artherconan

شارك على مواقع التواصل

تسلَّلْنا إلى المنزل الساكِن المُظلِم، مُرتدِيَيْن أغطية الوَجه الحريرية السوداء التي جعلتْنا
نبدو كاثنَين من أكثر الشخصيات عُنفًا في لندن. على أحد جانبَي المنزل امتدَّت شُرفةٌ
مفروشة بالبلاط، اصطَفَّ فيها عدَّة نوافِذَ وبابان.
تلك هي غُرفة نَومه، وهذا هو الباب الذي يؤدِّي إلى مكتبه مُباشرةً. » : همَسهولمز قائلًا
إنه الأنسب لدخولنا، لكنه مُوصَدٌ بِمِزلاجٍ وقُفل أيضًا، وسنَصنَع ضجَّةً كبيرة عند دخولنا
«. منه. تعالَ من هنا؛ يُوجَد مشتلٌ زُجاجي يؤدِّي إلى غُرفة الاستِقبال
كان المَشتَل مُغلَقًا، لكن هولمز خلَع دائرةً من الزُّجاج وأدار الِمفتاح من الداخل، بعد
بُرهةٍ أغُلِق الباب وراءنا، وصِرنا مُجرِمَيْن في نَظر القانون. شَعرْنا بالاختِناق بسبب الهواء
الكثيف الدافئ داخل المَشتل الزُّجاجي والعَبير القوي الخانِق للنباتات الغريبة. أمسك هولمز
يدي في الظلام وقادَني حثيثًا عابرًا صُفوفًا من الشُّجَيرات التي أخذَت تُلامِس وَجْهَينا. كان
هولمز يتمتَّع بقُدراتٍ مُميَّزة، صَقَلَها بِعناية، على الرؤية في الظلام. ظلَّ ماسكًا يدي بإحدى
يديه وفتح بالأخُرى بابًا؛ فأدركتُ على نحوٍ مُبهَمٍ أنَّنا دخلْنا غرفةً كبيرة دَخَّن فيها أحدُهم
سيجارًا منذ فترةٍ ليست طويلة. تَحسَّسهولمز طريقَه بين الأثاث، وفتح بابًا آخر، ثم أغلَقَه
خلفَنا. حين مدَدْتُ يدي تحسَّستُ عدَّة معاطفَ مُتدلِّيةٍ من الحائط؛ فأدركتُ أنَّني كنتُ
في مَمَر. بعد أن عبرناه، فتح هولمز برفقٍ شديد بابًا على اليمين فاندَفع شيءٌ ما خارجًا في
اتِّجاهنا؛ فارتَجَف قلبي من الفزَع، لكنَّني كِدتُ أضحَك حين أدركتُ أنها كانت قطَّة. كانت
الِمدفأة مُشتعِلةً في هذه الحُجرة الجديدة، وكان الهواء عابِقًا كذلك بدُخان التَّبغ. دلَف هولمز
على أطراف أصابعه، وانتظرَني حتى تَبِعتُه، ثم أغلق الباب برفقٍ شديد. هكذا صِرنا في
مكتب ميلفيرتون، حيث رأيْنا على الجانب الآخر سِتارًا مُسدَلًا على مَدخل غرفة نَومه.
كانت الِمدفأة مُشتعِلة؛ ممَّا أضاء الحُجرة. رأيتُ بالقُرب من الباب وَمِيض مِفتاحٍ
كهربائي، لكن لم نكُن بحاجةٍ إليه، حتى وإن كان تَشغيلُه آمِنًا. على أحد جانبَي الِمدفأة
كان هناك ستارٌ ثقيل يُغطِّي النافِذة البارِزة التي رأيناها من الخارج، وعلى الجانب الآخر
كان الباب المُؤدِّي إلى الشُّرفة، وفي الوسط وُضِعَ مكتب بمقعدٍ دوَّار من الجِلد الأحمر اللامع،
وفي مواجهته خِزانةُ كتبٍ كبيرةٌ فوقَها تمثالٌ نِصفي من الرُّخام لأثينا. وقفتْ في الرُّكن
بين خِزانة الكُتب والحائط خَزينة خضراءُ طويلة، وكان وَهَج نِيران الِمدفأة المُنعكِس من
المقابِضالنُّحاسية المَصقولة يرتدُّ على واجِهتها. سار هولمز عبر الغرفة مُتسلِّلًا ونظر إليها،
ثم سار ببطءٍ إلى باب غرفة النوم، حتى وقف وأمال رأسه ليَسترِق السمع بانتباه، لكن لم
يصدُر منها أيُّ صوت. خطَر لي في نفس الوقت أنه سيكون من الحِكمة أن نؤمِّن عملية
رُجوعِنا من خلال الباب الخارجي؛ لذا ذهبتُ لمُعاينَتِه، وذُهِلتُ حين لم أجِدْه مُوصدًا بمِزلاج
ولا قُفل! ربتُّ على ذِراع هولمز، فأشاح بوجهه المُقنَّع في ذلك الاتجاه. رأيته يَجفُل، فمِن
الواضِح أنه فوجئ مِثلي.
