Darebhar

شارك على مواقع التواصل

"خلتُ أني لن أرى نور وجوهكم أو نور الدنيا مرة أخرى، خلتُ أني سأبقى خالدا في مجاهل الظلمات إلى أن تهلك الحيوات، خلتُ أن الرب تناساني، وأمسك ملاك الموت عن تخليص روحي المنتهكة من براثن جحيم عمال مصنع الزبادي، وها أنا الآن بعد وقت طويل يعجز دماغي عن تقدير مداه الفعلي، حيث كنت أقبع قعر زنزانة ضيقة، باردة، موحشة، دهماء، تعف الجرذان عن وطئها، أرجع إليكم، ومن جديد أبصر ضياء الشمس الواهنة، التي يتكبل وهجها حر السجية بأصفاد رئيس العمال الغاشم، المستبد.. بربك خبريني أي ذنب اقترفت حتى أبعد قهرا عنكِ وعن الصغار، أي إثم ارتكبت حتى أهان وأجلد وأكهرب، بالله لماذا اعتقلت، ولماذا حررتُ؟!". هكذا حدث "عمار" زوجته في لحظة يأس وانهيار.
***
قبل سنوات، وبينما كان "حسين اللوزي" خمسيني العمر، الذي يشتغل كموظف في إحدى المؤسسات، يشاهد التلفاز، وبعدما كون وجهة نظر راسخة عما يجري حوله من أحداث، قام، وجاء بورقة وقلم، ثم شرع يكتب..
"كيف أكون مواطنا زبداويا شريفا؟"
ولم يتخطَ ما سطره أبعد علامة الاستفهام، هو كهل، بسيط المعيشة، بسيط الملبس، بسيط العقل، ولقد كان هذا السؤال بالنسبة له أعقد من أسرار مثلث برمودا، مضى يفكر، إنه بلا مراء يقدس عمال المصنع ويضع كيانهم فوق أي بشر أو إله، وهكذا يفعل مع حلفائهم موظفي شركة التأمينات، ثم أنه لا يقرأ أو يستمع أو يطلع إلا على ما تقر حكومة الزبادي أنه صالح لدخول عقل المواطن الراشد الصالح، لدرجة أنه يفعل مثلما فرسانهم في الإعلام ينصحونه أن يفعل بالتمام، حتى إن خسره ذلك الفعل ماديا أو أضره معنويا، ولكنه.. رغم هذا التفاني وهذا الصلاح، ما زال يشعر أن ثمة شيء ناقص في الأحجية، شيء ربما يجعل ولاءه محل شك، وشخصه موضع عقاب.
عصر عقله، أنهك التفكير رأسه، ولم يصل لماهية القطعة المفقودة، تلك الليلة جافاه النوم، هجره النعاس، فنهض سالكا درب المقهى، عساه يستأنس بحس الناس، وليزيح عن ذهنه أطنان الهواجس والتوجسات.
يقطع أزقة الحارة ومنعطفاتها متئدا، لا يرفع طرفه عن الأرض، يتعمد حني ظهره، رغم أنه لا توجد به علة تجبره على الانحناء، يميل على كشك سجائر، يتذكر أنه ما زال يفصله عن موعد نزول الراتب ثلاثة أيام، فيبتاع عمودان أبيضان على سبيل الفرط، يلج المقهى شعبي المحيا، طرقعات النرد، وقهقهات الرواد، دخان الجوزة، وروائح المشروبات، يشعرونه بالدفء وبعض الأمان.
يجتلس مقعدا خشبيا يتمركز قريب التلفاز، والنادل يسأل:
- ماذا تشرب؟
يتحسس جيبه، يختاله الخواء، فيقول:
- ليس الآن.
