Darebhar

شارك على مواقع التواصل

الراكض بين الأسود

كانت الليلة مشابهةً تمامًا بما تنبأ به الراهب الأعظم "فالدور"؛ ذلك الشيخ الحكيم الذي يبلغ من العمر مائة وعشرين عامًا، وهو رئيس الكهنة وحامل كلمة الآلهة في كونتابو.
كان البدر مكتملًا ويسود سطحه صبغة حمراء دموية، اختفت النجوم من السماء ولم يظهر منها سوى النجم الساطع المتعامد فوق مدينة كونتابو، أقسم بعض القرويين بأنهم رأوا طيفًا يتجول في الغابات الشمالية حاملًا قوسًا من الذهب، ويزعم البعض أنه طيف الملك العظيم "كونتابونيوس".
قد تم بالفعل إبلاغ الممالك الأربعة الأخرى منذ فترةٍ طويلةٍ بأنها الليلة المنشودة لاحتفالات "كونتابونيوس" التي تقام في مملكة كونتابو، فلم يخطئ أبدًا كهنة كونتابو على مدار قرونٍ بالتنبؤ بموعد تلك الليلة المقدسة التي تقام كل عشر سنواتٍ.
لا تستطيع أي مملكةٍ أن تتخلف عن تلك الليلة، برغم اختلاف الأديان في الممالك الخمس؛ فمثلًا في كونتابو يتم تقديس آلهة الرياح الأربعة، بينما في مملكة التل الماسي يقدسون النبتة الخالدة، ومملكة زيرنودا يقدسون آلهة البحار، وفي مملكة بيرلاند يقدسون الإله الدب، وأخيرًا في مملكة القناع يقدسون آلهة الظلام حيث نادرًا ما ترى الشمس ساطعةً في تلك المملكة. وتظل لتلك الليلة قدسيتها الخاصة وأهميتها الدينية في كل المعتقدات التي يؤمن بها شعوب الممالك الخمس، لا سيما أن أسلافهم دوَّنوا وكتبوا عن تلك الليلة على جدران معابدهم، وأن أبيات الشعر تمجد المحاربين الذين تم منحهم الشرف للذهاب إلى البرج الأسود في أقصى الشمال.
وبجانب الأهمية الدينية هناك أيضًا بعض الفوائد الدبلوماسية، والتجارية، وتبادل للثقافات والمعرفة.
تم إعداد أعرق مسارح كونتابو لاستقبال ذلك الحدث، مسرح الملك بانديسيو الذي تم تشييده في عصر الملك الحكيم "بانديسيو" ويعد عصره من أكثر عصور كونتابو ازدهارًا.
لن تكون هذه هي المرة الأولى التي يستضيف فيها مسرح "بانديسيو" احتفالات كونتابونيوس، ولكن تلك المرة تم تجهيز الأمور بأفضل شكل.
في القصر الملكي، كان يجتمع الملك ديكارسو مع مجلسه الصغير المكون من مستشار الملك، وصاحب المال "جون جيوفاني"؛ عائلة جيوفاني التي تعد من أقوى وأثرى العائلات في كونتابو، وحاصد الرؤوس، وقائد الحرس الملكي "باتسوني"، والقائد العسكري قائد جيوش كونتابو "القائد ستيرفورد"، وكبير الكهنة "فالدور"، وأيضًا المعلم العظيم "برافيود".
- حسنًا أيها السادة، لقد كان يومًا حافلًا، دعونا ننتهي سريعًا حتى نحصل على بعض الراحة والنوم قبل حلول الصباح، لورد جيوفاني كيف وضعنا المالي؟ قال الملك ديكارسو.
- حسنًا مولاي الملك، لقد كلفتنا الولائم والتجهيزات الكثير من النقود، ولقد أوشكت خزائن كونتابو أن تصبح فارغةً ولكن لا تقلق، فما تجلبه الممالك الأربع من هدايا وذهب سوف يعوض ذلك النقص، كما أنني سوف أتحدث مع ملك أقزام التل الماسي لنقترض بعض الذهب.
صمت المستشار جون قليلًا، ثم أكمل حديثه بابتسامةٍ طفيفة:
- كما أن عائلة جيوفاني سوف تمد يد العون دائمًا يا سيدي، إذا كان هناك حاجة إلى ذلك.
