artherconan

شارك على مواقع التواصل

إن من أكثر الأشياء غرابةً أنْ وقعتْ لي بعد تقاعدي قضيةٌ لا تقل غموضًا ولا تفرُّدًا عن
أي قضية واجهتُها على مدى حياتي المهنية الطويلة، وأنْ وُضِعتْ — إن صحَّ التعبير —
بين يديَّ وضعًا لكي أحلَّها؛ فقد وقعَت القضية بعد أن انسحبتُ إلى بيتي الأثير في مقاطعة
ساسكس، عندما أسلمتُ نفسيتمامًا لحياة الطبيعة المريحة التي كثيرًا ما كنتُ أتوق إليها
خلال السنوات الطويلة التي قضيتُها في جو لندن المليء بالكآبة. في هذه الفترة من حياتي
لم أكن أعرف شيئًا تقريبًا عن صديقي الطيب واطسون. كانت أقصى مدة حظيتُ فيها
برؤيته هي زيارة عابرة في إحدى عطلات نهاية الأسبوع؛ لذا فلا بد لي من أن أؤُرِّخ
أنا لنفسي. آهٍ لو أنه فقط كان معي! فكم كان سيبالغ في سرد هذا الحدث العجيب وفي
وصف انتصاري المحتَّم على كل عقبة! لكن، تسليمًا للأمر الواقع، سأضُطر إلىسرد قصتي
بطريقتي البسيطة، وسأوضِّح بأسلوبي الخاصكل خطوة على الطريق الشاق الذي كان
عليَّ أن أسلكه وأنا أحقِّق في لغز لبدة الأسد.
يقع منزلي على المنحدر الجنوبي لتلال ساوث داونز، ويُطلُّ من موقع ممتاز على القنال
الإنجليزية. يتكوَّن الخط الساحلي في هذه البقعة بالكامل من أجراف طباشيرية، لا يمكن
الهبوط منها إلا عبر طريقٍ وحيدٍ متعرِّجٍ وطويلٍ، وهو طريقٌ زلِقٌ شديدُ الانحدار، وتمتد
الحصباء والحصىلمسافة مائة ياردة أسفل الطريق، حتى عندما يبلغ المدُّ ذروته. رغم هذا
فإن ثَمَّة منحنيات وتجاويف في أماكن متفرقة من الشاطئ، وهي تُشَكِّلُ حمامات سباحة
رائعة تُمْلَأ من جديدٍ مع كل ارتفاع للمدِّ. ويمتد هذا الشاطئ الساحر مسافة بضعة أميال
في كل اتجاه، إلا عند موضع واحد، حيث يقطع الخطَّ خليجُ فولورث وقريتُه الصغيران.
مغامرة لُبْدة الأسََد
إن منزلي منعزل، وأعيش أنا ومدبرة منزلي العجوز ونَحْلِي بمفردنا في الضيعة كلها،
،« ذا جيبلز » لكن على بُعد نصفميل توجد مؤسسة هارولد ستاكهيرست التدريبيَّة الشهيرة
وهي مكان كبير جدٍّا يضم عددًا كبيرًا نسبيٍّا من الشباب الذين يتهيَّئون لتولِّي مُختلِف أنواع
المهن، ومعهم طاقم متنوِّع من المعلمين. كان ستاكهيرست نفسه من مشاهير رياضة
التجديف، وقد حصل على جائزة التميُّز في شبابه، كما كان طالبًا متعدد القدرات، وقد
أصبحتُ أنا وهو متوادَّيْن منذ أول يوم أتيتُ فيه إلى الشاطئ، وكان هو الرجل الوحيد الذي
وصلَ من حُسن علاقته بي أنْ كان كلٌّ منا يستطيع زيارة الآخر في المساء من دون دعوة.
قُرب نهاية شهر يوليو، سنة ١٩٠٧ ، هبَّتْ عاصفة عنيفة، فكانت الريح التي تعصف
فوق القنال تُكدِّس الأمواج العارمة عند قاعدة الأجراف، وتُخلِّف وراءها هَوْرًا كلَّما انحسر
المد. لكن الريح هدأت في صباح اليوم الذي أتحدث عنه، وأصبحت الطبيعة كلها نظيفةً
نقيةً. كان من المستحيل العملُ في يوم مبهجٍ كهذا، فخرجتُ أتنزه قبل تناول الإفطار لكي
أستمتع بالنسيم الرائع. سرتُ على طريق الجرف ومنه إلى المنحدر الحاد ثم إلى الشاطئ.
وبينما أنا أسير سمعتُ أحدًا يناديني، فإذا بهارولد ستاكهيرست يُلوِّح بيده في تحية بهيجة.
