Darebhar

شارك على مواقع التواصل

قصة الحياة معي هي أنني ومنذ أن أظهرني الله فيها وجدتني أُصارع صروفها وحيدًا، وأُجابه نائباتها فريدًا، ولقد كانت النجاة طوقي وأماني بعدما تخطَّفت أيادي المنون كل من أنجبتهنَّ أمي معي من بنات يكبرنني وأخريات يصغرني، لقد كان للموت صولة وجولة في حِمانا، فقد نشأت أتزمَّل بهواجسه مساءً وأرتدي دثار رُعبه نهارًا كيف لا وهو ذاك الغاشم الذي أدمى قلب أمي التي ما رأيت عيناها تدمع ولاعرفتُ منها مُر البكاء إلا حينما فجعها بسلب فلذات أكبادها؟!
ولعجب أمري وغرابة ما مرَّ بي أنني كُنتُ أعيش طفولة مُنغَّصة إذ لم أبِتْ غرير العين ولا هانئ البال ولا ندي الأطراف- مع ما تنهال به أمي علي من دهن لأطرافي بزيت السمسم البكر و(بالسَّمْن) ، لربما كان ذلك لغرس شعور الأمان والطمأنينة في قلبي بمس أثر رحمة يدها الحانية التي تمررها كل ليلة على أطرافي فأشعر بدفء عطفها يتخلل مجاري الدم في جسدي وينداح في صميم فؤادي فأستكين وأهدأ مما أعالج من اضطرابٍ وفزعٍ .
لقد كنت كثيرًا ما أستيقظ في جوف الليل عندما يبتلع الليل في غياهبه الأرض ومن فيها فأصحو مروَّعًا من صوت نشيج أميوأزيز صدرها الذي يتعالى رغماً عنها لفقدها لبناتها اللائي صعدت أرواحهن وفاضت الى بارئها مُعلنةً الرحيل في شبح الظلام الظالم إلى رحابة النور وعالم البرزخ ، لقد بذر الليل في قلبي من حينها أول بذور الرعب والسلب وظل يرتبط لي بالفواجع والأحداث المريرة.
لا سيما وقد كان الليل يعني لي موتةً صغيرة ربما أُبعث بعدها أو قد لا أُبعث وان كُنت أحيا كل صباح مع الأحياء في دنياهم التي لم أستطع فهمها ولم أعرف لها معنى.
أعيش مع الأطفال في النهار مُتصنعًا اللهو وعندما أعود مؤمِّلًا أن أنام جوار أمي لا أجد لها أثرًا فأتحسس طيف روحها وشبح ذاتها والذي غالبًا ما يذهب بي إلي يقين مبارحتها لفراشها منذ مغيب الشمس ميممة وجهها قبور بناتها الصغيرات اللائي وارى جثمانهن الثرى وسقى قبورهن غيث الرحمة.
فأستجمع ما بقي في من قوة وأثور كالفِلو الوديع طالقًا أرجلي لرياح الليل تتقاذفني الأزقة وجدران البيوت المجاورة لبيتنا انحدارًا بعد انحدار وتعرجًا بعد تعرج وهبوطاً بعد صعود إلى حيث ذهبت أمي ولما أصل إليها أجدها جاثيةً على ركبتيها تبكي بدموعٍ ثخينةٍ فراق صغيراتها الوديعات اللائي لم يذُقن للحياة طعمًا، فأجلس بجوارها وأوصالي ترتعدُ من هول الغياب الذي أدمى فؤادها بعدما داهمنا فأغوص في حالةٍ من ذات الحزن الذي اكتنفها هي بفقدها أخواتي فيرتعش قلبي الكسير من هجعة الليل التي أصبحت هاجسي ومصدر خوفي وناقوس رُعبي.
-أخاف أن تموت هي الأُخرى فأفقد الحياة بفقدها، وأخاف أن يثور الليل بشؤمه فيغدر بها ويغيبها عني كما غيب عني أنيساتي وحرمني متعة ضحكة الطفولة مع الأقران، فأصرخ فيها ثائرًا لأُبدِّد حبال العبرة التي خنقت حلقي ولأتحرر من أغلال الخوف الذي يلتفُّ بي من كل جانب فأقول لها وبكامل قواي:
لماذا تفعلين بنفسك هكذا يا أمي؟ ألم يُصبحن في جوار الرب الرحيم؟
ثم أتوعَّد قائلًا: والله لإن لم تقومي معي إلى البيت لأموت لك كما مُتن منك أخواتي.
