مضت أعوام على وقوع الأحداث التي سأتحدَّث عنها، ومع ذلك ستجدونني ألُِمح إليها على
استحياء. لزمنٍ طويل ظلَّ إعلان هذه الحقائق، حتى مع تَوخِّي أقصى درجات الاحتياط
والتحفُّظ، في عِداد المُستحيل؛ أما الآن وقد صارت الشخصية الرئيسية المَعنيَّة بتلك الأحداث
بعيدةً عن طائلة قانون البشر، فمن المُمكِن أن تُروى الحكاية مع الحذْف المُناسِب لبعض
التفاصيل بحيث لا يُساء إلى أيِّ أحد. إن هذه الحكاية تُوثِّق تجربةً فريدة للغاية في المَسيرة
الِمهنية لكلٍّ منَّا، أنا والسيد شيرلوك هولمز. وسوف يلتمِس القرَّاء لي العُذر إن أخفيتُ
التاريخ أو أيَّ معلومةٍ أخرى تدلُّهم على الواقعة الفعلية.
كانت الساعة تُشير إلى السادسة تقريبًا، حين عدتُ أنا وهولمز من إحدى جولاتنا
المسائية ذاتَ مساءٍ شتويٍّ بارد سادَ فيه الصقيع. حين زاد هولمز من إضاءة المصباح، وقَع
ضوءُه على بطاقةٍ كانت على الِمنضدة؛ رمَقها هولمز بنظرةٍ سريعة، ثم ألقاها على الأرض
وهو يَصيح صَيحةَ اشمئزاز. التقطتُها من الأرضوقرأتُ المكتوب عليها:
تشارلز أوجستس ميلفيرتون،
أبلدور تاورز،
هامبستيد.
وكيل.
«؟ من هذا » : سألتُه قائلًا
إنه أسوأ رجُلٍ في لندن. هل » : فأجابَني هولمز وهو يجلِس مادٍّا ساقَيه أمام الِمدفأة
«؟ هناك أيشيءٍ على ظَهْر البطاقة
مغامرة تشارلز أوجستس ميلفيرتون
«. سآتي لزيارتك في الساعة السادسة والنصف.سيإيه إم » : فقلبتُها وقرأتُ المكتوب
إنه على وَشْك أن يأتي. هل ينتابُك يا واطسون شعورٌ مُتسلِّل » : ردَّ هولمز في امتِعاض
بالانقباضحين تقِف أمام قفَصالأفاعي في حديقة الحيوان، وترى تلك المخلوقات الزَّلِقة
الزاحِفة السامَّة بعيونها الميِّتة ووجوهها الشريرة المُفلطَحة؟ حسنًا، هذا هو ما يَعتريني
عند رؤية ميلفيرتون. لقد تعاملتُ خلال مَسيرتي مع خمسين قاتلًا، لكن حتى أسوَؤهم لم
يُسبِّب لي الشعور بالنُّفور الذي أحُِسُّه تِجاه هذا الشخص. ورغم ذلك لا أستطيع التملُّص
«. من العمل معه. في الحقيقة، إنه قادِم بناء على دَعوتي له
«؟ لكن من هو »
سأخبِرُك يا واطسون. إنه مَلِك كلِّ المُبتزِّين. فليكن لله في عون الرجال، بل والنساء »
أحوَج منهم إليه، فالذين تقَع أسرارُهم وسُمعتُهم تحت سطوَة ميلفيرتون؛ سوف يبتزُّهم
ويبتزُّهم حتى يَستنزِفهم تمامًا. وهو يفعل كلَّ ذلك بوجهٍ مُبتسِم وقلبٍ من حَجَر. إنه
عبقريٌّ فيما يفعله، وكان من المُمكِن أن يترُك بصمَته في مِهنةٍ أكثر احترامًا. وهذا هو
الأسلوب الذي يتَّبِعه: إنه يُعلِن عن استعداده لدفْع مبالغَ طائلةٍ مُقابِل خطابات تفضَح
ذَوي الثروة أو الجاه. وهو لا يحصُل على هذه الأشياء من خدَمٍ أو وَصيفاتٍ خَوَنة فحسْب،
