AELTOHAMY

شارك على مواقع التواصل

جلست "حورية" أمام قفص الطائر بديع الألوان الذي أهداه لها والدها في يوم ميلادها العاشر، و أخذت تخاطبه في براءة و مرح قائلة : ها أنت قد أمضيت معنا أسبوعاً، أنت الآن فرد من العائلة، لعلك ترغب في الطيران، أنا لم أحضرك لأحبسك و إنما لأصاحبك و ألعب معك، سأفتح لك القفص لتطير في الغرفة كما تشاء و عندما تشعر بالجوع و تعود إلى بيتك ستجد طعامك في انتظارك.
مدت الطفلة يدها لتفتح باب القفص ثم تراجعت كأنما تذكرت شيئا هاماً و قالت : معذرة لابد أن أغلق النافذة أولاً، و لكني سأترك الستائر لتستطيع أن تنظر إلى السماء.
و ما أن فتحت الباب حتى انتبه الطائر و أخذ ينظر بحذر كأنما يفكر هل المرور ممكن أم أنه كمين؟ ثم بدأ يقترب بحذر من منفذ الخروج و أطل برأسه أولاً و نظر يمنة و يسرة، و ما أن لمح النافذة حتى انطلق كالسهم تجاه السماء، و لم يساعده عقله أن يدرك وجود الزجاج الذي يسمح بالرؤية و لا يسمح بالمرور فاصطدم به رأسه الصغير بقوة دقت عنقه فخر صريعاً في الحال.
استغرق المشهد ثوانٍ معدودة، و استغرقت "حورية" ثوانٍ أخرى لتدرك ما حدث ثم انطلقت نحو الطائر في محاولة يائسة لإسعافه، لكنه كان قد فارق الحياة، فأسقط في يدها و ركضت على غير هدى و هي تصيح باكية: أبي.. أبي.
استمرت في الركض و الصياح و لم تتوقف حتى وجدت نفسها بين ذراعي أبيها يربت عليها و يسألها عن الخبر، فقصت عليه القصة من بين الشهيق و النحيب و البكاء، فأخذ يهدئ من روعها و يقول : لا بأس أنت لم تقصدي شرا، و الطائر أراد أن ينعم بالحرية لكن الثمن كان غاليا.
"حورية" و قد هدأت نوعاً ما: أنا أيضا أردت له الحرية و لذلك فتحت له القفص، فلماذا فعل ذلك؟
"الأب": أنت أردت له الحرية النسبية وهو أراد الحرية المطلقة.
لم تفهم الطفلة عبارة أبيها فنظرت إليه نظرة استفسار مشوبة بالاستياء، فقال متلطفاً: يعني أنت أردت له أن يطير في الغرفة و هو أراد أن يطير في السماء.
"حورية": أليست الغرفة واسعة و جميلة؟!
"الأب": بلى. لكن السماء أوسع و أجمل.
"حورية": هنا كان سيجد الحَب و الماء و كنت سأعتني به و ألاعبه، أما في الخارج فكان عليه أن يبحث عن الطعام بنفسه و ربما يتعرض للخطر من الطيور الكبيرة، فهل كان يعرف ذلك؟
احتار الأب في الجواب و لم يستطع أن يحدد هل اختار الطائر ما اختار و هو يدرك العواقب و الأخطار؟ أم أنه اتبع غريزته و هواه بلا بصيرة و لا إبصار؟ فسكت برهة ثم بدا له أن يحيل السؤال إلى السائلة، فقال: ما رأيكِ أنتِ؟ و ماذا تختارين لو كنتِ مكانه؟
أطرقت الفتاة و صمتت فترة ليست بالطويلة لكنها مرت على الأب طويلة لأنه كان يرجو أن تختار الأوقع و الأيسر، و كان يعلم أنه لن يستطيع أن يمنحها الاختيار الآخر، ثم رفعت رأسها و نظرت في عين أبيها و قالت كلمة واحدة: السماء.
شعر الوالد بالخذلان و لم يجد ما يعزي به نفسه سوى أن ابنته ما زالت طفلة و عندما تكبر ستغير رأيها فابتسم مشجعاً و قال: حسناً، و الآن ماذا سنفعل بهذا الطائر المسكين؟
ظنت "حورية" أن ابتسامة أبيها تشجيعا لها على حسن جوابها و لم تدرك أنها كانت تشجيعا لنفسه على الصبر عليها حتى تغير من رأيها، فأصبحت "السماء" منذ ذلك اليوم أمنيتها القصوى و غايتها العليا تتطلع إليها دوماً و تحن إليها شوقاً.
"حورية": نحفر له حفرة بين الزهور في الحديقة المجاورة و نضعه فيها.
التقط الأب منديلا ورقيا وضع فيه الطائر ثم أعطاه لابنته و قال : فكرة رائعة، هيا بنا.
أمسكت الفتاة الطائر بيد و تعلقت بيد أبيها بالأخرى و انطلقا ليودعا الطائر إلى مثواه الأخير.
* * *

