Darebhar

شارك على مواقع التواصل

قلبت عيني في المكان الأنيق في ارتياح وسعادة.. الليل في الليالي المقمرة وعلى ضفاف النيل ساحراً، ساحراً وجميلاَ، ومفضضاً بضوء القمر.. القمر المكتمل يلقي على النيل ألحاناً شجية.. ارتجفت جذور قلبي لمرآها.. في المطعم البانورامي في فندق هيلتون الزمالك.. بجوار صالون شوقي للحلاقة.. النغمات الناعمة تغزو المكان، وهي تسير كالقطة على نفس النغمة التي كانت عليها منذ عشر سنوات.. عندما وقعت عيني عليها تلقيت في قلبي ضربة من الماضي بلا حذر.. أقبلت عليَّ في فستان أبيض يقف عند ركبتيها ويكشف عن جزء من صدرها.. بدت أشد نقاء من السحاب.. تبرق بالجاه.. تبدو كنمرة متوثبة.. السنين زادتها ملاحة وعذوبة... شعرها طويل وملامحها دقيقة ووجهها جذاب، وجسدها البض يصرخ في توافق مع الغرائز يليق بامرأة في منتصف الثلاثينيات.. ترتدي كعباً عالياً، ولا تهتز أحب المرأة التي ترتدي كعباُ عالياً ولا تهتز.. سحر عجيب يتلبس من يرى تلك الأعين البراقة.. بيضاء لدرجة أن عروقها تظهر من تحت جلدها.. بيضاء كاللبن الحليب.. فرضت نفسها على المكان فرضاً.. دائماً ما يفرضن الجميلات أنفسهن على الأماكن بلا عناء.. على كتفها الأيسر المكشوف وشم جميل زهرة وفراشة وقلب أزرق.. أظافرها حمراء مدببة كنصل حاد.. تقدمت نحوها بقلب ملأه الشوق والحذر.. مدت يدها بالسلام كلاعب فائز بعد مباراة حامية.. جلسنا على إحدى المناضد المطلة على النيل منضدة مستديرة عليها مفرش أبيض من الحرير مطرز بالورود الحمراء.. بادرتني بابتسامة وقالت في نبرة بالغة النعومة وهي تداعب خصلة من شعرها المسترسل:
- كيف حالك؟!
سمعتها في إذني أحبك.. فانخلع لوقعها قلبي بلا مقدمات.. رنة صوتها كوتر الصول في آلة الكمان..
وسرعان ما ثمل أنفي بعبير أنثوي مسكي عصف بي.. رائحتها الطيبة تختلط مع الهواء الرطيب عبارة عن خلاصة من سحرها مذابة في ندى الفجر..هبت نسمة من ناحيتها حملت بعض شذا العطر الطيب (كوكو شانيل مادموزيل) وعندما استنشقتها شعرت أنني قد اختلطت خلايا جسدي بالمحيط حولي، وتحول العطر في رأسي إلى نصل مشرشر الأطراف كطلاء أظافرها.. وقد راودتني رغبة عارمة في احتضانها لولا حياء ألم بي، وعيون ترقبتنا لما ترددت في ذلك. ورددت وأنا ألعن نفسي على ترددي وأحدجها بنظرة عتاب متشوقة، وغمغمت:
- الآن صرت أفضل حالاً..
كذاب.. كذاب.. كذاب.. لست أفضل بأي حال.. دارت الدروب وتقاطعت تراكم الحنين إليها فوق بعضه كجبل جثم على أنفاسي.. والسماء في الخارج ظاهرة من البانوراما هادئة، ولكنها تحمل الملائكة والنجوم والشهب كل في ذات المدار..
سحبت يدها من يدي عندما طال السلام وأرخت وجهها وقد علته حمرة خفيفة وفاتني أن أجذب لها المقعد لتجلس إنها توقظ مشاعر نائمة في الكهوف القطبية، وتنبه ذكريات مدفونة في الأعماق، وفتشت عن بعض كلام من كثير كنت أحضره وأحفظه كسيناريو فيلم لم أجد أياً منه، رباه لماذا لا تسعفنا الكلمات عندما نحتاجها؟! لماذا نصمت عندما يكون لزاماً علينا الحديث؟ ونتحدث عندما يكون لزاماً علينا الصمت؟! تدربت على هذا الموقف في رأسي كثيراً.. والآن أعجز عن التصرف في الواقع كما كنت منطلقاً في الخيال!!!