«. ما أجمله من يوم يا سيد هولمز! لقد كنتُ أتوقَّع أن أراك خارج المنزل » : وقال
«. أظنك ذاهبًا للسباحة »
عُدتَ إلى حِيَلك القديمة مجدَّدًا. نعم. لقد بدأ » : ضحك وربَّت على جَيْبه المنتفخ وقال
«. مكفارسن مبكرًا، وأتوقَّع أن أجده هناك
كان فيتزروي مكفارسن معلمًا للعلوم الطبيعية، وهو شاب مهذب مستقيم شَلَّتْ
حركةَ حياته مشكلاتٌ قلبيةٌ نَجَمَتْ عن إصابته بحمى روماتيزمية. لكنه كان رياضيٍّا
بالفطرة، وقد نبغ في كل الرياضات التي لم تكن تتطلب منه جهدًا كبيرًا. كان يمارس
السباحة في الصيف وفي الشتاء، ولأنني سبَّاحٌ أنا الآخر، فكثيرًا ما كنتُ أشاركه السباحة.
في هذه اللحظة رأينا الرجل نفسه؛ حيث أطلَّ رأسُهُ من فوق حافة الجرف عند نهاية
الطريق المتعرِّج. ثم بدا جسمه كله عند القمة، كان يترنَّح كالثمل. ثم بعد هنيهةٍ توقف
في يأسٍ، وسقط على وجهه مُطْلِقًا صيحةً مُروِّعةً. فهُرعتُ إليه أنا وستاكهيرست — كانت
المسافة تقارب الخمسين ياردة — وقلبناه على ظهره. لقد كان يُحْتَضَرُبالتأكيد. لم يكن
من الممكن أن تعني هاتان العينان اللامعتان الغائرتان ولا الوجنتان الشاحبتان المروعتان
أيَّشيء غير هذا. لكن ومضةً من الحياة أضاءت في وجهه للحظةٍ، فنطق بكلمتَين أو ثلاث
بأسلوب تحذيريٍّ شديد. كانت كلماته غمغمةً غير واضحة، لكنني سمعتُ آخرَها، وقد
كانت كلمته غامضةً تمامًا «. لبدة الأسد » : اندفعتْ فيصرخةِ ذُعْرٍ من بين شفتَيه، وكانت
ولم تكن في محلها بالمرة، لكنني لم أستطع فهم ما سمعته على معنًى آخر. بعد ذلك رفع
مكفارسن نفسه عن الأرضقليلًا، وأشاح بيدَيه في الهواء، ثم سقط على جنبه ومات.
ذُهِلَ رفيقي من هول صدمة ما رأى، ولكنَّ حواسي— كما لعلكم تعتقدون — كانت
متنبهةً كلها، وقد كنت مُضطَرٍّا إلى هذا لأنه اتضح سريعًا أننا كنَّا في حضرة قضية غير
عادية. لم يكن الرجل يرتدي غير معطفه المضاد للماء وسرواله وحذاء مفكوك الرباط
مصنوع من قماش الكنفا الغليظ. لكن معطفه المضاد للماء، الذي كان ملقًى فقط على
كتفَيه، انزلق عنه عندما سقط وأظهر جسمه؛ فأخذنا نحدِّق فيه في ذهول. كان ظهره
مغطٍّى بخطوط حمراء داكنة وكأنه جُلِدَ جَلْدًا عنيفًا بسوطٍ معدني رفيع. من الواضح أن
الأداة التي مُورِسَ بها هذا التعذيب كانت أداةً مرنة؛ لأن علامات الضرب الطويلة الملتهبة
كانت منحنيةً على كتفَيه وضلوعه. كان الدم يقطر من تحت ذقنه، لأنه عَضَّشفتَه السفلى
من شدة الألم. كان وجهه الشاحب المشوَّه يُنْبِئ كم كان هذا الألم شديدًا.
كنتُ جاثيًا على ركبتي وكانستاكهيرست واقفًا بجوار الجثة، فسقط فوقنا ظل إنسان،
ووجدنا أن إيان ميردوك كان بجوارنا. كان ميردوك مدرس الرياضيات في المؤسسة، وهو
رجلٌ نحيفٌ طويل القامة داكن البشرة، وهو كتومٌ ومتحفِّظ جدٍّا لدرجة أنه لم يُعرَف أن
له أصدقاء. ويبدو أنه كان يعيش في منطقة سامية بحتة من الجذور الصماء والقطاعات
المخروطية، ولم يكن هناك الكثير ليربطه بالحياة العادية. كان الطلاب يرونه شخصًا غريب
الأطوار، وكان من الممكن أن يكون أضحوكتهم، لكن كان ثمة عِرقٌ همجي غريب في الرجل،
ولم يكن يظهر في عينَيه السوداوَين الفاحمتَين ولا وجهه الداكن وحسب، ولكن أيضًا في
ثورات انفعالٍ تحدث بين الحين والآخر، ولا يمكن وصفها إلا بالمتوحشة. ففي إحدى المرات
أزعجه كلبٌ صغيرٌ يملكه مكفارسن، فأمسك به وقذفه من زجاج النافذة السميك، وهو
تصرُّفٌ كان ستاكهيرست سيطرده بسببه بالتأكيد، لولا أنه كان معلمًا قيِّمًا جدٍّا. هكذا
كان هذا الرجل الغريب المعقَّد الذي ظهر الآن إلى جوارنا. لقد بدا مصدومًا في الواقع من
المنظر الذي كان أمامه، على الرغم من أن واقعة الكلب ربما تُبيِّن أنه لم يكن هناك كبيرُ
انسجامٍ بينه وبين الرجل المُتوفىَّ.
