Darebhar

شارك على مواقع التواصل

موج هادئ وشمس ساطعة ومياه زرقاء صافية ورياح هادئة وشاطئ جميل، حيث تقف سيدة أربعينية ممشوقة القوام جميلة الملامح حسنة المظهر، يتضح عليها مظاهر الترف والحياة المرفهة تقف مترقبة بعيناها الزرقاوين ابنتها التي آثرت نزول المياه في هذا الجو البديع، فقد مرت خمس سنوات كاملة منذ حادث وفاة زوجها في حادث مروري غامض أليم ولم تخطو مطروح مصيفها المفضل، ولكن الآن قد حصلت ابنتها الوحيدة (غزل) على أعلى الدرجات وستلتحق بكلية الطب لتصبح طبيبة كما كان يتمنى والدها دائماً.
لذا قررت حنان أن تأخذ ابنتها إلى مرسى مطروح لتتنزها سوياً كنوع من أنواع المكافأة لغزل -ابنتها وصديقتها وحبيبتها- التي تبث فيها الروح كلما نظرت إليها، وكيف لا! وهى كل ما تبقى لها في هذه الدنيا بعد أن توفت ابنتها الكبرى غادة وهى ابنة السبع سنوات كانت غزل حينها ست سنوات فقط.
فبعد أن عانت حنان كثيراً هى وزوجها (دكتور أحمد) مع ابنتهما غادة التي مرضت ب"لوكيميا" (أي سرطان الدم، من الأمراض المستعصية) ووالدها دكتور التحاليل لم يستطع أن يفعل شيئاً لابنته الطفلة التي فارقتها في هذا السن بعد عذاب عام كامل حتى ارتاحت من جميع آلامها وانتقلت إلى الجنات العلى.
تلك كانت إرادة الله أن يقفوا عاجزين ليس بوسعهم فعل أي شيء فالأب طبيب يملك العلم الواسع، وجواهرجي بالوراثة يملك من المال أوفره ولكن ما فائدة العلم والمال إذا كانت إرادة الله غير ذلك؟
وعاشت حنان فترة تعاني من المرض النفسي لفراق ابنتها ولم يتركها زوجها أبداً طوال مرضها وكيف لا! وهى زوجته وابنة عمه الحاج خالد الجواهرجي -عليه رحمة الله- وتزوجها تنفيذاً لوصية والده الحاج إبراهيم الجواهرجي -عليه رحمة الله- فكان لها نعم الزوج والحبيب وكانت له نعم الزوجة، فهم ملوك الذهب منذ قديم الأزل.
ظل أحمد بجوار زوجته حنان حتى تعافت بعد بضعة أشهر، وكانت حياتهم مكرسة لغزل الابنة الصغرى كل ما تبقى لهما فاستحوذت على كل تفكيرهما، وأصبحت هى شغلهما الشاغل كل ما تطلبه أمر وجب تنفيذه على الفور حتى في منتصف الليل.
وفي تلك الليلة المشؤومة غزل ترغب بالآيس كريم في هذا الوقت المتأخر من الليل، وينهض أحمد على الفور ملبياً طلبهاً، رغم أنه لتوه دخل البيت بعد يوم طويل من العمل الشاق في المشفى والمحل ويرفض أن يوقظ أم عبدو الخادمة، ويذهب بنفسه ليحضر لابنته آيس كريم، ولكنه كان ذهاب بلا عودة!
- أمي، أمي، تنتبه حنان لصوت ابنتها بعد أن سرح ذهنها للتفكير فيما مضى وما لاقته من عذاب بعد وفاة زوجها الذي طالما أحبته وطالما أحبها.
لتجد ابنتها غزل تقترب منها وتسألها في فرح واضح على صوتها العذب ووجهها الجميل الذي ورثته عن أمها بكل تفاصيله حتى لون العينين الزرقاوين والشعر البني الكثيف والبشرة البيضاء حتى أنك تحسبهم أختين دون فارق كبير بالسن فتلك الفتاة الصغيرة التي لم تتجاوز الثمانية عشر عاماً لا تفوق أمها كثيراً في الجمال وهى ذات الأربعة وأربعون عاماً.
تنادي غزل أمها في لهفة:
- هيا يا أمي، أتخافين الاقتراب من المياه؟
- هيا، لا تخافي شيئاً أنا إلى جانبك.
فابتسمت حنان وردت في هدوء ورزانة تعلمتها من الزمن وكثرة ضرباته والعمر الذي جرى بها دون أن تدري وتعاملها مع الكثير والكثير من مختلف أنواع البشر، تعلمته من حياة "الجواهرجية":
- كفى يا غزل! هيا لنذهب إلى الشاليه فقد بدأت الشمس تغيب وأنا لا أريد النزول إلى الماء.
وقد كانت عيناها الزرقاوين المرسومتان المكتحلتان بالرموش الكثيفة مرغرغتان بالدموع وهى تنظر لغزل مما جعلها تستجيب على الفور.
- حسناً يا أمي، هيا بنا أعلم أنك تخافين علىّ من النزول إلى الماء.
