artherconan

شارك على مواقع التواصل

أخرج ستانلي هوبكنز من جيبه كيسًا ورقيٍّا صغيرًا، ثم فتَحه وأخرج نظَّارةً أنفيَّة
كان » : ذهبية، يتدلَّى منهاشريطٌ من الحرير الأسود مقطوع من أحد طرفَيه. وأضاف قائلًا
«. ويلوبي يتمتَّع ببَصرٍحاد. فلا شكَّ في أن هذه النظَّارة نُزعت من وجه القاتل أو جسمه
تناول شيرلوك هولمز النظَّارة بيده وتفحَّصها بأقصى درجات الانتباه والاهتمام، ثم
وضعها على أنفه، وحاول أن يقرأ بها، ثم ذهب إلى النافذة وحدَّق في الشارع بها، وأمْعَن
النظر فيها تحت الضوء الكاشف للمصباح، وأخيرًا جلس إلى الِمنضدة وهو يَضحك ضحكةً
خافِتة وكتب عدَّةَ سطورٍ على ورقة، ثم رماها إلى ستانلي هوبكنز.
«. هذا أقصىما أستطيع أن أفعلَه من أجلك. ربما تأتي منه فائدة » : قال هولمز
قرأ المُفتِّش المُندهِش الورقة بصوتٍ مرتفع، وكان هذا ما جاء فيها:
المطلوب: امرأة ذات أسلوب مُهذَّبٍ وترتدي ملابس سيدة راقية. لديها أنفٌ
عريض بدرجةٍ ملحوظة، وعيناها تَقترِب إحداهما من الأخرى على كِلا جانبَيه.
ولديها جبهةٌ مُجعَّدة، ونظرة مُحدِّقة، وربما مَنكِبان مُستديران. تشير الدلائل إلى
أنها لجأتْ إلى صانع النظَّارات مرَّتَين على الأقلِّ خلال الشهور القليلة الماضية.
ولن تتأتَّىصعوبةٌ في مُلاحقتها؛ لما كانت نظارتها ذات مَتانةٍ مُميَّزة ولعدم كثرة
صانعي النظارات.
ابتسم هولمز لدهشة هوبكنز، التي لا بدَّ أنها انعكستْ على ملامحه.
لا شكَّ في أن استنتاجاتي بسيطة للغاية. فمن العسير ذِكر أيِّشيءٍ آخر » : قال هولمز
يُمكنه أن يُعطينا مجالًا أدقَّ للاستدلال على الفاعل من النظارة، خاصةً مع نظَّارةٍ مُميَّزة
كهذه. أخُمِّن أنها خاصة بامرأةٍ من رِقَّتِها، وكذلك بالطبع من الكلمات الأخيرة للرجل عند
احتضاره. أما بالنسبة لكونها شخصيَّةً راقية وأنيقة المظهر، فالنظارة كما ترى ذات إطارٍ
أنيق من الذهب الصافي، وليس من المعقول أن يكون الشخصالذي يَرتديها حقيرًا في نواحٍ
أخرى. وستجد أن الماسكات واسعة جدٍّا على أنفك، مما يدلُّ على أن أنفَ السيدة عريضٌ
للغاية عند طرفها. عادةً ما تكون هذه الأنوف قصيرةً وغليظة، لكن هناك عدَدٌ كافٍ من
الاستثناءات يمنَعُني من أن أكون جازمًا أو مُصرٍّا على هذه النقطة من الوصف. وعلى
الرغم من أن وجهي رفيع فإنني أجدُ صعوبةً في أن أرى بعينيَّ من وسط هذه النظارة أو
حتى الاقتراب من الوسط؛ لذا فعينا هذه السيدة تَقتربان بشدَّة من أنفها. كذلك ستُلاحظ
يا واطسون أن النظارة مُقعَّرة وذات متانةٍ غير مُعتادة. ولا ريب أن السيدة التي عانت
من ضعفٍ حادٍّ بالبصرطوال حياتها ستكتَسِب الصفات الشكلية التي تظهر على الجبهة
«. والجفنين والمنكبين مع ضعف البصر
أجل، يُمكنني استيعاب كل الحُجَج التي سُقتَها، لكن رغم ذلك أقرُّ أنه » : هنا قلتُ
«. يتعسَّر عليَّ فهم كيف توصَّلتَ لمسألة زيارة صانع النظارات مرَّتَين
تناوَل هولمز النظارة بيده.
