Darebhar

شارك على مواقع التواصل

كانت ضربات المطر العنيفة تجلد البلدة، حين خرجتُ إلى الشرفة كي أشعل سيجارة، لاحت الشوارع فارغة كأنها مدينة أموات، بلا ريب بفعل الطقس عارم السوء، وعلى الرغم من أن الوقت ضحى، إلا أن الكون بدا داكنا، كئيبا، وفي الأعالي أبصرتُ غيمات رمادية، واطئة، تحجب الشمس وتنشر الظلال كما لو أنها مضخة غمام، ولشدة قربها فكرتُ أني إذا صعدت إلى السطح، ورفعت يدي، لربما أمسها، ثم قطع تفكيري الأرعن هذا شبح القادم من هناك، كانت فتاة تبان كنقطة ظل تتراقص وحيدة في البعيد، تتوأد السير، تتهادى تجاهي، جذبني طلتها الغريبة، حيث تفتح ذراعيها، وتولي ناظريها صوب السماء المعتمة كيمامة تتوق إلى الحرية، كأنها تستمتع بانصباب دفقات المطر على صفحة وجهها، والأعجب هو ردائها، كانت تتشح فستانا أزرقا سحيق الطراز أسفل فراء صوفي، محياها العتيق أومض في عقلي فكرة تصورها كشخصية خارجة للتو من إحدى روايات جورج أر مارتن التي تدور مجرياتها في عالم يشبه العصور الوسطى.
عندما أصبحت أسفل شرفتي مباشرة، همستُ في نفسي حاقدا "مومس مجنونة".
"تأدب أيها الحكاء الوغد". صاحت ناحيتي بحس صارم.
اللعنة.. كيف سمعت ما يدور في ثنايا خلدي وما أدراها أني حكاء، هل تعرفني؟!
المهم، قررتُ الصمت حفظا لكرامتي، وعلى عكس رغبتي الخفية الملحة تظاهرت بتجاهلها كأن كلماتها تلك لم تصلني، لكنها لم تفعل، لم تكمل طريقها، بل بقيت مرابضة أسفل شرفتي.. أنصتها تقول:
- عزيزي ألا تريد مشاركتي بعض الجنون؟
شعرتُ في نبرتها بشيء من التهكم، غير أني لم أستطع مقارعة رغبتي هذه المرة، حدقتُ بوجهها محاولا التفرس في ملامحها، ولم أر شيئا! فرغم أنها تنظر صوبي مباشرة، لم أدرك من قسماتها قيد أنملة، بدا وجهها خاليا، وساطعا كمرآة تعكس ضوء الشمس الغائبة أصلا... أحسست بأجيج الفضول يتناهش دواخلي ويدفعني كي أفك طلاسم هذا الكائن المبهم الغامض، فكرتُ.. ما الضير من استكشافها؟ فأشرت لها أن انتظري أنا قادم.
بمجرد أن استدرت كي أسلك المسار المعتاد، من الشرفة إلى الصالة، ومن ثم الدرج، ثلجت المفاجأة أطرافي، وتزلزل فؤادي، وشُل عقلي.. تبا أين أنا.. هذه ليست شقتي؟!
إنه بيت خشبي مهترئ، مطلي بما يظهر كجير أصفر قد أبهتته نوازل الدهر، شباك العناكب، هياكل الحيوانات والطيور، روائح الجيف، البرودة والعفن، سحقا أي قوى شيطانية تلك التي استبدلت مسكني الدافئ، عصري الأثاث، بهذا، تعطلت حواسي لهنيهة من عمق الخوف وهول الصدمة، ثم ألفيتُ نفسي أهرول فارا من هذا المكان الأشبه بمقبرة تحوي رميم شخص تتأرجح روحه في قيعان الجحيم.
تواثبت هابطا الدرج الخشبي الهش حتى أصبحت في الشارع، وجدتها تقابلني ببسمة فاترة، مفتعلة، تخشبتُ أمامها، كان أديمها مألوفا، الوجه الخمري المستدير، الشعر البني المسترسل حد الخصر، العينان.. والندبة!
الندبة المائلة على وجنتها اليسرى، تلك التي ترجع إلى.. اللعنة، لا يهم.
بالكاد تفوهتُ وقد تعرفت عليها:
- فُتنة؟!
خرج صوتي مشروخا، فأومأتْ وهي تريح أناملها الرقيقة على صدغي، في محاولة بائسة للتخفيف من ارتياعي، حيث تذكرتُ كينونة ذلك البيت الخشبي، الذي ما يزال حبيس خيالاتي، أما هي فتأملتني ثوان ثم فحت فيما تلتقف معصمي:
- هيا، لندخل إلى منزلنا ونتكلم.
ابتلعتُ ريقي، لملمت بعضا من بعثرتي، ثم قلت بجدية:
- هذا ليس منزلنا يا فتنة، إنما منزلك أنتِ وغانم.
- عزيزي دعك من ذاك الأبله، أنا أبتغيك أنت.