قال حارس الملك وقائد الحرس الملكي الذي كانت ملامحه جادة في تلك اللحظة:
- إنه واجب أي عائلةٍ تقطن في كونتابو أن تمد يد العون إلى المملكة إذا كانت بحاجة إلى ذلك، وليس فقط بالمال ولكن بالمحاربين والدماء إذا تطلب الأمر ذلك.
رد مستشار الملك مبتسمًا:
- بالطبع يا سير باتسوني، بالطبع.
قال الملك ديكارسو موجهًا حديثه إلى قائد الجيوش:
- ماذا لديك لتخبرني به بخصوص الغد يا قائد ستيرفورد؟
بدأ القائد ستيرفورد الحديث قائلًا:
- كل شيءٍ على خير ما يرام يا سيدي، سيصل أول قاربٍ عند الفجر، وتم تأمين المسرح.
- رائع.
قال الملك ديكارسو.
ساد الصمت لثوانٍ بداخل المجلس الصغير، ثم كسر الملك هذا الصمت موجهًا حديثه إلى الراهب الأعظم:
- أيها الراهب الأعظم فالدور، لقد صدقت رؤياك كالعادة، وكل ما تنبأت به قد حدث فيما يخص علامات تلك الليلة، هل تحدثك الآلهة بأي أشياءٍ أخرى بخصوص يوم غدٍ، أي شيءٍ يجب أن نستعد له؟
رد الراهب فالدور قائلًا:
- جلالة الملك، إن الرؤية عطاءٌ من الآلهة وتنبع الحكمة من رؤية ما يعجز الآخرون عن إدراكه، لقد وهبت الآلهة البشر نعمة البصر ولكن قليلًا مَن تم وهبهم نعمة البصيرة. أما بخصوص الغد فلم تنتابني أي رؤيةٍ ولم تهمس لي آلهة الرياح، ولكن أحد الكهنة الصغار "بيبلو بيتستراب" قد رأى في منامه شيئًا منذ أيامٍ، لا أستطيع الجزم بأنها رؤيا، ولكن أخشى أيضًا أنني لا أستطيع أن أكتمها.
- تحدث أيها الكاهن الأعظم.
قال الملك ديكارسو.
رد الكاهن الذي بدا القلق ينتاب نبرة صوته:
- أفعى سوداء، رياح عاتية، خيل أبيض يحترق، صوت الأمواج تحطم الصخور، قوارب مشتعلة، سماء ممطرة.
ثم نادى من الأفق صوتٌ.. صوتٌ غير بشري، كان الصوت شديدًا ولكن الفتى قد تبين ما قاله الصوت:
"من الجنوب سوف يبزغ، ومن بين الرماد سوف يُبعث، الراكض بين الأسود، سوف يخضع له الشرق والغرب، وستسود كلمته الوجود".
صمت الجميع قليلًا، ثم قال جون جيوفاني:
- لا تبدو لي كرؤيا.
- أخشى أن تكون صورًا من المستقبل وتحذرنا الآلهة لكي نستعد.
أجاب الكاهن.
- صور من المستقبل؟
تساءل الملك.
- نعم مولاي، أحلام ليالي كونتابونيوس ما هي إلا رسائل من الآلهة كي نستبشر أو نستعد، ولكن تلك العلامات؛ الأفعى السوداء والخيل الأبيض المحترق ذلك ما ندعوه بصورٍ من المستقبل، إنها أقرب إلى نبوءة.
- ماذا تظن يا كبير الحكماء؟
سأل الملك ديكارسو.
- دائمًا ما كان الحصان هو رمز عائلة كونتابونيوس، فلا أحد في الممالك الخمس يمتطي الخيل ويجاري الرياح كما يفعل فرسان كونتابو، إن صدقت هذه الرؤيا -أقصد تلك اللمحات من المستقبل- فأخشى أننا ربما نواجه بعض الأزمات.
- هل سبق وأن رأى ذلك الفتى الصغير أي شيءٍ قريب لهذا؟
سأل لورد جيوفاني.
- إنها رحلته الأولى إلى السماء بصحبة آلهة الرياح، لقد اختارته الآلهة ليرى تلك الصور، لسببٍ ما لم يتمكن حكماء معبد ويندفيل أن يروه ولكن الآلهة خصته بذلك.
قال الكاهن.