واكتفيت بالنظر نحو عيناها ثملاً بنظرتها.. صامتاً وحتى في الصمت تستطيع سماع أصوات النفوس، تراكمت على صدري الرهبة، فناديت إرادتي وجرأتي وتبينت هي ترددي وحرج موقفي، فقالت بمكر وهي تقلب وجهي بنظراتها قاصدة أن تهدم جدار الحرج وتخترق حاجز الصمت:
- عشرة سنين غيرت فيك كثير.
فقلت في إعجاب وانبهار بان على صوتي وملامح وجهي المرتبكة:
- أنت ما زلت على حالك بل ازددت جمالاً على جمالك...
ألا تسعفنا الرومانسية إن لم نستطع أن نكون واقعيين؟!
عجبها الإطراء وبان على ملامحها فقالت في خفوت مصطنع وهي مطمئنة لجمالها الفريد:
- الله يحفظك... سمعتها أيضاً أحبك.. لماذا لا أسمع سوي كلمة واحدة في خيالي؟!
وحاولت التهرب من نظرتي العميقة لها.. وقالت برقة:
- عشرة سنين عمر طويل، ولكنك تبدو كما أنت.
كانت مناورة هادئة عكست رغبتها في لفت نظري لشيء أقوله.. ما أبغض هذا الموقف وأحلاه.. فقلت متعجباً وأنا أضع يدي فوق رأسي الأصلع:
- فقدت أغلب شعر رأسي.
نظرت إليها بعمق وتركت عيناي تجول فوقها مثل الصقر الرابض بحب استطلاع معجباً بالقوة الخارقة التي تجذبني نحوها..
قالت مداعبة:
- لم يكن كثيفاً بأي حال.. وضحكت، وكأنها فتحت الباب لتئن كل المفاصل الصدئة في نفسي فاصطنعت فوق وجهي ابتسامة سريعة.. سريعة كومضة برق.. لقد حدث ثقباً في سور الماضي البعيد.. السور الذي قمت ببنائه بمساعدة ذو القرنين ليحول بيني وبين الذكريات حتى جاءت رسالتها فجعلته دكاً.. بيننا على المنضدة شمعة مطفأة أشعلتها فاشتعلت الذكريات في رأسي تبدو أجمل على ضوء الشموع.. وشردت متذكراً العهد القديم فيما بيننا.. الذكريات تأتي بالأبيض والأسود كالأفلام القديمة.. أضغاث أحلام.. والذكريات ليست كوشم كتفها إنما هي كالحناء، والقلب مكاناً للحب والعقل مكاناً للذكري.. بينهما برزخ يبغيان..
ورأيتنا في الماضي نسير على ضفاف النيل متجاورين ولا شيء في العالم يحول بيننا وبين الحب الكامن في نفسنا، كنت آدم في الجنة وكانت تذوب في شخصي وتتعلق بي كأني كل الآمال.. كنت أعبدها من أعماق أعماقي.. أمسك يدها فتتهاوى أمامي الأرض طوعاً، أقبلها فتنتفض الزهور في أغصانها، أحتضنها فتلمع السماء بالضياء، وتشدو الطيور بألحان لم يسمعها سوى العاشقين عبر فصول الزمان الذي لا يعدو أن يكون كاتباً لقصص الحب المروية والمنسية.. لذعة الجنس السحرية.. رائحة جسدها... ذات الرائحة المميزة لأجساد العذراوات نفس رائحة العسل المتكون لتوه فوق خلايا الشمع المضغوط.. وهي كالنحلة تفرز عسلها فوق ذكورتي فتنفجر رغبتي فيها في كل أنحاء جسدها.. نغمات من الجنس المسروقة نروي بها بعض الظمأ الذي يفرضه علينا التكوين البشري، والذي تشتعل به جذوة الحب نتيجة للإشارات المنبعثة من حرارة أجسامنا كل لقاء.. لحظات من النشوة النادرة التي يبيع فيها الإنسان عمره.. قبلات باحثة عن منافذ داخل الأجسام تشابكات بالأيدي كأنها عقود أحبال لسفن ترسو في الميناء.. احتكاكات أعضاء دون مغامرة عبور.. رغبات خالصة متناثرة فوق كنبة السيارة الفيات الزرقاء المملوكة لخالي وكنت أستعيرها منه لأنفرد بها.. أغاني كاظم الساهر بأشعار نزار إني خيرتك فاختاري ما بين الموت على صدري أو فوق دفاتر أشعاري.. من يصدق أن هذه المرأة ذات الحسن الوقور كانت تعض أطرافي وتئن كالقطط وتعوي كالحيوانات استجابة لشهوتها فوق كسوة السيارة العتيقة؟!