«؟ صديقي المسكين! صديقي المسكين! ماذا عليَّ أن أفعل؟ كيف أستطيع المساعدة »
«؟ هل كنتَ معه؟ هل تستطيع أن تخبرنا ما الذي حدث »
لا لا، لقد تأخرتُ هذا الصباح. ولم أكن على الشاطئ على الإطلاق. لقد أتيتُ من »
«؟ مؤسسة ذا جيبلز مباشرةً. ماذا يمكنني أن أفعل
«. يمكنك أن تسرع بالذهاب إلى نقطة الشرطة في فولورث. أبلغ عن الأمر في الحال »
فغادرَ بسرعة كبيرةٍ دون أن ينطق بكلمة، وعَمَدتُ أنا إلى تولِّي الأمر بنفسي، بينما
بقي ستاكهيرست — الذي كان في حالة ذهول بسبب المأساة — إلى جوار الجثة. كانت
مهمتي الأولى بالتأكيد أن أعرفمَن الذي كان على الشاطئ، واستطعت من فوق قمة طريق
الجرفأن أرى امتداد الشاطئ كله، كان مهجورًا تمامًا إلا من شبحَين أو ثلاثة قاتمِي اللون
يظهرون من بعيد وهم يتحركون باتجاه قرية فولورث. وعندما اطمأننت بخصوصهذه
النقطة نزلت ببطء على الطريق. كان ثمة طين أوصلصال طيني طري ممتزج بالطباشير،
وكنت أرى في كل مكان حولي آثار الأقدام نفسها صاعدةً الطريق ونازلةً عنه. لم يذهب
أحد آخر إلى الشاطئ من هذا المسلك في ذاك الصباح، ولكني لاحظت في أحد المواضع أثر
يدٍ مفتوحةٍ تشير أصابعها تجاه المنحدر. لم يكن يعني هذا سوى أن المسكين مكفارسن
قد وقع وهو يحاول الصعود. وكان ثمة وَهْدات مستديرة كذلك، وهي تشير إلى أنه سقط
على ركبتَيه أكثر من مرة. أما أسفل الطريق فكان يوجد الهَوْر الضخم الذي خلَّفه المد
وراءه. وقد خلع مكفارسن ملابسه عند أحد جوانبه، لأن منشفته كانت هناك فوق إحدى
الصخور. كانتْ مطويةً وجافَّة؛ لذا فمن المحتمل أنه لم ينزل إلى الماء قط في نهاية المطاف.
وقدصادفتُ مرةً أو مرتَين وأنا أفتشبين الحصباء الصلبة رقعًا رمليةًصغيرةً كانت تظهر
فوقها آثارُ حذائه القماشيوآثارُ قدمَيه الحافيتَين كذلك. أكَّدتْ لي هذه المعلومة الأخيرة أنه
كان قد تجهَّز تمامًا للاستحمام، ولكن المنشفة كانت تشير إلى أنه لم يفعل هذا في حقيقة
الأمر.