- لن تسقط كونتابو أبدًا، مضت سنواتٌ كثيرةٌ منذ معركة البحار الثلاثة، امتزجت البحار بالدماء ولم نتمكن من رؤية الشمس لأيامٍ كثيرة بسبب الغربان المحلقة في السماء، فرغت مخازن كونتابو من الطعام والذهب ورغم ذلك ظلت كونتابو صامدةً لم تسقط.
ساد الصمت لثوانٍ ثم أكمل الملك حديثه قائلًا:
- هذا كل شيءٍ حتى الآن، يمكنكم الانصراف.
نهض الرجال صائحين:
- فلتحيا كونتابو أمة خالدة على مر التاريخ.
ثم انحنى الرجال للملك الذي ظل جالسًا في مكانه، شرع المجلس الصغير بمغادرة القاعة الصغيرة، بينما قال الملك:
- يمكنك البقاء يا لورد جيوفاني.
ابتسم اللورد جون الذي انحنى إلى الملك، ثم انضم مرةً أخرى إلى الطاولة.
- حسنًا ماذا تظن؟ يبدو أن نبوءة المشعوذة قد ظهرت في النهاية.
قال الملك.
- أنا رجلٌ منطق، أستمع إلى همسات البشر لا إلى همسات الرياح، ولكن لقد كان كهنة ويندفيل دائمًا صائبين، رحلاتهم إلى السماء دائمًا ما كانت صادقةً، عندما بدأت حروب البحار الثلاثة كان الكاهن الأعظم فالدور هو من تنبأ بها، لا نستطيع تجاهل العلامات ولكن أيضًا أؤمن أن الآلهة ترسل تلك العلامات لسببٍ ما.
قال لورد جيوفاني.
- كان الجميع يتنبأ بمعركة البحار الثلاثة، كانت الأوضاع معقدة للغاية في ذلك الوقت ولم يكن هناك سبيل إلا الحرب.
قال الملك.
- الحرب التي تخسرها هي التي لا تعلم بأنها احتدت حتى تجد نفسك محاطًا بنيرانها.
قال لورد جيوفاني.
- لذلك السبب طلبت منك البقاء، أنت تعلم كم تطلب الأمر لإنهاء حرب البحار الثلاثة ولبناء كونتابو مرة أخرى، ما ارتكبناه من فظائع.
قال الملك.
- لقد كان الأمر ضروريًا يا مولاي الملك.
قال لورد جيوفاني.
- يكون الأمر ضروريًا حينما نريد إقناع أنفسنا بأننا فعلنا ما يجب فعله.
قال الملك.
ثم أكمل الملك حديثه قائلًا:
- اطلب من رجالك مراقبة الجنوب جيدًا، يجب أن تبقى الأمور تحت أعيننا.
- مولاي الملك.
قال لورد جيوفاني بينما ينحني.
- يمكنك الانصراف الآن.
قال الملك.


سفينة الموتى

على بعد أميالٍ من كونتابو، كانت السفينة القادمة من مملكة زيرنودا قد اقتربت من الوصول، فقط ساعات قليلة تفصلهم عن شواطئ كونتابو.
لم يكن هناك الكثير من الأشخاص على سطح السفينة، فقط المراقب ومسئول الدفة، بينما لجأ بقية الطاقم إلى الراحة.
- ليلة هادئة أخرى.
قال مراقب السفينة.
- أفضلها أكثر من الليالي الصاخبة.
قال مسئول الدفة.
ارتسمت ابتسامةٌ على وجه مراقب السفنية، ثم أكمل حديثه قائلًا:
- هل ذهبت إلى كونتابو من قبل سيد إيرنست؟
قال مراقب السفينة.
- العديد من المرات، ولكن ستكون تلك المرة الخامسة التي أرى فيها احتفاليات كونتابونيوس.
قال إيرنست.
- كم كان عمرك حينما حضرت احتفالك الأول؟
سأل مراقب السفينة.
- عشر سنوات، كنت أعمل في المطبخ مع أبي في غسل الأطباق، وإعداد الموائد، والتخلص من القُمامة، وأعمال أخرى.
ثم أكمل حديثه قائلًا:
- ستبقى تلك الرحلة في ذاكرتي للأبد؛ لقد كانت المرة الأولى التي أكون فيها على ظهر سفينة، لقد تقيأت كثيرًا ولم أستطع النوم، ولكن حينما اقتربنا من ميناء كونتابو العظيم كنت منبهرًا للغاية.
- لقد جُبت العالم، ورأيت قطيع الحيتان السحري في الشمال، وحاربت جنبًا إلى جنب مع الملك ستانوس في معركة البحار الثلاثة، لكن لم أذهب إلى كونتابو من قبل.