فقبلتها حنان على خدها الوردي الذي ازداد إحمراره من الشمس، وأصبح متوهجاً كالنار الموقدة في الهشيم وقالت لها:
"يافت"
فابتسمت غزل ونظرت لأمها بكل حب واحتضنتها كأنها اشتاقت إليها رغم أنهما لم يفترقا أبداً وذهبتا سوياً إلى الشاليه وهما تمسكان يدا بعضهما كأنهما يخافان أن تترك إحداهما الأخرى فتضيع منها، كقلب واحد يدق نبضاته داخل جسدين، وكيف لا! فكلتاهما لا تمتلك من الدنيا سوى الأخرى.
فدائماً ما تقول غزل في نفسها: خمس سنوات يا أمي وتجلسين إلى جواري لا تفارقيني إلا وقت النوم -إن افترقنا - ووقت ذهابك للعمل بالمحل فمنذ وفاة أبي وأنت تقفين كالصقر الجارح في الصاغة بدلاً من أبي، وتمارسين عملك وترفضين الزواج من أجلي كم أنت عظيمة يا أمي! في ريعان شبابك تخليتي عن كل متاع الدنيا لأجلي وآثرتي وجودك بجانبي، تأثرتي كثيراً وعانيتي أكثر سواء من مرض أختي ووفاتها وحادث أبي الغامض ووفاته، كم أشعر بالذنب! كم أشعر أني تسببت بمقتل أبي! وحرماننا كلانا منه ليتني لم أطلب منه شيئاً! ليته لم ينزل قط! لكنها الأقدار تخبّئ لنا ما تخبّئ، ولا نملك سوى الرضا، نخطو خطواتنا لأقدارنا خطاً محسوبة لا تقدم ولا تؤخر.
أسبوع مر كمرور الرياح وعدنا سريعاً من مرسى مطروح لنجلس بالمنزل وتضحك غزل وهى تتحدث في الهاتف مع صديقتها "مادونا" التي التحقت بكلية الآداب، صديقتها منذ الصغر...
ويدق جرس الباب وتذهب غزل لفتح الباب.
- "دكتور أدهم "... تفضل بالدخول أمي في انتظارك.
قالتها غزل في عجالة من أمرها.
ويجلس دكتور أدهم بالصالون الفخم المدهب الذي يحوي لوحات وأنتيكات أثرية لا تقدر بثمن، والسجاد العجمي الفخم الأنيق والأثاث (الإستيل) الذي كلما مر عليه الزمن ازداد سعره، وتذهب غزل لغرفتها لتكمل حديثها مع مادونا عبر الهاتف وتتركه بالصالون بمفرده، فهو ليس بالشخص الغريب فهو صديق والدها وطبيب نفسي معالج لأمها منذ سنوات، ويأتي المنزل كثيراً ليتابع حالة حنان النفسية منذ وفاة والدها، فقد كان صديقه الصدوق إنه الدكتور "أدهم صادق" طبيب الأمراض النفسية والعصبية ومدير المشفى منذ وفاة والدها.
وتدخل حنان الصالون ويفوح عطرها في المكان وترتدي ثيابها الأنيقة التي تعلن عن أنوثتها الطاغية فهو ذاك الفستان الأزرق القصير، مرتدية عقدها الألماس الذي يضفي بريقه جمالاً فياضاً مرأى العين، وأحمر الشفاه الذي يعلن عن حرب صماء، فلا تستطيع شفاهها النطق احتراماً وتبجيلاً لهذا اللون المغري، وحذائها الأبيض ذو الكعب العالي بصوته الرنان في كل خطوة تخطوها على البورسلين، كانت كعروس في انتظار قدوم عريسها المنتظر، وها قد أتى وستذهب لاستقباله.
قام الدكتور أدهم بإلقاء السيجارة من يده على الفور في الطفاية الفضية باهظة الثمن وهم بمد يده ليسلم على حنان قائلاً:
- أهلاً أهلاً!.. وما أن رآها إلا أن عجز لسانه عن النطق، فضحكت حنان قائلة:
- أهلا دكتور أدهم تفضل بالجلوس، ومد يده ليسلم عليها وقبل يديها، تلك اليد الفاتنة الناصعة البياض وأصابعها، ملمسها كملمس الشمع المحلى بخاتم من الماس لا تعلم من منهما يحلي الآخر هل اليدين تحلت بالألماس أم الألماس أصبح أحلى عندما وضعته في يديها الجميلتين وأظافرها اللائي تم طلاؤها باللون الأحمر القاني تلك السيمفونية العذبة التي لا يستطيع أي رجل ألا يسمعها، وبالطبع قد سمعها دكتور أدهم!