ثم ينصت مشدوها بافتنان إلى حديث ذلك المذيع، الخبير ببواطن الأمور، وحقائق الدول والسياسات، المذيع الأريب، مفوه اللسان، الذي يناقش كيف أن بلادنا الغالية الأغلى من العيال تشهد نهضة غير مسبوقة تضاهي المعجزة على كافة الأصعدة، وكيف أن العالم برمته كبار وصغار يتآمر علينا ويحيك ضدنا، ولكن هيهات لك أيها العالم الشرير الخبيث، فلن تخيل مكائدك الصبيانية على عمال المصنع الأبطال، ورغم أنفك سيظل وطننا عاليا، متعاليا، شامخا، وإن خانت ثلاجات الدنيا كلها علب الزبادي، فنحن على أتم استعداد كي نحملها على أعناقنا وفوق رؤوسنا كتيجان.
وفيما هو يتلذذ بالقوة التي تبثها في داخله العبارات الرنانة، أصغى مَن يهمس من الخلف بتهكم فج قاصدا مذيعه الأثير "اللعنة عليك أيها الأفاق الأجير..".
فالتفت للوراء جزعا، ليجد شابا بالكاد منذ عام أكمل من العمر ثلاثة عقود، كان يعرفه، هذا جاره التافه "عمار" الذي يعمل صحفيا في جريدة متوسطة المكانة.. هما فقط أمام التلفاز، وبقية الزبائن كل واحد في حال.
"كيف حالك يا عم حسين". بادره عمار.
أجابه بإيماءة فاترة.
فتابع الشاب، وهو يشيح بذقنه ناحية المذيع:
- لا أتصور أنه يوجد أدميا بدم وعقل يصدق هذا المنافق وأمثاله.
هنا تثلجت أطراف اللوزي توترا، واحتقن أديمه حنقا، استشف أن الفتى قصد توجيه إهانة مستترة له، ولم تكن هذه نية الفتى، إنما هو مكبوت، مفعم بالغضب، وأراد أن يخرج كمده على هيئة كلمات علها تحيل شحنات السخط التي تترع غياهبه إلى دخان يطير، ولعله ظن أن جاره "اللوزي" الثوري، القح، القديم، هو خير مَن يتفهم تبركن لبه وما يختلج صدره.
جاهد اللوزي كي يتجاوز ربكته، ولم يفلح، قال:
- يا عمار أراك تتحدث حديث الخائنين، بائعي الأوطان؟!
فضحك عمار الذي رآها دعابة سديدة، لكن، امتقاع وجه اللوزي، وامتعاضه الجلي، جعلاه يدرك أن الرجل لم يكن يمزح، فقال متعجبا:
- حقا.. أنت الذي ينطق بهذا الهراء يا عم حسين، بربك أتعتبر المخالف لبعض سياسات عمال المصنع خائنا؟!
- ولماذا تخالفهم، هل ترى أنك تفهم أكثر من عمال مصنع الزبادي يا عمار؟!
- لا أدعي أني أفهم أكثر من أي أحد، ولكن، يبقى لي حق المجاهرة بآرائي بحرية، وأرفض تقديس أي بشر، مثلي مثله، وقد جُبلنا جميعنا من طين.
- ينقصك أن تقول أنك تريد معاذ الله إسقاط رئيس العمال المجيد!
- وماذا إن سقط؟!
ارتعد اللوزي، وصدح بحس مرتعش تعمد أن يكون عال:
- إن سقط رئيس العمال معاذ الله، سيتشرد أطفالنا، وستترمل نساؤنا، وستهلك بلادنا، إن سقط رئيس العمال معاذ الله، سيستبيح الأعداء أرضنا، وستُهتك أعراضنا، وسننتهي جميعنا.