لم يكن الأمر بالنسبة لنا دنساً أو خطيئة.. عهد الحب بيننا كان أقوى من الزواج نفسه، أشد صدقاً في نظرنا من أي ارتباط رسمي، كانت لكلمة الحب وحدها خفقة كخفقة الورد عندما يلتقي الندي مع مطلع الفجر.. ترتجف لها قلوبنا كالسحب من أثر الرعد.. كالشيطان من أثر ذكر الرب.. كالثعبان مع صوت الناي، كانت تحكي كثيراً عن فضائل الفقر وأحلام البسطاء.. تتحدث وأنا أنصت وصدقتها وصرت أكثر فقراً وأشد بؤساً وصارت أكثر تحكماً وأكبر بعداً.. وما تلبث الدراما أن تلعب لعبتها في الحياة.. إنكشفت كل الأكاذيب و بعدت وهي تجلس أمامي وفي حضني وقبلاتي وأحلامي.. هكذا بكل بساطة يتقدم لطلب يدها شاب غني يملك المال اللازم لبناء بيت الزوجية فترفض بإصرار، وتتمسك بالحلم الذي كنا نطمح فيه، وتأسيس منزلنا بالشكل الذي ما مللنا من رسمه ونقشه، وتتأزم الأمور وتتعقد ولكنها تنتهي نهاية متوقعة.. دفبعد قليل وربما أقل من تصوري رضاء ورضوخ وتسليم لأمر بدا واقعياً بالنسبة لها، وبدا مدمراً بالنسبة لي، وانهالت على أمنياتي كزلزال وعلى أحلامي كعاصفة وعلى حبي لها كبركان ثائر لا يرحم ولا يعرف الشفقة..
وبعثت إلىَّ برسالة فحواها:
(الأمر أقوى مني.. أحبك.. إلى اللقاء..)
وأي لقاء هذا الذي تحدثت عنه وزفافها تم بعدها بأيام معدودات!!
تركتني كصوان فارغ سحبت منه جميع ملابسها بكل سلاسة.. وحيداً بائساً صاحب حلم حزين في عالم مجنون لا يمت للعالم الرومانسي الذي كان في حياتي بأي صلة، صرت أجوس بين البقايا.. صور ممزقة، وهدايا محطمة، وذكريات ملعونة وهجر مهين، وحلم لم يبقَ منه إلا الشظايا.. لم يكن للانكسار والذوبان في ممارسة الحب خاطراً عندها.. كيف تنسي من عزفت مع قبلاته ألحاناً متناغمة سمعها بيتهوفن رغم صممه بكل سهولة؟! كيف نسيت من نسجت في أحضانه خيوطاَ حريرية وأحلاماً بالجنة مفتوحة الأبواب؟! والجنة حلم الناسك والعاشق ولكنها تقع أمام النار، ولا يفصل بينهما سوي الأمر الإلهي.. وهذا الأمر نفسه هو من خلق منا الأطياب والأشرار وخلق لنا الرجاء والعزاء.
وهكذا وجدتني وحيداً في مواجهة العالم من سرداب حزني الخاص.ولم يكن لي عزاء في هذا العالم إلا التركيز في عملي الذي رأته هي بسيطاً ولن يفيد في شيء.. رغبة جديدة شملتني بسحر جديد.. وكان مرور الأيام دواء لي وحولني اليأس والإحباط الذي تملكني حينها إلى طاقة جبارة نفثتها في كل حياتي.. وكأني أنتظر الفرصة التي أقذف فيها نواياي المشتعلة نحو العالم، ضاعت ذكراها في خضم الحياة الصخب.. سرت على حافة الدنيا كالسائرين على الأعراف.. ونسيت رائحة جسدها وشغلتني روائح أخريات بحثت خلال أجسادهن عن لحظة نسيان صافية.. ومن بين أقدامهن عن سر الحياة الأعظم.. مستودع الحياة حيث يولد الذل والجاه.. اعتليتهن أملاً في العزاء والسلوى ولكن أبداً لم أنل أيهما.. أفرغ من أعضاءهن فأتقيأهن.. كلهن تحولن إلى هي.. وهي تحولت إليهن، كلما رأيت أنثي خيل إليّ أنني أري الخيانة تمشي على قدمين.. كانت الجروح متناثرة على القلب العاشق، أما