ستُلاحظ أن الِمشبكَيْن مُبطَّنان بشرائطَ صغيرةٍ من الفلِّين لتخفيف الضغط » : وقال
على الأنف. أحدُهما زال لونه واهترَأَ بعضَالشيء، أما الآخر فجديد. ومن الواضح أن أحدهما
قد سقط واستُبدل به آخر جديد؛ ولذلك يُمكنني استنتاج أن القديم من بينهما لم يمضِ
على وجوده أكثر من بضعة أشهر. ولمَّا كانا مُتطابقين بالضبط، أَحدُس أن السيدة عادت
«. إلى المُنشأة نفسها من أجل الحصول على الثاني
يا للهول! هذا مُذهل! كيف كانت في مُتناول » : صاح هوبكنز مُنتشيًا من فرط الإعجاب
يدي كلُّ هذه الأدلَّة دون أن أدُرك؟ ورغم ذلك كنتُ أنوي أن أتفقَّد صانعي النظارات في
«. لندن
«؟ ستفعل ذلك حتمًا. والآن، هل لديك أيشيء آخر عن القضية لتُخبرَنا به »
لا شيء يا سيد هولمز. أعتقد أنك الآن أصبحت تعرف كل ما أعرف، وربما أكثر. »
لقد أجرَينا تحرِّياتٍ عن رؤية أي غُرَباء على طرُق البلدة أو في محطة السكك الحديدية.
ولم نستدِلَّ على أيِّ حالة. ما يُحيِّرني هو انعدام الغرَضمن الجريمة؛ فلا يُمكن لأحدٍ أن
«. يفترضولو دافعًا خافتًا
«. آه! لا يُمكنني مساعدتك في هذا، لكن أعتقد أنك تُريدُنا أن نذهب إلى هناك غدًا »
إن كنتُ لا أثُقِل عليك بطلبي يا سيد هولمز، فإن ثمَّةَ قطارًا يُغادِر محطة تشارينج »
كروسإلى تشاتام في السادسة صباحًا، وسنصِل إلى يوكسلي أولد بليس بين الساعة الثامنة
«. والتاسعة
سوفنَستقلُّه إذن. فقطعًا تحتوي قضيَّتُك على عناصرَمُشوِّقةٍ للغاية، وسيسرُّني أن »
أحُقِّق فيها. حسنًا، لقد قارَبت الساعة على الواحدة، ويُفضَّل أن نَخلُد للنوم لبضع ساعات.
أعتقد أن باستطاعتك تدبُّر أمورك على الأريكة أمام الِمدفأة. سأوقِد مصباحي الكحوليَّ
«. وأعطيك قدَحًا من القهوة قبل أن نذهب
في اليوم التالي سكنَت العاصفة، لكن الطقس كان قارِس البرودة في الصباح حين
شرَعنا في رحلتنا. رأينا شمس الشتاء الباردة وهي تُشرق فوق مُستنقَعات التايمز الكئيبة
وألسِنة النهر الطويلة البائسة المنظر، التي ستَظلُّ تُذكِّرني بمُطاردتنا لأحد سكان جُزر
أندمان، في بدايات مَسيرتنا الِمهنية. وبعد رحلةٍ طويلة ومُرهِقة تَرجَّلنا في محطةٍ صغيرة
على بُعد أميالٍ من تشاتام، وتناولنا فطورًا سريعًا بينما كانوا يُجهِّزون لنا عربةً صغيرة
يجرُّها حصان في النُّزُل المحلي، وهكذا كُنَّا مُستعدِّين للعمل حين وَصلْنا إلى يوكسلي أولد
بليس أخيرًا، حيث قابلناشرطيٍّا عند بوَّابة الحديقة.
