Darebhar

شارك على مواقع التواصل

فتحتُ عَينيّ بِتثاقلٍ شديد، كانت حبّات المطر تَطرق نافذتي بلطفٍ، فتَناهى لمسمعي صَوت رقرقةِ الماء تنساب برفق، تَجذبني لأداعبها بأناملي عن قُرب، فَخَطوتُ مُبتسمةً صوبَ شُرفَتي وقد غَمرني شُعورٌ دفينٌ مَليء بالشجن قَلّما أشعرُ بهِ، فَتحتُ النافذة بحذرٍ ومددتُ يدي أتلمسُ الدفء بين طيّات حبّاتهِ المتناثرة، رغم برودة الجو القارسة وعتمة الليل الداجيّة.
رفعتُ قامتي ونظرتُ إلى السّماء، بدتْ كينبوعِ نهرٍ يَتدفق برفقٍ، تنسابُ حُبيباته لترتطم بذرّاتِ التّراب العطشَى، فتنفستُ رائحة الأرض النديّة؛ بعدما ارتوت بعد ظمأٍ طالَ أمدهُ.
كمْ أعشقُ الشتاء!
تلك الرائحة المُعطّرة بطميّ الأرض!
القوّة الكامنةُ فيهِ تجعلني أنفُضُ غُبار الحزن والهم؛ لأنتشي نَشوة النَّقاء، حالةٌ مِن صفاءِ الذّهن تَنتابني فَتغمرني بالسّلام الداخلي مع نفسي، أستكينُ معها وبذاكَ تستكينُ كامل جوارحي.
للحظةٍ لاحتْ بمخيلتي صورة أخي «عامر» لا أعلم لمَ تذكرتهُ فجأة بهذا الوقتْ، كنّا نلهو ونلعب وقتَ ذاك والسّماء تهطلُ فوقَ رؤوسِنا بالأمطار، نَفتح أفواهنا لتمتلئ بالماء، ثُمَ نبصقها على بعضنا البعض فتعلو صرخاتنا، وتتبعها ابتساماتُنا البريئة!
نَجري.. نَركض.. نَبكي مِن ثَم نَضحك، غير آبهين لشيء سِوى ما نسرقهُ مِن الحيّاة؛ غبطة ونشوة تملؤها السعادة، ابتسامةٌ تكنُّ بطيَّاتها راحة بالٍ عفويّة، لمْ أكُ أتخيّل أننا سندفعُ ثمنَ ما سرقناهُ مِن أرواحنا، أهدتنا سعادة مزيّفة، وفي المُقابل سَرقتْ ضِحكة العمر كلّه، كم لتلك الأيام الخوالي مِن ذِكرى تَتوقُ الروحُ دومًا لأنْ تعود، كم أتوق لأن ألتقيه خلسة ونرقص من جديد تحت السَّماء وهي تمطر!
كانت الطيور حينها هي الأخرى تَشدو فرحةً، تُشاطرنا تلك اللحظات التي سرقناها مِن الزمن السّعيد، تُرفرف بجناحيها تحت زخّات المطر، متى ارتوتْ تتوارى بعدها تحت الأشجار، فتتغطى بالأغصانِ المتمايلة جرّاء هُبوب الرياح.
استفقتُ مِنْ عالمي البَعيد على صوت أمّي الصّارخ:
- «إيميليا»! ماذا تفعلين هُناك؟
استدرتُ نحوها وَجِلة، أعلمُ أنَّ اسطوانتها المعهودة قدْ بَدأت، يا إلهي! لن تنسَ أبدًا أنها الأستاذة «ماجدة الألفي» مديرة لمدرسة ثانوية تجارية مشتركة، كم هو عَصيبٌ طبعها وقت تَتَذمر، انفجرتْ بوَجهي قائلةً:
- هل جُننتِ؟ لمَ تقفين هكذا في هذا الجو البارد؟ قد يتمكن البرد منكِ، ألم أحذركِ مرارًا مِن الوقوف...