نطقت بغنج، وهي تتمايل علي كأفعى تعلم كيف تكيد لإبليس ذاته.. بالله صعقتني المباغتة، أنا لم أكتبك هكذا يا فُتنة، لقد رسمتك ملاك مصلوب على أستار دنيا البشر، كيف تطورتي إلى هذا ومتى؟!
لا يمكن..
حينها وجدت السماء تشاركني الغضب، حيث راحت تمطر رماحا وسيوفا ومدى.. هنا سقط قلمي، وأقفلت راجعا إلى واقعي، كان المساء والصيف، وها شقتي عصرية الأثاث كما حالها، حلوة الشكل معطوبة الروح، والجو حار جاف.
تركتُ أوراقي، ومشوشا تناولت علبة سجائري، ذهبت إلى الشرفة، رأيت الشارع مترعا بالبشر الذين خرجوا يفتشون عن نسمة هواء في هذا الجو الحامي.. قدحت ولاعتي وأشعلت واحدة حمراء ثقيلة، مججت نفسا كثيفا، ثم زفرته عاليا، استجمعت شتاتي، ومضيت أفكر في الشخصية التي تمردت ومرقت عن الديدن الذي وضعته لمرويتي.. فتنة بعد ما جابهته من مآسي، المفترض أنها سوف تقابل غانم، لتولد بينهما قصة حب ملتهبة، ذلك البيت الخرب سيكون ملاذهما، سيعمرانه سويا بالتدريج فيما يواجهان ما تبقى من صعاب، لكن ما جرى هو أن فتنة بغتة تغيرت كليا، أمست لا تريد غانم الأبله كما وصفته، إنما تبتغيني أنا!
ما أصول هذا العصيان، بلا شك هناك في غياهب عقلي الباطن يوجد مرد وتفسير لهذا اللغز، لعل السر يكمن في ماضيها المتواري في الظلال، أي السنوات العشرين التي تسبق النقطة التي انطلقت منها الرواية، أيجب أن أعود لها وأسايرها، حتى أكتشف ما تضمره تلك الشخصية التي احتالت على حين غرة من أقصى إلى أقصى.. ولكن، هل ينبغي عليّ فعلها، حقا أسيكون من الصائب التوغل في سراديبها، ربما يجب تمزيق هذه الأوراق، ونسيان أمر هذه المروية برمتها، كيلا يحدث ما حدث في سابقتها من سوء العواقب.
وقتما كان هناك شخصية ثانوية لم أنهك نفسي في محاولة تسميتها، لم آبه من الأساس، وجعلت شخوص الرواية ينادونه بالصديق، إلا أنه مع التعمق غير المحسوب والتوغل الجنوني في مجاهل الفصول، والتطور الهستيري في المجريات، فقدتُ السيطرة، وحلت الكارثة.. لقد غدا ذلك الشخص الهامشي، المدعو بالصديق، صديقي أنا، بل صديقي الأقرب، ولن أبالغ لو قلت الأوحد!
في الواقع لم ينبغي عليه الموت، لكنه عند الفصل الأخير اتخذ قراره الشجاع، جاهدت أن أثنيه، استمتُ، فيما هو صمم وأصر، فتقدم.. ضحى بروحه من أجل إنقاذ حياة البطل. كم سعد قرائي القلائل بالخاتمة ونجاة البطل، وتقريبا لم يدر أحد بالا للصديق، أما أنا فعلى النقيض تماما منهم، كم افتقدته، وكم بكيته، لقد انعزلت في مسكني ردحا من الزمن أعاني الحزن والنكد من جراء فراقه، وحد الحين ما يزال قلبي ينوحه ويرثيه، كلما جلستُ في مقهى، تذكرته وتذكرت قعودنا ذاك، أشتاق إلى مزاحه وتهكمه على كل شيء، أشتاق إلى مغامراتنا سويا، وأحاديثنا الطويلة عن الدين والسياسة والنساء، الكتب والتبغ، الخمر والصلاة، لم أتعرى أمام مخلوق كما تعريت أمامه، كان خزينة رحلتي ومغارة أسراري، غير أنه فضل الرحيل.
أيمكن أن تغويني فتنة وتأسرني في عالمها؟!
لأكون صادقا هي هكذا تغويني وتثيرني، تجذبني إليها رغما عني. أخشى غدرها.. لن أنساق، انتويت، سأحرق الأوراق وأنسى المروية.
رجعت شاهرا قداحتي، أمسكت الأوراق، لم أستطع. في الأخير قذفت الولاعة بعيدا، وكما شاه تتبع ناحرها المستقبلي ببلاهة ولا مبالاة التقفتُ قلمي و...
- فتنة.. هل تأخرت عليك؟
ارتسمت بسمة ظفر على ثغرها، وعانقتني.
كانت الأمطار قد توقفت، والغيمات قد تبخرت، والشمس قد أطلت مستحية حين لثمت شفتاي.
بينما نلج البيت الخشبي فحت في أذني وهي تتعلق بذراعي:
- كنت متأكدة من عودتك يا عزيزي!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.