العقل العامل فقد تقدم في عمله من نجاح إلى نجاح ونجاح، من جد وصل.. وصرت فعلاً من الأثرياء وكأن الحب كان حاجزاً بيني وبين الانطلاق والتوفيق.. إن للحب سحراً وسيطرة تفرض نفسها على كيان من تتملك منه.. وقد تخلصت من قوة الحب وسلطانه وسحره العجيب وكان عزمي يسيرني كالقضاء.. لا شيء يثنيني عنه.. كان الأمر أشبه بإراقة الدماء.. بالقتل العمد.. نيرون عاد وحرق روما من جديد.. تستحق روما الحرق.. قطعت براثن الخيوط المتشابكة التي لفتها حولي أنثى العنكبوت.. أصبحت شعلة من اللهب وضعت اسمها أمامي في كل عمل أعمله لم تفارقني عيناها.. ولكن كتحدٍ في نفسي وفي ذاتي يدفعني إلى أن أثبت لها أنها كانت مخطئة يوم تركتني من أجله.. ومن هو؟! كانت في حاجة لمن يتعامل معها كصفقة كاملة يأخذها ويأخذ معها فقر أهلها وطموحهم.. كانت تنتظر مكافأة من السماء على جمالها وكنت أنا مجرد خطوة في المشوار..أما هو فلم يكلف نفسه عناء مراعاتها والحفاظ على استمرار العلاقة بينهما.. لا جدال أنها تسببت في مشاكل لا حصر لها بالنسبة له كأنه دخل غابة مظلمة فقد انقلب حاله بعد الزواج كان نموذجاً للثري المدلل وتلك كانت ميزته ولا شيء سواها عذبها بهذه الميزة، وعذبته بمنحة السماء فعاشا سنوات مثل وعاء فوق النار يرتعش غطاؤه بقوة البخار المحتدم في باطنه، وكانت النهاية الطبيعية.. أخذت العدالة مجراها سيدي الإبليس..
وها هو الضوء الذي حامت حوله الفراشة قد انطفأ ووجدت نفسها وحيدة في عالم لا يرحم.. تبدلت أحوالها.. ضاعت.. نحلت.. تسرب اليأس إلى نفسها.
وبعد كل هذه الأعوام وجدتها بلا انتظار تبعث إلى برسالة فحواها:
(الأمر أكبر مني.... أريد لقائك) لم تكن الرسالة صوتية ولكنني قرأت فيها الصوت كان متكسراً كرياح هادئة.. محطماً كجزع مقتلع.. خائباً كفارس منهزم.
وكأن أعواماً لم تمر وذكريات لم تمت وعاطفة لم تنضب وعمرٍ لم يفت، هكذا أيقظت في داخلي كل الذكريات المريرة والمؤلمة.. الحب الذي التهمته النيران وأضاعت مني قلبي ودمرت ما كنت أمتلك.. تعب وظلام وسكون.. لعل ذكري الحب تنعشني فأقدر على الحياة..
والحق أنه وبرغم كل ما حققته في حياتي إلا أنني لا أنكر أن لذكراها مكانة خاصة عندي.. شجعها عدم زواجي وشجعتني ذكرى الأيام الملتهبة، وحددت لها موعداً في المكان الذي شهد على الحب الذي كان.. وكنا نأتي لهذا المكان بعد أن أقترض ثمن المشاريب من الخال، كم كان خالي عطوفاً معي هيء لي كل أسباب الحب معها، ولكنه لم يُهيأ لي قلبها ولم يمنعها من البعد.. وها هي قد عادت وكأن الزمان الأول لم يذهب عادت.. وكأنها رائحة ذكية مرصعة بالطيب تركتها امرأة في مصعد غادرته دون أن تراها.
ها هي تجلس أمامي الآن كاشفة ذكرياتنا التي تهاجم رأسي بكل ضراوة وبلا توقف..
قال لي صديقي وهو يجالسني ذات مرة:
- احكِ لي عن حبك لأنه سيحملني في النهاية إلى فهم الحياة..
ولم أجد ما أقوله.. فأنا لم أجد الحب.. ولم أفهم الحياة..
انتشلتني من شرودي وقالت بهمس مسموع:
- أنت تستحق كل الخير..