هكذا كان وصفُ القضية بكل وضوح. كانت قضية غريبة كغيرها من القضايا التي
دائمًا ما واجهتني. لم يمكث الرجل على الشاطئ مدةً أطول من ربع ساعة على الأكثر،
وقد تبعه ستاكهيرست بعد خروجه من مؤسسة ذا جيبلز، ما من شك في هذا الآن. وقد
ذهب للاستحمام وخلع ملابسه، كما تدل على ذلك آثار الأقدام الحافية. ثم فجأةً أخذ يجمع
ملابسه في عجلةٍ مرةً أخرى — حيث كانت كلها مبعثرةً ومفكوكة — وعاد من دون أن
يستحمَّ، أو — على أي حال — من دون أن يجفِّف نفسه. وكان سبب تغيير نيته أنه
تعرَّض للجَلد بطريقة همجيةٍ قاسية، وعُذِّب حتى قضم شفته من الألم، ولم يُترك وفيه
من القوة إلا ما يكفي لكي يزحف بعيدًا ويموت. مَن الذي فعل هذه الفعلة المتوحشة؟
نعم، كان يوجد مغارات وكهوفصغيرة عند قاعدة الأجراف، لكن الشمسالمنخفضة كانت
تسطع مباشرةً فوقها، ولم يكن يوجد مكان للاختباء. ثم، من ناحية أخرى، كان هناك
أولئك الشخوص البعيدون على الشاطئ. لكنهم كانوا بعيدين جدٍّا بحيث لا يمكن أن تكون
لهم علاقة بالجريمة، وقد كان الهَوْرُ الواسع الذي كان مكفارسن يعتزم الاستحمام فيه
واقعًا بينه وبينهم، وكان مطويٍّا خلف الصخور. أما في البحر فكان ثمة اثنان أو ثلاثة من
قوارب الصيد على مسافة ليست بالبعيدة، وربما أستجوب راكبيها في وقت فراغي. كان
هناك طرق عديدة للتحقيق، ولكن لم يكن من بينها ما يؤدي إلى أي غاية واضحة.
عندما عدتُ في النهاية إلى الجثة وجدتُ مجموعة صغيرة من الناس مجتمعين حولها
في اندهاش. كان ستاكهيرست بالطبع لا يزال هناك، وكان إيان ميردوك قد وصل لتوِّه
مع أندرسن؛شرطي القرية، وهو رجل ضخم ذو شارب بني، من سلالة سكان ساسكس
الوقورين الشرفاء؛ وهي سلالة تخفي الكثير من الحكمة تحت هذا المظهر الضخم الهادئ.
وقد استمع إلى كلشيء، ودوَّن كل ما قُلناه، وأخيرًا انفرد بي جانبًا.
سيسرني تلقِّي مشورتك يا سيد هولمز. إن هذا لأمرٌ كبيرٌ عليَّ أن أتعامل معه، » : قال
«. وسيبكِّتني لويس عليه إذا ما أخطأت
فنصحته أن يستدعي رئيسه المباشروأن يستدعي طبيبًا؛ وألا يسمح كذلك بنقلشيء
من مكانه، وأن يمنع بقدر المستطاع وجود آثار أقدام جديدة في المكان ريثما يصلون. في
غضون ذلك أخذتُ أفتش جيوب المُتوفىَّ. كان بها منديله، وسكين طويلة، وحافظة كروت
صغيرة قابلة للطيِّ. وقد برزتْ منها قصاصة ورق، ففتحتها وناولتها الشرطي، وكان
مكتوبًا فيها بخط امرأة يشبه الخربشة:
سوف آتي، اطمئن.
مودي
يبدو أنها كانت علاقة حب أو لقاءً غراميٍّا، لكن متى وأين؟ لم يكن هذا مكتوبًا.
أدخلها الشرطي مرة أخرى إلى حافظة الكروت وأعادها مع الأشياء الأخرى إلى جيوب
المعطف المقاوم للماء. ثم بعد ذلك، وحيث إنه لم يحدث أيشيء آخر، عدتُ إلى بيتي لتناول
الإفطار، ولكن بعد أن تأكدت من أن قاعدة الأجراف سوف تُفتَّش بعناية.
بعد ساعة أو اثنتَين وصل ستاكهيرست ليخبرني أن الجثة نُقلَت إلى مؤسسة ذا جيبلز،
حيث سيُعقَد التحقيق هناك، وقد جلب معه بعضالأخبار الخطيرة والمؤكَّدة. كما توقعت،
لم يُعثَر على شيء في الكهوف الصغيرة أسفل الجرف، ولكنه فتش الأوراق التي في مكتب
مكفارسن، وكان بينها أوراق عديدة تؤكد وجود مراسلات عاطفية مع آنسة بعينها، وهي
الآنسة مودي بيلامي، من قرية فولورث. لقد تأكدنا إذن من هُوية كاتبة الرسالة.
الخطابات في حوزة الشرطة، لم أستطع إحضارها. لكن » : قال ستاكهيرست موضِّحًا
لا شك أنها كانت علاقة حب حقيقية. ولكني لا أرى مبررًا لربطها بهذه الواقعة الرهيبة،
«. سوى أن السيدة — في الواقع — كانت قد وعدته بلقاء
لكن من المستبعد أن يكون هذا عند بركة استحمام كنتم جميعًا » : فعقَّبت عليه قائلًا
«. معتادين على استخدامها
«. إنها لمحضمصادفة أن لم يكن بعضالطلاب مع مكفارسن » : قال
«؟ هل كان هذا محضمصادفة »
فعقد ستاكهيرست حاجبيه مُفَكِّرًا.