«؟ حسنًا يا ويلسون، هل لديك أيُّ أخبار »
«. لا يا سيدي، لاشيء »
«؟ ألم يُبلِّغ أحدٌ عن رؤية أيِّ غُرَباء »
«. لا يا سيدي. إنهم مُتأكدون في المحطة من عدم قدوم أو ذهاب أي غُرَباء أمس »
«؟ هل أجريتَ تحرِّياتٍ في الأنَْزال والمَهاجِع »
«. أجل يا سيدي؛ فنحن لم نغفَل عن أيٍّ منها »
حسنًا، إن المسافة حتى تشاتام سَيرًا على الأقدام ليست كبيرة، ويستطيع أيُّ أحد أن »
يُقيم هناك، أو يَستقلَّ القطار دون أن يُلاحظه أحد. هذا هو مَمشى الحديقة الذي حدَّثتُك
«. عنه يا سيد هولمز. أقسِم أنني لم أجد عليه آثارًا أمس
«؟ على أيِّ جانبٍ من الحشائش كانت الآثار »
هذا الجانب يا سيدي. على هذه الحافَّةِ الضيِّقة من الحشائش بين الممشى وحوض »
«. الزهور. لا يمكنني رؤية الآثار الآن، لكنها كانت واضحةً لي حينذاك
أجل، أجل؛ لقد مرَّ عليه أحدٌ ما. لا بدَّ » : قال هولمز وهو ينحني فوق إطار الحشائش
أن السيدة التي نبحث عنها كانت مُنتبِهةً لخطواتها. أليس كذلك؟ وإلا كانت ستترك أثرًا
على الممشى من جانبٍ وعلى الجانب الآخر كانت ستترك أثرًا أوضح على حوض الزهور
«. الهش
«. نعم يا سيدي، لا بدَّ أنها كانت رابِطَةَ الجَأْش »
رأيتُ نظرةَ انهماكٍ تَغشى وجهَ هولمز.
«؟ تقول إنَّها لا بدَّ أن تكون جاءت من الخَلْف من هذا الاتجاه »
«. نعم يا سيدي، لا يُوجَد طريق آخر »
«؟ على هذا الخطِّ من الحشائش »
«. بالضبط يا سيد هولمز »
كان أداءً مُميَّزًا جدٍّا، مُميَّزًا جدٍّا. حسنًا، أعتقد أننا قَتلْنا الممشى بحثًا. فهيَّا نمضي »
قدُمًا. أعتقد أن باب الحديقة هذا يُترَك مفتوحًا دائمًا. أليس كذلك؟ من ثَمَّ لم تتكلَّف هذه
الزائرة سوى أن تَعبُره. لم تكن فكرة القتل في ذهنها، وإلا كانت تزوَّدَت بسلاحٍ ما بدلًا من
الاضطرار لالتقاط هذا السكين من على مِنضدة الكتابة. وقد سارت في هذا الدهليز دون أن
تترُك أثرًا على حصير ألياف جوز الهند. ثم وجدت نفسها في غُرفة المكتب. كم من الوقت
«. بقِيَت هناك؟ لا سبيل لدينا لتحديد ذلك
دقائق قليلة فحسب يا سيدي؛ فقد فاتَني إخبارُك أنَّ السيدة ماركر، مُدبِّرة المنزل، »
كانت تؤدِّي أعمال التوضيب هناك قبل ذلك بوقتٍ غير طويل؛ نحو رُبع ساعةٍ حسب
«. قولها
حسنًا، لدينا إذن حدٌّ زمني. فقد دخلت السيدة المَعنيَّة هذه الحجرة. وماذا فعلت؟ »
ذهبت إلى مِنضدة الكتابة. من أجل ماذا؟ ليسلأجلشيءٍ في الأدراج. إن كان ثَمَّةَ ما يستحقُّ
أن تأخذه فلا بدَّ أنها كانت ستجِدُه مُوصَدًا عليه. لا، فما كانت تسعى إليه كان في ذلك
الصوان الخشبي. مهلًا! ما هذا الخَدْشالذي على واجهته؟ فلتُشعِل عود ثِقابٍ يا واطسون.
