Darebhar

شارك على مواقع التواصل

- طفولة محزنة (1) -
1988م
في وقت الظهيرة والشمس ترسل أشعتها الذهبية على المكان، تمضي امرأة في نهاية عقدها الثاني وفي يدها صغيرها البالغ من العمر سبع سنوات، كانت المرأة على قدر من الجمال وفصاحة اللسان فكانت بارعة في مساومة البائعين وهي تتسوق وفي يدها ابنها الذي كان لا يهتم بمساومة أمه بقدر ما كان يهتم بالاستغراق في تأمل أشكال الخضار والفاكهة التي تذهب بعقله كل مذهب، فتارة يقول في نفسه لماذا هذه سموها طماطم؟ ولماذا هذا فلفل ألا يكون خيارًا ونحن لا نعرف والخيار هو الذي اسمه فلفل؟ وهذا البائع لماذا يبدو كالأحمق أن أنفه طويل جدًا وهذه التي بجانبه زوجته تبدو كالغولة لا تنطق بكلمة إلا ويأتي معها رذاذ من فمها تطلقه كالرصاص على وجوه الزبائن وابنتهما لا تقل رعبًا عنهم فهي تمسك بتلابيب طفل وتطرحه أرضًا لأنه غلبها في لعب البلي.
أخيرًا انتهت أمي من المساومة، سرت بجانبها نتحرك ببطء فتارة أجدها تنظر إلى اليسار على دكان عمي "عبدون" الجزار تطيل النظر على قطع اللحم المعلقة أمام الدكان وتارة على دكان عمي "صميدة" الفرارجي ثم تعض على شفتيها وتجرني من يدي قائلة:
- هيا تحرك!
فأقول في غضب:
- أمي أريد لحمًا، لم نأكله منذ أسبوعين.
فترد وقد خنقها الضيق:
- ليس معنا من النقود ما يكفي لشراء اللحم.
فأقول في حزن:
- ومتى سيكون معنا نقودًا لنشتري اللحم؟
فترد في أسى مع ضحكة ممزوجة بالحزن والغضب:
- نقود؟ نحن نكون معنا نقودًا؟ أتعلم يا صغيري من الممكن أن نكون معنا نقودًا ولكن هذا يحدث في أحلامنا فقط.
نظرت إليها كانت الدموع تغادر من مقلتيها، حزنتُ كثيرًا ولم أعلم ماذا أقول فآثرت الصمت وفي سيرنا وهي تجرني من يدي بصرت دكان عمي "شحاتة" بائع الحلوى، فشددت أمي من جلبابها قائلًا:
- أمي، أمي أريد حلوي.
وجدتها تنظر إليّ في غضب ولكن في ثوانٍ قد تغير غضبها وانقلب إشفاقًا عليّ فوجدتها مالت إليّ وطبعت قبلة على خدي الأيمن وقالت وعيونها قد أغرقت بالدموع:
- غدًا يا حبيبي سأشتري لك حلوى أما اليوم فقد نفدت نقودي، انظر لقد اشترينا طعامًا اليوم هذه طماطم وهذه بازلاء من التي تحبها.
- نعم يا أمي أحب البازلاء، ولكن البازلاء تكون شهية بجانب اللحم.
- تحمل يا صغيري سينقشع هذا الظلام عما قريب.
- حسنا يا أمي.
أكملتُ السير ممسكًا بيد أمي حتى وصلنا إلى المنزل والمنزل مثله مثل تلك المنازل القديمة المتهالكة التي قد أعياها الزمن ولكنها مع ذلك تتمتع بجمال قديم مثلها في ذلك مثل امرأة صارخة الجمال في شابها وعندما بلغتْ نصف الأربعين ذهب هذا الجمال ولكنك عندما تنظر في وجهها ستجد علامات هذا الجمال البائد وستعرف أن هذه المنازل كانت فيما مضى كانت تتمتع بجمال فاتن وكيف لا وقد بنيت في عصر المعز لدين الله الفاطمي أزهى عصور مصر.
نصعد السلم أنا وأمي ونأخذ حذرنا فهناك درجة نصفها مكسور منذ أكثر من عام ولم يتحرك أحد من سكان البيت لإصلاح هذه الدرجة التي من الممكن أن تكسر أي شخص من سكان البيت طفلًا كان أو رجلًا أو امرأة إن لم يأخذ حذره في الصعود والنزول، فعم "إسماعيل" الذي يسكن في الدور الاول يقول أنه ليس متضررًا من الدرجة فلماذا يشارك في ثمن إصلاحها وعمي "إبراهيم" الذي يسكن الدور الثالث يقول لن أدفع الا إذا دفع أبي و "إسماعيل" وأبي ليس معه شيء، إن راتبه لا يكفي حتى متطلبات الشهر فهذه اللحم لا نأكلها إلا مرتين في الشهر وربما مرة، وها أنا سأدخل المدرسة وستزداد المصاريف والأعباء على أبي، لقد سمعت البارحة شجارًا بين أبي وأمي بخصوص المصاريف لقد وصل الموضوع أن سب أبي أمي وكاد أن يضربها فتركها وخرج من البيت وهو يبرطم بكلمات غير مفهومة وصفع الباب خلفه حتى اهتزت جدران البيت ، دخلتُ على أمي وجدتها جالسة القرفصاء على الأرض بجانب السرير واضعة يدها على وجهها وتبكي وجسدها النحيل يهتز من التشنجات، اقتربتُ منها وأنا أبكي أيضاً وقلت:
- أمي لماذا تبكين ماذا فعل بكِ أبي؟
أزاحت يدها من على وجهها وكفكفت دموعها ومدت يدها الاثنين علامة أن اقترب تعال عانقني، ارتميت في حضنها عانقتني بقوة حتى كدت أن اختنق قلت وأنا أحاول أن أتنفس:
- أمي أنتِ تخنقينني.