لا يَروق لي الأمر. لا يُمكِنُني أن أفهم. » : اقتَرب هولمز بشفَتَيه من أذُني وهمَس قائلًا
«. على أيِّ حال، ليس لدَينا وقتٌ لنُضيِّعه
«؟ هل هناك ما أستطيع القيام به »
نعم؛ قِف قريبًا من الباب. إن سمعتَ أحدًا قادِمًا، أغلِقْه بالِمزلاج من الدَّاخل، »
وسنستطيع أن نهرُب كما جئنا، وإن جاء من الناحية الأخرى، يُمكِننا أن نخرُج من الباب
إن كنَّا قد أنجَزْنا مُهمَّتنا، أو الاختِباء وراء ستائر هذه النافذة إن لم نكن قد أنجَزْناها. هل
«؟ فهِمت
أومأتُ برأسي ووقفتُ بجانِب الباب. كان شُعوري الأول بالخَوف قد تلاشى، وحلَّ
مكانه انتِشاء وحماسٌ أقوى مما كان يُساوِرني حين كنَّا حُماة القانون لا مُنتهِكيه، وممَّا
أضافإلى إقبالنا على المُجازَفة في مُغامرتنا الهدَفالسامي للمُهمَّة وَوَعْينا بطابعها الإيثاري
الشَّهم، علاوةً على شخصيَّة خَصْمنا الشريرة. هكذا استمتعتُ وابتهجتُ بالمَخاطِر المُتربِّصة
بنا، دون الشعور بأي ذنب. رمقتُ هولمز بنظرة إعجابٍ وهو يبسِط حقيبة عدَّته ويختار
أداتَه بهدوءٍ ودقةٍ علميَّة كأنه جرَّاح يُجري عمليةً حَرِجة. كنتُ أعلَم أن فتْح الخزائن من
الهُوايات التي اختُصَّ بها، وأدركتُ المُتعة التي شعَر بها لدى مُواجهتِه لهذا الوَحش ذي
اللَّونين الأخضروالذهبي، التِّنين الذي يحمِل في جَوفه سُمعة كثيرٍ من السيدات الجميلات.
شمَّر هولمز كُمَّيْ مِعطفه الطويل — حيث إنه كان قد وضَع مِعطفه الثقيل على أحد
المقاعد — ووضَع مِثقابَين وعَتَلةًصغيرة وعدَّة مفاتيح هيكليَّة لفتْح مُختلِف الأقفال. وقفتُ
عند الباب الأوسط وأنا أرمُق بعينيَّ الأبواب الأخرى، تأهُّبًا لأيِّ طارئ؛ رغم أنه لم يكن
لديَّ في الواقِع خُططٌ واضِحة بشأن ما سأفعله إن قاطَعَنا أحد. أمضىهولمز نصف ساعة
وهو يعمل بانهِماك وتركيز، يَضع أداة ليلتقِط أخرى، مُستخدِمًا كلٍّا منها بقوَّة ودقَّة
ميكانيكيٍّ مُتمرِّس. وأخيرًا سمعتُ تكَّة، وانفتح الباب الأخضر العريض، ولمحتُ داخله
عددًا من الأغلِفة الورقية، كلٌّ منها مربوط ومختوم ومكتوب عليه. التقط هولمز أحدَها،
لكن كان من الصَّعب قراءته على ضوء الِمدفأة المتقطِّع، فأخرَج مصباحه الصغير الذي
يُمكِن تَغطيَة ضوئه، فقد كان من الخطورة بمكانٍ أن نُشَغِّل الضوء الكهربائي، مع وجود
ميلفيرتون في الحُجرة المُجاوِرة. وفجأة رأيتُه يتوقَّف ويُصيخ السَّمْع، وخلال لحظةٍ كان
قد ردَّ باب الخزينة والتقط مِعطفه وحشَر أدواته في جُيوبه، وانطلَق وراء ستار النافذة،
مُشيرًا إليَّ لأقوم بنفس الشيء.