قال مراقب السفينة.
- إنها مدينة ساحرة للغاية، احتفاليات كونتابونيوس لا مثيل لها.
قال السيد إيرنست.
صمتا لدقائق وسلّط كل منها نظره إلى الأفق البعيد حيث نجمة كونتابو الساطعة.
كانت الأمواج هادئةً، والطقس معتدلًا، ظن مراقب السفينة السيد إيد أنه يرى شيئًا في الأفق ثم صاح قائلًا:
- سيد إيرنست، هل هذه سفينة مشتعلة!
- فلترحمنا آلهة البحر! نعم.
قال السيد إيرنست.
ركض مراقب السفينة إلى الجرس ودق ناقوس الخطر.
انكسر الصمت وبدأت الحياة تدب على سطح السفينة مرة أخرى، تعالت صيحات القادة الذين قاموا بإيقاظ جميع البحارة.
صعد البحارة إلى سطح السفينة وقاموا باتخاذ مواقعهم، بينما اتجه المحاربون إلى مراكزهم ومواقع التصويب بالسهام، صعدت سرية الأسماك الطائرة على الأشرعة ممسكين برماحهم متبعين قائدهم الذي تم منحه الشرف، وسيتم إعلانه في وقتٍ باكر من صباح اليوم التالي كأحد محاربي أرض الشمال.
تلك الرماح التي اشتهرت بها سرية "الأسماك الطائرة"، بينما جسم الرمح المصنوع من نوعٍ خاصٍ من الحديد القابل للثني والنصل من الفولاذ الحاد.
ثم أخيرًا صعد ربان هذه السفينة الأمير ستاليس ابن الملك ستانوس ومعه مستشار الملك لورد فاندوفا، توجه الأمير الشاب نحو الدفة، لم يظهر عليه القلق أو الخوف رغم صغر سنه؛ فقد خاض الكثير من المعارك الحربية ضد القراصنة في بحر "زيرنودا"، كما أنه يعد الحاكم الفعلي لمملكة زيرنودا منذ عدة أعوامٍ حينما كان يبلغ خمسة عشر عامًا، وذلك عندما أصيب والده الملك ساتنوس بالجذام، فانعزل عن أمور الحياة ولم يسمح لأحدٍ برؤيته سوى ابنيه، وزوجته الملكة لوسي، ومستشاره الأمين لورد فاندوفا.
- الأمير على السطح.
صاح مراقب السفينة.
وقف جميع الرجال منتبهين.
- استرخوا.
قال الأمير ستاليس، ثم أكمل حديثه موجهًا إياه إلى مراقب السفينة:
- سيد إيد، تقريرك.
- مولاي الأمير، لقد ظهرت هذه السفينة المشتعلة من العدم؛ لا صوت مدافع، لا صراخ، فقط ظهرت مشتعلة في الأفق.
- لا أرى أي سفنٍ في الأفق.
قال الأمير.
أعاد مراقب السفينة النظر مرة أخرى، ولكن لم يكن هناك أي شيءٍ!
- سيدي أقسم أنها كانت....
- عقل الإنسان أشبه بالمتاهة، يمكن للإنسان أن يفقد طريقه به.
قال الأمير الشاب الذي بدا جادًا.
- مولاي الأمير، إذا سمحت لي بالحديث، ما رأيناه ليس دربًا من دروب الخيال، الليالي الهادئة في البحار يمكنها أن تفقدك صوابك أعلم ذلك، ولكن ما رأيناه منذ لحظاتٍ كان حقيقيًا!
قال إيرنست.
- أخشى أنها سفينة الموتى.
قال اللورد فاندوفا.
استدار الأمير ستاليس موجهًا حديثه إلى مستشار الملك:
- لورد فاندوفا، لا أظن أن تلك الأسطورة بحقيقة.
قال الأمير الشاب.
- نعم، الأساطير في أغلب الأوقات أكاذيب كبيرة، ولكن في أحيانٍ كثيرة يتم استخدامها لإظهار الحقيقة. قال لورد فاندوفا.
أخذ البحارة يتهامسون عن سفينة الموتى، ولكن كان أكثرهم فضولًا هو أحد البحارة اليافعين الذي بدا أنه لم يسمع عن تلك السفينة من قبل.