"حازم لبيب" دكتور في علم الاجتماع، في أواخر العقد الخامس من العمر، على عكس الكثير من الأساتذة لم يكن يلقي بالاً لمن يحضر متأخراً أو يغادر مبكراً طالما لم يحدث جلبة أو يتسبب في إزعاج للحاضرين أو يقاطع المحاضرة بغباء، و كان كثيرا ما يقول لطلابه: "من شاء فليحضر متى شاء و ليرحل متى شاء و لكن إياكم و الغباء"، و كان طلابه يحمدون له ذلك القدر من الحرية، و يحضرون محاضرته ليس من باب الالتزام بالنظام ولكن رغبة فيما يثار فيها و يقال، وكان يروقهم تفاعله معهم على المستوى العقلاني مع ما يأخذونه عليه من الجفاف على المستوى الوجداني.

و رغم حرص "حورية" على الحضور مبكراً إلا أنها تأخرت ذات صباح، و وصلت بعدما بدأ الدكتور "لبيب"، فأخذت تتسلل على أطراف أصابعها خشية أن تتسبب في قطع حبل أفكاره فتسمع ما لا يرضيها من كلامه، حتى وصلت إلى أقرب مقعد شاغر بجوار إحدى زميلاتها في الجانب الأيسر من قاعة المحاضرات، فجلست بأكبر قدر ممكن من الهدوء و بدأت في الإنصات، فكان أول ما وقع على سمعها و أثار انتباهها من كلام المحاضر ما يلي:

"...الحرية أكبر خدعة في تاريخ البشرية، ضحى الناس من أجلها بأرواحهم، و قتل بعضهم بعضاً في سبيلها، و تغزل فيها الأدباء، و تغنى بها الشعراء، و قال أميرهم :

فَفي القَتلى لِأَجيـــــــــالٍ حَياةٌ
وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمــراءِ بابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضَــــرَّجَةٍ يُدَقُّ

تطلع الدكتور "لبيب" إلى طلابه لحظة ثم أكمل حديثه قائلاً: و لكن عندما فتح الباب بالدماء لا كان عتق و لا فداء، و إنما انتقال من أسرٍ قديم إلى أسرٍ جديد، و من صورة من صور الاستبداد إلى صورة أخرى منه، أو على أحسن تقدير استبدال قيود الحديد بقيود الذهب، و الخروج من السجن المظلم إلى السجن المضيء.

بدأت الهمهمات تسري بين الطلاب و تزداد، و ترددت في القاعة بعض الكلمات ما بين الاحتجاج و الاعتراض و الاستنكار أو التعجب و الاندهاش و الاستفسار، فقطع الدكتور "لبيب" استرساله و أشار بيديه للطلاب أن يهدؤا، ثم قال: تعلمون أننا نفتح الباب للمناقشة بعد انتهاء المحاضرة، لكن يبدو أنكم لا تستطيعون اليوم صبراً، فلا بأس أن نفتح الباب الآن، و أضاف بابتسامة مستفزة: و الحمد لله أن باب المناقشة ليس بكل يد مضرجة يدق.