ثم هب واقفا، ولى عن المقهى، وجل، يسرع الخطى، يبتغي بيته، وقد انكمش جسده على بعضه، وتتضاءل حجمه، كتفاه تقوسا للأمام، حتى جثما على ضلوع صدره، وها عمار المحتار يلاحقه، يعدو إلى جانبه، يود تبرير موقفه، يود توضيح مقصده، حيث راحت الكلمات تنسكب من حلقه:
- يا عم حسين، تمهل.. لعمري لا أعرف ما الذي تفوهت به وعكر مزاجك إلى هذا الحد.. أنا كنت أعني فقط أن عمال المصنع ليسوا بأفضل منا ولا نحن أفضل بالطبع.. جميعنا بشر يخطئ ويصيب.. وقوتنا في تكاملنا لا في تمييز بعضنا على بعض، وتولي سدة الحكم بالغصب.. وإذا سقط رئيسهم، فما الضير، بلادنا ولادة وأحسن منه تأتي بألف ألف.. في الحقيقة لا أدري ما يميز مصنع الزبادي عن مصنع المربى عن فرن العيش.. فلكلهم كافة التقدير والشكر.. ولكن، التقديس الأعمى يا رجل التقديس الأعمى، عليه كل التب، بالله أيوجد في الأرض مؤسسة لا تخضع لحساب أو رقابة من الشعب، وعلى كل، كلماتي هذه ما هي إلا هرطقات ساعة بؤس، ولا قيمة لها وقت الجد.
***
خلال الأيام التي تلت خروجه من المعتقل، عرف عمار دافع تحريره، وإذ ظل سبب أسره لغزا لا يعلمه سوى أصحاب الشأن، قرأ المشهد وحلل، ولم يكن صعبا عليه استنباط ما كان في أمر فتح زنزانته، فالماما مُسيرة العالم، وراسمة أقداره، ناكحة الشرق، والمتلاعبة بحكامه، قد تمخضت ديموقراطيتها عن سيد جديد، لا تستهويه السياسات "غاشمة البطش" التي ينتهجها رئيس العمال خاصتنا، ولذا أصدر سيد الأرض أوامره لسيد المصنع "اسمع يا رفيقي، في هذه المرحلة، سأبيح لك "البطش" أما "غاشمة" فنحها على جنب أو لفها في كيس".
وهكذا أدرك عمار أن اطلاق سراحه، لم يكن إلا دمعة في صحن، قدمه كبيرنا كقربان من أجل استمالة خاطر الكبير الحق.
على مدار أشهر عانى عمار من الفقر والقحط، الالتزامات أكوام تكسر الظهر، ولا شغل، فالسيرة أمست أكدر من الوحل، وذات ظهيرة قائظة الحر، تلقى مهاتفة، باغتته، وأوغرت القلب، وقبل الموعد بساعة كان هناك، ينتظر كأنه مقيد على صهريج جمر.
قال له:
- يا عمار، نحن نعرف أنك رجل زبداوي صميم، ونتشرف بك..
فأومأ مفتعلا الهدوء، ولم ينبس، فيما خلده يسل "إذا لماذا سجنتموني ودمرتموني يا باشا؟!".
- يا عمار، لعلنا أخطئنا في الماضي عندما اقتلعنا الألسن وخيطنا الأفواه، وها نحن تعلمنا الدرس.
فأومأ مفتعلا الرضا، ولم ينبس، فيما خلده يصرخ "تعلمتم على حساب عمري وسمعتي وكرامتي ومستقبلي؟!".
- يا عمار، فلنقبر سالف الأيام، ولندخل في صلب اللقاء، باقتضاب، قررنا أن نمنح "عصام مأمون" وقتا أفسح على الشاشات، كي يكون منبره متنفسا للناس، ونريدك معه في الإعداد، ونعدك بمرتب مجزي ومكانة مقدرة، وفرصة ممهدة للارتقاء، فما أجمل أن يعرف العوام أن القائم على اعداد البرنامج معتقل سياسي سابق له صولات وجولات في التمرد والنضال.