لم أسمَع ما أثار انتِباه حَواسِّه الأشدِّ إرهافًا إلَّا حين انضمَمْتُ إليه هناك. كانت هناك
جَلَبة في مكانٍ ما داخِل المنزل، وسمِعْنا أحد الأبواب ينصَفِق بعيدًا. ثم تلاها وقْعٌ مُنتظِم
لخطوات مُتثاقِلة تقترِبسريعًا، تَخلَّلَتْها هَمهمةٌ حائرةٌ خافِتة. كانصوت الخطواتصادِرًا
من الممرِّ خارج الحُجرة، ثم توقَّفَت لدى الباب الذي انفتح. سمِعنا صوت طقْطقةٍ حادَّة
مع تشغيل الضوء الكهربائي. انغلَق الباب مرَّةً أخرى، وحمل الهواء إلى أنفيْنا الرائحة
النفَّاذة المُنبعِثة من سيجارٍ قوي. ثم استمرَّت الخطوات إقبالًا وإدبارًا، إقبالًا وإدبارًا، على
بُعد بضع ياردات منَّا. وأخيرًا، صدرَت طقطقة من أحد المقاعد وتوقَّفَت الخطوات وسمِعتُ
بعدَها قلقلةَ مِفتاحٍ في قُفل وحفيفَ أوراق.
حتى تلك اللحظة لم أجرؤ على النَّظَر خارِج السِّتار، لكنَّني فتحتُ بعدَها الفاصِل بين
الستائر التي أمامي برِفقٍ واختلستُ النظر. عرفتُ من احتِكاك كَتِف هولمز بكتِفي أنه كان
يُشاركني المُراقَبة. وجدْنا أمامنا مُباشرةً، وعلى مرمى حَجَرٍ مِنَّا تقريبًا، ظهْر ميلفيرتون
العريض المُستدير. اتَّضَح أننا أخطأنا كُليٍّا في تَوقُّع تحرُّكاته، وأنه لم يذهَب لغُرفة نَومه
قط، بل كان ساهِرًا في غُرفةٍ للتَّدخين أو البلياردو في الجَناح الأقصى من المنزل فلم نرَ
نوافذها. هكذا كان رأسه العريضالأشيَب، بصلعته اللامِعة، تحت أبصارنا مُباشرةً، بينما
كان مُستلقِيًا على المقعد الجِلدي الأحمر، مادٍّا ساقيه، وقد برَز سيجارٌ أسودُ طويل من فمِه.
رأيتُه مُرتدِيًا سُترة تدخين شِبه عسكرية، حمراء داكِنة، ذات ياقَةٍ مُخمَلِيَّة سوداء، حاملًا في
يدِه مُستنَدًا قانونيٍّا طويلًا، يَقرؤه في خُمول، وهو ينفُث من فمِه دوائر من دُخان التَّبغ. لم
يُبشِّر سلوكه الهادئ ووضعيَّتُه المُسترخية بأنه سيُغادِرسريعًا.
شعرتُ بيد هولمز تَتسلَّل إلى يدي وتَضمُّها لبثِّ الطمأنينة في نفسي، كأنه يقول إنه
مُسيطر على الموقِف وأنه ليسقَلِقًا. لم أكن مُتأكدًا إن كان رأى ما بدا جليٍّا جدٍّا من مَوقِعي،
وهو أن بابالخَزينة لم يكُن مُغلقًا تمامًا، وأن ميلفيرتون قد يُلاحِظ ذلك في أيِّ لحظة. قَرَّرتُ
بداخلي أنَّني — في حال تأكدتُ من جُمود نظراته، أنَّ عَينَه قد وقَعَت على باب الخزينة —
سوف أقفِز خارجًا في الحال وألُقي مِعطفي السَّميك فَوق رأسه وأقُيِّد ذِراعيه وأترُك الباقي
لهولمز. لكن ميلفيرتون لم يرفَع رأسه قط، وإنما أبدى اهتمامًا خامِلًا بالأوراق التي في
يديه، فأخذ يُقلِّب صفحةً وراء أخرى وهو يُتابِع تطوُّر الحُجَّة القانونية. ظننتُ أنه على
الأقلِّ سيذهَب إلى حُجرته حين ينتهي من المُستنَد أو السِّيجار؛ لكن قبل أن يَبلُغ نهاية أيٍّ
منهما تطوَّرَت الأحداث تَطوُّرًا مُفاجئًا جعل أفكارَنا تتَّخِذ منحًى آخر تمامًا.
