه معروفًا بالنسبة إليَّ، حيث تعرَّف إلى والدي منذ سنواتٍ عديدةٍ مضتْ،
لكنَّ علاقتَهما فترتْ بمرور الزمن وانتهتْ؛ لذا، تفاجأت كثيرًا، عندما دخلَ إلى مكتبي في
المدينة بالأمس، في حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر. لكنِّي دُهشتُ أكثر عندما أخبرَني
بالغرَض من زيارته. كان يحمِل في يده عدَّةَ ورقاتٍ من مفكرة، تملؤها كتابةٌ أشبَه
بالخربَشة — ها هي ذي — ووَضَعها على طاولتي.
هاكَ وصِيَّتي. أريدُك، يا سيد مكفارلن، أن تَضعَها في صيغةٍ قانونيةٍ مناسبة. » : وقال
«. وسوف أجلس هنا ريثما تنتهي من هذه المُهمَّة
عكفتُ على نسخِها، ولك أن تتخيَّل دهشتي عندما وجدتُ أنه، مع بعضالتَّحفُّظات،
قد أوصى لي بجميع مُمتلكاته. كان رجلًا غريبًا ضئيل البِنية، يُشبِه حيوان ابن مِقْرَض،
وكانت أهداب عينَيه بيضاء، وعندما تطلَّعتُ إليه وجدتُ عينَيه الرَّمادِيَّتَين الثاقبتَين مُثبتتَين
عليَّ ومِلؤهُما تعبير مُتندِّر. كدتُ لا أصُدِّق حواسِّي وأنا أقرأ بنود الوصية، لكنه أوضح لي
أنه كان أعزب بلا أقرِباء أحياء تقريبًا، وأنه قد تعرَّف إلى والديَّ في شبابه ولطالما سمع
عنِّي أنني شابُّ جديرٌ جدٍّا بالدَّعم وأنه واثِق أن ماله سوف يذهب لمن يستحقُّه. بالطبع، لمْ
أستطع إلَّا أن أتُمتِم بعبارات الشكر مُتلعثِمًا. أتممتُ صياغة الوصية كما ينبغي، ووقَّعْنا
عليها، وشهد عليها كاتبي. الوصيَّة هي تلك المكتوبة على الورقة الزرقاء، وهذه الوُرَيقات،
كما أوضحتُ من قبل، هي المُسوَّدة. ثم أخبرَني السيد جونيس أولديكر بعد ذلك أنَّ هناك
عددًا من المُستندات — عقود مبانٍ، وصكوك تمليك، وصكوك رهانات عقارية، وسند، وما
إلى ذلك — التي كان من الضروري أنْ أطَّلعَ عليها وأعِيَها. وقال إنه لن يَطمئنَّ له بال حتى
يُحسَم الأمر بالكامل، وألحَّ عليَّ أنْ أزورَه تلك الليلة في منزلِه في منطقة نوروود، وأن أحُضِرَ
تذكَّر، يا بُني، لا تَبُح لوالدَيك بكلمةٍ واحدةٍ عن الأمر » : الوصيَّة معي لتسوية الأمور. وقال
كان الرجل مُصِرٍّا جدٍّا على «. قبل حسمِ كلِّ شيء. فسوف نُبقي الأمرَ مُفاجأةً صغيرةً لهما
هذه النقطة، وجعلني أتعهَّد مُخلصًا على الوفاء بها.
يُمكنك أن تتخيل، يا سيد هولمز، أنني لمْ أكن في حالةٍ ذِهنية تُؤهِّلني أن أرفضَله أيَّ
مَطلبٍ قد يَسألُنِيه؛ لقد كان وليَّ نِعمتي، وكان كلُّ ما أريده هو أن أنُفِّذَ رغباتِه بحذافيرها.