وجلست حنان على الأريكة المدهبة بوسط الغرفة وأمامها فنجان القهوة السادة الخاص بها قد أحضرته أم عبدو الخادمة مسبقاً مع فنجان قهوة آخر للدكتور أدهم وظل هو واقفاً يملي عينيه من جمالها، يطالع قدميها وبريقها الذي يزغلل العينين وحذائها الأبيض ذو الكعب العالي الذي يحب، فهو يعشق كل ما بها من تفاصيل كما أخبرها مراراً وتكراراً، وما العجب في ذلك فتلك المرأة التي شغلت كيانه وأطاحت بعقله حتى أصبح أسيراً لها ولجمالها دائماً ما كان يغار من صديقه دكتور أحمد الذي حصل على كل شيء؛ أسرة عريقة وامرأة جميلة وجواهرجي يملك المال الذي لا ينفذ وطبيب بارع حتى أنه كان ينافسه على إدارة المشفى، الأمر الذي كان يضايق أدهم دوماً، عجباً لأمر الإنسان الذي لا يقنع بما يملك! دائم النظر لما بيد غيره! ياله من طمع!
- ما هذا الجمال الذي أراه أمامي؟ ردت حنان مسرعة:
- اخفض صوتك غزل بغرفتها وقامت مسرعة أغلقت الباب.
وهذا هو الطبيعي والمعتاد دائماً طوال الخمس سنوات الماضية في العلاج النفسي والجلسات المعتادة حيث يتم غلق الباب وتستمر الجلسة قرابة الساعتين لا يقترب أحد من باب الغرفة، حتى غزل نفسها لا تجرؤ أن تدق الباب طوال جلسة العلاج، فالدكتور أدهم طبيب نفسي ممتاز وتحسنت حنان كثيراً عما كانت عليه من قبل.
وتجلس حنان على الكرسي متعجبة:
- ماذا دهاك يا أدهم! هل جننت؟ ألا تعلم أن غزل وأم عبدو الخادمة بالمنزل؟
اقترب منها أدهم وأمسك يدها قائلاً:
- أسبوع كامل يا حبيبتي ولم أستطع أن أراك، لم أحتمل كل هذا البعد صرت كالمجنون وانتظرت موعدنا بفارغ الصبر.
- فلتهدأ يا أدهم أربع سنوات ونحن نرى بعضنا يومياً تقريباً إما في بيتي أو بيتك الخاص ولطالما طلبت منك أن نجعل زواجنا رسمياً بدلاً من الزواج العرفي وأنت ترفض بحجة خوفك على بيتك وزوجتك وأولادك الأربعة، وأردت أن أبتعد عنك فترة لنعيد التفكير بالأمر، خاصة أني كنت... وقاطعها أدهم قائلاً:
- أي أمر هذا ياحبيبتي الذي يجعلك تبتعدين عني؟ ليس من المعقول أن يحرم الإنسان نفسه ممن يحب بحجة التفكير!
ويزيح أدهم بإصبعيه خصلة شعرها التي انسكبت على خدها فأطاحت بقلبه الذي كاد أن ينفجر به صدره من شدة ضرباته، ويطبع على خدها قبلة رقيقة ويضمها إلى صدره قائلاً:
- لا بأس سأفعل كل ما تريدين، ولكن علينا أن نلتقي بعشنا الصغير الهادئ لنتحدث سوياً بارتياح، ولتخبريني بالتفصيل ماذا فعلت بهذه الرحلة؟
ابتسمت حنان في خجل وأحمر وجهها فزاد جمالاً على جمال، وكيف لا تذهب لتلتقيه وهو حبيبها الذي ذاب قلبها عشقاً له!
***
- يرن جرس الباب وتذهب أم عبدو الخادمة وتفتح لتجد جعفر البواب ومعه التربي ومعهم شيء قاموا بلفه ويحملونه ويطلبون مقابلة الدكتورة غزل، وتخرج غزل ومعها مادونا من الغرفة وتقول له:
- هل أحضرت ما طلبته منك يا جعفر؟
- نعم يا سيدتي وهذا هو التربي أحضر الهيكل العظمي بنفسه.
- حسناً.. هيا احمليه إلى غرفتي يا أم عبدو
- سلام قولاً من رب رحيم.. سلام قولاً من رب رحيم.. وجرت أم عبدو إلى المطبخ.
ووسط ضحكات غزل ومادونا وجعفر والتربي استيقظت الأم وخرجت من غرفتها لتجدهم على هذا الحال، فقالت:
- ماذا يحدث هنا هل أحضرت الهيكل ياجعفر؟
- نعم ياسيدتي وهاهو التربي.
- حسنا يا جعفر! اذهبوا إلى المحل سآتي على الفور لمحاسبة التربي ولكن احذر ياجعفر أن يكون "شئال".
رد جعفر:
- ثقي بي يا سيدتي هذا السعر معقول جدا.
ردت حنان بجدية:
- حسناً اذهب وانتظرني بالمحل أنا قادمة.
واقتربت حنان من ابنتها قائلة:
- أريد أن تكوني أعظم دكتورة بالدنيا، وقبلتها وانصرفت إلى المحل وهى سعيدة، ها قد تحققت أمنية أحمد وأمنيتها وستصبح ابنتها طبيبة كوالدها.
تعجبت مادونا من كلام الأم وسألت غزل:
- ماذا تعني أمها بهذا الكلام الغريب؟
ردت غزل وهى تضحك:
تقصدين كلمة "شئال" التي قالتها أمي؟
وتضحك غزل وتكمل:
- تقصد ألا يكون التربي حرامي ويبالغ في سعر الهيكل فضحكت مادونا وقالت غريبة لغة الجواهرجية!