فتعي لنفسها وتفيق من غيبوبتها وتتسلَّل من ثوب الحُزن وتخلع حجاب الغم وتُلجم قلبها الباكي رويدًا رويدًا، وكأن كلماتي تهددها بصدق ما يعتلج في صدري من خوف سلب الموت لروحي فتتأبى هي وكأن الأمر في يدها أو في يدي أو كأنَّ بعدولها عن حُزنها ستصُد عني ملاك الموت وتمنعه من المساس بي، فتقوم من مقامها وهي تُجرَّ أذيال الانكسار بخُطى ثقيلة تُنب بثقل ما وقع في القلب من حادثاتٍ جسامٍ قطعن نياطه وأدمينه، ثم تذهب معي فتغفو عيني في نومها الممزق بهلاوس القبر وضيق اللحد وخيالات تصور لي كثافة الرمال التي سينهال بها عليَّ مُشيعيَّ حين أموت فأختنقُ حينًا وأزفر حينًا لهول ما أشعر به من أغوار وظلماتٍ تُحيط بي من كل جانب فأهمهم بكلماتٍ مبهمةٍ لأشعر من فورها ببرودة يدها تربتُ على قلبي مطمئنةً إياي ولسانها يلهج بالبسملة والتهليل وبيمنا هي على حالها تلك تمتد يدها نحوي بكأسٍ مملؤة بالماء لأشرب منهُ ما يُهدئ ضجيج روحي المُضطرم بنيران الفقد علَّهُ يُطفئ نار قلبي المُشتعلة بالأوهام والخيالات المضنية برشفةٍ من إمدادها لي ماء الحياة التي حتمًا سينجع أثرها ويصعد على إثرها نور آيات الوحي إلي عقلي فتغسلهُ من أوهامه وهلاوسه التي أرَّقته وأذهبت سكينتهُ فأشعر بآيات الذكر الحكيم تتنزَّل على قلبي بردًا وسلامًا لتخلع عنه في حينه كُل مكروه، ولتنتشلهُ من ذاك الضيق الذي ألمَّ به، ومما يؤكد لي صحة اعتقادي بأنَّ والدتي تسترقيني بالقرآن تذوقي لطعم لحاء (اللوح) الذي كُتبت فيه الآيات ثُم مُحِيت عنهُ.
أضف إلى ذلك تذوقي طعم (الدواة) والذي يُستخدم عادةً كعقار طبياً و ترياقا روحياً لإمتزاجه بأحرف التنزيل في الألواح كإكسيرٍ لعلاج الأمراض الظاهرة والباطنة التي لم نعرف لها علاجًا وقتذاك إلا تلك الآيات.
ولتلك الأيام وذكراها صدى لن يُبارح قلبي ما حييت ،لقد كان مهد الطفولة بالنسبة لي هو العيش وسط طائفة من الصبية الذين رفد بهم أهاليهم إلى بلدتنا لحفظ القرآن الكريم فكانت العلاقة فيما بيننا أخويةً نتقاسموا فيها حتى فراش النوم وقد كانت أمي من النساء القلائل اللائي حظين برعاية مجموعة من حيران وطلاب المسيد الذين كلفها جدي الخليفة بخدمتهم وطهي الطعام لهم مع توفير حاجياتهم اليومية من ادخار مصاريفهم وتأمين فرش نومهم -مع قلتها وقتذاك- ليُركزوا هم في مهمتهم التي ابتعثهم أهاليهم من أجلها.
ومما أذكر من تلك الأيام الحافلة بالذكريات الشجية والجميلة آنئذٍ أن أمي كانت امرأة سخية تجود بكل ما أوتيت دون أذًى ولا منَّة، فقد كانت تسقي (الحِيران) الذين كان يتأبى عليهم ذويهم شرب الماء فكانت تروي ظمأهم من ماء (زيرها) الزلال ثم تُتبعهم عبارات الشكر والامتنان لكونهم شربوا منها وأكسبوها الأجر، والعجيب أن ذلك الزمان كانت السنين قاحطة جدباء قلَّ ما يعثر الناس فيها على الماء وان كانوا يقطعون لها أميالًا ويحفرون لها الأرض أبارًا يبلغ طول عمقها أحيانًا الأربعة أمتار وغالبًا ما يفشل الحافرون في العثور على الماء فيكلل تعبهم خيبة الأمل وعناء الجُهد، وفي ضنك الحال وقلة ذات اليد تلك وتعثر السُّبل وشُح الموارد كانت أمي تجود بكل ما تدخر وتقوم بذلك وهي مُستبشرةً بقدوم الطالبين فرحة بإقبال المحتاجين ملبية طلب القاصدين.