لذا، بعثتُ برقيَّةً إلى أسرتي، أقول فيها إنني مُنشغلٌ بعملٍ مُهم، وأنه يتعذَّر عليَّ أنْ أعرفَ
إلى متى قد أتأخَّر. كان السيد أولديكر قد أخبَرَني أنه يُريدُني أن أتناوَل العشاءَ معه في
الساعة التاسعة؛ لأنه قد لا يكون في بيته قبل هذا التوقيت. ولكنِّي واجهتُ بعضَالصُّعوبة
«… في التعرُّف على بيته، حتى قارَبَت الساعةُ التاسعةَ والنصف قبل أن أصلَ إليه. ووجدته
«؟ على رِسْلِك! من فتح لك الباب » : قال هولمز
«. سيدةٌ في منتصف العمر، وهي، فيما أظن، مُدبِّرةُ منزلِه »
«؟ وأحسَبُ أنها هي التي ذكرَت اسمَك »
«. بالضبط » : قال مكفارلن
. أكمِلْ من فضلك »
مسحَ مكفارلن جَبينَه المُخْضَلَّ ثم استأنفَ قصَّته:
اصطحبتْني هذه السيدة إلى غُرفة جلوسأعُِدَّ فيها عشاءٌ زهيد، وبعد تناوُله أدخلَني »
السيد جونيس أولديكر إلى غرفة نومه، حيثُ تنتصِبُ هناك خِزانةٌ ثقيلة. فتَحَها السيد
أولديكر وأخرجَ منها عددًا كبيرًا من المُستندات فَحَصْناها مَعًا. كانت الساعة بين الحادية
عشرة والثانية عشرة عندما انتهَينا. نبَّهَني ربُّ المنزل أننا يجِب ألَّا نُزعجَ مُدبِّرةَ المنزل،
«. فاصطحبَني إلى الخارج عبرَ نافِذته الفرنسية، التي كانتْ مفتوحةً طِيلة هذه المدَّة
«؟ هل كانت الستارة الأفقيَّة مُغلَقة » : سألَ هولمز
لا أستطيع أن أجزِم، لكنَّني أعتقدُ أنها كانتْ نِصف مُغلَقة. نعم، فأنا أذكُر كيف »
لا تقلق » : رفَعَها إلى أعلى كي يفتحَ مِصراعَ النافذة. لمْ أتمكن من العثورِ على عصايَ، فقال
«. يا بُني؛ فأنا آمَلُ أن أراكَ كثيرًا الآن، وسوف أحتفِظ بعصاك رَيثما تعود لاستِرجاعها
تركته هناك، وكانت الخِزانةُ مفتوحةً، والأوراقُ مَلفوفةً في رُزم فوق الطاولة. كان الوقت
مُتأخِّرًا جدٍّا بحيث لمْ أستطع الرُّجوع إلى بلاكهيث، فقضَيتُ الليلةَ في فندق أنِرلي آرمز، ولم
«. أعرِف المزيد عن الأمر حتى قرأتُ عن قضيته المُروِّعة في الصباح
أتودُّ » : قال لستريد الذي ارتفعَ حاجِباه مرةً أو مَرتَين أثناءَ هذا الشرح المُثير للاهتمام
«؟ أن تسأل عن أيِّشيءٍ آخر يا سيد هولمز
«. ليس قبل أن أزور بلاكهيث »
«. تقصِد نوروود » : قال لستريد
«. آه، أجل؛ لا شكَّ أنَّ هذا هو ما كنتُ أقصِده » : قال هولمز، وهو يبتسمُ ابتسامته المُلغِزة
لقد أدركَ لستريد — من خلال عدد كبير من التجارب، أكبر من أن يَحرِصَ على الاعترافِ
به — أنَّ ذاكَ الذكاء الحاد كالسيفِ كان يستطيعُ أنْ ينفُذَ فيما يعدُّه هو مُستغلِقًا على
الفهم. ورأيته ينظرُ إلى رفيقي نظرةً مُفعَمة بالفضول.
أودُّ أن أتحدَّث معك الآن سيد شيرلوك هولمز. والآن يا سيد مكفارلن، » : قال لستريد
نهضَالشابُّ التعيسُ وخرجَ من الغُرفة «. يُوجَد بالباب اثنان من رجالي وعربةٌ في انتظارك
وهو يَرمُقنا بنظرةِ استِجداء أخيرة، فاقتاده الضابِطان إلى العربة، لكنَّ لستريد بقِي.
كان هولمز قد التقطَ الوُرَيقات التي تُشكل مُسوَّدة الوصية، وأخذَ يُطالِعها وعلى وجهه
اهتمام بالِغ.
هناك بعضالمُلاحَظات بشأن هذه الوثيقة يا لستريد. أليس » : قال هولمز وهو يدفعها
«؟ كذلك
فنظر إليها المُفتِّش وعليهِ تعابيرُ الحيرة.