- أما كفانا الروايات والكتب التي تقرئينها بكل غرائبها وطلاسمها المليئة بالرعب، كان ينقصنا لغتكم تلك الغريبة أيضاً، قالتها مادونا لصديقتها غزل في استغراب.
- تعلمين أنني مولعة بتلك الكتب والروايات وقراءة كل ما هو غريب وشاذ، وإلا ما كنت تحملتك كل تلك السنوات أيتها المجنونة! وتضحك غزل ومادونا وتذهبان إلى الغرفة لاستكمال حديثهما الذي لا ينتهي.
وبينما تجلس حنان بالمحل تفكر، هاهى ابنتها التي طالما كانت صديقاتها يلقبنها ب(بنت الجواهرجية) ستصبح أعظم طبيبة كوالدها مثلما كان يريد أحمد وتعلن زواجها من الدكتور أدهم كما تم الاتفاق على ذلك، أنه سيعلن زواجهما بعد أن تتم غزل دراستها وتحصل على بكالوريوس الطب، فقد تحملت الكثير من أجل ابنتها ووقفت في الصاغة وحدها بيد من حديد تواجه كل الصعاب لتحافظ على أموالها هى وابنتها ولولا أن كان دكتور أدهم بحياتها لكانت أضعف بكثير، فمنذ أن اقتربت منه وصارحها بحبه لها بعد وفاة زوجها، وهى تستمد منه القوة والصمود دون أن تدري وجدت نفسها تنجرف إليه وتحبه، تأثرت به وأصبح شاغلاً عقلها وتفكيرها، كم كان حنوناً عليها ليس فقط كصديق لزوجها وليس فقط كطبيب يعالجها؛ إنما هو حبيبها الذي رق له قلبها وهربت من ظلمات الدنيا إليه؛ حيث وجدت الاطمئنان والحب.
كانت تذهب لمقابلته بشقته الخاصة السرية بعيداً عن بيته وكيف لا! وهو من شجعها على حبه وعلقها به وأعاد النبض لقلبها بوجوده وعادت لدنياها من جديد بفضله، فهى رغم جمالها لا ترى نفسها جميلة إلا عندما يراها فقط ولا تريد من الدنيا رجلاً غيره، تعلم أنه متزوج ولديه أربعة أبناء ولكنه الحب والاحتياج الذي جرفهما -مثلما أخبرها- فزوجته دائمة التقصير في حقوقه، ولا تهتم به كما ينبغي، فعرض عليها الزواج وتزوجها عرفياً حتى لا يخسر بيته، وحتى لا تخسر غزل هى الأخرى فتضيع منها وهى كل ما تبقى لها.
فهى لا ترغب بشيء إلا أن يعلن زواجهما وأن يعلم الجميع أنه زوجها فما دام يحبها -كما يقول- فما المانع أن يعلم الجميع أنه زوجها؟
كثيراً ما راودها شيطانها أن تذهب له مكان عمله بالمشفى أو بالعيادة ليخرجا سوياً أمام الناس ولكنها تتراجع وتوافق بالقليل وتذهب للقائه بشقته السرية بعيداً عن الأنظار، لطالما شعرت أنها تسرق ولكن سرعان ما يختفى هذا الشعور بمجرد أن تراه وتذوب بين أحضانه فماذا تريد بعد ذلك؟ وهى بين يديه زوجاً وحبيباً نعم سراً! ولكن ما يهم أنه موجود بحياتها، فهى لا ترى غيره رجلاً في العالم.
ماذا فعل بها ذلك الرجل؟ كيف سحرها وجعلها أسيرة بين يديه ولا تريد الفرار؟
كيف جعلها تحبه كل يوم أكثر وأكثر؟
رغم مساوئ ذلك الرجل التي تلاشت مع الزمن فأصبحت لا تراها، رغم أنها لا تعيش معه حياة طبيعية، ولا تستطيع أن تقضى معه يوماً كاملاً، أو تخرج معه أمام الناس، رغم كل شيء تحملت وتغاضت عن الكثير، فالمرأة إذا أحبت رجلاً كانت له جيشاً لا يقهر، وضلع لا ينكسر، فكثيراً ما كان يمر بضائقة مالية وتقف حنان إلى جانبه دون تردد، بكل نفس راضية فماذا يعني المال أمام السعادة التي تلقاها معه فالمال بالنسبة لها أرخص شيء في الوجود، كيف تبخل بأموالها وهو يملكها هي نفسها؟
فكانت تساعده بلا تردد وهو يقبل منها بعد معاناة طويلة ليأخذ المال، ويفك ضائقته المالية التي طالما تكررت في العام الأخير -في الفترة الأخيرة على الأخص- ووقفت حنان له سداً منيعاً قدمت له كل الدعم، وكل ما يحتاج فهو الرجل الذي تحب، أحياناً يراودها فكرها أنها لا تحبه وأن انحرافها إليه هو مجرد احتياج لا أكثر، وبإمكانها التخلي عنه وتتركه لزوجته وأولاده ولكن سرعان ما تتلاشى هذه الفكرة بمجرد أن يلتقيا ويحدثها عن حبه لها.