و فور انتهائه من تلك العبارة انتقل من القيام إلى الجلوس أمام المكتب و ضغط زراً فيه فبدأت أرضية قاعة المحاضرات في التحرك لتعيد تشكيل المقاعد التي يجلس عليها الطلاب لتتحول من صفوف متوازية إلى صفوف متقابلة ماعدا الصف الأخير بقي في مكانه ليصبح ترتيب المقاعد على شكل حرف " U " اللاتيني، ثم التقط مطرقة خشبية صغيرة من المكان المخصص لها بالمكتب و دق بها دقتين و قال: ها هو الباب قد فتح، فأعلنوا ما كنتم تسرون، و أخرجوا ما كنتم تكتمون. ثم نظر يمنة و يسرة و أضاف: من يحب أن يبدأ؟

ضغط أحد الطلاب الجالسين على الجانب الأيمن زراً خاصاً في المقعد لطلب الكلمة فظهر على الشاشة الصغيرة المثبتة على مكتب الدكتور "لبيب" اسم الطالب و رقم المقعد الذي يجلس عليه ، فأشار له الدكتور أن يبدأ، فقال: هل يعني هذا أن الأوطان لا تستحق التضحية و أن الشعوب لا يجب أن تناضل من أجل استعادة حريتها؟

"لبيب": و لماذا يجب على الشعب أن يضحي بحياته في سبيل حرية وطن لم يختره بحرية و إنما ولد فيه رغما عنه يا عاطف؟

"عاطف": و كذلك الإنسان لم يختر أمه و أباه، أفلا يضحي من أجلهما؟

"لبيب": هب أن أباه كان ظالماً أو فاسداً أو جهولاً، أتخنق حياة بريئة لتطلق حياة مجرمة؟

"عاطف" و قد أثارت حفيظته إجابات الدكتور: و إلى متى سيستمر حوارنا على هذا النسق؟ أسأل حضرتك سؤالا فتجيبني بسؤال؟

لم يبد على "لبيب" أي علامة من علامات الاستياء أو الانزعاج رغم نبرة الحدة في عبارة "عاطف" الأخيرة، بل على العكس بدا عليه شيء من الارتياح و الاستمتاع، فقد كان من هواة المباريات العقلية و القضايا الجدلية، فقال في هدوء: حسناً أيها الثائر، أنت على حق، دعنا نحول الأسئلة الاستنكارية إلى جملٍ خبرية فتصبح على النحو التالي، ثم اعتدل في جلسته و قال :
الإنسان سجين المكان و الزمان، و سجين بدنه و لونه و أرضه و وطنه، و سجين أسرته و قومه، و سجين بيئته و ثقافته، لم يكن له اختيار في كل ذلك و لا يستطيع أن يتحرر من كل ذلك، و مع ذلك هذا السجين المسكين مطالب بتحرير أرضه و وطنه و أسرته و قومه، و مطالب بالدفاع عن بيئته و ثقافته، و مطالب بأن يضحي بحياته من أجل ذلك كله أو بعضه تحت دعاوى الحرية و بريقها، و لذلك أطلقت عليها الخدعة الكبرى.

طلبت "سارة" الجالسة في الصف الأخير المقابل لمكتب الدكتور الكلمة و قالت: ما تفضلت به حضرتك قد ينطبق على الدول و الشعوب في منطقتنا، أما في العالم المتقدم فقد نالوا حريتهم بالفعل، حرية حقيقية و ليست خدعة أو وهماً.

"لبيب": لا أظن ذلك يا "سارة"، و الفارق بيننا و بينهم فارق في الدرجة لا في النوع، بمعنى أننا للأسف عادة ما ننتقل من سجن إلى سجن مماثل أو أشد ضيقاً، بينما هم قد انتقلوا إلى سجون رحبة، و هذا ما قصدته حينما قلت في نهاية المحاضرة: (أو على أحسن تقدير استبدال قيود الحديد بقيود الذهب، و الخروج من السجن المظلم إلى السجن المضيء)، و ابتلع ريقه ثم أضاف: الأمريكيون كمثال منذ عشرات العقود تتمثل حريتهم في الاختيار بين الجمهوريين و الديمقراطيين و يظنون أنهم قد بلغوا قمة الحرية.

و هنا قام "عاصم" من الصف الأخير أيضا بطلب الكلمة و قال: ليست هناك حرية مطلقة لا بالنسبة للفرد ولا بالنسبة للمجتمع؛ لأنه لا وجود لكائن إنساني غير خاضع لحتميات بيولوجية ومجتمعية، كما أنه لا إمكانية لتصور قيام مجتمع يجسد مقولة الحرية بمدلولها الإطلاقي، أي بلا قيد و لا شرط ولا حتميات. فالحرية بمعناها المطلق ليست سوى فوضى أو يوتوبيا حالمة ، و بالتالي ليس من الإنصاف أن نلقي باللوم على الشعوب التي ضحت من أجل أن تصل إلى القدر المتاح من الحرية، و ليس من الحق أن نتهمها بأنها ضحية لخدعة كبرى.