حقاً ما أجملها وهي تحاول أن تلقي كرامتها على حجري وتجتهد في ربط أوصال ما تمزق بيننا منذ سنوات.. هي كما هي.. نفس السكينة والهدوء في كلامها.. تجلس مستندة على طرف المائدة ومن خلال فتحة ثوبها تظهر قمة ثديها بوضوح.. صدرها كبير يحبسه الفستان.. صقراً في قفص.. من يحبس الصقور؟! أعرف أنها تحب من يقضم حلماتها؟! فهل كان زوجها المدلل يفعل ذلك؟! أرغب في معرفة ما تبقي من الحلمات بعد ولائم القضم.. كان داخلي كلي يرغبها.. الرغبات الميتة.. أجاهد نفسي.. أعاند.. سيسجد الشيطان لآدم هذا مؤكد.. لن يتكبر إبليس، ولن أصغِ له، ولن أؤيد قراره.. تسيطر علي روح المجون فأقول عابثاً:
- هل تؤمنين بذلك حقاً؟
فهمت مقصدي وفاجأها دخولي في الماضي مباشرة دون مواربة وأجهض سؤالي ما بدا في عينيها من أمل أن أكون قد أنهيت الماضي وأغلقت أبوابه إلى الأبد، وتبادلنا نظرة مليئة بالانفعال وفصل بيننا صمت كثيب.. صمت قاسٍ مليء بالتحفز.. وليس أفضل من السكون سوى الجنون وأنا الآن أفقد عقلي باختياري.. المكان هادئ والطاولات فيه متباعدة والإضاءة فيه خافتة جداً فلا تعرف ماذا تخفي الوجوه، وفجأة ارتفعت الموسيقى، فيم يبدو أنه عرضاً لفرقة من الغجر الأسباني والنساء في ملابسهن الواسعة وكل منهن تحمل مروحة يد خشبية تلوح بها أمام وجهها وتدور حول نفسها ليتطاير الشعر الغجري المجنون ويسافر في كل الدنيا..
صوت كعوبهن يقتحم رأسي وهن يخبطن الأرض في قوة دون أن يهتززن أحب النساء اللاتي يخبطن الأرض بكعوبهن بقوة دون أن يهتززن وأخذن يضربن بالصاجات بأيديهن ويصحن في نشوة عارمة بكلمات أسبانية تبدو سباباً أو إيحاءات خارجة.. صياحهن كالرعد.. والأضواء فوق النيل تنتشر كالبرق، وانتهت الفقرة فجأة كما تنتهي الأحلام.. صفقت في حماسة.
وجاء النادل وانحنى باحترام ووضع زجاجة من النبيذ الأحمر.. لم أبالِ بنظرات الفزع والاستغراب على وجهها لم تعهدني سكيراً.. ولكن إذا كنت تجلس في حضرة شيطانك فيجب أن تشرب الخمر.. وبدأت نغمة هادئة تنطلق في المكان وانطلق اثنين من الجالسين إلى ساحة الرقص شاب وفتاة تمايلا كأنهما جسداً واحداً التحما بحواسهما قبل جسديهما.. غابا عن العالم.. لم يكن رقصاً.. كان ذوباناً.. أيادي وأذرع تلتف حول الأجساد وأقداماً لا تلمس الأرض.. وانتشاء بلا حدود..
إن الحب هو المحرك الحقيقي لحياة الناس فرح ظاهر وخوف مكتوم يتناغما في لحن جنوني.. شعرت أن الموقف كاذب تغيرت ملامحي وأشفقت على الشاب من الخيبة.. ووقف جوارنا رجلاً يعزف الكمان وارتفع صوت القوس يلاعب الأوتار في لحن عاطفي حزين..
غشانا دخان السجائر.. يشكل أشباحاً في المكان.. شبح الثري المدلل من الدخان يدور حول النجف الكريستالي المدلى من السقف المزخرف برسوم النساء العاريات ذوات الأثداء الكبيرة اللاتي يقدمن أجسادهن كقرابين إلى إله إغريقي يبدو عربيداً ولا أعرف اسمه.. وثمة طفل عابث يعزف على قيثارة ذهبية لحناً فاجراً.. وبدا أن إيقاعاً جديداً في الطريق بيننا مهدت له بابتسامة.
وقالت:أردت مقابلتك بشدة، ثم مع تردد واضح:
- بيننا موضوع قديم.
أووه إنها في كل الأحوال نوعاً خاصاً من الجذور يربطني بالأرض التي أحبها.. أدركت ما تصبو إليه فقلت وأنا أرفع حاجبي وقد بدأ أثر الخمر يظهر في رأسي.. متمتماً بهدوء كالرثاء:
- أنا تحت أمرك.
بدأ الخمر يخفف من اضطرابي.. ها قد زال عني تماماً أثر اللقاء الذي سيطر عليَ في بداية رؤيتي لها.. وبدأت أزن الأمور بمقياس عقلي بعيداً عن العواطف.. بدأت تتكشف ليا الحقائق كما تتكشف الجزر للسفن الضالة.. العالم غريب مليء بالتناقضات ولا معنى لشيء إذا لم نعرف لماذا خلقنا ولماذا نعيش؟! والفراشة في الوشم على كتفها تترك الذراع وتحلق في سقف القاعة لتستقر فوق خصر إحدى العاريات..