يُمكنني قراءة السطورِ القليلة الأولى، وهذه التي في منتصف الصفحة الثانية، » : وقال
وسطرٍ أو اثنين في النهاية. فتلك السطورُ واضحةٌ كحروف المطبعة، لكنَّ الكتابة الواقعة
«. فيما بينها رديئة جدٍّا، وهناك ثلاثةُ مواضعٍ لا أستطيعُ قراءتها مُطلقًا
«؟ وماذا تستنتجُ من ذلك » : قال هولمز
«؟ حسنٌ، أخبِرني أنتَ ماذا تستنتجُ منه »
أستنتِجُ أنها كُتبت في قطار؛ فالخطُّ الجيِّدُ يُمثِّل المحطات، والخطُّ الرديء يُمثِّل »
الحركة، والخطُّ البالغُ السوءَ يمثلُ المرورَ من فوقِ مُحولَّاتِ السكة الحديدية. بوُسْع خُبراء
علم الخطوط الإعلان فورًا عن أنها قد صِيغتْ على أحد خطوط السكك الحديديةٍ المارَّة عبر
ضاحية ما، حيثُ لا يُمكن أن يُوجَد في أيِّ مكانٍ — غير الجوارِ المُباشرِ لمدينةٍ كبرى —
مثلُ هذا التتابُع السريع في محولَّات السكة الحديدية. وإذا افترَضْنا أنَّ صياغةَ الوصيَّةِ
استغرقَتْ وقتَ الرحلةِ كلَّه، فالقطار إذن كان قطارًا سريعًا لم يتوقَّف إلَّا مرةً واحدةً بين
«. محطةِ نوروود ومحطة مترو أنفاق لندن
شرع لستريد يضحكُ.
إنك تَغلبني يا سيد هولمز عندما تبدأ في طرحِ نظرياتك. ما تأثيرُ هذا على » : ثم قال
«؟ القضية
حسنٌ، إنَّه يُعزِّز قصةَ الشابِ من حيث إنه يُثبِت أن جونيسأولديكر قدصاغَ الوصيةَ »
في رحلته بالأمس. وهذا غريب — أليسكذلك؟ — أنْ يصوغَ رجلٌ مثلَ هذه الوَثيقة البالِغة
الأهمية بهذه الطريقة المُغرِقة في العشوائية. وهذا يدلُّ على أنَّه لم يكن يَعتقِد أنها ستكون
ذات أهميةٍ عمليَّةٍ كبيرة. فلو صاغَ رجلٌ وصيَّةً وهو لا ينوي لها أن تكون نافِذة المفعول
«. أبدًا لَصاغها بهذه الطريقة
«. حسنٌ، لقد خَطَّ شهادة وفاتِهِ بيده في الوقت نفسه » : قال لستريد
«؟ أوه! هل تعتقد ذلك »
«؟ ألا تعتقِد أنت ذلك »
«. حسنٌ، فهذا جائزٌ جدٍّا، لكنَّ القضيةَ لا تزالُ غيرَ واضحةٍ لي »
غيرُ واضحة؟ حسنًا، إذا لمْ تكن هذه القضية واضحةً، فماذا قد يكون واضِحًا؟ »
ها هو ذا شاب يعلمُ فجأةً أنه إذا تُوفيَِّ رجلٌ كهل بعينِه فسوفَ يرثُ ثروة. فماذا يفعل؟ لن
يُخبِر أيَّ أحدٍ بأيِّشيء، لكنَّه يُعدُّ لرؤية عميله في تلك الليلة تحتَ ذريعةٍ ما، وينتظِر حتى
ينام الشخصُالوحيدُ الآخر في المنزل، ثمَّ يقتُل الرجل وهو بمُفرده في غُرفته، ويُحرِق جثَّتَه
مع كومة الحطب، ثم يُغادِر إلى فندقٍ مُجاوِر. إنَّ بُقَع الدَّم في الغرفة طفيفة للغاية وكذلك
على العصا. ربما ظنَّ أنَّ جريمته يُمكن أن تكتمِل دون إراقة للدماء، وكان يأمل في أنْ
يُخفيَ إحراقُ الجثةِ آثارَ طريقةِ مَوتها كاملةً؛ تلك الآثارُ التي كانَ ينبغي — لسببٍ ما —
«؟ أنْ تُشيرَ إليه. أليس هذا كلُّه واضِحًا
إنَّ ما يُثير دهشتي عزيزي لستريد، هو ما تتَّسِم به المسألة من ذلك » : قال هولمز
