Darebhar

شارك على مواقع التواصل

لم تتوقع جميلة بأن الدموع ستتغلب عليها وأنها لن تستطيع السيطرة على نفسها أثناء مكالمتها الهاتفية مع صديقتها المقربة هبة، فهي الصديقة الوحيدة لديها منذ أن عادت للإقامة في بلدها الأم، فقد وُلدت وترعرعت في إحدى الدول العربية التي تتسم الحياة فيها بشتى أنواع الرفاهية. قضت فيها طفولتها مع أخيها نادر الذي يكبرها بعامين إلى أن بلغا سن المراهقة لينضم للأسرة عضو جديد فارق العمر بينه وبين جميلة أحد عشر عامًا، فكان هذا الأخ الصغير (مهاب) بمثابة شلال من الحلوى قد تدفق من السماء فجعل لحياة الأسرة طعمًا لذيذًا بعد سنوات طويلة من الملل والرتابة في ظل غياب روحاني للأب الذي كاد أن يوصلها هي ونادر إلى مرحلة يمكن وصفها باليأس الممنهج.
تنبهت لصوت صديقتها على الهاتف يتزامن مع دموعها التي تنساب على خديها بهدوء كما تسير حياتها الآن مع والدتها وأخويها، حيث ظل الأب في عمله في ذلك البلد.
"يبدو أن هناك مشكلة في شبكة الاتصال".. قالت هبة.
"نعم، ربما يكون كذلك".. أجابتها جميلة.
"إذن سأنهي المكالمة معك الآن ونستكمل حديثنا في وقت لاحق".
"تمام.. سوف أنتظركِ في أي وقت تشائين".
أنهت جميلة الحديث مع صديقتها لكنها لم تستطع أن تثني عقلها عن التفكير فيه، استلقت على سريرها ونظرت إلى المصباح المتدلي من السقف تتحرى فيه ألوان قوس قزح التي تظهر بحجم حبات أرز متلاصقة كل حبة تحمل لون يثير البهجة، لكنها غاصت بين تلك الألوان بالتفكير فيما كانت تسمعه من صديقتها عن يومها الذي قضته مع والدها بمفردها دون وجود أحد من إخوانها، فقد كانت تحكي لها تفاصيل هذا اليوم وهي تحلق كالفراشة المتباهية بجمالها في كل الأجواء.. حديث طويل مليء بأمور ومواقف لا تدري جميلة كيف تبدو مشاعر فتاة في عمرها عندما تعيشها مع أبيها في الحقيقة.. وكيف لها أن تعرف ذلك أو أن تجاري صديقتها في حديثها وتشاركها هذه الفرحة التي لم تمر عليها قط! بينما تحاول في كل ثانية أن تتظاهر بذلك لكنها فشلت رُغمًا عنها.
سافرت جميلة بذكرياتها إلى تلك البلد الذي شهدت ما يفترض أن تكون أجمل سنوات عمرها، خاصة ذلك اليوم أول أيام عيد الأضحى المبارك وهي في سن السابعة، متعة انتظار أن يشع ضوء الشمس لتذهب الأسرة للصلاة في المسجد الذي يقع أسفل البرج شاهق الارتفاع حيث تسكن، فكانت ترى المصليين كطوابير نمل تصطف بنظام محكم، وكانت الأم التي بدت على وجهها علامات الامتعاض تجهز نفسها للصلاة بعد أن ألبست أولادها ملابس مخصصة لتلك المناسبة وهي تحاول جاهدة إخفاء ملامحها عنهم. بصوت تشوبه مسحة من الإحباط نادت على زوجها تحاول إيقاظه حتى لا تفوته تلك الأوقات الإيمانية التي تجدد سكينة النفس وتبعث فيها الطمأنينة، فكانت تشتم في تلك اللحظات رائحة أسرتها التي تركتها منذ سنين طويلة وتسترجع معها هي وأخيها ذكريات دافئة وهي تمسك بأيديهما أثناء رحلة الهبوط الطويلة في المصعد حتى ينضموا لصفوف المصليين.
"غير عابئ بنداء أمي".. همست جميلة وهي غارقة في أفكارها "لماذا كان أبي هكذا؟ كسابقيه ولاحقيه كان هذا اليوم المقدس لدى الجميع إلا أسرتنا بسبب شخصية أبي غير المبالية للتفاصيل التي تضفي رونقًا للحياة، فكان أبي يرى جمال هذه المناسبات في طبق طعام معد بتعب من يد أمي أو مشاهدة فيلم كوميدي وهو يتناول كميات هائلة من المكسرات مع كوب من المياه الغازية بالثلج.. أما نحن، وما يسعدنا أو يضايقنا ومدى قسوة ما نشعر به ونحن نذهب لأداء صلاة العيد دون (أب) كبقية أبناء الجيران اللذين كانوا من مختلف الجنسيات لكنهم يجتمعون على نفس العادات الأصيلة، فلم يشغل ذلك باله ولو لدقائق. كان لجميع الأطفال من حولنا جداري أمان يمرحون بينهما ابتهاجًا بالعيد، وكانت أمي كشجرة وحيدة في العراء تحاول أن تنسج من أغصانها سياج منيع يكسوه الحب والعطاء لتحيطنا به، تجاهد لتعويضنا عن إخفاقات أبي المتتالية إلى أن أصبحت أسلوب حياة عند أسرتنا.