لقد استبقاهم إيان ميردوك. لا بد أنه قد أصرَّعلى بعض دروس الجبر قبل » : وقال
«. الإفطار. يا للشاب المسكين، إنه ليتمزق ألمًا من الأمر برمته
«. ولكني أعتقد أنهما لم يكونا صديقَين »
عند لحظة معيَّنة نعم. ولكن على مدى سنة أو يزيد كان ميردوك قريبًا من مكفارسن »
«. بقدر ما كان يمكنه أن يقترب من أي شخصآخر. فهو ليس ودودًا بطبيعته
«. أعرف هذا. وأذكر أنك أخبرتني ذات مرة عن مشاجرة بسبب القسوة على كلب »
«. لقد انتهى هذا الأمر على خير »
«. لكن لعله خلَّف شيئًا من الضغينة »
«. لا لا، أنا واثق أنهما كانا صديقَين مخلصَين »
«؟ حسنٌ، إذن ينبغي لنا أن نتحرَّى أمر الفتاة. أتعرفها »
الجميع يعرفها. إنها جميلة القرية؛ جميلةٌ بحق يا هولمز، إنها تلفت الأنظار أينما »
توجهتْ. لقد كنتُ أعرف أن مكفارسن كان منجذبًا إليها، ولكن لم يكن لديَّ فكرة أن الأمر
«. قد تطوَّر إلى هذا الحد الذي يظهر من تلك الرسائل
«؟ ولكن مَن هي »
إنها ابنة العجوز توم بيلامي، الذي يمتلك كل القواربوحمَّاماتالسباحة في فولورث. »
«. لقد بدأ حياتهصائدَ أسماك، ولكنه الآن رجل ذو ثروة كبيرة، ويدير هو وابنه ويليام العمل
«؟ ما رأيك في الذهاب إلى فولورث ومقابلتهما »
«؟ ولكن، بأي حجة »
أوه، يمكننا إيجاد حجة بسهولة. ففي نهاية الأمر، إن هذا الرجل المسكين لم يُعذِّب »
نفسه بهذه الطريقة الشنيعة. وقد كانت تُمسك بذلك السوط يدُ شخص ما، إن كان ما
سبَّبَ هذه الجروح هو سوط حقٍّا. لقد كانت دائرة معارفه في هذا المكان المعزول محدودةً
بالتأكيد، فلنتتبعها في كل اتجاه ولن يكون من السهل أن نخفق في اكتشاف الدافع وراء
«. هذه الجريمة، وهو ما ينبغي أن يقودنا بدوره إلى المجرم
كانت ستصبح نزهةً ممتعة عبر تلال ساوث داونز التي تعطِّرها رائحة الزعتر لولا
أن أرواحنا كانت قد تسمَّمتْ بتلك المأساة التي شهدناها. تقع قرية فولورث في غَوْرٍ منحنٍ
على شكل نصف دائرة حول الخليج. لقد بُني العديد من المنازل الحديثة فوق بقعة الأرض
المرتفعة خلف القرية الصغيرة العتيقة. قادني ستاكهيرست إلى أحد هذه المنازل.
هكذا أسماه بيلامي. ذاك المنزل ذو السقف الأردوازي والبرج ،« المرسى » هذا هو » : قال
«! عند زاويته. ليس سيِّئًا بالنسبة لرجل لم يبدأ إلا ب … يا إلهي، انظر إلى هذا
فُتحت بوابة حديقة المرسى وأطلَّ منها رجل. لم يكن ثمة شك في معرفة هذه القامة
الطويلة الناحلة غير المهندمة. كان هذا هو إيان ميردوك، مدرس الرياضيات. بعد قليل
قابلناه على الطريق.
فأومأ الرجل برأسه، ورمقنا بنظرة من جانب «! مرحبًا » : حيَّاه ستاكهيرست قائلًا
عينَيه السوداوَين الغامضتَين، وكان سيرحل عنا، ولكنَّ مديره جذبه.
«؟ ماذا كنت تفعل هناك » : سأله قائلًا
إنني مرءوسك يا سيدي، ولكن تحت سقف » : توهَّج وجه ميردوك من الغضب، وقال
«. مؤسستك. ولا أظن أنني مُطالَب بتقديم أيِّ تفسيرٍ لك بشأن تصرفاتي الشخصية
كانت أعصاب ستاكهيرست على حافة الانفجار بعد كل ما تحمَّله، ولولا ذاك لربما
كان انتظر. لكنه في هذه اللحظة فقد هدوءه تمامًا.