قالت في حزن:
- آسفة يا حبيبي لم أقصد، لا تقلق عليّ أنا بخير.
قلت متسائلًا:
- لماذا يا أمي تشاجرتِ مع أبي؟
ردت في أسى:
- لا شيء يا حبيبي لا تشغل بالك إنها بعض مشاكل الكبار.
قلت محتجًا:
- ولكنني كبير يا أمي لدي سبع سنوات والشهر القادم سأدخل المدرسة.
مسحتْ بيدها على رأسي وقبلتني وقالت:
- نعم يا صغيري لقد كبرت.
فنظرت إليها وقلت:
- أمي حدثيني عن القصر الذي كنتي تعيشين فيه ولماذا رضيتي أن تعيشي هنا؟
ابتسمت ابتسامة خفيفة اجترت بها ذكريات الماضي السعيد الذي قد ولى ولم يعد بالإمكان العودة له وربتت على ظهري وقالت في ألم:
- حسنا يا "مالك" سأحدثك عن القصر الذي كنت أعيش فيه وتلك الطفلة السعيدة التي كانت لا تطلب شيئًا إلا وقد كان حقق لها بيد قديرة.
أراحت "بثينة" رأسها إلى الوراء مستندة على السرير وأغمضت عينها وبدأت تقص على ابنها حكاية تلك الأميرة التي تركتْ قصرها في "الزمالك" وانتقلت إلى شقة قديمة في بيت متهالك بمنطقة "الغورية".
أنهت "بثينة" حكايتها وتنهدت قائلة:
- هذه هي كل الحكاية.
ينظر "مالك" إلى أمه فاغر فاه غير مصدق ما قد روته له، هل هذه أمه حقًا التي كانت تعيش في قصر فاخر به خدم وحشم يلبون كل طلباتها وينفذون كل أوامرها؟ وهذا أب يحقق لها كل ما تريد وهذه أم ترعاها بحنانها وتدللها وتذهب بها عند أمهر الخياطين ليصنعوا لها أغلى وأفخم الفساتين فكيف تتدحرج بها الحال إلى هذه الدرجة من الفقر والبؤس والشقاء وأين ذهب قصرها وخدمها ولماذا لم نعيش فيه ونعيش هنا في هذا البيت المائل للسقوط، خرجتُ من تيار أفكاري وجدت أمي تنظر إلى سقف الغرفة فقلت في صوت عالٍ من أثر الدهشة:
- أمي ولماذا جئتِ إلى هنا لماذا لا نعيش في هذا القصر وأين جدي هذا الرجل العظيم الذي حدثتني عنه؟
نظرت إليّ في أسي وقالت:
- لا تشغل بالك بذلك يا بني عندما تكبر ستفهم، كل ما سأقوله لك الآن أني تركت القصر من أجل أبيك.
قلت والحيرة تلف رأسي:
- هل هو الذي قال لكِ اتركي القصر وتعالي عيشي معي هنا؟
- لا لم يقل ولكني كنت أحبه لذلك تركت القصر وجئت أعيش معه هنا.
قلت في لهفة:
- حسنا تعالي نترك أبي ونعود إلى ذلك القصر.
- لم يعد ينفع فلم يعد مرحب بي.
- لماذا؟
قالتْ وقد ضجرتْ مني:
- دعك من تلك الأسئلة الآن هيا اذهب إلى سريرك ونم.
أجبت في حزن:
- حسنًا يا أمي ولكن لدي سؤال.
- ما هو؟
- لماذا أنا اسمي "مالك" وأنا لا أملك أي شيء؟
ضحكتْ وضربتْ كف بكف وقالت:
- أنت لا توقف هذا العقل أبدًا، حسنًا سأقول لك لقد سماك والدك بهذا الاسم لكي تملك كل شيء.
- ولكني يا أمي لا أملك أي شيء حتى الألعاب لا أملك منها شيئًا مثل باقي الأطفال.
- لا تتذمر هكذا، غدًا سيفرجها الله من عنده.
قلت محتجًا:
- لا أصدق!
- أسمع نم الآن وكل شيء سيكون غدًا بخير.
استمعتُ إلى كلامها، غادرتُ الغرفة ودلفتُ إلى غرفتي لأنام وهي غرفة ليس بها شيء غير مرتبة صغيره أنام عليها وملابسي أضعها في دولاب أمي، حاولت جاهدًا أن أنام ولكني لم أستطع ظللت أحلم بهذا القصر العظيم الذي حدثتني أمي عنه وقلت في نفسي لو استطعت الذهاب إلى هناك بالتأكيد سيفرح بي جدي كثيرًا وسيأخذني لأعيش معه ويجلب إليّ ألعاب كثيرة، وسوف أملأ بطني بأشهى أصناف الطعام سأكل كل يوم لحم ودجاج حتى أصاب بالتخمة، والحلوى كيف نسيت أمر الحلوى يحب أن أترك مكان فارغ في معدتي من أجل الحلوى، نعم هذه هي الحياة الجميلة التي سأحيا فيها، كل ما عليّ فعله أن أعرف كيف أستطيع أن اذهب إلى قصر جدي وأعرف أين طريقه.
ونام "مالك" في هذا اليوم ليلة هانئة يحلم فيها بالألعاب تارة والطعام تارة أخرى..
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.