«؟ لماذا لم تُخبرني بهذا يا هوبكنز
أخذ هولمز يتفحَّصهذه العلامة التي كانت على الجزء النحاسيعلى يمين ثُقب المفتاح
وامتدَّت نحو أربعِ بُوصاتٍ حيث كشَطتِ الطِّلاء عن السطح.
«. لقد لاحظتُها يا سيد هولمز. لكن من المألوف أن تجِدَ خدوشًا حول ثُقب المفتاح »
هذا حديث، حديث جدٍّا. انظر لِلَمَعان النحاس في مكان الخدش. فلو كان الخدش »
قديمًا لاكتسب لون السطح. انظر إليه من خلال عدستي. ها هو الطلاء أيضًا يبدو مثل
«؟ جانبَي أخُدُود. هل السيدة ماركر هنا
دخلتِ الحجرة سيِّدة عجوز حزينة الوجه.
«؟ هل أزلتِ الغُبار عن هذا الصوان صباح أمس »
«. نعم يا سيدي »
«؟ هل لفت نظركِ هذا الخدش »
«. لا يا سيدي، لم أرَه »
إنني مُتأكد من ذلك، فمِنفَضَة الغبار كانت ستمسَح تلك الذرَّات من الطلاء. من لديه »
«؟ مفتاح هذا الصوان
«. يحتفظ البروفيسور به في سلسلة ساعة الجيب »
«؟ هل هو مفتاح عادي »
«. لا يا سيدي؛ إنه مفتاح مخصوص »
حسنًا، يُمكنكِ الذهاب يا سيدة ماركر. والآن قد أحرَزْنا تقدُّمًا قليلًا. دخلت السيدة »
المَعنيَّة الحجرة، وتوَجَّهتْ نحو الصوان، وحاولت فتحَه أو فتَحتْه بالفعل. وفي أثناء انشغالها
في ذلك، دخل الشابُّ ويلوبي سميث إلى الحجرة. وقد أدَّى تَعجُّلها في سحب المفتاح لذلك
الخدش على الباب. وحين أمسك بها التقطَتِ السكين الذي كان أقربَ ما وصلت إليه يدُها
وضربته حتى تتحرَّر من قبضته، فكانت الضربة قاتلة. هكذا سقط هو وفرَّتْ هي بالغرض
الذي جاءت من أجله أو بدونه. هل الخادمة سوزان هنا؟ هل كان أحد يستطيع الهروب
«؟ من ذلك الباب بعد الصرخة التي سمِعتِها يا سوزان
كلَّا يا سيدي؛ هذا مُستحيل. كنتُ سأراه في المَمرِّ قبل أن أنزل الدَّرَج. كما أن الباب »
«. لم يَنفتِح مُطلقًا، وإلا كنتُ سأسمعه
حسنًا، هذا يَحسِم أمر هذا المخرج. لا شكَّ إذن أن السيدة خرجَتْ من الطريق نفسه »
الذي دخلت منه. عرفتْ أن هذا الممرَّ الآخر لا يُؤدِّي إلا إلى حُجرة البروفيسور. ألا يُوجَد
«؟ مخرج من ذلك الطريق
«. لا يا سيدي »
سنمضي فيه ونذهب للتعرُّف على البروفيسور. مهلًا يا هوبكنز! هذا أمر في غاية »
«. الأهمية بلا شك؛ فدهليز غرفة البروفيسور مُغطٍّى أيضًا بحصيرٍ من ألياف جوز الهند
«؟ حسنًا، وماذا في ذلك يا سيدي »
ألا ترى لذلك أيَّ علاقة بالقضية؟ حسنًا، حسنًا، لن ألُحَّ في الأمر. لا شكَّ في أنني »
مُخطِئ في هذا الشأن، وإن كان يبدو لي أن له دلالة مُعيَّنة. تعالَ معي لتُعرِّفَني على
«. البروفيسور
اجتَزْنا الممرَّ الذي كان طوله نفس طول الممر المؤدي إلى الحديقة. وكان في نهايته
دَرَج صغير يؤدِّي إلى باب. طرَق مُرشدُنا الباب ثم أدخلَنا إلى مَخدع البروفيسور.