كان الهواء خارج المكان بارداً ودسماً، لكنه مفعماً بالأماني والسحب تبهر العين بضياء القمر الذي لا يكف عن إلقاء تعاويذه الحزينة على صفحة النيل.. هذا هو نيل مصر الذي شرب منه الأنبياء والأولياء والناسكين والأشقياء، والسماء لم تعد هادئة.. امتلأت بالشهب وهربت كل النجوم.. والسحب التي ترحل لا تعود ولكنها عادت وتجلس أمامي بصدرها المكشوف..
والسؤال الذي يضرب رأسي المخمورة بقوة لأول مرة منذ عشرة سنوات هل كان حباً حقاً؟! هل من الجائز أن نطلق على تلك المشاعر التي تخفق لها القلوب وتبرق لها العيون وتتهدج الأنفاس وتشتعل القبلات الأولى واللمسات الأولى.. هل هذا حقا هو الحب؟!! ثم ماذا؟!! هذا هو السؤال وهو نفسه الجواب يا صديقي.. إنه ليس الحب إنه الغباء، إن حكاية حبي لن تحملك على فهم الحياة ولكنها على العكس قد تحملك على فهم الموت.. تتحطم كل الأحلام على صخرة الواقع المرير، العلاقة الحميمة وقوى الهوس ينقلب شراً عظيماً.. اكتشفت الآن إنني بخير أنا فعلاً بخير وكنت أحتاج إلى هذا الشعور الذي يسيطر عليّ الآن.. وكنت أحتاج في الماضي لتلك النهاية الحزينة لكي أبدأ من جديد..
من قال إن النهاية الغير مرجوة؟! هي آخر المطاف؟! آخر السعي آخر الدنيا، أصبحت بيني وبين الماضي مسافات كبيرة من الحياة.. لولا ما كان ما كنت وكنت وكنت.. أنا الذي بنيت ذاتي على أنقاض الحب الضائع وأنا أيضاً تمنيت هذا اللقاء وانتظرته طويلاً جرحاً في نفسي كنفس يعقوب عندما غاب يوسف، في هذا الموعد وهذا المكان نضع حداً له.. أشم ريح يوسف لم تكذب حينما قالت إن بيننا موضوعاً قديماً حقاً وصدقاً وأمانة هو قديم.. وسيظل على حاله.
تصاعدت شجاعتي مع سيل أفكاري المندفع، لقد مضيت عمراً في صحبة هذا الوهم الآن سألهو بالماضي القديم وليتقبلني الشيطان ولتغفر ليا سماء الحب..
قلت في جرأة ثابتة وبلسان ثقيل:
- أعرف ما تريدين ولا داعي للمراوغة، ومضيت في شجاعتي مهنئاً نفسي على الجرأة التي أكسبنيها الخمر الفاخر.
قالت متهربة من الحصار:
- كان أمراً أقوى مني.. ونفخت في غضب وقالت بصوت عال:لماذا يتعذر على الإنسان أن يعيش حياة هانئة في هذه الدنيا؟! ولمعت عيناها بأنداء الدموع..
- صحت متأثراً:فعلاً.. فعلاً.. فعلاً.
رباه إنها تزداد جمالاً مع مرور الوقت.. ما أشد استجابة نفسي إلى الحب وكأنه حبلاً سحرياً ألقاه المارة على نفسي وأنا ملقي في بئر عميق.. يوسف جديد يلتقطه بعض العشاق.. وأنتِ أيتها السيدة الجميلة كل شيء أو لا شيء..
واللعنة عليّ يوم أموت ويوم أبعث حباً.. قلت في حدة مقاوماً النور المشع من عينيها:
- ما الذي يرضيك الآن؟!
قالت في أسف بين وبحرارة وعناد واضح:
- أرجوا أن تسامحني هذا حقك.
تمتمت في تأكيد، وانبعث صوتي في حنق مكتوم:
- هذا ما قلته لنفسي.. هذا حقي..
ووهبت دقيقة صمت رثاء للجواب الذي تلقته ثم قالت مفعمة بالأماني محاولة إقناعي:
- نحن أولاد اليوم وفاتنا الكثير أنا لازلت أحبك ولم يخف عليَّ حبك لي بمجرد أن رأيتني.. وبِاسم هذا الحب أرجو أن تسامحني فقد رأيت في حياتي ما كان كافياً. ودعنا نبدأ من جديد كلانا يستحق بداية جديدة.. دائماً الحب يسمح ببداية جديدة...