ولكن كثيرًا ما تصِل إليه أيضًا عن طريق أشرارٍ أدعِياء اكتسبوا ثقةَ سيِّداتٍ حسَنات الظنِّ
وحُبَّهن. وهو لا يبخَل عن ذلك بمال؛ فقد عرفتُ أنه دفَع لخادمٍ سبعمائة جُنيه مُقابِل
رسالةٍ من سَطرَين، ونتج عن ذلك انهيار أسرةٍ نبيلة. لا يجري حدَثٌ في المدينة دون أن
ينتهي خبرُه إلى ميلفيرتون، وهناك مئات الأشخاص في هذه المدينة الكبيرة الذين تَمتقِع
وجوههم بِمجرَّد سَماع اسمه. لا يعلم أحد أين قد تصِل قبضته؛ فهو يبلُغ من الثراء
والخُبث بحيث لا يكتفي بما يسدُّ رَمَقه. قد يحتفِظ ميلفيرتون ببطاقةٍ ما تَرجِع إلى سنواتٍ
مضَتْ حتى يطرَحها حين يكون الرِّهان على الفَوز قويٍّا. لقد قلتُ إنه أسوأ رجلٍ في لندن،
وأتساءل: كيف يُمكِن المُقارَنة بين مُجرِم يضرِب زميله بِهراوةٍ في فوْرَة غضبٍ وهذا الرجل
الذي يُعذِّب الأرواح ويعتَصِرالأعصاب بمَنهجيَّةٍ وعلى مَهَل، حتى يزيد من ثروته المُكدَّسة
«؟ بالفعل
نادرًا ما سمعتُ صديقي يتحدَّث بهذه المشاعِر الحادَّة.
«. لكن لا بُدَّ أنَّ هذا الشخصليس بعيدًا عن قبضة القانون » : قلتُ له
لا شكَّ في ذلك من حيث المبدأ، لكنَّه غير مُمكِن عمليٍّا. فعلى سبيل المثال، ما الذي »
تَجنيه سيِّدة من إدخاله السِّجن بضعةَ أشهُرٍ إن كانت عاقِبةُ ذلك فضيحةً مُحقَّقة لها؟
هكذا لا يَجرؤ ضحاياه على الانتقام. إن ابتزَّ شخصًا بريئًا، فلا بُدَّ بالفِعل أن يقَع في
«. قبضتِنا؛ لكنه خبيث مثل الشيطان. لا، لا؛ يجِب أن نتوصَّل إلى طُرقٍ أخرى لمُحاربَته
«؟ ولماذا سيأتي هنا »
لأن ثمَّةَ عميلةً بارِزة وضعَت قَضيَّتَها الجَديرة بالشَّفقة بين يدي؛ إنها الليدي إيفا »
براكويل، أجمل فتاةٍ تحضر أولى حفَلاتها العامَّة المَوسِم الماضي. من المُقرَّر أن تُزَفَّ إلى
إيرل دوفركورت خلال أسبوعين، وذلك الشرير لدَيه عدَّة خِطابات حمقاء — حمقاء فحسْب
يا واطسون، لا شيء سوى ذلك — كتبتْها الفتاة لشابٍّ مُفلِس يملِك ضَيعةً في الريف، تلك
الخطابات كفيلة بإفساد الزَّواج. سوف يُرسِل ميلفيرتون الخطابات للإيرل إن لم يُدفَع له
«. مبلغٌ كبير من المال. وقد كُلِّفتُ بمُقابَلَته والوصول معه إلى أفضل اتفاقٍ مُمكِن
في تلك اللحظة سمِعتُصخَبًا وجَلبة في الشارع، وحين نظرتُ رأيت عربةً فخمة يَجرُّها
فَرَسان، وقد انعكَسَت أضواء المصابيح الوهَّاجة على الأعْجاز اللامِعة للفرسَين النَّبيلَين ذَوَي
اللَّون الكستنائي. فتح الخادِم باب العَربة، فترجَّل منها رَجلٌ قصيرٌ سمين مُتلفِّع بمِعطفٍ
طويل من صُوف الأستراخان الخَشِن. وبعد دقيقةٍ كان في الغُرفة.