لن تنتهي أمي بتلك البساطة فقدْ بَدأتْ للتوّ؛ ما زالَ في جُعبتها المزيد مِن السيمفُونيّات التي تَودّ عزفُها على أوتارِ التوبيخ، قد يَصل بِها الحال حَدْ قَرع الطبول!
ابتسمتُ بلطفٍ كي لا أُثير غَضبها، وهممتُ لأعود إلى فراشي في سُكون، ما أنْ خطوتُ خطوتين حتى تذكرتْ، أه لقد نَسيتُ أنْ أُغلق ال...
- ألنْ تُغلقي تلك النافذة، أيتها البلهاء! كم مرة...
قاطعتُ صوتها وأغلقتها بتودُّدٍ ورسمتُ على محيايّ ابتسامة رضا أتبعتها بإيماءةٍ صامتة.
تَدثرتُ مِن جديد تحت الغطاء وغُطتُ في نومٍ عميق في استسلامٍ تام، مرَّ بي الوقت مِن حيثُ لا أدري، لمْ أفِق إلا على صوتِ جرسِ الباب يَدق، فتحتُ الباب وأنا بالكادِ أبصُر أمامي، فوجئت بصديقتي «إيارو» تقفُ مُتكاتفةٌ على نفسها تنتفض مِن شدّةِ البرد، عَلت الدهشة على قسماتِ وجهي، نَظرتُ إليها بشخوصٍ وسألتها:
- ملابسك مُبللة! أما زالتّ تُمطر في الخارج؟
أجابتني وكل فرائصها تنتفض:
- بلى، يبدو أنها عاصفة قويّة!
وَقفتُ صوبها مُتجمّدة دُونما حراك وأنا أتأمل جمالها الذي لمْ يَنلْ منهُ لون بَشرتِها الدّاكنة، كانت تميل للحنطيّة، لكن قليلٌ مِن مساحيقِ التجميل كانت كفيلةٌ بجعلِها تَبدو أجمل، فقد أبرز بشكلٍ أنيق تفاصيل وجهها الدقيقة، ولمعتْ عيناها السّوداوين الواسعتين في قليلٍ مِن الكحل، وعلى شفتيها رُسمت الحُمرة الداكنة، فأتممت أجملَ صُورة.
شعرها كان مُبللًا بقليلٍ مِن قطرات المطر، كانت تُحاول نثرهُ بتحريكِ رأسها يُمنةً ويُسرةً، ما أنْ عادتْ واستقرتْ حتى رمقتني بنظرةِ عجبٍ لردة فعلي، فزمّت شفتيها وقالت لي مَشدوهةٌ:
- هلْ سنظل واقفتين هُنا؟ أكاد أتجمد من شدّةِ البرد!
هَززتُ رأسي وأشرت لها بيدي أنْ تتفضل، اصطحبتها إلى غُرفتي؛ حيث راحت تُجفف شعرها، وتنفضُ عن ملابسها ما علِق عليها مِن قطراتِ الميّاه، طبعتُ قبلةً على خدِها الأيسر وقلتُ مُبتسمة:
- لمَ أتيتِ باكرًا هكذا؟ ما زالت السّاعة لم تتعدَ السّادسة بعد!
هزّت كتفيها وقالت بفتور:
- ساورني بعض التوتر والقلق، فوجدتني أرتدي ملابسي بيدِ تركت لقدماي أمر تحديد وجهتي، فوجدتني هنا!
ربتُّ على كتفها وقمتُ لإحضار الفطور، تناولناه معًا واحتسينا كوبًا مِن الشايّ السّاخن، تشاطرنا بعضُ الأحاديث التي طالما تثرثرنا بها لنستنزفَ بعضًا مِن الوقت المهدر، ما أنْ فَرغتُ حتى نهضتُ على الفور لأختار ما سأرتديهِ سريعًا.
بِضعُ دقائق وكنتُ مُرتديةً مِعطفًا أحمر مِن النوع الفاخر، ذو ياقةٍ عالية مِن الفورير الأبيض الناصع، وبنطالًا مِن الجينز الأسود.