كانت غرفةً شديدة الاتِّساع، تحتوي على عددٍ لا يُحصى من المُجلَّدات التي فاضت
بها الرفوف وتكدَّست في أكوامٍ في الزوايا أو تناثَرَت في أرجاء الغرفة عند قواعد الخِزانات.
وعلى الفراشالذي توسَّط الحجرة، رأينا مالك المنزل مُستنِدًا إلى وسائد. كان مظهره مُميزًا
على نحوٍ قلَّما صادفتُه في حياتي. فحين أدار وجهه باتِّجاهنا وجدتُه وجهًا هزيلًا ويُشبِه
وجه النسر، وكانت عيناه داكِنتَين ثاقِبتَين تقَعان داخل تجويفَين غائرَين أسفل حاجبَين
ناتِئَين كثيفَين. اشتعل الشيب في كلٍّ من شعرِه ولحيَتِه، باستثناء وجود لونٍ أصفر غريبٍ
شابَ لحيته حول فَمِه الذي أشعل فيه سيجارة وسط كُتلة مُتشابكةٍ من الشَّعر الأبيض.
وهكذا وجدْنا هواء الحُجرة مُعبأً بدخان التبغ الكَرِيه الرائحة. وحين مدَّ يده لمصافحة هولمز
لاحظتُ أنها كانت صفراء أيضًا من النيكوتين.
هل تُدخِّن » : قال البروفيسور مُتحدِّثًا لغةً إنجليزية مُنتقاة وبلكنةٍ مُتكلَّفة بعضالشيء
يا سيد هولمز؟ تفضَّل سيجارة. وأنت يا سيدي؟ أستطيع أن أوصيكما بتجربتها؛ فشركة
في الإسكندرية تصنعها لي خِصِّيصى. إنهم يُرسِلون إليَّ ألفًا في كل مرة، لكنني « أيونايديس »
للأسف أضُطَرُّ إلى طلب دفعةٍ جديدة كل أسبوعَين. هذا سلوك سيِّئ جدٍّا يا سيدي، لكن
«. ليس للرجل المُسنِّ سوى مُتَعٍ قليلة. التبغ وعَمَلي، هما كل ما تبقَّى لي
أشعل هولمز سيجارة، وسدَّدَ بعضالنظرات السريعة في أنحاء الغرفة.
ليس لديَّ سوى التبغ وعملي، ولكن الآن لم يبقَ لي إلا » : صاح الرجل العجوز قائلًا
التبغ. وا أسفاه! يا له من باعثٍ مُؤسفٍ للانقطاع عن العمل! مَن كان يتوقَّع حدوث مثل
هذه الكارثة؟ كان شابٍّا جديرًا بالاحترام! أؤكِّد لك أنه أثبت أنه مُساعدٌ ممتاز بعد شهور
«؟ قليلة من التدريب. فما رأيك في القضية يا سيد هولمز
«. لم أَصِلْ إلى رأيٍ بعد »
سأكون مدينًا لك إن استطعتَ أن تُزيل الغموض عمَّا التبس علينا؛ فمثل تلك »
الضربات كفيلة أن تقضيَ على رجلٍ مسكين مُكرِّسٍ نفسه للكُتب ومعلول الصحَّة مثلي.
يبدو أنني فقدتُ قدرتي على التفكير. أما أنت فرجل عملي. إنك مُطَّلِع على الأحوال العامة؛
فهذا جزء من الرُّوتين اليومي لحياتك؛ فأنت تستطيع أن تُحافِظ على تَوازُنك في كل حالات
«. الطوارئ. ولا شك أننا محظوظون لوجودِك بجانبنا
بينما كان البروفيسور الهَرِم يتحدَّث كان هولمز يقطع جانبًا من الغرفة جَيئةً وذهابًا.
