قرأ هولمز في قلقٍ رسالة أحضرها له آخر ساعٍ من سُعاة البريد، ثم قذفها إليَّ وهو يضحك
الضحكة الخافتة الجافة التي كانت أقرب طريقة عنده للضحك.
أظن أن هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الأمر إذا أردنا مزجًا بين الحديث » : وقال
«؟ والقروسطي، وبين ما هو عمليٌّ وما هو مُغرِقٌ في الخيال. ما رأيك فيها يا واطسون
فقرأتُ التالي:
٤٦ شارع أولد جوري
١٩ من شهر نوفمبر
إعادة إرسال: مصاصو الدماء
سيدي
أرسل إلينا عميلُنا السيد روبرت فيرجسون، صاحبشركة فيرجسون وميروهيد
— سماسرة تجارة الشاي بشارع مينسينج لين — خطابًا بتاريخ اليوم يسألنا
فيه عن مصاصي الدماء، وحيث إن شركتنا متخصصة فقط في تقييم المعدات
الآلية فإن الأمر لا يكاد يدخل في نطاق اختصاصنا؛ وعليه فقد نصحنا السيد
فيرجسون أن يزورك وأن يُسند القضية إليك. نحن لم ننسَ أداءك الناجح في
قضية ماتيلدا بريجز.
وتفضل بقبول فائق الاحترام.
موريسون، وَموريسون، وَدود
منشركة إي جيهسي
مغامرة مصاصة دماء ساسكس
لم يكن ماتيلدا بريجز اسم فتاة يا واطسون، » : قال هولمز بنبرة تستحث الذكرى
بل كانت سفينة ذات علاقة ما بفأر جزيرة سومطرة العملاق، وهذه قصةٌ ليس العالم
مستعدٍّا لسماعها بعد، ولكن ما الذي نعرفه عن مصاصيالدماء؟ وهل يدخلون في نطاق
اختصاصنا نحن أيضًا؟ إن أيَّ شيء أفضل من هذا الركود، لكن يبدو بالفعل أننا تحوَّلنا
«. إلى إحدى حكايات جريم الخرافية. مُدَّ ذراعك يا واطسون، وانظر ما لدى حرف الميم
مِلتُ إلى الخلف وأنزلتُ المُجلَّد المُفهرَس الضخم الذي أشار إليه. فوضعه هولمز على
ركبته، وراحتْ عيناه تمران ببطء وعناية على سِجِلِّ القضايا القديمة، الممزوجة بالمعلومات
المتراكمة على مدى العمر.
كانت هذه قضية خطيرة، أذكر أنك « مغامرة رحلة جلوريا سكوت » : أخذ هولمز يقرأ
المُزوِّر فيكتور » . قد دوَّنتها يا واطسون، ومع ذلك فلم أتمكَّن من تهنئتك على النتيجة
؛« مليحة السيرك؛ فيكتوريا » ! قضية مذهلة هذه « مِسْخ جيلا أو العَظَاية السامة » ؛« لينتش
مهلًا! « معجزة مقاطعة هامرسمث؛ السيد فيجور » .« المزعافات » ؛« المختلس وفاندربيلت »
مصاصو الدماء في » : مهلًا! فهرسٌ جيِّد، لا يفوقه كتابٌ آخر، استمع لهذا يا واطسون
كان يُقلِّب الصفحات في حماس، ولكن « مصاصو الدماء في ترانسلفانيا » وأيضًا ؛« هنجاريا
بعد قراءة مُركَّزة قصيرة، ألقى الكتاب الضخم وهو يُدمْدِم دمدمةَ المُحبَط:
هراء يا واطسون، هراء! ماذا يمكننا أن نفعل لجثثٍ تستطيع السَّيْر ولا يمكن »
«. السيطرة عليها إلا في قبورها وبطعنها بأوتادٍ في قلوبها؟ هذا جنون محض
لكنْ لا شكَّ أن مصاصالدماء لم يكن بالضرورة من الموتى، أليس كذلك؟ فقد » : قلتُ
يدمن أحد الأحياء هذا الفعل. ولقد قرأتُ، على سبيل المثال، عن كبار السن الذين يمصون
«. دم الصغار من أجل استعادة شبابهم
أنت مُحِقٌّ يا واطسون؛ إن الكتاب يذكر الأسطورة في أحد هذه المقالات، ولكن هل »
علينا أن ننشغل انشغالًا جادٍّا بمثل هذه الأشياء؟ إن موقفنا واضح حِيال هذه القضايا،
وعلينا أن نبقى كذلك. إن العالم كبيرٌ بما يكفي بالنسبة لنا. ولا داعي للتفكير في أي أشباح.