وأظن أن وراء ذلك الأمر سِر لا يعلمهُ إلا الله إذ لم أرَ (زير) الماء الذي تملؤه فارغًا منذ أن ترجَّلت الخطى، وهذا مما أحمد ُالله عليه لكوني سمعتُ وترامى إلى أذني أكثر من مرة أن (زير) والدتي باركهُ جدي الخليفة حينما تفل فيه من ريقه فلم ينضب ولم يخلو من الماء منذ ذلك الزمان، وقد أوَّلتُ ذلك بأنهُ من بِرّ جدي الخليفة وإحسانه لأمي ليمتد أجرها في أعظم الأشياء قدرًا وأجدرها نفعًا وهي الماء حيث الحياة وإذ لا حياة بلا ماء، وكأن جدي حينئذ يريد لأمي أن تكون هي الحياة لكل مَن دنا وتدلّى فتكون تلك الخاصية وهذه الهبة منحة لها نظير حرمان القدر لها من بناتها اللائي رحلن باكرًا ليفسحن لها المجال لأن تكون أُمًّا للكُل.
تجابه أمي الأيام بحلوها ومرها، حلو عطاءها وإحسانها ومُر فقدها لفلذات أكبادها اللائي لم يندمل جُرح فقدهن ثم تمُر الأيام بآلامها التي انطبعت على قلب أمي مُتجلِّية ظاهرةً في خضب شعر رأسها الداكن السواد ليتحول بعد ذلك السواد الدامس إلي بياض ناصع شابهَت هيئته النور في وقاره وقداسته فغطى الرأس البياض رغم صغر سنها وقتذاك.
أما شخصي فظللت أنمو مع الشهور والأعوام لأغدو ربَّ البيت وفتاهُ المُدلَّل الذي يمرح في محيطه ملكًا تُطبطب علي يدا أمي وتحنو علي بعطفها وحنانها الذي أغرقتني فيه لتفرُّدي لها ولخلو قلبها من غيري.
فأخرج للحياة في ثوب البطل الذي يخوض المعركة وحدهُ بلا سندٍ ولا عتادٍ إلا جيش الثقة والبسالة الذي ورثتني لهُ ونشَّأني عليه أبي بصكِّه وترويضه لي على خوض المكاره ولزوم الانتصار فيها، وكثيرًا ما كُنت أخفق في البدايات لكوني لم أجد قدوتي في الميدان يقاتل لأستلهم وأستشف منه آلية القتال وأحترفها، مرَّة تلو الأخرى وظرف بعد الآخر وحدث وتاليه إلى أن قوي عودي فأضحيتُ أثب على الصروف كالليث الضاري فأنتصر لا محالة على كثير مما يلم بي من عوارض وأتجاوز كثيرًا ما يعترضني من عقبات، وليس ذلك إلا بالصبر والعزيمة والثبات يا ولدي.
هكذا بدأني الشيخ بسرد قصة نشأته وذلك حينما سامرتهُ ذات ليلةٍ قمريةٍ من ليالي نصف شهر شعبان فطلبتُ منه أن يتفضل علي بسرد كل ما جرى أو شاهد في حياته لأوثقه في صفحات يقرؤها الناس حيثما شاءوا فعاهدني على صدق القول وبيان السرد لكل تفاصيل حياته دون مُغالاة ولا تشذيب، علمًا بأنهُ ما كان ينبغي له أن يُعاهدني على ذلك فهو الصادق الذي لم نعرف عنه كذبًا إلا نواياهُ الطيبة التي يغمر بها العدو والصليح فيؤولها العدو زورًا وبُهتانًا ويفهما السيئ كذبًا ونفاقًا ولعمري هي في الحقيقة بُشرى وفألًا حسنًا يحمله بين جوانحه وبجوارحه قولًا وعملًا لكل من هب ودب.

* * *
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.