ولاحظتُ أنه كان يُدخِّن بسرعةٍ غير مُعتادة. فبدا جليٍّا أنه شارك مُضيفنا حبَّه للسجائر
السكندرية الطازجة.
أجل يا سيدي، إنهاضربة قاصمة. تلك هي درَّة أعمالي — كَومة » : قال الرجل الهَرِم
الأوراق التي على الِمنضدة الجانبيَّة هناك. إنها تحليل للوثائق التي عُثِر عليها في الأديرة
القِبطية في سوريا ومصر. هذا العمل سيكون له أثر عميق على القواعد الراسخة للأديان
السماوية، لكن مع اعتلال صحَّتي لا أعلم إن كنتُ سأتمكَّن من إنهائه أم لا، ولا سيما بعد
«. أن خسرتُ مساعدي. عجبًا يا سيد هولمز؛ لقد فُقتَنيسرعةً في التدخين
ابتسم هولمز.
ثم قال وهو يأخذ سيجارة أخرى من العبوة — وكانت سيجارته الرابعة — ويُشعلها
إني ذوَّاقة. لن أزُعجَك باستجوابٍ آخر يا بروفيسور » : من عقب السيجارة التي انتهى منها
كورام، فأنا أدُرِك أنك كنتَ في الفراش وقتَ وقوع الجريمة، ولم تَستَطِع أن تعرف عنها
شيئًا. سأطرح عليك هذا السؤال فقط: ما الذي قصدَه هذا المسكين بكلماته الأخيرة:
«؟« البروفيسور، لقد كانت هي »
هزَّ البروفيسور رأسه.
سوزان فتاة ريفية، وأنت تعلم الغباء المُستحكِم في هذه الطبقة. يُخيَّل لي » : ثم قال
أن الفتى المسكين تَمتَمَ ببعض الكلمات غير المُترابطة وهو يَهذي، فحوَّرتْها لتلك الرسالة
«. الخالية من المعنى
«؟ فهمت. أليس لديك تفسير للمأساة »
قد تكون حادثة؛ ربما انتحار، لكنني فقط أقول هذا بينَنا؛ فالشباب لديهم متاعب »
«. خفيَّة، فربما تكون علاقةً عاطفية لم نسمَع بها قط، فهذا افتراضأرجَحُ من جريمة القتل
«؟ ماذا عن النظارة »
آه! أنا لستُ سوى رجل علم، رجل أحلام، ولا أملك تفسيرًا للأشياء العملية في الحياة، »
لكنني ما زلتُ أدُرِك يا صديقي، أن تذكارات الحبِّ قد تأخذ أشكالًا غريبة. لتأخذ سيجارة
أخرى على أيِّ حال؛ فيَسرُّني أن أرى مَن يُقدِّر قيمتها هكذا. مروحة، قفاز، نظارة. من يدري ما الغرض الذي قد يَحمِلُه رجل ما أو يعتزُّ به كتذكارٍ حين يضع نهايةً لحياته؟
يتحدث هذا السيد عن آثار أقدامٍ على الحشائش، لكن يجوز الخطأ في هذا الأمر على أيِّ
حال. أما بالنسبة للسكِّين، فربما سقطت بعيدًا عن الرجل البائس حين وقع. قد يكون
«. كلامي ساذَجًا لكن يبدو لي أن ويلوبي سميث لقِيَ حتفه بيده
بدا هولمز مذهولًا من النظرية التي طُرحت عليه، وظلَّ يَذرَع الحجرة ذهابًا وإيابًا،
مُستغرقًا في التفكير ومُستنفدًا سيجارةً تلو الأخرى.
أخبرني يا بروفيسور كورام، ماذا يُوجَد في تلك الخزانة التي في » : ثم قال أخيرًا
«؟ الصوان
أشياء لا تُفيد أيَّ لِص. أوراق عائلية وخطابات من زوجتي المسكينة وشهادات من »
«. جامعاتٍ كرَّمتني. ها هو المفتاح. يُمكنك أن تراها بنفسك
التقط هولمز المفتاح ونظر إليه للحظة؛ ثم أعاده إليه.
