كانت هنالك هدنة قصيرة، ثم سمع خربشة مخالب، وصوت جرِّ جسم ثقيل عبر
أرضية المرصد، بعيدًا عنه. بعد ذلك، عمَّ الصمت، ولم يقطعه سوى نشيج وودهاوس
وصوت يُشبه اللَّعق. كان كلُّ شيء مصطبغًا باللون الأسود، ما عدا فتحة السقف الزرقاء
المتوازية الأضلاع — بما فيها من غبار النجوم المضيء — التي ظهر قبالتها الآن خيال
طرف التليسكوب. انتظر طويلًا، حتى بدا له الانتظار بلا نهاية.
هل كان الشيء سيعاود الكَر؟ تفقَّد وودهاوس جيب سرواله بحثًا عن بعض أعواد
الثقاب، فوجد واحدًا منها متبقيًا. حاول أن يشعله بحكه في الأرض، لكن الأرض كانت
رطبة، فابتل العود واشتعل للحظة ثم انطفأ. وأطلق وودهاوسسِبابًا غاضبًا. ولم يستطع
أن يتبيَّن مكان الباب. وفي خِضم ما عاناه، كان قد فقَدَ إلى حدٍّ كبير قدرته على تحديد
الاتجاهات. أما الوحشالغامض، فإنه بدأ يتحرك من جديد، وقد أزعجهصوت اشتعال عود
لكن الكائن لم يتعرَّضله «! كفى » : الثقاب. وبشيءٍ من المرح غير المتوقَّع، صاح وودهاوس
ثانيةً. أخذ يفكر في أنه لا بد قد أصابه حين هاجمه بالزجاجة المكسورة. كان يشعر بألم
بسيط في كاحله، الذي كان ينزف على الأرجح، وتساءل عما إذا كانت قدمه ستحمله إن
حاول الوقوف عليها. كان الليل في الخارج شديد السكون، ولم يُسمع أي صوت لأي أحدٍ
يتحرك. لم يصل إلى مسامع الحمقى الهاجعين صوت الأجنحة التي هاجمت قبة المرصد،
ولاصراخ وودهاوس. إذن، لم يكن من المفيد معاودة الصراخ، بل الأفضل الاحتفاظ بقوته
حتى لا يفقدها. أما الوحش فقد صفَّق بجناحيه، وألجأ الرجل إلى اتخاذ وضعية دفاعية،
فاصطدم مرفقه بالمقعد؛ ما أدى إلى سقوط المقعد وارتطامه بالأرضمُحدثًا صوتًا عاليًا.
أخذ وودهاوس يلعن ما حدث، ثم لعن الظلام.
على نحوٍ مفاجئ، بدا أن الرقعة المستطيلة من ضوء النجوم تتأرجح جيئةً وذهابًا.
هل كان وودهاوس على وشك أن يفقد وعيه؟ لن يكون مناسبًا على الإطلاق أن يفقد وعيه
الآن. شدَّ قبضتيه وجزَّ على أسنانه؛ ليحافظ على رباطة جأشه. تُرى أين كان الباب؟ خطر
بباله أن بإمكانه تحديد اتجاهاته مستعينًا بالنجوم الظاهرة عبر فتحة السقف. كانت
مجموعة النجوم التي يراها تنتمي إلى كوكبة القوس الواقعة إلى جهة الجنوب الشرقي،
وسأل نفسه: هل كان الباب في الشمال، أم تُراه في الشمال الغربي؟ حاول أن يفكر. لو
استطاع أن يفتح الباب، لربما أمكنه الهرب. كان من المحتمل أن يكون الشيء قد أصُيب،
اسمعني جيدًا! إن لم تخرج إليَّ الآن، » : وكان الانتظار والقلق مُخيفَين. صاح وودهاوس
«. فسأخرج إليك
شرع الشيء يتسلق جدار المرصد، ورأى وودهاوس خياله الأسود، وهو يختفي
تدريجيٍّا خارجًا من فتحة السقف. هل كان ذلك انسحابًا؟ نسي وودهاوس أمر الباب،
وأخذ يراقب الوضع، بينما كانت القبة تتحرك مُحدِثةً جلبة. لسببٍ ما، لم يَعُد يشعر
بالخوف الشديد أو بالاهتياج، بل انتابه شعورٌ غامرٌ بالفضول؛ فالبقعة المحدودة للغاية
من الضوء، والكيان الأسود الذي عَبَر خلالها، بدا أنها تتضاءل أكثر فأكثر. كان ذلك مثيرًا
للفضول. بدأ وودهاوس يشعر بظمأٍ شديدٍ، وعلى الرغم من ذلك، لم يرغب في البحث عن
شيء يشربه. كان يشعر وكأنه ينزلق في نفق طويل.