"لبيب": الحرية يا "عاصم" لا تقبل القسمة، أم تراك من أنصار أنصاف الحلول و الأمور؟ ثم ضغط زرا على جهاز الحاسوب فظهرت على الشاشة الموجودة في مقدمة القاعة أبيات من قصيدة لجبران خليل جبران تتلى بصوت رخيم على خلفية موسيقية هادئة يقول فيها:

لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا صمتّ.. فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت.. فتكلّم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت.

إذا رضيت فعبّر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت.. فعبّر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامة أجّلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها.. النصف هو ما يجعلك غريبًا عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك، النصف هو أن تصل وألّاتصل، أن تعمل وألّا تعمل، أن تغيب وأن تحضر.. النصف هو أنت، عندما لا تكون أنت.. لأنك لم تعرف من أنت. النصف هو ألّا تعرف من أنت.. ومن تحب ليس نصفك الآخر.. هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه"!!
نصف شربة لن تروي ظمأك، ونصف وجبة لن تشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة.. النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز.. لأنك لست نصف إنسان. أنت إنسان.. وجدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة!!"

"عاصم": لقد جئت بالقصيدة يا سيدي في غير سياقها، و هي لا تتضمن كلمة واحدة عن الحرية، و ما ذكرتُه آنفاً عن استحالة الحرية المطلقة لم يكن من كلامي و إنما.. و إنما.. ارتبك "عاصم" و منعه الخجل من إتمام عبارته، فابتسم "لبيب" ابتسامته المستفزة المعتادة و قال : و إنما من كلام علماء الاجتماع، ها أنا قد أكملت لك حتى أرفع عنك الحرج، أليس هذا ما أردت قوله؟

"عاصم" في حياء: بلى.

"لبيب": ليكن، لكن طالما نحن نتحدث عن الحرية فلمَ لا نتحرر من أطروحات العلماء السابقة؟

"عاصم": إذن ما تطرحه حضرتك هو أن الحرية الحقيقية خدعة كبرى و لا وجود لها، و كل ما دون الحرية الحقيقية مما يتغنى به البشر ليس بحرية. صحيح؟

"لبيب": أجل.

و هنا عاد "عاطف" للمداخلة قائلاً: معنى هذا أن حضرتك متفق مع القول باستحالة الحرية المطلقة، و ما تعتبره ليس بحرية يعتبره الأخرون حرية نسبية، فالخلاف في الواقع لفظي.

"لبيب": لا. ليس كذلك. عندما يئس البشر من التمتع بالحرية المطلقة و لكي يخففوا من درجة الاحباط لديهم، أخذوا في التعامل مع الحرية النسبية أو المتاحة على أنها مطلقة و بدأوا يلبسونها هالات الإجلال و الإكبار حتى أفسدوا في الأرض و سفكوا الدماء من أجلها، و صدق قول مدام رولان إبان الثورة الفرنسية أمام المقصلة: ( أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك!)، و كان أحرى بهم أن يسموا الأشياء بأسمائها و أن يعترفوا أن الحرية النسبية ليست بحرية و لا تستحق أن ترتكب الجرائم من أجلها، و حينئذ تصبح التضحيات مشروطة و لا تتم إلا في إطارها الصحيح.

"عاطف": و هذا يعيدنا إلى مسألة التضحية من أجل تحرير الأوطان أو التضحية من أجل الوالدين و الأهل و العشيرة.

"لبيب": نعم. إن كانت تضحيات الشعوب و نضالها فقط من أجل استبدال الحكام من الجنسيات الأخرى بحكام من نفس الجنسية، و اعتبار أنه إذا لم يتم ذلك فهي خيانة للوطنية، فهذا غش و خداع و تحايل لأغراض شخصية، فمعيار الحكم على الحكام إنما هو تحقيق العدالة و ليس التمتع بالجنسية، فالحاكم الذي يحافظ على الوطن و مقدراته و يرعى المواطنين و مصالحهم هو حاكم وطني و لو جاء من المريخ، و الحاكم الذي يفرط في مصالح البلاد و العباد و يكتسب الجاه من الظلم و المال من السلب هو حاكم خائن و لو كانت جذوره ضاربة في عمق تاريخ البلاد، و يتمتع بالجنسية أبا عن جد إلى مائة من الأجداد.