كان تشارلز أوجستس ميلفيرتون رجلًا في الخمسين من العمر، ذا رأسٍ كبيرٍ مُفكِّر
ووجهٍ مُستديرٍ مُمتلئٍ خالٍ من الشَّعر، وابتسامةٍصفراءَ لا تُفارِق شفَتَيه، وعَينَين رَمادِيَّتَين
حادَّتَين تلمعانِ من وراء نظارةٍ عريضةٍ ذاتِ حوافَّ ذهبية. بدا على مَظهرهشيءٌ من نزْعة
شخصية السيِّد بيكويك للخَير، لا يُفسِدها إلا خِداع ابتِسامته الثابتة والبريق القاسي في
هاتَين العَينَين المُضطربتَين الثاقِبتَين. كان صوته ناعمًا ومُهذَّبًا مثل طلْعته، وحين تقدَّم
مادٍّا كفٍّا مُمتلئةً صغيرة، هامسًا بأسَفه على عدَم لَحاقِه بنا في زيارته الأولى. تجاهل هولمز
الكفَّ الممدودة ونظَر إليه بوجهٍ جامِد. اتَّسعَت ابتسامة ميلفيرتون؛ ثم هزَّ كتِفَيه، وخلَع
مِعطفه، وطواه بتأنٍ شديد فَوق ظَهْر المقعد، ثم اتَّخذ مَجلِسه.
ماذا عن هذا السيد؟ هل سيتكتَّم على الأمر؟ هل يَجوز أن نتحدَّث » : قال مُشيرًا إليَّ
«؟ أمامه
«. دكتور واطسون صديقي وشريكي »
«. جيدٌ جدٍّا يا سيد هولمز. لم أعترضإلا لصالِح موكِّلِتك؛ فالمسألة حسَّاسة جدٍّا »
«. الدكتور واطسون عرَف الأمر بالفِعل »
يُمكِننا إذن أن نشرَع في العمل. لقد قُلتَ إنك تنوب عن الليدي إيفا؛ فهل فوَّضتْك »
«؟ لتقبَل شروطي
«؟ وما هيشُروطك »
«. سبعة آلاف جنيه »
«؟ والبديل »
يا سيِّدي العزيز، يؤلِمُني أن أنُاقِش الأمر؛ لكن إن لم يُسدَّد المَبلَغ في الرابع عشر »
قال ذلك وقد بدا الرِّضا على «. من الشهر، فلن يكون هناك زَواج في الثامن عشر بالتأكيد
ابتسامته غير المُحتَملة أكثر من ذي قبل.
تفكَّر هولمز قليلًا.
يبدو لي أنك تتعامل مع الأمور بثقةٍ زائدة. لا شكَّ أنني على مَعرفةٍ » : ثم قال أخيرًا
بمُحتوى هذه الخطابات. وبالتأكيد ستفعل عَميلتي ما أشُير عليها به. سأشُير عليها بأن
«. تُخبِر زَوجَها المُستقبليَّ بالقصَّة كاملةً وأن تثِقَ في سماحته
هنا ضحك ميلفيرتون ضحكةً خافِتة.
«. يبدو أنك لا تعرِف الإيرل » : علَّق قائلًا
وبدا لي واضحًا من النظرة الحائرة على وَجْه هولمز أنه كان يعرِفه.