«. إن ردَّك هذا في هذه الظروف لمحضوقاحة يا سيد ميردوك » : قال
«. ربما ينطبق الوصف نفسه على سؤالك أنت »
ليست هذه هي المرة الأولى التي ينبغي عليَّ فيها أن أتغاضىعن عصيانك، لكنها حتمًا »
ستكون الأخيرة. ولتقم من فضلك بعمل تدابير جديدة من أجل مستقبلك المهني بأسرع ما
«. يمكنك
كنتُ قد نويتُ أن أفعل هذا. لقد فقدتُ اليوم الشخصالوحيد الذي كان يجعل من »
«. مؤسسة ذا جيبلز مكانًا صالحًا للعيش
وغادر سريعًا بخطًى واسعة، بينما وقف ستاكهيرست يحدِّق فيه بعينَين مغضبتَين
«؟ أليس رجلًا بغيضًا لا يُطاق » : بعدما انصرف. ثمصرخ قائلًا
كان الشيء الوحيد الذي انطبع في ذهني بقوة هو أن السيد إيان ميردوك انتهز أول
فرصة ليفتح لنفسه طريقًا للهرب من مسرح الجريمة. بدأ الشك في تلك اللحظة يتشكَّل
مبهمًا غائمًا في رأسي. ربما تسمح زيارة أسرة بيلامي بإلقاء مزيد من الضوء على الموضوع.
استجمع ستاكهيرست شتات نفسه، وتقدَّمنا باتجاه المنزل.
تبيَّن أن السيد بيلامي رجل كهل ذو لحية حمراء متوهِّجة، ويبدو أنه كان متعكِّر
المزاج جدٍّا، حتى إن وجهه قد أصبح بعد قليل في توهُّج لون شعره.
ثم أردف وهو يشير إلى شابٍّ قوي البنية، «. لا يا سيدي، لا أريد أي تفاصيل » : قال
إن ابني متفق معي أن ملاطفات » : ذي وجه حادٍّ متجهِّم كان يجلسفي ركن غرفة الجلوس
لم تُذْكَرْ قط، ورغم « زواج » السيد مكفارسن لمودي لم تكن مهذبة. نعم يا سيدي، إن كلمة
هذا فقد كان ثمة رسائل ومقابلات، وبقدرٍ كبيرٍ ما كان لأيٍّ منَّا أن يرضىعنه. إنها يتيمة
«… الأم، ونحن أولياؤها الوحيدون. نحن مصمِّمون أن
لكن الكلمات تلاشت من فمه عندما ظهرت الفتاة نفسها، ولا خلاف أنها كانت
ستشرِّف أي اجتماع في الدنيا. مَن كان يستطيع أن يتخيَّل أنَّ زهرة بالغة النُّدْرة مثل هذه
كانت ستنبت من جذر كهذا وفي مثل هذا الجو؟ أما أنا فنادرًا ما كانت النساء تَفْتِنُنِي، لأنه
دائمًا ما كان عقلي يسيطر على قلبي، لكنني لم أستطع النظر إلى وجهها الرائعِ القسمات،
وإلى نضارة أرض تلال ساوث داونز العذبة في مُحيَّاها الرقيق، دون أن أدرك أنه ما من
شاب كان سيعبر دربَها دون أن تصيبه سهامها. هكذا كانت تلك الفتاة التي دفعت الباب
ووقفتْ في تلك اللحظة مفتوحةَ العينَين متوترةً أمامَ هارولد ستاكهيرست.
«. أعلم بالفعل أن فيتزروي قد تُوفيِّ، فلا تخشَ إخباري بالتفاصيل » : وقالت
«. لقد أطلعَنا رَجُلُكَ الآخر هذا على الخبر » : عقَّب والدها قائلًا
«. لا داعي لإقحام أختي في الموضوع » : فقال الفتى الشاب بصوت فظٍّ
إن هذا شأني أنا يا ويليام. من فضلك دعني » : رمتْه أخته بنظرة حادَّة غاضبة، وقالت
أتصرف فيه على طريقتي؛ فلقد ارتُكبتْ جريمة حسبَ ما يقول الجميع، ولو استطعت
«. تقديم المساعدة لإظهار من ارتكبها، فسيكون هذا أقل ما يمكنني تقديمه لذاك الذي رحل
استمعت الفتاةُ إلى جزء مقتضب من القصة من رفيقي في هدوء وتركيز جعلاني أدُرك
أنها كانت تتمتع بشخصية قوية بجانب جمالها الأخَّاذ. ستظلُّ مودي بيلامي في ذاكرتي
واحدةً من أكمل وأروع النساء. ويبدو أنها كانت تعرف شكلي بالفعل، لأنها استدارت
ناحيتي في النهاية.