مضى الحديث في درجة حرارة مرتفعة من الذي جعل المشاعر بمثل هذا القدر من اليسر في التحول والتبديل؟!! تستحلفني باسم الحب!!!
أين كان هذا الحب طوال هذه السنوات؟!! ماذا تعرفين أنتِ عن الحب؟!! إني أعرفك منذ عهد نوح.. فهل عرفتي أنتِ شيئاً حقيقياً عن الحب منذ هذا العهد؟! لقد فررت من السفينة وتركت الطوفان يلتهم جسدك الفائر، من قال إن قلوب البشر كالأبواب ذات المفصلات التي توضع في مداخل البارات الرخيصة.. عشرات الندبات تكونت في قلبي كأحجار البئر.. وروما لم يحرقها نيرون ولكن حرقتها خطايا أهلها وأطماعهم.. تستحق روما الحرق والدمار، والثري المدلل هل كان يحب قضم الحلمات؟ أم كان يلتهم بلا قضمات؟! ونساء السقف تفتح فخاذها البيضاء للإله في إشتياق , وهل أنا أحمق ذكي أم أذكي الحمقي؟
قلت وأنا في أسىً شديد والأفكار تتشابك في رأسي كخيوط العنكبوت والعصارة تهبط في جوفي ومعدتي من جديد:
- ما حدث بيننا أصبح تاريخ.
وضح في ضمة شفتيها الكبرياء الجريح.. ترنحت على الحافة.. وراحت الشمعة بيننا تحترق كأنها زفرات في القلوب..
لعبت الخمر والأبالسة برأسي فضحكت.. ضحكت بقوة اهتزت لها جدران المكان والأثداء الكبيرة في لوحة السقف، ضحك رتيب بلا بهجة.. بدأت السخونة تصعد من معدتي إلى رأسي.. أنا أفقد عقلي بغير اختيار.. وقمت إلى الحمام تقيأت بالفعل سواداً وصفاراً ومراراً.. وتبولت على المرآة وكتبت اسمها بماء البول، ثم ضحكت ثانية وثالثة وعيناي حمراوان من أثر الشراب ولبثت برهة مرهقة حتى تمالكت نفسي وقفت في خدر وأنا أتنفس في عمق لأريح أعصابي المرهقة.. وعندما عدت كنت شخصاً أخر.. أصبحت خفيفاً كالريشة..
هبت رياح باردة.. لا أعرف كيف تسربت في المكان!! رياح حملت رائحة النيل والأزهار العشبية والأماني الموؤدة.. ولمع نجم في الأفق كنار مستعرة.. قطع السحاب كندف القطن الأبيض والشياطين ترقد تحت السحب كما يرقد الدود في غلالة القطن.. وترقد في رأسي كما ترقد البغايا في الخمارات.. ابني لي صرحاً أيتها الجميلة لعليَ أصعد إلي السماء فآتيك منها بنجمين تضعينهما مكان مقلتي عيناك فهذه ليلة الصدق.
وقفت مكاني.. في حين تجلس الخائنة كالعنقاء.. فلنجعل البساط أحمدي فلنخلع ملابسنا وهواجسنا وتخيلتها عارية وأمعنت في التخيل.. فتقدمت ناحيتها ببطء وتثاقل.. رفعت حاجبيها المزججتين.. وعلا وجهها ابتسامة ظفر.. وهي تراني أتقدم نحوها لعلها ظنت أنني سأقبلها في فمها.. سأصدم أسناني بأسنانها كما كنت أفعل في الأيام الخوالي.. أفكاري رخوة وكأنها على وشك التفكك.. أرعشتني رغبة ملحة في قتلها سوف أستخدم سكين الطعام الذي لم نطلبه.. سوف أعثر بداخلها على ما أبحث عنه والذي لا أعرفه أنا أصلاً.. ولكنني أفقت من تصميمي المندفع وجفلت عن فكرة القتل.. ولكن تاقت نفسي إلى لحظة الانتصار المأمولة والتحرر الكامل.. وبلا تردد هويت بيدي بحركة فجائية على خدها لاطماً.. بكل قوة وعزم.. استدارت الرؤوس وعم الذهول ملامحها وبدا خيطاً من الدم ينساب من بين شفتيها.. وتكوم شعرها الذهبي فوق وجهها من جانب واحد.. لم يحاول أياً من الموجودين في المكان التدخل.. تواطئوا جميعاً بلا اتفاق على السلبية والحياد.. وجوه غريبة واجمة تحدق بلا كره وبلا مودة.. نظرت إليهم بعين مستعرة فأشاحوا بوجوههم كأنهم اشتركوا في إثم أو خطيئة.. و نظرت هي وفي عينها دمعة مكتومة توقفت عند حافة عينها الواسعة فبدت كالألق واكتشفت إنني لست جباناً لهذه الدرجة أمامها.. أحياناً نحتاج إلى قدر من الشجاعة لا نعلمه حتى في أنفسنا شعور غامر بالمتعة والألم والخوف والفرح والحزن.. شمشون قرر أن يهدم المعبد وهدمه.