ترددت "حورية" قليلاً ثم حسمت أمرها و قررت المشاركة في الحوار، فطلبت الكلمة و قالت: اختلف معك يا دكتور "لبيب" أن البشر يئسوا من الحرية المطلقة و أن الحرية الحقيقية لا وجود لها، أنا بصراحة أتحدث عن نفسي، فالأمل في الحرية المطلقة لا يزال حياً في خيالي، و البحث عن الحرية الحقيقية نزعة بشرية مستمرة منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا، و أحسب أن الرغبة العميقة في الحرية المطلقة كانت الدافع الخفي وراء معصية أبينا آدم الأولى، و هي التي جعلته ينجذب إلى الشجرة المحرمة و يلتفت عن آلاف الأشجار المباحة، لأن تلك الأشجار حريته فيها كانت كاملة أما الشجرة المحرمة فحريته فيها كانت منقوصة و لذلك أراد أن يستكملها.

نظر الدكتور "لبيب" إلى "حورية" نظرة فاحصة من فوق النظارات الطبية التي يرتديها ثم قال لها: إذن المعصية يا "حورية" هي السبيل إلى الحرية الحقيقية من وجهة نظركِ؟

"حورية": ليست المعصية و إنما الإرادة و الاختيار و التجربة و إن أدت بنا للمعاصي فهي معصية عارضة نتعلم منها ثم نقلع عنها، تماما كما فعل أبوينا، و لعل هذه هي الحكمة من مشروعية التوبة بعد كل ذنب و إن تكرر منا في اليوم سبعين مرة.

"لبيب" موجهاً الحديث للطلبة : ما رأيكم فيما تطرحه زميلتكم؟

"سارة": أية محاولة للجمع بين الدين و الحرية هي محاولة للجمع بين نقيضين، الدين يقوم على وجود رب خالق معبود و بشر مخلوقين عبيد، ليس لهم إلا أن يقولوا سمعنا و أطعنا، فأنى للعبد أن يكون حراً؟

"عاصم": حتى لو تحرر الإنسان من الدين فسيبقى خاضعاً للحتميات البيولوجية و المجتمعية، و سيظل سجيناً للبدن و اللون، و الأرض و الوطن، و البيئة و الثقافة، كما أشار الدكتور.

"عاطف": لو كان المطلوب من البشر مجرد السمع و الطاعة لما كانت هناك إضافة في منظومة الخلق من الجمادات و حتى الملائكة، و لكان هناك من المخلوقات من يقوم بهذا الدور أفضل من البشر بكثير، و لما كان هناك معنى لتكليفهم و إرسال الرسل إليهم و محاسبتهم.

"سارة": الحساب يتناقض مع الحرية، إن أردتني عبداً فلا تخيرني، و إن أردتني حراً فلا تحاسبني على اختياري، أرأيت كم التناقض بين الدين و الحرية؟

"عاصم": بهذا المنطق فإن الحرية ستتناقض أيضا مع الأخلاق و القيم، و النظم و القوانين، و السياسة و المجتمع، و الحضارة و التاريخ، فلماذا جعلتِ الدين غرضا لسهامكِ دون كل ما سبق؟

"حورية": نعم الحساب يتناقض مع الحرية، و لذلك درج العامة على مقولة الحساب يوم الحساب، لأنهم يعلمون أن الحساب الحقيقي مؤجل، و أن البشر يستطيعون من خلال التحايل على القانون و استخدام المال و النفوذ الإفلات من المساءلة و المحاسبة، فنحن نعيش يومين أو حياتين، يوم فيه عمل و لا جزاء و يوم فيه جزاء و لا عمل، و بذلك نحن أحرار حرية حقيقية.