كوابيس مفزعة تطارد غزل وتحرمها النوم كلما أغمضت عيناها وجدت نفسها تقتل رجلاً ويداها تجريان في بحر من الدماء، تطعن وتطعن حتى تقضي عليه بالسكين!
تصرخ غزل وتجري حنان إلى غرفتها وتحتضنها، ماذا بك يا حبيبتي؟
- كابوس يا أمي! كابوس!
- هذا الأمر قد زاد عن حده، ثلاث شهور حتى الآن ونومك مضطرب والكوابيس تلاحقك لابد أن نخبر الطبيب النفسي، سأتواصل مع الدكتور أدهم ليرى ما الأمر؟
- لا، لا، لا يا أمى! لا أريد هذا الرجل، أكرهه بشده أكرهه!
تتعجب الأم وتسألها في اندهاش:
- لماذا؟ ماذا حدث؟ لقد كنتي تحبينه كثيرا! ولطالما أخبرتني أنه يذكرك دوماً بوالدك!
- لا أعلم يا أمي! لا أريد أن أسمع اسم هذا الرجل! لا أريد أن أسمع اسمه أبداً.
قالتها وهى منهارة بالبكاء:
- دائماً أراه في كوابيسي، دائما أراه يقف في الصاغة مع أبي ليشتري شيئاً، وينظر لي أبي قائلاً:
" الدفش اللي في شللك شئال"
أبى يخبرني أن هذا الزبون حرامي.
ومرة أخرى ينظر لي أبي ويخبرني"أشفور"
إنه يتلاعب بنا يا أمي! يتلاعب بنا! وأنا لا أريد أن أسمع اسم هذا الرجل أبداً.
- حبيبتي إنه مجرد حلم!
- لا يا أمي، أقسم لك أنني أشعر أني أراه أمامي وأشعر بأنفاس أبي وهو يخبرني بذلك حتى أن أبي ذات مرة أمسك يده وأخبرني " أدمون "، إنه ذهب مستعمل يا أمي رخيص الثمن، هل من المعقول أن كل الأحلام يظهر فيها أنه لص ومخادع ورخيص؟ جميعها تخبرني أن أبتعد عنه، وأنا سأسمع ما قاله أبي ولا أريد أن أراه في المنزل هنا مرة أخرى.
- كفى يا غزل لقد تماديتي كثيرا!
قالتها حنان متعصبة بصوت عالٍ لم يسبق أن فعلتها، وتنظر لها غزل في خوف صامتة، وتشعر حنان أنها قست على ابنتها فتقترب منها وتضمها.
علينا أن نهدأ ياحبيبتي ولنذهب لطبيب آخر كما تريدين، وتنظر حنان أمامها وهى تحتضن غزل لتجد الهيكل العظمي وقد ألبسته غزل قلادة غريبة الشكل تبدو من العصر الفرعوني.
- ما هذا يا غزل ماذا فعلتي بالهيكل؟ تسأل حنان وهى تضحك.
- إنها تميمة وجدتها ملفوفة معه فألبسته إياها كي أداعبه، وكان معها خيط أحمر ملفوف فقمت بلفه على يده كالحظاظة وتضحك غزل بشدة، بل وأسميته بالاسم الذي وجدته على التميمة باللغة العبرية أخبرتني حروفه مادونا فهى تدرس العبرية وتتقنها.
- وبماذا أسميته ياحبيبتي؟
قالتها حنان وهى تقبل غزل وتضحك.
- أسميته "شيتونو"
- ماذا؟ شيتونو؟ ماذا يعني هذا الاسم؟
- وجدته مادونا مكتوباً على قلادته، فظننت أنه كان اسمه عندما كان حياً، إنه مسكين يا أمي يبدو أنه كان يعاني عيباً خلقياً بوجهه في الفك السفلي، ترى ماذا كان شكله؟ وكيف كان يعيش بين الناس؟ وبه التواء بقصبة قدمه اليسرى مما جعل بها عيباً خلقياً، أي كان أعرج يا أمي، ياله من مسكين!
- ماذا؟ إذا لقد خدعنا التربي لابد أن يتم تغييره.
- لا يا أمي لا بأس به! لقد اعتدت أن أذاكر عليه واعتدت على وجوده.
- حسنا لا بأس، أشعر أن شيتونو أصبح فرد من أفراد المنزل هنا، وبينما تضحكان الأم وابنتها غزل ويقع فجأة الهيكل العظمي من مكانه وتنتبهان الأم وابنتها للهيكل وفجأة:
- ما هذا؟ قالت الأم متعجبة!
- ماذا يا أمي؟ ماذا حدث يبدو أن الهيكل وقع من مكانه، ماذا هنالك؟
- قالت الأم غاضبة على ما يبدو لا أتحدث عن الهيكل وإنما عن هذا؟
وقامت بإحضار سكين صغير ذهبي في جرابه الذهبي كانت موضوعة على المكتب.