الوضوح الشديد. إنك لا تُضيفُ القُدرَة على التخيُّل إلى مُميزاتك العظيمة الأخرى، لكنك لو
استطعتَ للحظةٍ واحدةٍ أن تضع نفسكَ مكان هذا الشاب، فهل كنتَ ستختارُ الليلةَ التاليةَ
لكتابةِ الوصيَّةِ تحديدًا لارتِكاب جريمتك؟ أَمَا كان سيبدو لك خطيرًا أنْ تخلُقَ رابطًا وَثيقَ
الصِّلةِ إلى هذا الحدِّ بين الحدَثَيْن؟ ثُمَّ، هل كُنتَ ستختارُ وقتًا معلومًا فيه أنك كُنتَ في المنزل
وقد سمحَتْ لك خادِمةٌ بالدخول؟ وأخيرًا، هل كُنتَ ستتكبَّد المشقَّة العظيمة لإخفاءِ الجُثة
ثم تترُك عصاكَ، برغم هذا، كي تُشيرَ إلى أنك أنت المُجرِم؟ اعترِف يا لستريد، أنَّ هذا كلَّه
«. مُستبعَدُ الوقوع جدٍّا
بخصوصالعصا، سيد هولمز، فإنك تعلَم كما أعلم أنَّه غالبًا ما يكون المُجرم مُرتبكًا، »
وأنه يفعل أشياءَ ما كان رجلٌ هادئُ الأعصاب ليفعَلَها. من المُرجَّح جدٍّا أنه كانَ يخشى
«. العودةَ إلى الغرفة، وإلَّا فأعطِني نظريةً أخرى تتناسَب مع الوقائع
أستطيع بسهولةٍ بالِغة أن أعُطيَك ستَّ نظريات. إليك، على سبيل المثال، » : قال هولمز
نظرية مُمكنة جدٍّا بل ومُرجَّحة الحُدوث، وسأقدِّمُها هديةً مجانيةً لك: يُظهر الرجل العجوز
أوراقًا ذات قِيمةٍ واضحة، فيراهاصعلوكٌ مارٌّ من خلال النافذة، التي كانتْ ستارتها نِصفَ
مُغلقة فقط. يخرُجُ المحامي، فيدخل الصعلوك! ويُمسِك بعصًا يُلاحظُ وجودَها هناك،
«. ويقتُل أولديكر، ثم يُغادِر بعد إحراق الجثة
«؟ ولِمَ قد يُحرِقُ الصعلوك الجثة »
«؟ قياسًا على ذلك، فلِمَ قد يُحرِقها مكفارلين »
«. لإخفاءِ دليلٍ ما »
«. ربما أراد الصعلوك أن يُخفيَ وقوعَ أيَّةِ جريمةِ قتلٍ من الأساس »
«؟ ولِمَ لمْ يَستولِ الصعلوك على أيِّشيء »
«. لأنها كانتْ أوراقًا لا يستطيعُ المُساوَمة عليها »
هزَّ لستريد رأسَه، ورغم هذا فقد بدا لي أنَّ طريقته صارت أقلَّ اصطِباغًا بالثِّقة
المُطلَقة من ذي قبل.
حسنٌ، سيد شيرلوك هولمز، يُمكنك البحث عن ذلك الصعلوك، ورَيثما تجِده فسوف »
نحتفِظ بصاحبنا هذا. سوف يُظهر المُستقبل أي نظرية هي الصحيحة. انتبِه فقط لهذه
النقطة، يا سيد هولمز: على حدِّ علمِنا لمْ يُزِل أحدٌ أيٍّا من الأوراق، والسجين هو الرجل
الوحيد في العالَم الذي ليس لديه ما يدفعه إلى إزالتها، وذلك لأنه كان وريثًا قانونيٍّا وكانَت
«. ستَئُول إليه على أيَّة حال
لا أقصد إنكارَ أنَّ الأدلَّة — بطريقةٍ » : بدا أنَّ صديقي قد بُوغِت بهذه الملاحظة، وقال
ما — تؤيِّد نظريَّتك تأييدًا قويٍّا للغاية، إنما أرُيد أن أشُير فقط إلى وجود نظريَّاتٍ مُمكنة
أخرى. وكما تقول، فسيفصِل المُستقبل بيننا. عِمتَ صباحًا! أعتقدُ أني سأمُرُّ بنوروود
«. خلال هذا اليوم لأرى كيف تُبلي في التحقيق
نهضَصديقي إثرَ مُغادرةِ المُفتِّش وأخذ يُرتِّب لعمل اليوم بهمَّةِ رجُلٍ تنتظرُه مُهمَّةٌ
تَليق به.