أخشىأننا لن نستطيع أن نأخذ السيد روبرت فيرجسون على محمل الجد. ربما كانت هذه
«. الرسالة منه هو وربما تُلقي بعضالضوء على ما يقلقه
تناول هولمز خطابًا آخرَ كان فوق المنضدة ولم يلاحظه لانشغاله التام بالخطاب
الأول، وراحَ يقرؤه وعلى وجهه ابتسامةُ رضًا أخذتْ تتلاشى تدريجيٍّا حتَّى حلَّتْ مكانَها
ملامحُ اهتمامٍ وتركيزٍ شديدَين، وعندما انتهى من القراءة جلسَمدةً قليلةً من الوقت شاردَ
الذهن والخطاب يتدلَّى بين أصابعه، ثم وثب في النهاية موقظًا نفسه من حلم يقظته.
«؟ منزل تشيزمان، في لامبيرلي. أين تقع لامبيرلي يا واطسون » : وقال
«. إنها في مقاطعة ساسكس، جنوبَ مدينة هورشام »
«؟ ليست بعيدة جدٍّا، أليس كذلك؟ وماذا عن منزل تشيزمان »
أنا أعرف هذه البلدة يا هولمز، إنها مليئة بالمنازل القديمة التي تحمل أسماء الرجال »
الذين بَنَوْها منذ قرون خلَت؛ فعندك مثلًا منزل أودلي، ومنزل هارفي، ومنزل كاريتن؛ لقد
«. نُسي القوم ولكن أسماءهم لا تزال تعيش في منازلهم
كان مما تفردتْ به شخصيته المستقلة «. هذا صحيح تمامًا » : قال هولمز في فتور
المعتزة بنفسها أنه على الرغم من أنه كان يستوعب أي معلومة جديدة في هدوء ودقة
أظن أنه ينبغي لنا » : بالغَين، فنادرًا ما كان يُقدم أيَّ شكرٍ لمَن أمدَّه بها. لكنه مضىقائلًا
أن نعرف المزيد عن منزل تشيزمان، في لامبيرلي، قبل أن نخوض العمل. إن الخطاب من
«. روبرت فيرجسون كما كنتُ آمُل. بالمناسبة، إنه يدَّعي أنه يعرفك معرفة شخصية
«! يعرفني »
«. من الأفضل أن تقرأ أنت ذلك »
ناوَلني هولمز الرسالة. كان يتصدَّرها العنوان السالف الذكر. وكانت كالتالي:
عزيزي السيد هولمز
لقد أوصاني محاميَّ باللجوء إليك، لكن الأمر في الواقع حسَّاسبصورة استثنائية
لدرجة أنه من الصعب جدٍّا مناقشته. إنه يخصصديقًا أعملُ لصالحه. لقد تزوَّج
هذا السيد منذ حوالي خمس سنوات سيدةً من أبناء جمهورية بيرو، وهي ابنة
تاجرٍ بيروفيٍّ كان قد قابله من أجل استيراد سماد نترات الصوديوم. كانت السيدة
جميلةً جدٍّا، لكن دائمًا ما كان يتسبَّب أصلها الأجنبي ودينها الغريب في تنافر
الميول والمشاعر بينها وبين زوجها، وعليه فربما يكون حبُّه لها قد فتر بعد حين،
وربما يكون قد وصل به الأمر إلى أن يَعُدَّ ارتباطهما غَلْطة. لقد شعر أنه كان ثمة
جوانب من شخصيتها لن يستطيع أبدًا أن يستكشفها أو يفهمها. كان هذا هو
الأكثر إيلامًا لأنها كانت زوجةً مغرمةً بزوجها بالقدر نفسه الذي يمكن لرجلٍ
أن يُغرَم به بامرأة، كما كانت — بقدر ما يبدو من تصرفاتها — مخلصةً بكل
معنى الكلمة.