- إنه فاتحة جوابات والدك وكان بالخزانة بغرفتي، هل أحضرته من خزانتي يا غزل؟ كيف تجرؤين على إحضار خنجر والدك من خزانتي المغلقة؟
- لا يا أمي بالطبع لم أحضره! لم أدخل غرفتك مطلقاً ولا أعلم شيئاً عن هذا الخنجر.
- عجيب! وماذا أتى به إلى هنا؟
- لا أعلم، إنها المرة الأولى التي أراه فيها، هل أحضرته أم عبدو الخادمة؟
وتذهب حنان إلى المطبخ تنادي: أم عبدو! أم عبدو استيقظي! وتضئ حنان النور وتوقظ أم عبدو الخادمة ولكن تجد أم عبدو نائمة بوضعية غريبة وملقاة على الأرض في غير مكان نومها، يا إلهي ملابسها ووسادتها مليئه بالدماء!
وتصرخ حنان! وتسرع إليها غزل لتفزع مما رأت، وبسرعة استدعت حنان الإسعاف وتم نقل أم عبدو إلى المشفى على الفور.
منذ أكثر من مائة عام تقريباً، وفي بلدة متطرفة منعزلة يسكنها عدد قليل من اليهود ذوي الأصول التركية الذين نزحوا إلى مصر منذ مئات السنين بالقرب من الإسكندرية، استشاط "شلومو" غضباً عندما أنجبت زوجته طفلاً به عيباً خلقياً بوجهه بفكه السفلي وقدمه اليسرى وأخفاه عن الناس وحبسه بالمنزل حتى لا يراه أحد من البشر في حي اليهود حيث يعيش، كان شلومو يكره النظر إلى وجه ابنه كان يشعر أنه شيطان لذا أطلق عليه اسم "شيتونو" مشتقة من شيطان، ولكن أمه بقلبها الحنون على ولدها صنعت له تميمة وكتبت عليها اسمه بالعبرية شيتونو ظناً منها أنها تحميه بعدما قرأت عليها بعضاً من التعاويذ.
كم طلبت منه زوجته " مارشيل " تغيير الاسم لأن ابنه لم يفعل شيئاً يستحق كل هذا العداء والكراهية! فيرد عليها شلومو قائلاً في ضيق وحزن:
- (أنا لم أفعل خيراً قط، من أين يأتني هذا الشر وأنا لم أفعل خيراً قط؟)
يالها من مساومة! يرى هذا ال شلومو أنه كلما فعل خيراً سيلقى جزاؤه شراً، أوليس هذا المولود خير الجزاء لك؟
ظلم شلومو ابنه بهذا الاسم، وزرع فيه كراهية كبيرة له، ولكن مارشيل كانت دائماً تواسي ابنها وتحسن معاملته فهو ابنها فلذة كبدها حتى وإن كان شيطاناً!
استغلت مارشيل فترات غياب زوجها الطويل عن المنزل في تعليم ابنها كل ما تعلمته من جدتها الآرمينية مارشيل الكبرى حيث عاشت جدتها بآرمينيا (بلد جبلي تقع في القوقاز في أوراسيا وموضعها عند ملتقى غرب آسيا وشرق أوروبا وتحدها تركيا وجورجيا وأذربيجان وإيران) وتعلمت منها الكثير من السحر اليهودي من البرديات السحرية اليهودية، التي كانت عادة على التمائم والقطن وأوعية التعاويذ فهى نقوش سحرية يهودية، على الرغم من أن السحر كان محظوراً كما في الكتاب المقدس العبري إلا أنه كان يمارس في نطاق واسع في تلك الفترة وكانت جدتها الآرمينية بارعة في هذا السحر، وسحر "الكابالا" وهو (سحر أسود باستخدام الخيط الأحمر، فهو يعالج علم الشياطين والأرواح الشريرة ويبحث في وسائل الاتصال بأرواح الموتى وكيفية تسخيرها عن طريق تناسخها وتقمصها للأجسام، وكلنا يعرف أن أعلى درجات السحر هو الذي يتم بدم الإنسان).
الكابالا وهو أخطر أنواع السحر، وهى كلمة من أصل آرامي تعني القبول أو تلقي الرواية الشفهية دون اعتراض، ويدعي أحبار اليهود أن الكابالا تلقاه النبي موسى شفهياً ومباشرة من الله، وهذا محض كذب وافتراء على الله، ظهرت الكابالا في القرن الرابع عشر في فرنسا حيث استخدموا السحر وقدسوه واعتبره اليهود سرهم الأعظم، معرفة اليهود للسحر موغلة في القدم جدا قبل ظهور الكابالا، لأن السحر قد ظهر أيام سليمان -عليه السلام- حيث أن الشياطين والجن كانوا مسخرين بأمر الله لخدمة النبي سليمان، وقد تعلمها اليهود خلال خدمتهم في قصر سليمان عليه السلام.