لا بُدَّ أن تكون أول تحرُّكاتي يا واطسون، » : قال، وهو يَجدُّ في ارتداء مِعطفِه الفراك
«. كما قلتُ، في اتِّجاه مُقاطعة بلاكهيث
«؟ ولِمَ لا تكون باتِّجاه نوروود »
لأن لدَينا في هذه القضية حدثًا غريبًا وقعَ مُباشرةً عقِبَ حدثٍ غريبٍ آخر، والشرطةُ »
واقِعةٌ في خطأِ تركيزِ انتِباهِها على الحدثِ الثاني؛ إذ صادف كونه الحدثَ الجنائي بالفعل.
لكن من البديهي بالنسبة إليَّ أنَّ الأسلوبَ المنطقيَّ لمُعالجةِ هذه القضية هو البدءُ بمُحاولة
إلقاء بعضالضوء على الحدَث الأول — الوصيةِ الغريبة، التي كُتِبتْ على نحوٍ مُفاجئ جدٍّا،
ولوريثٍ غيرِ مُتوَقَّعٍ تمامًا، فقد يُسهِمُ هذا في إيضاحِ ما تلاه. ولا يا رفيقي العزيز، لا أظنُّ
أنَّك تستطيعُ مُعاوَنتي؛ فليس هناك احتِمالٌ لوقوع خطر، وإلَّا لما جال بخاطري حتَّى أنْ
أتزحزحَ من مكاني من دونك. إنني واثقٌ أنَّني سوف أستطيع أن أخُبِرك عندما أراكَ في
«. المساءِ أنني قد تمكَّنتُ من عملشيءٍ لأجل هذا الشاب السيِّئِ الحظِّ الذي احتمى بي
كان الوقتُ مُتأخرًا عندما عاد صديقي، واستطعتُ باستِراق النظر إلى وَجهه الشاحِبِ
القَلِق أن أرى أنَّ الآمالَ العريضة التي بدأَ بها لمْ تتحقَّق. ظلَّ هولمز لساعةٍ يَعزِف نغماتٍ
ثابتة على آلةِ الكمان الخاصَّة به، مُحاوِلًا تهدئة مِزاجه المُتكدِّر. وفي النهاية طرحَ الآلةَ أرضًا
وانغمَس في وصفٍ مفصَّلٍ لحظوظه العاثِرة.
الأمرُ كُلُّه آخذٌ في السوء يا واطسون؛ الأمرُ كلُّه يتَّجِه إلى أسوء ما يُمكن أن يبلُغه. لقد »
أظهرتُ وَجهًا صفيقًا أمام لستريد، لكنْ، لعَمْري، إنني أعتقِد أنَّ الرجل يَمضيهذه المرَّة في
المَسار السليم بينما نسلُك نحن الطريق الخاطئ. إنَّ مَلكاتي الحَدْسية كلها تسير باتجاهٍ
والحقائقُ جميعها تسير باتجاهٍ آخر، وأخشىكثيرًا ألَّا تكون هيئاتُ المُحلَّفين البريطانية قد
أحرزتْ بعدُ تلك الدَّرجةَ من الذكاء بحيثُ يُعطون الأولويةَ لنظريَّاتي على حساب حقائق
«. لستريد
«؟ هل ذهبتَ إلى مُقاطعة بلاكهيث »
نعم يا واطسون، لقد ذهبتُ إلى هناك، واكتشفتُسريعًا جدٍّا أنَّ الراحِل المأسوفعليه »
أولديكر كان وغدًا كبيرًا. كان الوالِد قد خرَج للبحث عن ابنه، وكانت الأم في البيت، وهي
امرأةٌ ضئيلة البِنية، مُفرطة المشاعر، زرقاء العينَين، ترتجِفُ خَوفًا وسُخطًا. وبالتأكيد،
ما كانتْ لتُقِرَّ ولو حتى باحتماليةِ أن يكون ابنُها قد أذنب، لكنها لمْ تُبدِ دهشةً ولا أسفًا
على مصير أولديكر، بل على العكستمامًا، لقد تكلَّمتْ عنه باحتقارٍ شديد لدرجةِ أنها كانتْ
— ودون وعيٍ منها — تُعزِّزُ دعوى الشرطة ضدَّ ابنها إلى حدٍّ بعيد؛ لأنه، بالتأكيد، لو كان
ابنُها قد سمِعها تتكلَّم عن الرجل بهذه الطريقة لَأوجَدَ هذا فيه نُزوعًا إلى الكراهية والعُنف.
لقد كان أكثرَ شبهًا بالقِرد الخبيث الماكِر منه بالإنسان، وكان دائمًا كذلك، » : فلقد قالتْ
«. منذ أن كان شابٍّا
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.