بعد صراخه معلنًا أنه لم ينزل للصلاة معنا فهي على حسب قوله ليست بفريضة، لم نجد سبيلًا سوى النزول بدونه، كالعادة كنت أنا وأخي نحاول إلهاء أمي عن التفكير في أفعال والدي فنشغلها بحكاياتنا عن الأماكن التي نخطط لزيارتها في العيد حتى نعود لأصدقائنا وفي جعبتنا بعض المغامرات التي ربما نستطيع بها سد تلك الفجوة بسبب تخاذل أبي في أمور حياتنا، فكانت أمي سرعان ما تندمج معنا وتخلق من المواقف الصغيرة عبر وحكم لا تمل في أن تتلوها علينا دومًا. كنت أشعر وهي تحدثني أنا ونادر بأنها ترى العالم كله فينا، بل ترانا الكون بأكمله، فلم تكن من هؤلاء النساء اللواتي يعبئن لعدم مبالاة أزواجهن، لكنها كانت تخشى من تبعات غياب دور الأب في حياتنا وهي التي نشأت في وجود أب لم يتهاون يومًا واحدًا في مسؤولياته تجاه أبنائه. كنا نرى بريق فائق اللمعان في عين أمي وهي تستشهد بمواقف جدي معها ودعمه لها وزرع الثقة فيها منذ طفولتها، كانت تريد أن تقول لنا وبالأخص لأخي أن دور الرجل لا يقتصر أبدًا على توفير احتياجات أسرته المادية، فلم يكن جدي -رحمه الله- ميسور الحال لكنه كان في أعين أولاده الأب المثالي الذي لا يمكن مقارنته بأي رجل آخر، وهذا بالتحديد ما كانت تريد أمي لنا أن نفهمه جيدًا.
وصلنا إلى ساحة المسجد المخصصة للنساء وذهب أخي لساحة الرجال بعد أن اتفق معنا على مكان محدد نتقابل فيه بعد الصلاة، أجواء رائعة ما زلت أذكرها كما أذكر دموعي التي سجنتها بداخلي في ذلك الوقت حتى لا تنزعج أمي، كنت اتمنى بعد انتهاء الصلاة أن أجري على أبي وأحتضنه وهو يقبلني ويهنئني بالعيد كما فعل جميع الأطفال. جاء نادر إلينا وأخذنا كيس الحلوى من أمي وقمنا بتوزيعه على المصلين كما عودتنا ونحن نبارك بعضنا بالعيد بكل لغات العالم، ثم توجهنا لتناول الفطور بإحدى المقاهي الشهيرة والقريبة من البيت. طلبت أمي قهوتها المفضلة مع الكرواسون، وطلبت أنا وأخي الشوكولاتة المثلجة مع حلوى التشيز كيك. لحظات السعادة الغامرة التي كنا نقضيها ثلاثتنا كانت تشعرني بأنه لا يوجد في العالم سوانا، فقلب أمي الكبير يمكنه أن يستوعب سكان الكرة الأرضية. كنت دائمًا ما أردد عبارات الشكر في صمت وأنا أراها تعطينا حبًا لا حدود له دون تأفف أو ضجر، قضينا أكثر من الساعتين بين تناول الطعام وسرد الحكايات واسترجاع الذكريات، والمؤسف أن أبي لم يرد ذكره في أيًا من ذلك. قررنا العودة للمنزل لنحصل على قدر من الراحة ونرى ماذا سنفعل باقي اليوم لاستكمال الاحتفال بالعيد، كنا نفتح باب شقتنا بتخوف وحذر خشية أن يكون أبي قد استيقظ فيمطرنا بوابل من التوبيخ دون أسباب منطقية كالمعتاد، لكننا وجدناه غارقًا في نومه ولا يدري إذا ما كنا نزال في أول أيام العيد أم أن العيد كله قد انتهى.
دخلت إلى غرفتي وأمسكت بدفتري، أردت أن أكتب تهنئة لأسرتي وأزينها بألواني المفضلة وأعطيها لكل فرد منهم ونحن نتناول الغداء، تراجعت وأنا اكتب لأبي (كل عام وأنت بخير) لا أشعر بأي رغبة في قول ذلك له فكتبت (إلى أبي.. أتمنى أن تأتي معنا العام القادم للصلاة لترى فرحة العيد في عيون الأطفال وهم يعانقون آباءهم، أتمنى أن تفعل ذلك حقًا لعلي أجد مبررًا بداخلي كي أسامحك) انتبهت جميلة على صوتها وهي تردد تلك الكلمات من الماضي فابتسمت وقالت: "لا أعلم إن كان ذلك ممكنًا أم لا.. فالممكن يصبح مستحيلًا بالتخاذل يا أبي".
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.