«؟ ما الضَّرَر الذي تحتويه هذه الخطابات » : سأله
إنها مُفعَمة بالمشاعر، مُفعَمة بالمشاعر جدٍّا؛ فالليدي كانت كاتبةَ » : أجاب ميلفيرتون
خطابات ساحرةً. إلا أنَّ بإمكاني أن أؤكد لك أنها لن تَروق للإيرل دوفركورت. لكن ما دُمتَ
تعتقد عكس ذلك، فلنتوقَّف عن الخَوضفي الأمر عند هذا الحد؛ فهي مسألة عملٍصِرف.
إن كُنتَ ترى أنَّ من مصلحة موكِّلتك أن تصِل هذه الخطابات إلى يد الإيرل، فسيكون من
ثم نهَضوالتقَط مِعطفه الصُّوفي. «. الحماقة أن تدفَع مبلغًا ضخمًا كهذا لاستِعادتها
امتقَع وجه هولمز من الغضب والإحساس بالخِزي.
انتظِر قليلًا. لا تتعجَّل. لا شكَّ أنَّنا لن نألوَ جهدًا لتفادي الفضيحة » : أجاب هولمز قائلًا
«. في هذه المسألة الحسَّاسة
هنا عاد ميلفيرتون إلى مقعده.
كنتُ مُتأكدًا أنك ستنظُر للأمر من هذه » : وقال بصوتٍ خفيض ينمُّ عن الاطمئنان
«. الزاوية
لكن الليدي إيفا ليست سيِّدةً ثَريَّة. أؤكد لك أن ألفي » : استأنف هولمز كلامه قائلًا
جُنيه سوفتستنزِفمَوارِدها المالية، وأن المبلَغ الذي طلبتَه يفُوق مَقدِرتها تمامًا؛ لذا أرجو
منك التوسُّط في طلباتك، وأن ترُدَّ الخطابات مُقابل السِّعر الذي أحُدِّده، وأؤكد لك أنه أعلى
«. ما يُمكِنك الحصول عليه
اتَّسعَت ابتسامة ميلفيرتون ووَمضَت عيناه في سُخرية.
أدُرِك أن ما تقوله عن موارد الليدي المالية حقيقي، لكن في نفس » : ردَّ ميلفيرتون
الوقت، لا بدَّ أن تعترِف أن زَواج أيِّ ليدي هو الوقت الملائم تمامًا ليبذُل أصدقاؤها وأقاربها
قليلًا من الجُهد لأجلِها، وقد يتردَّدون بشأن اختيار هديَّة زفاف مقبولة؛ لذا دَعْني أطمئنْهم
أن هذه الحُفْنة الصغيرة من الخطابات ستُدخِل عليها البَهجة أكثر من كلِّ الشمعدانات
«. وصُحون حِفظ الزُّبد التي في لندن
«. هذا مُستحيل » : قال هولمز
وَيْحي، وَيْحي، كم هذا » : صاح ميلفيرتون وهو يُخرِج مُفكرة جيب كبيرة الحجم
مؤسف! لا أملك دَفْع الاعتقاد بأنَّ السيِّدات يفتقِرنَ إلى الحِكمة عندما يَمتنِعن عن بذْل
إنها تخصُّ » . ورفع رسالةً صغيرة تحمِل شعار نبالة على الظَّرف «! الجُهد. انظر إلى هذا
… حسنًا، ربما ليس من العدل أن أبوح بالاسم قبل صباح الغد. لكن في ذلك الوقت
ستكون الرسالة في يد زَوج الليدي. وكل ذلك لأنها ترفُض توفير مبلغٍ زهيد رغم أنها
تستطيع ذلك باستبدال ألماساتها بأخرى مُزيَّفة. كم هذا مُؤسِف! هل تذكُر النهاية المُفاجئة
لخطوبة صاحِبة المقام الرفيع، الآنسة مايلز، والكولونيل دوركينج؟ قبل الزفاف بيومين
للإعلان عن إلغاء الأمر. ولماذا؟ الأمر يَعسُر « مورنينج بوست » فقط نُشرَت فقرة في صحيفة