أحضِرهم بين يدي العدالة يا سيد هولمز. ولك مني التضامن والمساعدة، » : وقالت
وبدا لي أنها كانتْ ترمق أباها وأخاها بنظرة تحدٍّ أثناء حديثها. «. كائنين من كانوا
شكرًا لكِ. إنني أقُدر غريزة المرأة في مثل هذه القضايا، لكنكِ استخدمتِ كلمة » : فقلتُ
«؟ أتعتقدين أن أكثر من واحد قد تورطوا في القضية «. أحضرهم »
لقد كنتُ أعرف السيد مكفارسن جيدٍّا بما يكفي لأدُرك أنه كان رجلًا شجاعًا وقويٍّا. »
«. ما كان شخصٌواحد ليستطيع أن يعتدي عليه مثل هذا الاعتداء بمفرده أبدًا
«؟ هل لي بكلمة معكِ على انفراد »
«. إنني أحُذِّركِ يا مودي من إقحام نفسكِ في الأمر » : فصاح أبوها مُغْضَبًا
«؟ ماذا أفعل » : نظرتْ إليَّ في يأس، وقالتْ
سيعرف الجميع بما حدث عمَّا قريب، فلا بأس إذن لو ناقشتُه هنا. وكنتُ » : فقلتُ
أفُضِّل لو أننا تحدثنا على انفراد، ولكنْ إذا كان والدُكِ لن يسمح بهذا فليشاركنا المناقشة
من المؤكد أنها » : بعد ذلك تحدثتُ عن الرسالة التي وُجِدَتْ في جيب المُتوفىَّ، وقلتُ «. إذن
«؟ ستُناقَش في التحقيق. فهلا توضِّحين من أمرها ما تستطيعين
لا أرى سببًا للسرية، لقد كنَّا مخطوبَيْن وسنتزوج، ولكننا أبقينا الأمرسرٍّا » : فأجابت
فقط من أجل عم فيتزروي — وهو رجل طاعن جدٍّا في السن ويُعتقد أنه على وشك الموت
— لأنه كان من الممكن أن يحرمه من الميراث لو أنه تزوَّج على خلاف رغبته. لم يكن ثمة
«. سبب آخر
«. كان بإمكانكِ أن تخبرينا » : فقال السيد بيلامي في فظاظة
«. كنتُ سأفعل هذا، يا أبي، لو أنكَ كنتَ أظهرتَ تعاطفك في أي وقت مضى »
«. أنا لا أرضىلابنتي بالزواج ممَّن ليسوا في منزلتها الاجتماعية »
إنَّ تحامُلك عليه هو ما منعَنا من إخبارك بالأمر. أما عن هذا الموعد — وأخذتْ تفتِّش »
«. في فستانها ثم أخرجتْ رسالةً مُتَغَضِّنَةً — فقد كان ردٍّا على هذه
وقرأت الرسالة التي كان نصها:
حبيبتي
يوم الثلاثاء في المكان القديم عند الشاطئ بعد الغروب مباشرةً. هذا هو الوقت
الوحيد الذي يمكنني أن آخذ إجازة فيه.
ف. م.
«. كان الثلاثاء هذا هو اليوم، وقد عزمتُ على مقابلته الليلة »
لكنَّ هذه لم تأتِ عن طريق البريد، فكيف حصلتِ » : فقلبتُ الورقة على ظهرها، وقلتُ
«؟ عليها
أفُضل ألَّا أجُيب عن هذا السؤال؛ فلا علاقةَ له في الواقع بالقضية التي تحقِّق فيها. »
«. لكنني سأجيب بصراحة مطلقة عن أيشيء له تأثيرٌ عليها
كانت عند كلمتها، لكنْ لم يكن ثمة ما يفيد في تحقيقنا. أما هي فلم يكن يوجد ما
يدفعها للاعتقاد بوجود أي عدو خفي لخطيبها، لكنها اعترفتْ أنه كان لديها الكثير من
المعجبين المتحمسين.
«؟ هل لي أن أعرف أكان السيد إيان ميردوك واحدًا من هؤلاء »
فاحمرَّ وجهها خجلًا وبدا عليها الارتباك.
في وقتٍ ما كنتُ أعتقد أنه كذلك، لكن كل هذا تغيَّر عندما عرف بالعلاقة التي » : وقالت
«. بيني وبين فيتزروي
أخذت هواجسي حول هذا الرجل الغريب تتشكَّل من جديد على نحو أوضح. لا بد
من دراسة تاريخه، ولا بد من تفتيش سكنهسرٍّا. لقد كان ستاكهيرست مستعدٍّا للتعاون،
ونحن نأمل أننا قد « المرسى » حيث كانت الشكوك تدور في ذهنه هو الآخر. وعُدْنا من زيارة
أمسكنا في أيدينا بالفعل بأحد أطراف شِلَّة الخيوط المتشابكة هذه.