لفَتَ نظري عدَّة مراتٍ أن ميلفيرتون نظَر إلى ساعة يدِه، ثم نهَض ذات مرَّة وجلَس
ثانيةً وقد صدرَت عنه لفْتة تدلُّ على نفاد صبره. لم يخطُر على بالي قطُّ أنه قد يكون لدَيه
مَوعِد في هذه الساعة الغريبة، حتى انتهى إلى سَمعي صوتٌ خافِت من الشُّرفة بالخارج.
أسقط ميلفيرتون الأوراق وجلَسمُنتصِبًا في مقعده. تكرَّر الصوت، ثم سمعتُ طرقةً خفيفة
على الباب؛ فنهَضميلفيرتون وفتَحه.
«. حسنًا، لقد تأخرتِ نصف ساعة تقريبًا » : قال ميلفيرتون باقتِضاب
كان هذا إذَن تفسير الباب غير المُوصَد وبقاء ميلفيرتون مُستيقظًا إلى هذه الساعة
المُتأخِّرة. سمِعنا حفيفًا لثَوب سيِّدة. كنتُ قد أغلقتُ الفتحة التي بين الستائر حين استدار
وَجه ميلفيرتون في اتِّجاهنا، لكنَّني أقدمتُ على فتحِها مرةً أخرى بحرصٍشديد عندئذٍ. عاد
ميلفيرتون إلى مقعده، بينما لا يزال السيجار بارزًا من زاوية فمِه في تَغطرُس. مَثَلتْ أمامه
تحت وَهَج الإضاءة الكهربائية سيدةٌ سمراء فارِعة الطول نَحيفة، تُغَطِّي وَجهها بطرْف
وِشاحها، وتَشدُّ عباءتها حول ذَقنها. كانت أنفاسُها تتلاحَق سريعًا، وكلُّ جُزءٍ في جسَدِها
الغضِّيرتَعِش تحت وَطأة الانفِعال.
حسنًا، لقد حَرمتِني من أن أنعم بالراحة الليلةَ يا عزيزتي. » : بادر ميلفيرتون قائلًا
«؟ أتمنَّى أن يكون لديكِ ما يَستحِق. ألم يكن باستِطاعتكِ أن تأتي في وقتٍ آخر
هزَّت السيدة رأسَها نافِية.
حسنًا، لا حِيلة لكِ في الأمر إذن. إن كانت الكونتيسة سيدةً صعبة الِمراس فلديكِ الآن »
«. الفُرصة لتنتقِمي منها. وَيْحكِ يا فتاة، لماذا ترتَجِفين؟ لا بأس! تماسَكي الآن لنبدأ العمل
قلتِ إن لديكِ خمسة خطابات تَهتِك سِرَّ كونتيسة » . أخذ ميلفيرتون ورقةً من دُرج مكتبه
ألبرت تُريدين بيعَها، وأنا أريدشراءها. إنَّنا مُتَّفِقان حتى الآن، لم يَتبقَّ سوى أن نَتَّفِق على
السِّعر، لكنني أرغب في فحْص الخِطابات بالطبع. إن كانت حقٍّا عَينةً جيدة … يا للهول!
«؟ هل هذه أنتِ
رفعت السيِّدة طرْف وِشاحها عن وَجهها وأزاحت العباءة عن ذَقنها، دون أن تنبِس
بكلمة. كانت السيدة التي تُواجِه ميلفيرتون ذات وجهٍ أسمرَ مليحٍ واضِح القَسَمات مَعقوف
الأنف، ذي حاجِبَين كثيفَين دَاكِنَين يُظلِّلان عينَين قويَّتَين لامِعتَين، وفمٍ مُستوٍ، رفيع الشَّفتين
استقرَّت عليه ابتسامةٌ مُخِيفة.