تصديقه، لكنَّ مَبلغًا تافِهًا قدْره ألفٌ ومائتا جُنيه كان من المُمكِن أن يُسوِّي المسألة. أليس
هذا مُؤسفًا؟ وها أنا ذا أجِدُك رجلًا حكيمًا لكنك مُتردِّد إزاء المَبلَغ، بينما مُستقبَل مُوكِّلتك
«. وشرَفُها على المَحك. إنك تُثير دهشتي يا سيد هولمز
ما قلتُه لك حقيقي. المال ليس مُتوافرًا؛ من الأفضل لك قطعًا أن تأخُذ » : أجابه هولمز
المبلَغ المعقول الذي أعرِضه عليك بدلًا من تدمير حياة هذه السيدة، وهو ما لن يُفيدك بأي
«؟ طريقة. أليس كذلك
أنت مُخطئ في ذلك يا سيد هولمز. سوف أستفيد من الفضيحة إلى حدٍّ كبير؛ حيث »
إن لديَّ ثماني أو عشرحالاتٍ مُماثِلة في مرحلة التفاوُض. فإن شاع بينهم أنَّني جعلتُ من
«؟ الليدي إيفا عِبرةً لمن يَعتبِر فسأجِدهم كلهم أكثر استعدادًا للتفاهُم. هل فهمتَ قصدي
قفز هُولمز من مقعده.
أحطْ به من الخَلفيا واطسون! لا تترُكه يُفلِت منك! الآن يا سيِّدي، دعنا نرَ مُحتويات »
«. هذه المُفكرة
انسلَّ ميلفيرتون فيسرعةٍ كالفأر إلى جانِب الغُرفة، ووقَف مُولِّيًا ظهرَه للحائط.
سيد » : قال هو يُقلِّب مِعطفه كاشفًا عن عقِب مُسدَّس كٍبير، برَز من الجَيب الداخلي
هولمز، سيد هولمز، كنتُ أتوقَّع أن تأتي بشيءٍ جديد. ما أكثر ما استُخدِم هذا الأسلوب!
لكن ما جدواه؟ أؤكد لك أنَّني مُدجَّج بالأسلحة، وعلى أتمِّ الاستعداد لاستِخدامها؛ لعِلمي
أن القانون سيقِف في صفِّي. كذلك فإن اعتقادك أنني قد آتي بالخطابات في دفترٍ إلى هنا
خاطئ تمامًا. لن أقُدِم على تَصرُّفٍ بهذا الغباء. والآن أيها السادة، يَنتظرني لقاء أو اثنان
ثم تقدَّم ميلفيرتون والتقَط مِعطفه واضعًا «. هذا المساء، والطريق طويل حتى هامبستيد
يدَه على مُسدَّسه، واستدار نحو الباب. رفعتُ أحد المقاعد لكن هولمز هزَّ رأسه؛ فأنزلتُه مرةً
أخرى. غادَر ميلفيرتون الحُجرة بانحناءةٍ وابتسامةٍ ولَمَعانٍ في عينيه، وبعد ذلك ببضع
لحَظات سمِعْنا صوت باب العَربة عند صفْقِه وقَعقَعة العَجَلات، وهو يَمضيبعيدًا.
جلس هولمز بلا حَراك بالقُرب من الِمدفأة، داسٍّا يديه في جَيبَي سرواله، ساندًا ذَقنه
فوق صدره، ومُثبِّتًا عينَيه على الجَمر المُشتعِل. ظلَّ صامتًا وساكنًا نصف ساعة، ثم هبَّ
واقفًا كمن حزَم أمره ودخل غُرفة نَومه. بعد ذلك بقليلٍ خرج مُتنكرًا في شخصية عاملٍ
شابٍّ ماجِن، ذي لِحيةٍصغيرة وخُيَلاء وقد أشعل غليونه الفَخَّاري عند المصباح قبل أن ينزِل
«. سوف أعود لاحقًا يا واطسون » : إلى الشارع. قال لي هولمز قبل أن يَختفي في جُنْح الليل
أدركتُ أن هولمز قد بدأ حملته ضِدَّ تشارلز أوجستسميلفيرتون؛ لكنَّني لم أتخيَّل الأسلوب
الغريب الذي اتَّخذتْه تلك الحملة.