انقضى أسبوع، ولكن التحقيق لم يُلقِ أيَّ ضوء على القضية وأجُِّل لحين ظهور
مزيد من الأدلة. أجرى ستاكهيرست استعلامًا حذرًا عن مرءوسه، وفُتشتْ حجرته تفتيشًا
ظاهريٍّا، لكن دون جدوى. أما عني أنا، فقد فحصتُ المنطقة كلها ثانيةً، بجسمي وعقلي
كذلك، ولكن دون نتائج جديدة. لن يجد القارئ بين مغامراتي كلها قضيةً دفعتْني كليٍّا إلى
بذل أقصىقدراتي كما فعلتْ هذه القضية، حتى إن مخيلتي لم تستطع تصوُّر حل لهذا
اللغز، ثم وقعتْ حادثة الكلب.
كانت مدبرة منزلي العجوز هي أول مَن سمع بها عبر هذا الجهاز اللاسلكي الغريب
الذي يتلقَّط به أمثالها من الناس أخبار الريف.
«. محزنةٌ قصةُ كلب السيد مكفارسن هذه يا سيدي » : فقد قالتْ ذات مساء
أنا لا أنخرط عادةً في مثل هذه المحادثات، لكنَّ الكلمات شدَّت انتباهي.
«؟ وماذا حدث لكلب السيد مكفارسن »
«. مات يا سيدي. مات حُزنًا على صاحبه »
«؟ من أخبركِ بهذا »
يا للهول يا سيدي! إن الجميع يتحدث عنها. لقد كان منظره صاعقًا، ولم يأكل أي »
شيء مدة أسبوع. ثم عَثَر عليه شابان من طلاب مؤسسة ذا جيبلز اليوم ميتًا؛ في الأسفل
«. عند الشاطئ يا سيدي، في المكان نفسه الذي لقي فيه سيده مصرعه
ظلت الكلمات شاخصةً بوضوح في ذاكرتي، وخطرت لي فكرة «. في المكان نفسه »
غامضةٌ بأن الأمر كان مُهمٍّا. إن وفاة الكلب راجعة إلى طبع الوفاء الجميل عند الكلاب.
لِمَ قد يتسبب هذا المكان المهجور في وفاته؟ أمِن المحتمل أن يكون !« في المكان نفسه » لكن
قد انتُقم منه هو الآخر من أجل ضغينةٍ ما؟ أمِن المحتمل أن …؟ نعم، لقد كانت الفكرة
غامضة، لكن شيئًا ما كان يتكوَّن بالفعل في ذهني. بعد قليلٍ كنتُ في طريقي إلى مؤسسة
ذا جيبلز، حيثُ وجدتُ ستاكهيرست في مكتبه، فاستدعى — بناءً على طلبي — سادبري
وبلاونت؛ الطالبَين اللذين عثرا على الكلب.
نعم، لقد كان مُمَدَّدًا فوق حافة بركة السباحة تمامًا. لا بد أنه كان » : قال أحدهما
«. يتبع أثر صاحبه المتوفىَّ
رأيتُ الحيوان الوفيَّ المسكين، وكان من فصيلة إيرديل تيريار، مُمَدَّدًا فوق سجادة
الردهة. كانت جثته متيبسةً جامدة، وكانت عيناه جاحظتَين، وأطرافه ملتويةً مُشوَّهة.
كانت آثار التعذيب باديةً على كل جزءٍ منها.
خرجتُ من مؤسسة ذا جيبلز إلى بركة السباحة. كانت الشمس قد غرقت في مياه
القنال وألقى ظلُّ الجرف الكبير بظلمته على المياه التي راحتْ تومض وميضًا باهتًا مثل
لوحٍ من الرصاص. كان المكان خاليًا، ولم يكن ثمة أثر للحياة إلَّا من طَيْرَين من طيور
البحر كانا يحومان ويصوِّتان في السماء. وفي الضوء الخافت استطعتُ بالكاد أن أرى آثار
أقدام الكلب المسكين فوق الرمال عند الصخرة ذاتها التي كانت منشفة صاحبه ملقاةً
عليها. وقفتُ وقتًا طويلًا غارقًا في تأملٍ عميقٍ بينما راحت الظلال تشتدُّ ظلمةً من حولي.
كانت الأفكار تموج في عقلي. ولعلكم تذكرون كيف كان شعوركم وأنتم في حُلْمٍ مروِّعٍ؛
تحسون وأنتم داخله أن ثمة شيئًا بالغ الأهمية تبحثون عنه وأنتم موقنون بوجوده، لكنه
يظل إلى الأبد بعيدًا تمامًا عن أيديكم. هكذا كان شعوري في تلك الليلة وأنا واقفٌ وحدي في
بقعة الموت تلك، لكنني استدرت في النهاية ومشيتُ ببطء صوب البيت.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.