- مستر داريس، ما هي سفينة الموت؟
قال البحاراليافع موجهًا حديثه إلى البحار العجوز الذي بجانبه.
رد ذلك البحار العجوز قائلًا:
- ألم تسمع بها من قبل أيها الشاب؟
هز الفتى رأسه نافيًا.
- حسنًا إنها أسطورة قديمة عن سفينة تسكنها أرواح الموتى، علقت أرواحهم في الأرض ولم تشأ الذهاب إلى السماء. لقد كانت سفينة تجارية "لؤلؤة البحار الثلاثة"، هكذا كان اسمها، اعترضتها سفن القراصنة بقيادة القرصان السفاح "رادينوف" في بحر زيرنودا، وعدهم بالمرور الآمن وأنه لن يسلب أي أرواحٍ إذا وافق قبطان السفينة على تسليم ما يحمله من بضائع. وافق القبطان، ولكن لم يفِ رادينوف بوعده، أمر رجاله بذبح جميع البحارة، وقام بحرق القبطان حيًا! لعنه ولعن رجاله بينما هو يحترق.
اقتلع رادينوف رؤوس البحارة بنفسه وقام بجمعها ووضعها على مقدمة سفينته، ثم أشعل النار بالسفينة التجارية. يُقال أنها ظلت مشتعلةً أربعة أيامٍ في بحر زيرنودا ثم غرقت في اليوم الخامس.
مر قرابة القرنين ولكن ما زالت صرخات البحارة يمكنك سماعها ليلًا، صوت زمجرة النيران بينما تحترق الأخشاب كأنها وحشٌ مفترسٌ، وأحيانًا أخرى يمكنك سماع صوت غناءٍ عذبٍ لأحد البحارة ولا يمكنك تحديد مصدره، يظن البعض أنها الأغنية التي كان ينشدها ذلك البحار قبل أن يتم ذبحه!
- هل قاموا بانتشال السفينة الغارقة؟
سأل البحار اليافع الذي تملكه الخوف بعد سماع القصة.
- لم يعثروا على حطامها أبدًا كأنها لم تتواجد يومًا ما! ما زال البعض يرى السفينة في الأفق.
قال داريس.
- ألم يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منها؟
سأل البحار اليافع.
- لقد فعلوا، لكن لم يظهر أحدٌ من الذين ذهبوا ليقص ما شاهده.
أجاب داريس.
- ماذا عن رادينوف ألم يقتص منه أحد؟
سأل البحار اليافع.
- لم يمر الكثير من الوقت حتى وجده رجاله ميتًا في مقصورته، تم اقتلاع عينيه ولسانه واختفت رؤوس البحارة من مقدمة السفينة.
حينما وصل رجاله إلى شاطئ جزيرة القراصنة، أصيبوا جميعهم بمرضٍ ما لم يره أحدٌ من قبل، أصاب العفن جلدهم وتساقط شعرهم ثم ماتوا جميعًا في نفس الليلة!!
قال داريس.
صمت جميع المتواجدين على متن السفينة حينما سمعوا صوت الغناء القادم من خلف الضباب:
"لقد انقضت أيام الشتاء
وأشرقت الشمس مرة أخرى
وسنعود لوطننا القابع خلف البحار
ذاب الثلج المتراكم فوق أوراق أشجار الخيزران
وغردت الطيور مرة أخرى محلقةً فوق أزهار الكتان
وحبيبتي في الديار تنتظر قدومي بعد انقضاء الشتاء
ستذهب الهموم بلا رجعة، وستعود الحياة مرة أخرى
حينما تنقضي أيام الشتاء".
انتاب الجميع قُشعريرة ثم عاد الهدوء مرة أخرى إلى الأجواء، واختفى صوت الغناء!
حتى صاح أحد البحارة:
- شيءٌ ما في الأفق؛ لقد ظهرت السفينة المشتعلة مرة أخرى.
تقدم الأمير خطوتين إلى الأمام موجهًا حديثه إلى مسئول الدفة:
- اقترب بنا قليلًا يا سيد إيرنست.
ثم وجه حديثه إلى سرية الأسماك الطائرة قائلًا:
- كونوا مستعدين.
اقترب لورد فاندوفا من الأمير هامسًا في أذنه حتى لا يسمع باقي الطاقم؛ فقد سبق ورأوا مستشار الملك يجادل الملك المستقبلي في بداية الرحلة من قبل.