ظلَّ هولمز أيامًا غاديًا ورائحًا في أي وقتٍ من اليوم على تلك الهيئة، لكنَّني لم أعرِف
شيئًا عما كان يفعله، بخِلاف أنه كان يُمضي هذا الوقت في هامبستيد، وأن هذا الوقت
لم يَضِعْ هباءً. مع ذلك، عاد أخيرًا، ذات مساءٍ هائجٍ عاصِف، صفَرَت فيه الرياح ورجَّت
النوافذ، من آخر رَحَلاته الاستِكشافية، وبعد أن خَلَع زِيَّه التَّنَكريَّ جلسأمام الِمدفأة وأغرَق
في الضحك الصامت على طريقته المُتكتِّمة.
«؟ هل تَعتبرني من الرجال المُقبِلين على الزَّواج يا واطسون »
«! بالطبع لا »
«. سيكون من المُثير للاهتمام إذن أن تعلَم أنَّني عقدتُ خِطبتي »
«… صديقي العزيز! مبارك ال »
«. على خادِمةٍ في مَنزل ميلفيرتون »
«! يا للهول يا هولمز »
«. أردْتُ الحصول على معلومات يا واطسون »
«؟ لكنك تجاوزتَ الحدود بالتأكيد »
كانت خطوةً ضرورية للغاية. ادَّعيتُ أنني سبَّاك ذو مكاسب مُتنامِية، واسمي »
إسكوت. لقد خرجتُ للسَّيْر معها مساء كلِّ يوم، وتبادَلْنا الحديث. يا للهول، يا لها من
أحاديث! على أي حال، حصلتُ على كلِّ ما أردتُه، وصِرتُ أعرِف منزل ميلفيرتون كما أعرف
«. كفَّ يدي
«؟ لكن ماذا عن الفتاة يا هولمز »
هزَّ هولمز كتِفَيه في عدم اكتِراث.
ما باليد حِيلة يا عزيزي واطسون. يجِب أن تَستغلَّ الفُرَصالمُتاحة أفضل استغلالٍ »
حين يكون هذا هو الرِّهان. لكن يَسرُّني أن أقول إن لديَّ غريمًا بغيضًا لن يَتوانى عن أن
«! يأخُذ مكاني في اللَّحظة التي أدُير فيها ظهري. يا لها من ليلةٍ بديعة
«؟ هل تُحبُّ هذا الجو »
«. إنه مناسِب لِما أعتزِمه؛ فأنا أنوي السَّطوَ على منزل ميلفيرتون الليلة يا واطسون »
انقطعَت أنفاسي لوهلةٍ وسرَتِ البرودة في جسدي عند سَماع كلماته التي قالها ببطءٍ
وبعزمٍ نافِذ. وكما تكشِف ومضةُ البرْق ليلًا كلَّ تفاصيل مَشهدٍ واسعٍ في لحظةٍ واحدة،
تخيَّلتُ في لمحةٍ واحدة كلَّ النتائج المُحتمَلة لهذا التصرُّف؛ التحقيقات وإلقاء القبض على
هولمز وانتهاء مَسيرتِه المُشرِّفة بفَشلٍ وخِزيٍ يتعذَّر إصلاحُهما، ووقوعصديقي نفسه تحت
رحمة ميلفيرتون البغيض.