تعلمت مارشيل من جدتها الكثير منه منذ زمن وحان الوقت كي تعلمه ابنها، ليمتلك به بعض القوة دون أن يعلم شلومو شيئاً من هذا على الإطلاق، فعلمته السحر الأسود وطقوسه ورموزه والاتصال بأرواح الموتى ورغم أنه لم يكن بالذكاء المعهود لمن بلغ سنه إلا أنه أتقن هذا النوع من السحر وظل مرتدياً تميمته التي سحرتها أمه ولا تفارق رقبته حتى وهو نائم فتلك هى التعاويذ السحرية التي تحميه وتحافظ عليه، ومرضت مارشيل مرضاً شديداً أودى بحياتها، وظل شيتونو وحيداً فماذا يفعل دون أمه التي كانت تؤنسه وتؤازره؟
وذات يوم بينما شلومو كان خارج المنزل، خرج شيتونو للشارع لأول مره وعمره عشرون عاماً وحينما رآه الناس ابتعدوا عنه وهموا بالصراخ، وفزع شيتونو وقام بقذفهم بالحجارة فهو لا يعلم ماذا يفعل البشر في عالم البشر؟
وفي هذه اللحظة حضر شلومو، وكان مسناً وحينما رآه شلومو هدأ وجرى عليه كالطفل الصغير واحتضنه، وأدخله شلومو البيت ولكنه لم يكن شيتونو الذي كان بالأمس، فقد تغير عن ذي قبل وعلم معنى العدوانية من تعامل البشر وعدوانيتهم معه؛ فقد تغيرت طباعه وأصبح سريع الغضب يثور ويثور كلما اقترب منه أباه.
وفي لحظة من اللحظات استشاط شيتونو غضباً من أبيه الذي طالما تهكم ابنه، وعايره بعاهته فقام شيتونو بطعنه بالسكين فقتله وأرداه أرضا!
ترى كيف علمت القتل يا شيتونو؟
كيف لك أن تعلم أن بإمكانك قتل أبيك؟
منذ بدء الخليقة والقتل صفة متأصلة في بني البشر، منذ قتل قابيل هابيل وأصبح القتل متواجداً بين بني البشر، ولكن هل لك أن تعلم كيف تواري سوأتك يا شيتونو؟ كيف تدفن أبيك؟ كيف لك أن تعلم فلا يوجد غرابين يقتل أحدهما الآخر ويحفر في الأرض ليدفنه ويواري سوأته، أما شيتونو فلم يفعل شيئاً من هذا، فهو لا يعلم ماذا فعل؟ وماذا يفعل؟ هو ينتظر أن ينهض أباه ثانية ولكن هيهات!
وبعدما فاحت رائحة جثة شلومو وأحضر الجيران الشرطة، اقتحموا المنزل ليجدوا جثة شلومو شبه متعفنة ويجلس شيتونو بجواره ينتظر أن ينهض، ويهم الشرطي بالقبض على شيتونو ولكن هيهات! إنه قوي البنية طويل القامة مفتول العضلات لا يجرؤ جندي واحد أن يتقدم للقبض عليه، وما أن تقدم الشرطي فحمله شيتونو وأرداه أرضاً وهشم رأسه فقضى عليه، فهو لا يعلم ماذا يفعل؟ وما الذي سيحدث؟ كل ما يريد هو أن يبتعدوا عنه ولكن هيهات! فتقدم ثلاثة شرطيين للقبض عليه، ويحمل شيتونو الشماعة الخشبية العتيقة ويتخدها سلاحاً يدافع به عن نفسه، ويهشم بها رأس الثلاث جنود، قضى عليهم جميعاً وهرب الجميع فارين من الموت المحقق، ويجري شيتونو لا يعلم إلى أين؟ ويختبئ بمنزل قديم مهجور وترصد الحكومة مكافأة مالية كبيرة لمن يقتله ويأتي بجثمانه ولكن دون جدوى.
خاطب شيتونو نفسه أما آن الأوان كي يطبق ما علمته أمه إياه أن يتصل بروحها ويخاطبها، لابد من دم إنسان، وبالفعل يقوم باختطاف طفل صغير ليأخذ دمه ويتصل بروح أمه وينجح شيتونو في هذه الممارسات الشيطانية ويتصل بروحها ويتحدث إليها وتخبره بما يفعل، وبينما يمشي ليلاً يبحث عن شيء يأكله في هذا الليل الحالك ليجد قطة وأبنائها الثلاث الصغار يمشون يحتمون بأمهم في هذا الليل بظلامه الدامس ويخاطب نفسه أن لو كان قطاً صغيراً لن يجد كل هذا العداء ممن حوله من القطط، ولكنه بشراً وحيداً دون أخ يؤازره أو أم ترعاه وما شعر يوماً أن له أباً يحميه ويخاف عليه، ليته لم يخلق من الأساس ليلقى كل هذا العذاب، فهو الهارب من كل شيء ولا يملك أي شيء ولم يأخذ من هذه الدنيا شيء إلا السحر الذي علمته إياه أمه، فهو يختبئ ويتواصل معها قرابة الخمس سنوات وحيداً ملثماً متخفياً هارباً، يبحث عن أي طعام يأكله كالحيوانات بل أن الحيوانات تنطلق بالشوارع بحرية أما هو فلا، يخطف الأطفال ويقتلهم بلا شفقة ولا هوادة ولا رحمة، وكيف يرحمهم وهو لم يجد منهم الرحمة؟ يقتلهم بدم بارد ويحصل على دمائهم الطازجة ويتواصل مع أمه لتؤنسه، أحقاً لكل إنسان من اسمه نصيب! الآن أصبحت " شيطانا "بحق!