- مولاي الأمير، لم تقترب سفينة من سفن القراصنة من قبل إلى هذا الحد من شواطئ كونتابو، وحتى إن كانت كذلك، فنحن في مهمةٍ محددةٍ لا حملة بحرية.
- ما الأمر يا لورد فاندوفا؟ أليس لديك بعض الشغف لمطاردة شيقة؟! يبدو أن انقطاعك عن أمور الحرب وتفرغك لأمور الدولة التقليدية قد سلبتك شجاعتك. قال الأمير الشاب.
بدا الغضب على لورد فاندوفا، نعم لقد انقطع عن أمور القتال منذ حرب البحار الثلاثة، ولكنه كان يومًا ما أعظم محارب في مملكة زيرنودا بل الممالك الخمس.
- الشغف فضيلة الحكماء، والشغف ذاته هو خطيئة الحمقى! إنهم ليسوا بقراصنة، إنهم شيءٌ آخر.
قال لورد فاندوفا.
استدار الأمير موجهًا حديثه إلى لورد فاندوفا قائلًا:
- ليس هناك من "شيءٍ آخر" في البحر، فقط سفن الممالك الخمس، وسفن القراصنة، والمخلوقات البحرية. اعذرني لورد فاندوفا، ولكن يجب أن تحافظ على اتزانك أمام الرجال وإن لم تفعل يمكنك الذهاب إلى مقصورتك لن أحتاج لخدماتك الليلة.
ثم استدار الأمير مرة أخرى إلى الدفة؛ كانت هناك خطوات ثابتة أخرى تصعد السُّلم الخشبي نحو سطح السفينة، كان رجلًا في الخمسين من عمره، حليق الرأس واللحية، بثوبٍ أخضر فضفاض، ويحمل رمحًا ثلاثيًا "رمح البحار الثلاثة".
بينما كان يمر بين صفوف البحارة انحنى له الرجال،
صعد إلى الدفة حيث كان يقف الأمير الشاب، ثم قال:
- إنها ليست الليلة المناسبة لفعل ذلك يا مولاي.
استدار الأمير إلى الخلف ثم انحنى وقال:
- أيها الراهب الأعظم جاندوبان.
- إنها ليلة مباركة، لقد منحتنا الآلهة السكينة في رحلتنا والرياح تحملنا بسلاسةٍ إلى شواطئ كونتابو، لا يجب أن نعكر صفو رحلتنا بمطاردة قرصانٍ ضالٍ أو "شيءٍ آخر".
قال الراهب جاندوبان.
- شيء آخر! أليسوا بقراصنة؟
سأل الأمير.
- حسنًا، لا أظن أننا نريد اكتشاف ذلك.
قال الراهب جاندوبان.
- سيد إيرنست، سوف نلغي تلك المطاردة، توجه بنا نحو كونتابو.
قال الأمير الشاب.
تعجب البحارة من أمر الأمير الصغير والملك المستقبلي، مرة أخرى خلال تلك الرحلة الطويلة يصدر ستاليس أوامر واهيةً ضعيفةً دون حكمة.
تحرك الراهب جاندوبان نحو حافة السفينة، بينما ظلت عيناه ثابتةً على تلك السفينة المشتعلة، ثم همس: "لعل روحكم تجد السلام يومًا ما".


اخلع التاج

دلف السير فاندوفا إلى غرفته الخاصة، حيث أخذ يتفحص بعض الأوراق والوثائق التي سوف يحتاج إليها من أجل المفاوضات التجارية حينما يصل إلى كونتابو.
- هل أستطيع الدخول؟
سأل ستاليس الذي كان يطرق على الباب.
- تفضل بالدخول يا مولاي.
قال لورد فاندوفا.
توجه الأمير نحو الطاولة حيث قام بسكب كأسٍ من النبيذ، ثم قال:
- لقد ألغينا المطاردة، لقد كنت محقًا، لدينا وجهة محددة.
- ذلك عظيم، ولكني أعتقد أنك أمرت بذلك بناءً على استشارة من الراهب جاندوبان.
ابتسم الأمير الشاب ثم قال:
- حسنًا، أعتذر على ما بدر مني بالأعلى، هل ذلك كافٍ؟
- ليس اعتذارك ما أبغاه يا مولاي.
قال لورد فاندوفا.
- حسنًا، ما الذي تريده بالتحديد يا لورد فاندوفا؟ سأل الأمير الشاب الذي أصبحت نبرته غاضبة.