«. تروَّ فيما أنت مُقدِم عليه يا هولمز بحقِّ السماء » : صحتُ قائلًا
لقد فكرتُ في الأمر مليٍّا يا صديقي العزيز. إنني لا أندفِع في تصرُّفاتي مُطلقًا، ولا »
ألجأ إلى طريقٍ شاقٍّ بل وخطير حقٍّا إن كان غَيره مُمكنًا. لننظر إلى الأمر نظرةً واضحة
وعادلة. أعتقد أنك مُعترِف أن التصرُّف، وإن كان إجراميٍّا من حيث المبدأ، مُبرَّر أخلاقيٍّا. لن
أسطوَ على منزله إلا لآخُذ مفكِّرة الجَيب الخاصَّة به بالقوَّة؛ إنه التصرُّف نفسه الذي كنتَ
«. على استعدادٍ لمُساعَدَتي فيه
أدرتُ الأمر في رأسي.
أجل، إنه جائز أخلاقيٍّا ما دام الهدَف هو ألَّا نأخُذ إلَّا الأشياء التي تُستخدَم » : ثم قلت
«. في أغراضٍغير قانونية
بالضبط. حيث إنه مُبرَّر أخلاقيٍّا؛ فعليَّ ألَّا ألتفِتَ إلَّا للخطَر الذي سأتعرَّضله. لكن »
لا شكَّ أن الرجل النبيل يجِب ألَّا يُلقي بالًا لهذا الأمر حين تكون هناك سيِّدة في حاجةٍ ماسَّة
«. للمُساعدة
«. سوف تُخالِف مبادئك »
حسنًا، هذا جُزء من المُخاطرة. لا تُوجَد طريقةٌ أخرى لاستِعادة هذه الخطابات؛ »
فالسيِّدة السيئة الحظِّ ليس لدَيها المال، ولا يُمكِنها ائتمان أحَدٍ من أهلها على السِّر. وغدًا
اليوم الأخير في المُهلة، وما لم نحصل على الخطابات الليلة فسيُنفِّذ هذا الشرير تَهديده
ويُدمِّر حياتها؛ لذا ليس أمامي إلَّا أن أترك عَميلتي لتَلْقى مصيرها أو ألعبَ بهذه الورقة
الأخيرة. سأسُِرُّلك بالأمر يا واطسون، إن الأمر بمنزلة مُبارَزة على رِهانٍ بيني وبين المدعو
ميلفيرتون. وقد تفوَّق عليَّ في الجولة الأولى كما رأيتَ؛ لكن احترامي لنفسيوسُمعَتي يُحتِّمان
«. عليَّ أن أصُارع حتى النهاية
«؟ حسنًا، إن الأمر لا يَروق لي؛ لكن أعتقِد أنه لا مفرَّ منه. متى سنبدأ » : قلتُ له
«. لن تأتي معي »
لن تذهب إذن. أقسِم لك بشَرَفي — وأنا لم أحنَث بهذا اليمين قطُّ في » : فأجبتُه قائلًا
حياتي — إنني سوف آخُذ عربةَ أجرةٍ مُتَّجهًا إلى قسم الشرطة مُباشرةً وأشي بك ما لم
«. تسمَح لي أن أشارِكك هذه المُغامرة
«. لن تستطيع مُساعَدتي »
كيف لك أن تعرِف ذلك؟ فأنت لا تعلَم ما الذي قد يحدُث. لقد عقدتُ عزمي، على أي »
«. حال؛ فلستَ الوحيد الذي لدَيه كِبرياء وسُمعة
بدا الضِّيق على هولمز، لكنَّه بشَّ في النهاية وربَّت على كَتِفي.
حسنًا، حسنًا يا صديقي العزيز، ليكن إذن. لقد تقاسَمنا نفس الغُرفة لسنوات، »
وسيكون من المُمتِع أن ينتهي بنا الحال في نفس الزنزانة. أتدري يا واطسون، أنا لا أبُالي
بالاعتِرافلك أنه طالَما راودَتْني فكرة أنه كان بإمكاني أن أصير مُجرمًا فائق الكفاءة. وهذه
ثم أخرج هُولمز من أحد الأدراج حقيبةً أنيقة وصغيرة «! فُرصة عُمري في ذلك الصَّدَد. انظر
هذه عدةٌ حديثة من الطراز الأول » . من الجِلد، وفتحها مُستعرِضًا عددًا من الأدوات اللامِعة
للسَّطو، تضمُّ عتلةً صغيرةً مَطليَّة بالنَّيكل، وقاطِعَ زُجاجٍ ماسيَّ الطرف، ومفاتيح قابلةً
للاستخدام في مُختلِف الأقفال، وكلَّ ما يَستدعيه رَكْب الحضارة من مُخترَعاتٍ حديثة.