«. إنه أنا، السيدة التي دمَّرتَ حياتها » قالت السيدة
لقد كنتِ عنيدةً جدٍّا. لماذا » : ضحك ميلفيرتون، لكن ارتعَش صَوتُه خَوفًا وهو يقول
دَفعتِني لِمثل هذه التصرُّفات القاسِية؟ أؤكد لكِ أنَّني لن أقُدِم على أذيَّة ذُبابة من تِلقاء
نفسي، لكن لكلِّ شخصٍ عمله، فماذا كنتُ سأفعل؟ لقد حدَّدتُ لكِ السعر الذي يُناسب
«. إمكانياتكِ، لكنكِ رفضتِ الدَّفع
فأرسلتَ الخطابات لزَوجي، أنبل من عاش من الرجال، الرجُل الذي لم أكن أستحِقُّ »
حتى أن أربِط حذاءه، فانفَطَر قلبُه الكريم ومات. هل تذكُر تلك الليلة الأخيرة حين دخلتُ
من هذا الباب وتوسَّلتُ إليك واسترحمتُك، فضحكتَ ساخرًا منِّي كما تُحاوِل أن تضحك
الآن، لكن قلبك الجَبان لا يستطيع السَّيطرة على ارتِعاشة شَفتيكَ؟ نعم، لم تتوقَّع أن تراني
هنا ثانيةً، لكن تلك الليلة هي التي علَّمتْني كيف أستطيع أن ألقاك وَجهًا لوجهٍ وبِمُفردي.
«؟ حسنًا يا تشارلز ميلفيرتون، ماذا لدَيك لتقولَه
لا تتخيَّلي أنكِ تستطيعين تَخويفي. ليسعليَّ سوى أن أرفعصَوتي » : فردَّ وهو ينهَض
لأستدعي الخدَم وألُقيَ القبضعليكِ. لكنني سأعذُركِ لغضبكِ المُتوقَّع. فلتَترُكي الغرفة في
«. الحال كما جئتِ، ولن أقول أكثر من ذلك
وقفَتِ السيدة وقد أخفَت يدَها في صدْر ثَوبها، مرتسِمة على شفتيها الرَّفيعتين نفس
الابتِسامة المُخيفة.
لن تستطيع تدمير حياة آخَرين كما دمَّرتَ حياتي. ولن تُوجِع المَزيد من القلوب كما »
أوجعتَ قلبي. سأخُلِّصالعالَم منشيءٍ مُؤذٍ. إليك هذه يا أيها الحقير، وهذه! … وهذه! …
«! وهذه
أخرجَت مُسدَّسًا صغيرًا لامِعًا، وأفرَغَتْ طلقةً تِلوَ الأخرى في جَسد ميلفيرتون، الذي
كان الجُزء الأمامي من قميصه على بُعد قَدمين من فُوَّهته. تراجَع ميلفيرتون خَوفًا ثم سقط
للأمام فوق الِمنضدة، وهو يَسعَل سُعالًا حادٍّا ويُنشِب أصابِعه في الأوراق. ثم نهَضمُترنِّحًا،
«. لقد قضيتِ عليَّ » : فتلقَّى طلقةً أخرى، وتدحرَج على الأرض. صاح ميلفيرتون مُحتضِرًا
ثم رقد بلا حَراك. نظرَتْ إليه السيدة بإمعانٍ وداسَت على وَجهه الناظِر إلى أعلى بكعبِها.
ثم نظرَتْ ثانية، لكن لم يصدُر عنه صَوت أو حركة. سمِعتُ حفيفًا شديدًا، ثم اندَفَع هواء
الليل في الحُجرة الدافئة، واختفَت المُنتقِمة.