***
ذلك المساء البعيد، بالتحديد حين هرع اللوزي واثبا درجات السلم صوب مسكنه، دون أن يهب عمار رمقة تفهم أو تلويحة سلام.. ليلتئذ لم ينعس اللوزي ولو سويعات، فلقد عكف بدنه يرتجف ويرتج كما الممسوس من ألعن الجان، بينما دماغه ساحة وغى، والكريهة احتدمت ويلاتها، خاتلته ذكريات الأعوام المريرة التي مكثها حبيسا في كروش المعتقلات، الحديد والنار، الجلد والصعق، الذل والمهانة. محال، محال، هو الآن زبدواي وطني أصيل، داهمه سؤال، هل يمكن أن يكون عمار بصاص متخفي يتبع موظفي شركة التأمينات، أم يا تُرى عمار فعلا خائن، بائع أوطان؟!
فكر لساعات، ومع بزوغ الشمس، كان قد استقر واتخذ أسلم قرار.
يهرول، يتعرق، ينهج، يقعي إلى جوار "جابر" البصاص، يتلو عليه ما جرى، عيناه داميتان، مقلتاه جاحظتان، ويضيف بما استشفه هو من بين ثنايا كلام عمار بموجب خبرته كخائن سابق قومه الكبار، يختتم فيقول "إنهم يتمتمون لي، يحاولون إفسادي من جديد، وذاك الشاب هو رأس الأفعى، مبعوث الشيطان، والله إني أشتمهم عن بعد ميل".
أفرغ ما في جعبته، فربت البصاص على كتفه، وأعطاه سيجارة شهية حمراء، عندها شعر اللوزي أنه أزاح عن كاهله حمل أتلال، شعر أنه عثر على القطعة المفقودة من حل الأحجية، شعر أنه أخيرا أصبح مواطن زبداوي شريف كامل النقاء، فأحس لأول مرة بالأمان التام.
عصر ذلك اليوم، قام جابر البصاص بنقل إخبارية اللوزي إلى رئيسه وقد استهل حديثه بكهل مجنون، يمشي بين الناس، ولا يلاحظ أحد مروق عقله أنبئني أن..".
في الحقيقة لم يكن موظفي شركة التأمينات ليأخذوا وشاية اللوزي على محمل الجد، لو لا أنه كان عندهم وشايات مشابهة عديدة، سبق أن نقلتها أعينهم المكنونة في الجريدة التي يعمل بها عمار، فالشاب كثير الهذيان، وكم منعت مقالاته الحائدة عن الصراط من النشر، وكم عنفه المديرون وحذروه، لكنه لم يرتدع، وتمادى حد الخبل، بيد أنه يحتاج إلى تأديب، وعملا بالمثل القائل "مَن التسع من الشوربة، فلينفخ في عصير الرومان"، داهم موظفي الشركة مخدع "عمار" فجر اليوم التالي، وكان ما كان في أمر الاعتقال.
***
"يظل الإنسان يخال نفسه البطل المغوار، الذي يخوض في مجاهل الأقدار، بصدر عاري، وقلب همام، ويزدري كل متملق يخالفه الرأي، ويبيع الأوهام، حتى يجد ذاته فجأة في موضع الاختيار، فتنقلب الأحوال، هل كنتُ أظن أنه إذا أتت لحظتي سأعاني هذا الكم من التشوش والشتات، وأتحير القرار، ها هم عمال المصنع يسعون إلى تدجيني، وتقديمي للعوام كمعارض عادل اللسان، والواقع أني لن أكون إلا بهلوانا في مسرحية جدها أهزل من ثرثرات الببغاوان، ولكن، إن أبيت اقتناص الفرصة، فثمة ألف بديل على أهبة الاستعداد.. الفقر والعوز، أم المال والمكانة وسعادة الأطفال فالسكينة وراحة البال، المهم، رفضي لو تم بمَ سيفيد الناس، بالله أدُمى الطين تلك يهمها مصيري من الأساس؟!". هكذا فكر عمار، ومن ثم اختار، واعتزم القرار.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.