أما الآن وبخصوص النقطة التي سأوضحها أكثرَ عندما نلتقي؛ فإن هذه
الرسالة في الواقع إنما هي لإعطائك فكرةً عامة عن الوضع، وللتأكد مما إذا كنتَ سترغب في الاهتمام بالقضية. لقد بدأت السيدة في إظهار بعض الخصال الغريبة والمغايرة تمامًا لطبعها اللطيف الرقيق المألوف. لقد تزوَّج هذا السيد مرَّتَين ولديه ابنٌ من زوجته الأولى. بلغ هذا الصبي الآن الخامسة عشرة من عمره، وهو شاب جميلٌ وودودٌ للغاية، لكنه للأسف أصُيب بجروحٍ على إثر تعرُّضه لحادث في طفولته. لكن الزوجة شُوهدت مرَّتَين وهي تعتدي على هذا الفتى المسكين دون أدنى ذنب. حتى إنهاضربتْه ذات مرة بعصًا تركتْ تورُّمًا كبيرًا على ذراعه.
لكن هذه مسألة تافهة إذا ما قورنت بسلوكها تجاه ابنها هي، وهو طفل
صغيرٌ لم يُكمل عامَه الأول. ذات مرة منذ حوالي شهر تركتْه مرضعتُه بضع
دقائق. لكنَّ صرخةً مُدوِّيةً أطلقها الرضيع — وكأنها صرخة ألم — أعادت
المرضعة مرة أخرى. وبينما هي تسرع إلى الغرفة إذ رأتْ مَن تستأجر خدماتها،
سيدة البيت، منحنيةً فوق الصبي تَعَضُّرقبته فيما يبدو. كان ثمة جرح صغير
في الرقبة فأخذَ نهرٌ من الدم يسيل منه. ارتعبت المرضعة للغاية، لدرجة أنها
أرادت أن تستدعي الزوج، لكنَّ الزوجة رجتها ألا تفعل هذا وأعطتها في الواقع
خمسة جنيهات ثمنًا لسكوتها. لمْ تُقدِّم السيدة تفسيرًا قط لما فعلته، وتمَّ التجاوز
عن الأمر في حينه.
لكن الواقعة تركت أثرًا رهيبًا في نفس المرضعة، وبدأت منذ ذلك الحين
تراقب سيدتها عن كثب وتحرس الرضيع — الذي كانت تحبه كثيرًا — بعنايةٍ
أكبر. لكن بدا لها أنه في الوقت نفسه الذي كانت تراقب هي فيه الأم، كانت الأم
تراقبها بنفس القَدْر، وأن الأمَّ كانتْ تتحيَّن كل فرصة تُضطر هي فيها إلى ترك
الرضيع وحده كيما تنال منه. كانت المرضعة تحمي الصبي ليلَ نهار، وكانت
الأم الهادئة الحذِرة تبدو وكأنها تترقب مثل ذئبٍ يترقب حملًا ليلَ نهار. لا بد
أن هذا سيبدو لك أبعد ما يكون عن أن تصدقه، ولكني أتوسَّل إليك برغم هذا
أن تأخذه على محمل الجد؛ لأن حياة طفلٍ وسلامةَ عقل رجلٍ ربما يعتمدان على
ذلك.
ثم في نهاية الأمر أتى يوم رهيب لم يعد من الممكن فيه إخفاء الحقيقة عن
الزوج. لقد انهارت أعصابُ المرضعة؛ فلم تعد تستطيع تحمُّل الضغط، وأفضتْ
بما في صدرها من الأمر كله للرجل. لكن الأمر بدا له كذبةً جامحةً، كما لعله
يبدو لك الآن. لقد كان يعرف أن زوجته زوجةٌ ودود، وباستثناء اعتداءاتها على
ابن زوجها، فقد كانت كذلك أمٍّا رءومًا. فلماذا إذن تجرح ابنها الصغير الغالي؟
فقال للمرضعة إنها كانت تتوهم، وإن شكوكها إنما هي من قبيل الجنون، وإنه
لن يتسامح في مثل هذه الافتراءات على سيدتها. وبينما كانا يتحدثان إذا بهما
يسمعانصرخةَ ألمٍ مفاجِئة، فأسرعت المرضعة وسيدها إلى غرفة الأطفال، ولك
أن تتخيل مشاعره يا سيد هولمز عندما رأى زوجته وهي تنهضمن هيئة ركوعٍ
بجوار سرير الطفل، ورأى دمًا على رقبة الطفل المكشوفة وعلى ملاءة السرير.