وحل صمتاً عنيفاً قاتلاً في المكان كله.. حتى الراقصات الغجريات جلسن في طاولتهن ذاهلات يدققن بكعوبهن فوق الأرض في عصبية وارتفعت مع تلك الدقات دقات قلبي والقاعة تصبح تدريجياً بلا هواء.. أخذت أخر نفس في القاعة وقد ارتاحت نفسي بعد هذا القلم.. راحت تنظر إليً في ذعر وتضع يدها موضع اللطمة.. شاحبة الوجه.. براقة العينين.. تشهق وتزفر بصوت مسموع.. تنظر إلى صفحة النيل كأنها تستجديه أن يرد إليها جزءاً من كرامتها المهدرة.. هي ليست صادقة ولا بريئة بالشكل الذي تود الظهور به.. روح شريرة تسكن ذلك الفستان المثير وتتجسد في صورتها الجميلة.. دعيني أكون وصفاً لم يوصف من قبل على لسان البشر يا سيدتي الشيطانة..
تبادلنا نظرة كراهية وأصبح بيني وبينها مسافات كبيرة من الاشمئزاز.. وقلت لها وأنا أخاطب الجميع في نفس الوقت:
- اليوم هو يوم النهاية.. نهاية حب أو ما كنت أعتقد فيه أنه حب.. أنتِ بنت ستين كلب..
وكأنها تلقيت لطمة جديدة لأثر كلامي، تجمدت لحظات في غاية الانهيار واليأس وعلتها مظاهر الهزيمة والانكسار.. وأثقل الوجوم لسانها فَهامت في وادي الخيبة،وعادت إليّ الحياة في قوة.. وحان وقت الفرار.. نحن لا نفر أمام الحب إلا في الحب.. الآن تخلصت من أثر الحب وسلطانه العجيب.. وأنتِ أيتها السيدة الجميلة لا شيء.. لم يعد هذا وقتك ولا زمانك.
واستقر في نفسي أول إحساس بالارتياح في اليوم الجهنمي.. وبمجرد أن أعطيتها ظهري سمعت صوت صريخاً مكتوماً من إحداهن وأحدهم يردد:لا بكل قوة.. ضج المكان بصيحات التحذير.. لم أفهم شيئاً.. ولكنني شعرت بنصل حاد ينغرز في مؤخرة رقبتي.. سكين الطعام الذي لم نطلبه وانهمل الدم من الرقبة وأنا أدور حول نفسي.. أطوح ذراعي في الهواء بلا هدف كأنني أريهما للقمر.. طوراً أسبانياً رشق المصارع السهم في مقتل.. والنساء في السقف ترقصن بمجون.. والإله الإغريقي الفاجر يتبول على رأسي.. أحاول الوصول لموقع السكين بلا أمل.. دارت بي الأرض.. وتوقفت عن الحركة نبيلاً ومهزوماً.. لا فائز ولا خاسر في هذه الليلة.. تقوضت نفسي المنتصبة كأنني تهدمت.. مددت يدي نحو الفراغ فوجدت يدها تمتد نحوي تمسك يدي وهي تبكي.. الجرح لا يكف عن التفتح.. والدم يعلن التحرر والاستقلال.. والفراشة في الوشم عادت إلى الذراع.. انقضّ الفزع على نفوس الراقصات لم يدققن بكعوبهن ولم يضربن الصاجات.. بل علا صراخهن حتى وصل السماء.. سرت مترنحاً نحوها وسقط قلبي ميتاً بين ذراعيها المشتاقين.. اخترت الموت على صدرها يا نزار.. لا مزيد من الألم والذكريات.. وصرخت باسمي صرخة اهتزت لها أرجاء المكان وتخضب وجهها وفستانها بدمائي.. ولم يتوقف جسدها عن الارتجاف.. ضعيفة لدرجة لا تليق بقاتلة.. وثبّت عيني في عيناها.. للمرة الأخيرة.. وتجمد البصر.. وأنفاس الكون تخفت بالتدريج.. وارتاحت نفسي إلى الأبد.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.