نهض لورد فاندوفا من مقعده ثم صاح قائلًا:
- ثقتك.. ذلك ما أريده.
ساد الصمت لبعض الثواني قبل أن يكمل فاندوفا حديثه:
- أنا صديق والدك المقرب ومستشاره الأمين، كنت أول مَن حملك حينما قدمت إلى تلك الدنيا، لقد كنت معلمك خلال مراحل حياتك، أنا مَن قام بتعليمك القتال وأول مَن أهديتك كتابًا لتقرأه، أنت بمثابة ابن لي.
جلس الأمير الشاب ثم نظر إلى فاندوفا وقال:
- إن حكم والدي يضعف، وحياته تقترب من النهاية، أخي الأكبر يهيم على وجهه في ظلمات القصر مطاردًا أشباح خياله المظلم وعقله المريض، أمي تقضي الليالي بجانب فراش والدي لا تفعل شيئًا سوى البكاء.
لقد كنت أقود مجالس الملك بينما يتجول مَن هم في سني ويتسلقون الأشجار ويطاردون الفراشات، هناك الكثير على المحك هنا، ولا أعلم ما سوف تصبح عليه الأمور، أستطيع أن أرى نظرات رجال الحاشية حينما يرمقونني بتلك النظرة بينما هم يتساءلون: هل أصبح ذلك الفتى هو الآمر الناهي الآن؟
حتى البحارة الصغار يتبادلون النكات حينما أمر أمامهم، أستطيع سماع ذلك.
الجميع يتسابق على تقديم النصيحة بينما هم يدسون كلماتهم السامة عبر ألسنتهم الشائكة في عقلي، يقترب القراصنة من سواحلنا كل يومٍ بينما تزداد جرأتهم.
المشعوذون يسيطرون على الأحياء الفقيرة متلاعبين بعقل الفقراء، أصابنا الفقر وتناقصت ثرواتنا من الأسماك.
الثقة؟! هل ذلك ما تريده يا فاندوفا؟! حسنًا لك ثقتي.. ولكن أخبرني ماذا يجب أن أفعل؟ ماذا أفعل بحق الجحيم؟!
- قم بخلعه.
قال فاندوفا.
- ماذا؟!
قال الأمير متعجبًا.
- التاج، قم بخلعه، يظن بعض الحكماء القدامى أن كثيرًا من الأمراء والملوك يتصرفون بحماقة، أو تنقصهم الحكمة بسبب كثرة ارتدائهم للتاج، يظنون أنه يحجب وصول الدماء إلى المخ مما يبطئ تفكيرهم ويشوش على حكمهم للأمور. حسنًا، أنا أظن ذلك أيضًا، ولكن ليس بسبب عدم وصول الدم إلى الرأس فتلك حماقة بالطبع، ولكن في بعض الأوقات يجب على الملك أن يزيل التاج من فوق رأسه قليلًا؛ ذلك سيتيح له التفكير من خلال "رأس غير ملكية" ليرى ما يتطلبه الأمر.
- تلك هي المعضلة؛ لقد كنت دائمًا الأذكى والأسرع والأقوى من بين الشباب، قمت بالتأكيد على نجاحك في التخطيط الحربي والقتال قبل أن تبدأ التفكير كملكٍ وجهت المشورة الجيدة لوالدك ولم تكن تفكر كملكٍ، ولكن الآن ما تنفك تفكر كالملك، ماذا يفعل الملك؟ ماذا سيظن الجميع بالملك الموعود؟ حرر رأسك وفكر كستاليس، الشاب العبقري الشجاع.
نهض الأمير وتوجه نحو الباب، فبدت علامات خيبة الأمل على وجه اللورد، التف الأمير الشاب ناظرًا إلى فاندوفا:
- هل تستطيع مساعدتي بذلك؟ تحرير رأسي؟!
ابتسم لورد فاندوفا وقال:
- بالطبع.
4
استيقط يا بيبلو بيتستراب!
كانت ليلة كونتابونيوس طويلة، الكثير من الحركة في كل بقعةٍ من بقاع الممالك الخمس.
حتى قاطني الممالك الخمس والذين لم يتسنَ لهم حضور الاحتفالات في كونتابو يقدسون تلك الليلة بالتعبد، ومدح الآلهة لزيادة الرزق، بالإضافة للكثير من الأماني الشخصية والطموحات الصغيرة لبعض القرويين، الذين ما زاد طموح دعواتهم عن: "أن تحفظ الآلهة المحصول من الآفة وأن تمطر السماء باستمرار".