صرخ صرخة رعبٍ، وأدار وجه زوجته إلى الضوء فرأى الدم يغطِّي شفتَيها.
إنها هي — هي دون أدنى شك — التيشربت دمَ الرضيع المسكين.
هكذا هي حقيقة الأمر. إنها الآن حبيسة حجرتها، ولم تُقدِّم تفسيرًا لما جرى.
أما الزوج فهو في حالة من شبه الجنون، ولا هو ولا أنا نعرفعن مصاصيالدماء
أكثر من الاسم. لقد كُنَّا نظن أنها قصة خياليةٌ غريبةٌ لا أساس لها من الصحة،
وعلى الرغم من ذلك فها أنا ذا—وفي قلب مقاطعة ساسكسالإنجليزية نفسها—
أناقش معك كل هذا في الصباح، فهل ستقابلني؟ وهل ستُسخِّر قدراتك العظيمة
لمساعدة رجلٍ متحيِّر؟ إذا كنتَ ستفعل، فتفضل بإرسال برقية إلى فيرجسون،
في منزل تشيزمان، بلامبيرلي، وسأكون عند منزلك في العاشرة.
وتفضل بقبول فائق الاحترام.
روبرت فيرجسون
ملحوظة: أعتقد أن صديقك واطسون كان يلعب الرجبي مع فريق بلاكهيث
عندما كنتُ ألعب في مركز الجناح مع فريق ريتشموند. هذا هو التعريف
الشخصيالوحيد الذي أستطيع تقديمه عن نفسي.
إنني أذكره بالتأكيد، أوه بيج بوب فيرجسون، إنه أفضل » : فقلتُ وأنا أضع الخطاب
جناح اتخذه فريقُ ريتشموند على الإطلاق. لطالما كان رجلًا دَمِث الخُلُق، وليس غريبًا على
«. مثله أن يهتم مثل هذا الاهتمام الشديد بقضية صديقه
نظر هولمز إليَّ نظرةً متأملةً وأخذ يهز رأسه.
إنني لا أحيط بحدود قدراتك أبدًا يا واطسون. إن لديك قدرات غير مكتشفة. » : وقال
«.« سأنظر في قضيتك بكلسرور » : اكتُب برقيةً إذن كصديق مخلصوقل فيها
«! قضيتك »
يجب ألَّا ندعه يظن أن بيتنا هذا مقرٌّ لضِعاف العقول. إنها قضيته بلا شك. أرسل »
«. إليه هذه البرقية، ولنَكُفَّ عن مناقشة الأمر إلى أن يحين الصباح
في الوقت المحدَّد في العاشرة من صباح اليوم التالي كان فيرجسون يحثُّ الخُطى حتى
دخل غرفتنا. كنتُ أذكر أنه كان رجلًا طويل القامة، ضامر الكَشْحَين، ذا أطراف مرنة
وقُدرة ممتازة على الجري السريع كانت تمكنه من التفوق على كثير من مدافعي الفرق
المنافسة. لاشيء بالتأكيد أشد ألمًا في الحياة من رؤية حُطامِ لاعبٍ رياضيٍّممتازٍ كان المرءُ
قد عرفه وهو في أَوْج تألُّقه. لقد تضعضع جسمه القوي، وانحسر شعره الأشقر، وانحنى
كتفاه، وأخشى أنني قد أثرتُ في نفسه مثل تلك المشاعر.