وها هو كذلك المصباح الذي يُمكِن تغطية ضوئه. كلُّ شيء جاهِز. هل لديك زَوجان من
«؟ الأحذِية الكاتِمة الصوت
«. لديَّ حذاء تِنِس ذو نعلٍّ مطاطي »
«؟ ممتاز. وقِناع »
«. يُمكِنُني أن أصنع زَوجين من الحرير الأسود »
أرى أنَّ لديك نزعةً قويَّة نحو هذا النَّوع من الأشياء. جيدٌ جدٍّا؛ فلتصنَع الأقنِعة. »
سنتناوَل عشاءً باردًا قبل أن نبدأ. الساعة الآن التاسعة والنصف؛ في الساعة الحادية عشرة
سنستقلُّ عربةً إلى شارع تشرش رو، سيَستغرِق السَّير من هناك حتى أبلدور تاورز ربع
ساعة، سوف نبدأ العمل قبل منتصف الليل. ينام ميلفيرتون نومًا ثقيلًا، ويأوي إلى الفِراش
في تمام العاشرة والنصف. إن حالَفَنا الحظُّ فسنعود إلى هنا بحلول الثانية، ومعنا خطابات
«. الليدي إيفا في جَيبي
ارتديتُ أنا وهولمز ملابِسنا الرسمية، حتى نبدو كاثنينمن مُرتادي المسرَح في طريقهما
للعودة إلى المنزل. وفي شارع أوكسفورد استقللْنا عربةً يجرُّها خَيل، أخذتْنا إلى مكانٍ ما في
هامبستيد. وهناك دفَعْنا الأجرة للحَوذِي، ثمسِرْنا على حدود المَرْج بعد أن زرَّرْنا معاطِفَنا
الثقيلة؛ حيث إن البرد كان قارِسًا وشعرْنا كأنَّ الرياح تخترِقُنا.
إنها مُهمَّة تحتاج إلى الدِّقَّة. هذه الوثائق موجودة داخِل خزينةٍ في مَكتب » : قال هولمز
الرَّجُل، والمكتب هو غُرفة الانتِظار المؤدِّية إلى غُرفة نَومه. من ناحيةٍ أخرى، إنه ينام نومًا
ثقيلًا مثل كلِّ أولئك الرجال البُدْن، القصيري القامة الذين يَجْنون كثيرًا من المال؛ تقول
أجاثا — خطيبتي — إن الخدَم يَتندَّرون باستِحالة إيقاظ سيِّدِهم. كما أنَّ لدَيه سكرتيرًا
مُكرَّسًا لخدمة مصالحه ولا يُغادِر المكتَب طوال النهار؛ ولهذا اختَرْنا الليل لإتمام المُهمَّة.
كذلك هناك كلبٌ مُتوحِّش يتجوَّل في حديقته. حين التقيتُ بأجاثا في وقتٍ مُتأخِّر من مساء
اليومَين الماضيَين، حبسَتْ ذلك الوَحش حتى تُتيح لي الدُّخول. هذا هو المنزل، هذا المنزل
الكبير وحوله الأراضي التابِعة له. لندخُلْ من البوابة، والآن لندلِف يمينًا وسط شُجيرات
الغار. أعتقد أنه يجدُر بنا أن نَرتدِي أقنِعَتنا هنا. كما ترى، لا يُوجَد بصيصٌمن ضوءٍ في
«. أيٍّ من النوافذ، وكلُّ الأمور تسير على أفضل حال