في معبد ويندفيل، المعبد عديم الجدران كما يلقبونه في كونتابو؛ بسبب تواجد تلك الغرفة العلوية التي تكاد تكون عديمة الجدران عدا بعض الأحجار الصغيرة والعواميد غير مكتملة البناء، وذلك حتى يستطيع كهنة كونتابو الاستماع إلى ما تحمله الرياح من كلمات الآلهة الأربعة، فكان دائمًا ما يسود الصمت في تلك الغرفة عدا بعضًا من الهمهمات الصغيرة لبعض الأناشيد التي كتبها قدامى الكهنة من أجل امتداح الآلهة.
اجتمع الكهنة في الغرفة عديمة الجدران؛ فتلك الليلة المقدسة هي الميعاد الأنسب للصلاة والإنصات إلى كلمات الآلهة.
في أحد أركان الغرفة، استند شابٌ صغير الحجم، شاحب اللون قليلًا، يبدو كأنه أنهى للتو حربًا عظيمة من أثر ما بدا عليه من تعبٍ، وكذلك بسبب تصاعد صوت أنفاسه أثناء نومه والتي بدأت تضجر الكهنة الكبار، ولكنها كانت مصدرًا للدعابة وتبادل النكات والضحك بين صغار الكهنة.
نهض أحد الكهنة الكبار والذي كانوا يدعونه بالكاهن ذي العينين؛ بسبب اختلاف لون عينه اليسرى عن اليمنى، كانت اليسرى زرقاء واليمنى سوداء.
توجه إلى الشاب النائم ثم قال:
- بيبلو بيتستراب.
- أحبكِ أنا أيضًا أيتها الجميلة، ولكن دعينا نختبئ؛ حتى لا يرانا والدك.
قال بيبلو الذي لم يستيقظ بعد.
انفجرت ضحكةٌ من صغار الكهنة بالغرفة، ولكن نظر إليهم الكاهن الغاضب فتوقفوا عن الضحك.
- يا صاحب النبوءة المشئومة.
قال الكاهن الغاضب، ثم ركل بيبلو في قدمه.
فُزع الشاب واستيقظ سريعًا قائلًا:
- سيدي، لم أقصد تقبيل ابنتك، لقد تعثرت فسقطت بين يدي و.....
في تلك اللحظة أدرك الشاب حينما رأى نظرات الكاهن الغاضبة أنه في معبد ويندفيل، وأنه لا توجد فتاة لكي يقبلها، فقط كاهن غاضب للغاية.
- هل حظيت بليلةٍ جيدةٍ يا بيبلو؟
قال الراهب الغاضب.
- أنا آسف يا كاهن راندي، لم أقصد أن يغلبني النوم لقد كنت...
قال بيبلو.
- كفى حديثًا، انهض وقم بالصلاة إلى الآلهة؛ فقد اختارك الكاهن الأعظم فالدور لترافقه من ضمن موكب الرهبان في حفل كونتابو بالصباح، يبدو في النهاية أن رؤيتك المشئومة قد منحتك بعض المزايا.
قال الكاهن راندي.
- لم أختر أن أرى تلك النبوءة.
قال بيبلو.
اقترب الكاهن راندي من بيبلو، ثم انحنى وهمس له في أذنه قائلًا:
- أنا أعلم أنك تكذب يا بيبلو، أعلم أنك لم ترَ شيئًا، وما تفعله لن يجلب لك الاهتمام سوى لبعض الوقت، ولكن قريبًا سوف يرى أحد الكهنة نبوءة خيرٍ ورغدٍ، وحينها سوف يعلم الجميع بأنك كاذب.
قال الكاهن راندي.
- أليس هذا ما يفعله الكهنة دائمًا في كل الأزمنة؟ حتى في سنوات الكساد الأعظم؟ أن يبشروا بالخير ويذهبوا لرؤية الملك؛ فيحصلوا على استحسانه وفي بعض الأوقات "مزايا أخرى".
قال الكاهن الشاب بيبلو مبتسمًا.
نظر إليه الكاهن راندي غاضبًا، ولكنه لم يعلق على ما قاله وذهب للخارج بينما شعر بيبلو بالفرحة؛ فتلك هي المرة الأولى التي استطاع فيها البوح عما بداخله دون أن يخشى من ذلك.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.