إنك لا تبدو الرجلَ نفسه الذي » : قال فيرجسون، وكان صوته لا يزال خفيضًا ودودًا
كُنتَه عندما قذفتُك إلى الجمهور من فوق الحبال في حديقة أولد ديير بارك، وأتوقَّع أنني قد
تغيَّرتُ قليلًا أنا الآخر. لكن هذا اليوم أو اليومَين الأخيرَين هما ما أهرماني. لقد فهمتُ من
«. برقيتك يا سيد هولمز ألَّا فائدة من تظاهري بأنني وكيلٌ لأيِّ شخصٍآخر
«. من الأسهل التعاملُ مع الأمور بطريقة مباشرة » : قال هولمز
الأمر كذلك بالتأكيد، لكنك تستطيع أن تتخيَّل مدى صعوبة الوضع عندما تتحدث »
عن المرأة نفسها التي عليك أن تحميها وتساعدها. ماذا بإمكاني أن أفعل؟ كيف لي أن
أذهب إلى الشرطة بقضية كهذه؟ وعلاوةً على ذلك فلا بد من حماية الرضيع. هل ما أصابها
جنونٌ يا سيد هولمز؟ هل هو شيء فطري؟ هل مرَّتْ بك أي حالة شبيهة بها على مدى
«. تجاربك؟ أرجوك، دُلَّني، فقد جزعتُ وعِيلَ صبري
هذا طبيعيٌّ جدٍّا يا سيد فيرجسون. الآن اجلس هنا وتمالك أعصابك وأعطني بعض »
الإجابات الواضحة. وأنا أؤكِّد لك أنني بعيدٌ جدٍّا عن أن أكون قد فقدتُ صبري، وأنني واثقٌ
أننا سوف نجد حلٍّا ما. أخبرني قبل كلشيء بالخطوات التي اتخذتها. هل لا تزال زوجتك
«؟ قريبةً من الولدَين
لقد أصبح وضعنا مُروِّعًا. إنها امرأة ودود للغاية يا سيد هولمز، ولو كان ثمة امرأة »
أحبَّتْ رجلًا من صميم قلبها وروحها لكانت هي في محبتها لي. لقد انفطر قلبها لأنني
اكتشفت هذا السر الرهيب، هذا السر الذي لا يصدقه عقل. لكنها لم تُرِد حتى أن تتكلم،
فلم تردَّ بشيء على تأنيبي لها، سوى أنْ حدَّقت إليَّ بنظرةٍ مضطربةٍ يائسة في عينَيها، ثم
أسرعتْ إلى حجرتها وحبست نفسها داخلها، ومنذ ذلك الحين امتنعتْ عن رؤيتي، لكن
لديها خادمة كانت معها قبل زواجها، اسمُها دولوريس، وهي صديقةٌ أكثر منها خادمة،
«. وهي تحمل إليها طعامها
«؟ فالطفل ليس في خطر مباشرإذن، أليس كذلك »
لقد أقسمت السيدة ميسن، المرضعة، أنها لن تتركه ليلًا أو نهارًا. وأنا أستطيع »
الوثوق فيها تمامًا، ولكنني مهمومٌ أكثر بشأن عزيزي المسكين جاك؛ لأنها — كما أخبرتك
«. في رسالتي — قد تعدَّت عليه مرَّتَين
«؟ لكنها لم تجرحه قط، أليس كذلك »
«. لا، ولكنهاضربتهضربًا قاسيًا. هذا هو الأشد فظاعة؛ لأنه مُقعدٌ مسكين مُسالم »
إنك تستطيع أن تتخيَّل أن » : وأخذت ملامح فيرجسون المتجهمة ترق عندما تكلم عن ابنه
حالة الفتى الطيب يمكنها أن ترقِّق قلب أي شخص؛ لقد سقط وهو صغير والْتوى عموده
«. الفقري يا سيد هولمز، لكنه يحمل قلبًا من أطيب وأرفق ما يمكن
مَن يسكن بيتك غير هؤلاء يا سيد » : كان هولمز ممسكًا بخطاب البارحة يقرؤه، فقال
«؟ فيرجسون
خادمان لمْ يمضِعلى وجودهما معنا طويلُ وقت، وسائسٌ يُدعى مايكل، وهو يبيتُ »
في المنزل، وأنا، وزوجتي، وابني جاك، والرضيع، ودولوريس، والسيدة ميسن، هذا كل
«. شيء
«؟ أعتقد أنك لم تكن تعرف زوجتك جيدًا عندما تزوجتها، أليس كذلك »
«. كنتُ قد عرفتُها قبل الزواج بأسابيع قليلة فقط »
«؟ منذ متى والخادمة دولوريس هذه ترافقها »
«. منذ سنين »
إذن فإن دولوريس في الواقع تعرف شخصية زوجتك بطريقة أفضل مما تعرفها »
«؟ أنت، أليس كذلك
«. بلى، يمكنك قول هذا »
دوَّن هولمز ملحوظةً.