لم يكن أي تدخُّل من جانبنا ليُنقِذ الرجل من مَصيره؛ لكن بينما كانت السيدة تُطلِق
رصاصةً تلوَ الأخرى على جسَد ميلفيرتون المُنكمِش كنتُ على وَشْك أن أخرُج، حين شعرتُ
بيد هولمز البارِدة تقبِضُبحزمٍ على رُسغي. فهمتُ الغرَضمن تلك القبضة الحازِمة المانِعة؛
وهو أنَّ الأمر لا يَخُصُّنا، وأن العدالة قد أدرَكَت أحدَ الأشرار، وأن لدَينا واجِباتٍ وأهدافًا
يجِب ألَّا نُغفِلها. لكن ما إن غادَرَت السيِّدة الحُجرَة مُسرعة، حتى هُرِع هولمز في خطواتٍ
سريعة صامِتة إلى الباب الآخر. وبينما هو يُدير الِمفتاح في القُفل، سمِعنا أصواتًا في المَنزل
ووقْع أقدام مُسرعة. لقد أيقظَت طلقات المُسدَّس مَن في المنزل. انسلَّ هولمز في هدوءٍ تامٍّ
إلى الخزينة، واغترَف بِذراعَيه رُزَم الخطابات، وألقى بها في نيران الِمدفأة. فعل ذلك مِرارًا،
حتى صارَت الخزينة خاوِية. أدار أحدٌ ما مِقبَض الباب وأخذ يطرُق عليه من الخارج.
تلفَّت هولمز حوله على عَجل. كان الخطاب الذي أنذَر بموت ميلفيرتون مُلقًى على الِمنضدة
وقد تلطَّخ تمامًا بدِمائه. التقَط هولمز الخطاب وألقى به وسط الأوراق المُشتعلة، ثم سحَب
من هنا » الِمفتاح من الباب الخارجي، وخرج منه بعدي، وأوْصَده من الخارج. قال هولمز
«. يا واطسون، نستطيع تَسلُّق سُور الحديقة في هذا الاتجاه
لم أكن أتوقَّع أن يَنتشر الذُّعر بهذه السرعة؛ فحين نظرتُ ورائي، كان المنزل كُتلةً
مُشتعِلة من الضوء. انفتَح الباب الأمامي، واندَفَع أشخاص في الطريق، وامتلأت الحديقة
بالناس، وبمُجرَّد أن خرجْنا من الشُّرفة أطلَق أحدهم صيْحة تنبيهٍ وتعقُّب إثرَنا مباشرةً.
بدا أن هولمز على معرفةٍ جيدة بالأنحاء، حيث انسلَّ حثيثًا وسط طائفةٍ من الشُّجيرات وأنا
في عَقِبه، بينما أخذ يركُض لاهثًا وراءنا أول مُطارِدينا. بلَغ ارتفاع الجِدار الذي اعترَض
طريقَنا ستَّة أقدام، لكن هولمز قفز حتى اعتلاه ثم هبط إلى الجانب الآخر. وحين فعلتُ مثله
شعرتُ بيد الرَّجُل الذي خلفي تتشبَّث بكاحِلي؛ لكنني ركلْتُه مُتحرِّرًا من قبضته وزحفتُ
فوق إفريز مُغطٍّى بالزُّجاج، ثم سقطتُ على وَجهي بين بعض الشُّجيرات؛ لكن هولمز
ساعدَني على النُّهوضفي لحظة، وانطلَقْنا مُبتعِدَيْن عبر مَرْج هامبستيد الشاسِع المساحة.
أعتقد أننا قد ركضْنا مسافة مِيلين قبل أن يتوقَّف هولمز ويُصيخ السَّمع. لم يكن وراءنا إلا
صمتٌ مُطبِق، وهكذا أفلتْنا من مُلاحِقينا وصِرنا في أمان.
في اليوم التالي للمُغامَرة المُدهِشة التي سُجِّلت وقائعها، وبعد تناوُلِنا الفطور وأثناء
تدخيننا الغليون الصباحي، أدخل خادِمُ المنزل السيِّدَ ليستراد، من سكوتلاند يارد، في وقارٍ
وهَيبةٍ بالِغَيْن، حُجرةَ جُلوسِنا المُتواضِعة.
صباح الخير يا سيِّد هولمز، صباح الخير. هل تَسمح لي أن أسألك: هل » : بادَرَنا قائلًا
«؟ أنت شديد الانشغال الآن
«. ليس للدَّرَجة التي تَمنعُني من الاستماع إليك »
خطَر لي أنك، إن لم تكن مشغولًا بقضيةٍ مُعيَّنة، ربما تهتمُّ بمُساعدَتِنا في القضيَّة »
«. غير العاديَّة التي وقعَت الليلة الماضية في هامبستيد
«؟ يا للهول! ماذا حدَث » : ردَّ هولمز
جريمة قتل! جريمة قتلٍ شديدةُ الإثارة والغَرابة. أعلَم مدى ولَعِك بهذه الأشياء، »
وسوف تُسدي إليَّ مَعروفًا كبيرًا إن ذهبتَ إلى أبلدور تاورز وأفدْتَنا بمَشورتك. إنها ليست
جريمةً عادِيَّة. لقد كنَّا نُراقِب السيد ميلفيرتون هذا منذ فترة، وسأسُِرُّ لك بأمر: لقد كان
رجلًا شرِّيرًا إلى حدٍّ ما؛ فقد شاع عنه احتِفاظُه بأوراقٍ ليَستخدِمَها في أغراضٍ ابتِزازية.