لا؛ لا أعتقد أنه سيُساعدني. أفُضِّل أن أنزل لحديقتك في هدوءٍ لأقُلِّب » : قال هولمز
الأمر برمَّته في رأسي؛ فنظرية الانتحار التي طرحتَها تستحقُّ بعض التفكير. نرجو أن
تقبل اعتذارنا عن تطفُّلنا عليك يا بروفيسور كورام، وأعدك بألا نُزعجك حتى بعدَ الغداء؛
«. فسنأتي مرةً أخرى في الساعة الثانية، ونُبلغك بأيِّشيء قد يكون حدَث في خلال هذه المُدة
كان هولمز شاردَ الذهن على نحوٍ غريب حين ذَرَعْنا ممشى الحديقة جَيئةً وذهابًا
صامتين لبعضالوقت.
«؟ هل لديك مفتاح لحلِّ اللُّغز » : في النهاية سألته
الأمر يتوقَّف على تلك السجائر التي دخنتُها. قد أكون مُخطئًا تمامًا. ستعطيني » : قال
«. السجائر البرهان
«؟ عزيزي هولمز، كيف بحقِّ السماء » : صحت
حسنًا، حسنًا، سوف ترى بنفسك. وإن لم يكن، فلم يقَع أيُّضرر. وبالطبع لا يزال »
لدينا خيطُ صانع النظارات لنَرجِع إليه، لكنني حين أجدُ طريقًا مُختصرًا أتَّبِعه. آه، ها هي
«. السيدة ماركر الطيبة! هيا ننعم بخمس دقائق من الحديث المُفيد معها
قد أكون ذكرتُ من قبلُ أن هولمز يَتبع أسلوبًا خاصٍّا متودِّدًا مع النساء حين يحلو
له، وأنه سريعًا ما يُرسي أواصِرَمن الثقة معهن. هكذا استغرق نصف الوقت الذي حدَّده
في اكتساب ثقةِ مُدبِّرة المنزل، وبادلها الحديث كما لو كان يَعرفها منذ سنوات.
نعم يا سيد هولمز، كما تقول يا سيدي. إنه يدخِّن بشراهةٍ بالفعل، طوال النهار »
وأحيانًا طوال الليل يا سيدي. حين تدخل حجرته في الصباح قد يُخيَّل لك أن ضباب لندن
قد غَشِيَها. يا للسيد سميث الشاب المسكين! فهو أيضًا كان مُدخِّنًا، لكن ليس في شراهة
«. البروفيسور. إن صحته، حسنًا، لا أعلم إن كانت ضعيفةً بسبب التدخين أم لا
«. آه! لكن التدخين يُضعِف الشهيَّة » : قال هولمز
«. لستُ على دِرايةٍ بهذا الأمر يا سيدي »
«. أعتقد أن البروفيسور قليل الطعام »
«. حسنًا، يُمكنني أن أشهد بأنه مُتقلِّب »
أراهن أنه لم يَتناوَل الفطور هذا الصباح، ولن يتناوَل الغداء بعد كل السجائر التي »
«. رأيتُه يدخنها
حسنًا يا سيدي، أنت مُخطئ في هذا؛ فقد تصادف أنه تناوَل فطورًا كبيرًا بدرجةٍ »
ملحوظةٍ هذا الصباح. ولا أذكر متى تناول فطورًا بهذا الحجم، وطلَبَ صحنًا كبيرًا من
شرائح اللحم على الغداء. وهذا أثار دهشتي، إذ إنِّي منذ دخلتُ تلك الحجرة ورأيتُ السيد
سميث الشاب مُستلقِيًا على الأرض وأنا لا أطُيق النظر إلى الطعام. حسنًا، تختلف الناس
«. في طباعها؛ فالبروفيسور لم يَدَعِ الحادثة تقضيعلى شهيته
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.