أظن أنني قد أكون أكثر نفعًا في لامبيرلي مني هنا. إنها قضية يجب أن » : ثم قال
أحقِّق فيها شخصيٍّا بلا شك. لو بقيت السيدة في حجرتها، فلا يمكن أن يزعجها وجودنا
«. أو يضايقها، ولكننا سنقيم في الفندق بالتأكيد
تنفس فيرجسون الصعداء.
هذا ما كنتُ أرجوه يا سيد هولمز. ثمة قطارٌ ممتاز سينطلق من محطة » : وقال
«. فيكتوريا في الثانية إن كنتَ ستتفضل بالمجيء
سوف نأتي بالتأكيد، فإن ثمة ركودًا هذه الأيام، وباستطاعتي أن أمنحك جهودي »
كاملةً. وسيأتي واطسون معنا بالتأكيد، ولكن توجد نقطة أو نقطتان أريد التأكد منهما
جيدًا قبل أن أبدأ، يبدو أن هذه السيدة البائسة — كما فهمتُ — قد اعتدَت على كلا الولدَين؛
«؟ رضيعها هي وابنك الصغير، أليس كذلك
«! بلى »
«. لكن الاعتداءات اتخذت أشكالًا مختلفة، صحيح؟ فلقدضربت ابنك »
«. مرةً بعصًا ومرةً بقسوة شديدة بيدها »
«؟ ألمْ تبيِّن لِماذاضربتْه »
«. لاشيء سوى أنها تكرهه. لقد قالت هذا مرارًا وتكرارًا »
حسنٌ، هذا ليس غريبًا على زوجات الآباء، الغيرة من الأيتام، بالتأكيد. هل السيدة »
«؟ غيور بطبيعتها
نعم، إنها غيور جدٍّا؛ غيورٌ بكل ما في حبها الملتهب المتأثر ببيئتها الاستوائية من »
«. قوة
لكن الولد؛ إنه في الخامسة عشرة من العمر، بحسب ما فهمتُ، وهو على الأرجح »
«؟ ناضج التفكير جدٍّا، نظرًا لأن جسمه مُقيَّد الحركة. ألمْ يشرح لك سبب هذه الاعتداءات
«. كلا؛ لقد قال إنه لم يكن ثمة سبب »
«؟ ألم تكن العلاقة بينهما جيدةً في أوقات أخرى »
«. مطلقًا، لم يكن بينهما أي حب قط »
«؟ لكنك برغم هذا تقول إنه رقيق القلب »
لا يمكن أبدًا أن يكون هناك ابنٌ في شدة إخلاصه، إن حياته هي حياتي، إنه شديد »
«. الاهتمام بما أقول وأفعل
دوَّن هولمز ملاحظةً أخرى، ثم جلس مدةً من الوقت غارقًا في التفكير.