اصطحبتُ «إيارو» مُمسكةً بيدها في طريقنا صوب جامعة القاهرة، لم تكن المسافة ببعيدةٍ فاعتدنا على السير إليها كل صباح، كنتُ أختلسُ النظر إليها بين الفينة والفينة، فتفاصيلُ وجهها تجعلني أراها ملكة فِرعونيّة مُتوّجة، كانت ترتدي قميصًا زهريّ مِن الصّوف، وبنطالًا أسود ضيّق أظهرَ مفاتن قدميها وتنتعل بوطًا داكن اللون، وتلفحت حولَ رَقبتها بوشاحٍ مُزركشٍ، ابتسمتُ وأنا أُناديها:
- «إيارو»!
قالت بسخرية وهي تضحك:
- هل اشتقتِ إليّ وأنا معكِ، أم أنكِ كنتِ شاردة؟
ابتسمتُ في خجلٍ، وقلتُ لها:
- ولمَ أشتاقكِ وأنتِ تحتلين شِغاف القلب، فقط كنتُ أتأملكْ، فعلى قَسمات وجهك عبق سنينٍ مَطويّة.
أثلجت كلماتي صدرها فانتشت بسعادةٍ غامرة وقالت متعجبة:
- ألهذا تُناديني «إيارو»!
صمتُّ لبرهةٍ فأنا لستُ مُتذكرة حد اليقين لمَ أطلقتُ عليها هذا الإسم، فعندما سمعته وعلمتُ معناهُ لأولِ مرةٍ، تخيلتها تقفُ أمامي ماثلةً بشخصها حاضرةٌ بروحها، فناديتها منذُ تلك اللحظة بهِ.
اسمُها الحقيقي «تايلا» هي رفيقةُ دربي منذُ نُعومة أظافري، صديقةُ طفولتي الوحيدة، وكل ما تبقى لي مِن هذا الزمن بعدما فقدتُ أخي، حادثٌ مروّع سلبني ضحكتهُ الهادرة، ووجوده الحنون الذي لم يسد غيابهُ شيء!
كدنا نصل ساحة الكليّة كان الجو سَاكنًا والمكان مُغطى بكثيرٍ مِن الميّاه، الهدوء والتركيز يَغمر مُعظم الطلبة المُنتشرين هنا وهناك، في حين بدا القلق والتوتر يَنهش البعض نهشًا.
وقتٌ قصير قضيناهُ في استذكار بعض الدروس، كنّا على وشك خوض امتحان آخر مادةٍ لنصف العام للفرقة الرابعة.
حين شرفت الساعة على العاشرة إلا ربع تقريبًا، تَحرك بحماسٍ جُموع الطلبة لمقر كل واحدٍ منهم، ودخلتُ أنا لحيث يجتاز طلبة الآثار امتحاناتهم، في حين توجهت «إيارو» لقسم «الإعلام».

الأدب في العصور القديمة؛
ما زال راسخًا مَليئًا بالقيم الجيدة!

الإلهُ يُحب الصّاغين، ويكره مَن لا يُصغي.
الجاهل الذي لا يُصغي:
لا يصل إلى شيء؛
فهوَ يُساوي بين الجهل والمعرفة!
وبين المفيد والضّار،
ويفعل الشائبات؛
فيستاء الناس مِنه يوميًا.

من روائع أدب الحكمة في العصر الفرعوني♕

أحد تعاليم «بتاح-حتب»:
مسئول مصري قديم، عمل وزيرًا للملك «جد-كا-رع» مؤسس الأسرة الخامسة، له مخطوطة شهيرة عن تعليم الأخلاق والسلوك الحسن أطلق عليها "تعاليم بتاح-حتب" مدونة في بردية "بريسي" تحتوي على 37 وصيّة وإرشاد، محفوظة متحف "اللوڤر.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.