أحرَق القتلَةُ كلَّ هذه الأوراق، ولم تُؤخَذ أيُّ مُقتنَياتٍ ثمينة، وهو ما يُرجِّح أن يكون
«. المُجرِمون أشخاصًا رفِيعي المقام غَرضُهم الوحيد هو مَنْع الفضيحة
«! مُجرمون! أكثر من واحِد » : قال هولمز
نعم، كانا اثنين. لقد ضُبطا شِبه مُتلبِّسَين بالجُرم. ولدَينا بَصَمات أقدامِهما »
وأوصافُهما؛ ومن المُرجَّح جدٍّا أن نقتَفي آثارَهما. كان الشخص الأول شديدَ النَّشاط،
أمَّا الثاني فقد أمسك مُساعِد البُستاني به، ولم يُفلِت منه إلا بعدصِراع. كان رجلًا مُتوسِّط
«. الحجم، قويَّ البِنيَة، ذا فكٍّ مربع وعُنُق عريضوشارِب وقِناع على عينيه
«! هذا الوَصف مُبهَم إلى حدٍّ ما، ويكأنه يصِفُ واطسون » : أجاب شيرلوك هولمز
«. هذا صحيح. كأنه يصِف واطسون » : قال المُفتِّش في مرَح
حسنًا، أخشى أنَّني لا أستطيع مُساعدَتك يا ليستراد. في الحقيقة » : قال هولمز مُعلِّقًا
كنتُ أعرِف هذا الشَّخص المدعو ميلفيرتون، وكنتُ أعتبِره أحدَ أخطر الرجال في لندن،
وأعتقِد أن ثمَّةَ جرائمَ مُعيَّنةً لا يستطيع القانون التطرُّق لها؛ مِمَّا يُسوِّغ إلى حدٍّ ما الثأر
الشخصي. كلا، لا جدوى من المُناقَشة؛ لقد حسمتُ أمري. إن تعاطُفي مُوجَّه إلى المُجرِمين
«. لا الضَّحيَّة، ولن أتناوَل هذه القضية
لم ينبِس هولمز لي بكلمةٍ عن المأساة التي شهِدناها، لكنَّني لاحظتُ طوال الصباح
أنه كان في أشدِّ حالاته من الاستِغراق في التفكير، وأوحتْ لي عيناه الخالِيَتان من التَّعبير
وسلوكه الذاهِل أنه يُكافح لاستِدعاء ذِكرى ما. وبينما نحن نتناوَل وَجْبة الغَداء هبَّ فجأةً
أطلَق ساقَيْه «! يا للهول يا واطسون؛ لقد تذكرْت! تناوَلْ قُبَّعتَك! تعالَ معي » : واقفًا وصاح
للرِّياح عابرًا شارع بيكر وشارع أوكسفورد، حتى كِدْنا نصِل إلى مَيدان ريجنت. كان هناك
على الناحية اليُسرى واجهةُ مَتْجرٍ مليئة بصُوَر مشاهير وجميلات هذا العصر. ركَّز هولمز
عينيه على واحدةٍ منها، وحين تتبَّعتُ مَوضِع نظره رأيتُ صورة سيِّدة ذات جلالٍ ملَكيٍّ
في أحد أزياء البلاط، على رأسها النَّبيل تاجٌ مُرتفِع من الألماس. نظرتُ إلى الأنف المَعقوف
الرَّقيق والحاجِبَين المُحدَّدَين والفَمِ المُستقيم والذَّقْن الطويل الدقيق أسفلَه، ثم شَهقتُ حين
قرأتُ اللَّقب العريق لزَوجِها، ذلك الرجُل النَّبيل العظيم، الذي كان من رِجالات الدولة.
التقتْ عيناي بعينَي هولمز، فوضع إصبَعَه على شفتَيه واستدَرْنا مُبتَعِدَيْن عن الواجِهة
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.