وتتكرر عملية اختطاف الأطفال ويفزع أهل البلدة ويضطروا لمغادرة بيوتهم وأرضهم خوفاً على أطفالهم، فلم يبق بتلك القرية إلا القليل من البشر الذين لا يقدرون على المغادرة إما لتقدم سنهم أو مرضهم، فالجميع يسكن بيته، وأصبحت البلدة شبه خاوية على عروشها، ويضيق الحال بشيتونو حيث أنه يعلم جيدا أنه لاستحضار روح لابد من روح أخرى تلك "مقايضة روح بروح!"
لذا؛ قرر الرحيل كما أخبرته أمه عندما استحضر روحها ولكن كيف له أن يغادر بهذا الوجه القبيح؟ وكيف سيتعامل مع هؤلاء البشر الذين لا يملكون رحمة ولا شفقة؟
إذن عليه التخفي من هؤلاء البشر! تلك هي الترتيبات الشيطانية التي علمها من تلك الروح الشيطانية التي اتصل بها في العالم الآخر، سيتخفي ويختبئ بعربة الفاكهة التي ستتعطل بالقرب منه ويغادر تلك البلدة التي أصبحت خاوية من الأطفال، وبالفعل تمت الخطة بنجاح ونجح شيتونو في الهروب لبلدة أخرى.
اختبأ ذلك المسخ الأعرج الملثم ببيت قديم وسط بلدة تعج بالبشر ويتسول حيث تأخده قدماه إلى أن وصل لحي راقٍ ومبانٍ فخمة حيث الرزق الوفير وسط هؤلاء الأغنياء، ويظل شيتونو ملثما خوفاً من أن يطرده القوم خشيةً منه ومن شكله البذئ يكفي أنهم يتقبلوه بينهم وهو أعرج وملثم، وكأنه هو الذي اختار لنفسه تلك الخليقة، الأمر ليس بيده ولكنها دنيا البشر، هو يعلم جيداً أنهم إذا رأوه سيرجموه ولن يتقبله أحد بينهم ويطردونه من البلدة كلها أو يلقوه في السجن، هذا هو طبع البشر هذا ما أخبرته أمه التي اشتاق لمخاطبتها ولكن لاستحضار روح لابد أن يفديها بروح أخرى، ماذا يفعل وسط هؤلاء القوم فهم يحافظون على أبنائهم كيف سيخطف أحداً من بينهم والبلدة تعج بالبشر وقد اشتاق لأمه؟
كل هذه النعم التي يعيش فيها ذلك المسخ ولا يستطيع الاستغناء عن السحر، إنه في دمه يجري في عروقه وبينما هو جالس على الأرض ينبش بعض أكياس القمامة ليحصل على فتات الطعام التي هى في الحقيقة ليست فتات إنما هى وجبات دسمة شهية لم يعتد أن يأكلها حتى ببيت أمه، فاشتد عوده وقوي صلبه وأصبح مفتول العضلات، هذا القصرعلى الأخص يلقي بالكثير من الطعام في تلك الأكياس، وأصبح ينتظرها يومياً فهى وجبته التي يعيش عليها وأصبح مقيماً على تلك البوابة لا يفصله عن البواب الجالس على مقعده سوى أمتار قليلة يجلس يسمع ويراقب ويأكل ويتحدث إلى البواب حتى علم الكثير عن هذا البيت ومن فيه.
أسرة عريقة متكاملة أب وأم وأبناء، ليته كان منهم أو مثلهم ولكنه حرم من كل هذا لم يجد أبداً ذلك الجو الأسري المتكامل ولم يكن له الحق أن يحلم به، فهو ذلك الطفل المنبوذ من أبيه والشاب الهارب المتسول المتخفي، يخشى كل شيء من البشر، وجد أن القطط والكلاب الذين يعيش معهم هم أحن عليه من عالم البشر، فهذا التمني الذي تتمناه ياشيتونو ماهو إلا ككلب يلهث ومقطوع ذيله ويلف حول لنفسه ليمسك ذيله بأسنانه عساه يشعر بالأمان ولكن هيهات! فعلام يبحث ويتمنى وما هو ببالغه إنه السراب بعينه!
وتأتي السيارة الفارهة على البوابة، ويسمع صوت النفير ويقوم البواب مسرعاً ليفتح البوابة، إنه "أيوب" باشا الصائغ أحد أكبر تجار الذهب كما أخبره البواب وزوجته "جلسن " هانم وابنته الصغرى مادموزيل "لياه " وابنه الأكبر "موسى بك" ولكنها الدنيا التي لاتعطى كل شيء مع كل هذا الغناء الفاحش إلا أن هناك شيئاً مريراً يعكر صفو هذه العائلة إنها لياه ابنته -المدللة- في كل هذا الترف فهى لا تقدر على المشي! نعم إنها مشلولة تجلس على كرسي متحرك!
1 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.