لا شك أنك أنت والفتى كنتما رفيقَيْن رائعَيْن قبل هذا الزواج الثاني. لقد كنتما »
«؟ شديدَي القرب من بعضكما، أليس كذلك
«. بلى، إلى حدٍّ بعيد »
«؟ ولا شك أن الفتى — لشدة رقة شخصيته — كان مخلصًا لذكرى والدته، صحيح »
«. نعم، في غاية الإخلاصلها »
لا بد أنه فتًى مثيرٌ للاهتمام جدٍّا، لكن ثمة نقطة أخرى بخصوصهذه الاعتداءات، »
«؟ هل كان هناك تزامنٌ بين الهجمات الغريبة على الرضيع والاعتداءات التي وقعت على ابنك
في المرة الأولى كان الأمر كذلك، وكأنَّ نوعًا من السُّعار كان قد طغى عليها، فراحتْ »
تصبُّ غضبها عليهما جميعًا. أما في المرة الثانية فلم يتعرضللأذى سوى جاك وحده؛ لأن
«. السيدة ميسن لم تشكُ منشيء بخصوصالرضيع
«. إن هذا ليُعقِّد الأمور من دون شك »
«. أنا لا أفهمك جيدًا يا سيد هولمز »
ربما لا يكون الأمر كذلك. إن المرء ليبني تصورات مؤقتة ثم ينتظر أن يُكذِّبها الوقتُ »
أو المعرفة الأكمل. إنها عادة سيئة يا سيد فيرجسون، لكنَّ الإنسان ضعيف، وأخشى أن
صديقك القديم هنا قد قدَّم فكرةً مبالغًا فيها عن أساليبي العلمية، لكنني لن أقول في
المرحلة الراهنة سوى أن قضيتك لا تبدو لي غيرَ قابلة للحل، وأنك تستطيع أن تترقب
«. وصولنا إلى محطة فيكتوريا في الساعة الثانية
في مساء يومٍ ضبابيٍّ غائمٍ من أيام شهر نوفمبر، وبعد أن تركنا حقائبنا في فندق
ذا تشيكرز، في لامبيرلي، تحرَّكنا بسيارتنا فوق طين ساسكس على طريقٍ متعرجةٍ طويلةٍ
حتى وصلنا في النهاية إلى البيت العتيق المعزول المُقام في مزرعةٍ، والذي كان فيرجسون
يعيش فيه. كان مبنًى ضخمًا تصميمه غير منتظم؛ كان عتيقًا جدٍّا عند المنتصف وحديثًا
جدٍّا عند أجنحته، وكان به مداخن شاهقة على الطراز التيودوري، وسقفٌ شديد الانحدار
مصنوع من أخشاب مدينة هورشم ومكسوٌّ بفروع الأشُْنات الدقيقة. كان لدرجات سُلَّم
الباب انحناءات من شدة البِلى، وكان القرميد العتيق الذي يكسو مدخل المنزل موسومًا
برسمٍ على صورة قطعة جُبنٍ ورجل على هيئة المالك الأصلي للمنزل. أما في الداخل، فكانت
عوارضُ خشب السنديان الثقيلة تشكِّل تجعيدات في الأسقف، وكانت الأرضيات المتباينة
تتخذ شكل منحنيات حادة. كانت رائحة القِدَم والبِلى تنتشرفي جميع أرجاء المبنى المتقوِّض.
كان ثمة غرفة كبيرة جدٍّا في وسط المنزل قادنا فيرجسون إليها. في هذا المكان، وداخلَ
مدفأةٍ ضخمةٍ عتيقةِ الطراز ذات حاجزٍ حديدي يرجع إلى عام ١٦٧٠ ، كانت تتوهَّج
وتُطقطِق نارٌ باهرة.
أخذتُ أجُيل النظر حولي فوجدتُ الغرفة مزيجًا شديد التفرد من العصور والأماكن.
كانت الحوائط التي تكسوها ألواح الخشب حتى أنصافها تعود على الأرجح إلى أحد المزارعين
الأصليين من طبقة الملاك الصغار في القرن السابع عشر. لكنها برغم هذا كانت مزخرفةً عند
أجزائها السفلى بخطوط من الألوان المائية الحديثة المختارة بعناية؛ بينما كانتْ مُعلَّقةً عند
الأعلى — في المكان الذي حلَّ فيه الجصُّالأصفرُ محلَّ خشب السنديان — مجموعةٌ ممتازةٌ
من الأواني والأسلحة من أمريكا الجنوبية، كانت قد جلبتْها، من دون شكٍّ، هذه السيدةُ
البيروفية التي في الطابق العلوي. وقد نهض هولمز، نتيجةً لحب الاستطلاع الذي انبثق
سريعًا من ذهنه المتحمس، وراح يفحصها بشيءٍ من الحذر، ثم عاد وعيناه مليئتان بالأفكار.
«! مرحى! مرحى » : وصاح قائلًا