شعر بحُرقة في حلقه، ثم أدرك أن النهار قد وضح، وأن عاملًا من الداياك كان يرمقه
بنظرة فضولية، ثم ظهر له الجزء العلوي من وجه ثادي مقلوبًا. قال في نفسه: ثادي! يا له
من رجل غريب ليظهر بمثل هذه الهيئة! ثم بدأ يستوعب الموقف بصورة أفضل، وفهم أن
رأسه موضوع على ركبة ثادي، الذي كان يقدِّم له بعضالبراندي. وبعد ذلك، رأى عدسة
التليسكوب وقد غطتها لطخات حمراء عديدة. حينئذٍ، بدأ يستعيد ذاكرته.
«. لقد جعلت هذا المرصد في حالة من الفوضىالعارمة » : قال له ثادي
كان فتى الداياك يخفق بيضة ويمزجها بالبراندي. تناول وودهاوس ذلك المشروب،
واعتدل جالسًا. كان يشعر بألمٍ ووخزٍ حادَّين، وكان كاحله ملفوفًا بضماد، وكذلك ذراعه
والجانب المصاب من وجهه. تناثر الزجاج المحطَّم المُلطخ بالدماء على أرضية المرصد، وكان
مقعد التليسكوب مقلوبًا، وبجوار الجدار المقابل كان ثمة بِركة سوداء. كان الباب مفتوحًا،
ورأى وودهاوس قمة الجبل الرمادية، وسط خلفية رائعة من السماء الزرقاء.
من الذي كان يذبح العجول هنا؟ » : ثم أضاف «! يا للقرف » : صاح وودهاوس
«. أخرجوني من هنا
ثم تذكَّر أمر الوحش، والمعركة التي خاضها معه.
«؟ ماذا كان ذلك؛ ذلك الشيء الذي تعاركت معه » : وقال لثادي
لكن، على أيِّ حال، لا تشغل بالك » : واستدرك قائلًا «. أنت الأدرى به » : أجابه ثادي
«. الآن بشأنه. تناول المزيد من الشراب
على الرغم من ذلك، كان الفضول يقتل ثادي، وكان يُعانيصراعًا مريرًا بين الواجب
وبين رغبته في أن يُبقيه هادئًا، إلى أن يوضع في فراشِه على نحو لائق، ويُترك لينام بعد تناوله
جرعة كبيرة من مرق اللحم المُركز الذي اعتبره ثادي مفيدًا لحالته. وبعد ذلك يمكنهما أن
يتحادثا بشأن ما حدث.
لقد كان أقرب شبهًا بخفاشكبير، أكثر منه بأيشيء آخر في العالم. » : قال وودهاوس
كان يملك أذُُنَين قصيرتين وحادَّتين، وفروًا ناعمًا، وكانت أجنحته مكسوَّة بالجلد. وكانت
أسنانه صغيرة، لكنها حادة جدٍّا، وفكه لا يمكن أن يكون قويٍّا جدٍّا، وإلَّا استطاع تمزيق
«. كاحلي
«. لقد كاد يفعل ذلك » : علَّق ثادي قائلًا
بدا لي أنه كان يضرب بمخالبه بأريحية تامَّة. هذا هو كل ما أعرفه عن الوحش »
«. تقريبًا. كانت محادثتنا هذه حميمية، إن صحَّ التعبير، لكنها مع ذلك ليستسرية
رجال الداياك يتحدَّثون عن حيوان كولوجو كبير، أو ما يُسمَّى » : قال ثادي
الكلانج-أوتانج؛ أيٍّا ما يكون ذلك. إنه لا يهاجم البشر في العادة، لكنني أظنك أثَرت
أعصابه. يقولون إن هناك كولوجو كبير الحجم، وآخَر حجمه صغير، وهناك أيضًا شيء
آخر له صوت يشبه الكركرة. جميعها يطير في الليل. بالنسبة لي، أنا أعلم أن هناك ثعالب
«. طائرة وحيوانات ليمور طائرة في هذه الأنحاء، لكن ليس منها أي وحوشضخمة للغاية
وهنا أمَّن ثادي على «. هناك المزيد من الكائنات في السماء والأرض » : قال وودهاوس
وهناك المزيد في غابات بورنيو خصوصًا، أكثر مما حلمنا » : كلامه متنهدًا، وتابع وودهاوس
به في فلسفاتنا. وعلى العموم، إذا كانت حيوانات بورنيو ستُطلعني على المزيد من مفاجآتها
«. وعجائبها، فليتها تفعل ذلك عندما لا أكون في المرصد وحدي بالليل