"عاطف": بل الحرية بلا حساب لا معنى لها، و إذا لم يتحمل الإنسان نتيجة ما يختار فما قيمة الاختيار؟ هبوا أن أكل أبينا آدم من الشجرة المحرمة لم يترتب عليه أي شيء، و لم يُحمل مسئولية هذا القرار، فما النتيجة؟ النتيجة أن يكون الأكل من الشجرة و عدم الأكل منها سواء بسواء، يعني يستوي الوجود و العدم، و الطاعة و المعصية، و الخير و الشر، أما مع خروجه من الجنة، فقد نال الخبرة و ظهرت الحكمة و بدأت الرحلة.

"سارة": أية رحلة؟

"عاطف": رحلة البشرية للعودة إلى الفردوس المفقود.

لمعت عينا الدكتور "لبيب" حينما سمع عبارة "عاطف" الأخيرة لسبب غير مفهوم، ثم قال: أوشك الوقت على النفاذ. حواركم لا بأس به، لكنكم ما زلتم تدورون حول الموضوع و لم تصلوا بعد إلى صلبه، ما أريده منكم جميعا- المتكلمين و المستمعين- في المرة القادمة أن يحدد كل واحد منكم موقفه من "الحرية" في جملة واحدة لنتمكن من تحرير المناط.

"حورية": هلا بدأت حضرتك أولاً يا دكتور.

"لبيب": قد فعلت يا "حورية" حينما ذكرت لكم أن الحرية أكبر خدعة في تاريخ البشرية.

* * *

عادت "حورية" إلى المنزل مشغولة الذهن بمحاولة صياغة عبارة جامعة مانعة تلخص موقفها من عشق قلبها و حلم روحها و أمل حياتها، تلك المدعوة بالحرية، و عندما دخلت لمحت أباها في مكتبه فذهبت إليه و ألقت التحية عليه، لكنه كان مستغرقا في قراءة أوراق استخرجها من صندوق خشبي قديم لكنه أنيق بدا مألوفا لديها، فلم ينتبه لها و لم يرد عليها، فصفقت بيديها و رفعت صوتها قائلة بمرح: اصح يا نائم .. وحد الدائم.

التفت إليها الأب باسماً و قال: مرحبا بحبة القلب، و ثمرة الفؤاد.

"حورية": ماذا تقرأ أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد؟

"الأب": ألا تذكرين هذا الصندوق و تلك الأوراق؟

عقدت "حورية" حاجبيها و قالت: بلى. هذا صندوق جدي و أحسب أن تلك الأوراق مذكراته.

"الأب": أجل.

"حورية": و ما الذي ذكرك بها بعد تلك الأعوام؟

"الأب": لم أنسها لأذكرها، و لكن حان موعد مراجعتها حسب وصية أبي، فقد كتب لي في نهايتها أن أعيد قراءتها بعد خمس سنوات، و اليوم هذه السنون قد مرت.

"حورية": و هكذا الأكوان تدور و الأزمان تدور، أذكر مدى حفاوتك بها عندما وصلتك بعد خمسة أعوام من اختفاء جدي، و أنك حاولت أن تشرح لي محتواها لكني لم أتمكن من الاستيعاب في ذلك الوقت.

"الأب": و ها أنت اليوم على أعتاب سن الرشد، و قد أوشكت على الانتهاء من دراستك الجامعية، و لعل هذا ما قصده جدك حينما أوصى بالرجوع إلى ما كتبه بعد خمس سنين، يبدو أنه أراد أن ينقل خبرته للجيل الثالث أيضا.

"حورية": بالفعل أنا اليوم أكثر شوقاً من أي وقت مضى لمعرفة تجربة جدي في الفرار من الحياة.

"الأب": ليس الفرار من الحياة، بل الفرار إلى الحرية.

"حورية" في حماسة من وجد كنزاً: حقاً.

"الأب": هذا ما وقع في قلبي حين قرأتها للمرة الأولى، و ربما بعد القراءة الثانية نصل لنتيجة ثانية.

"حورية": إذن تفضل و ابدأ بالقراءة و كلي أذان مصغية.

"الأب" و هو يمد يده بالمذكرات إلى ابنته: بل أحب هذه المرة أن أسمعها منك.

شعرت "حورية" بشيء من الرهبة و هي تتناول المذكرات، و تسألت بينها و بين نفسها: هل سيدحض جدها نظرية الخدعة الكبرى أم سيؤكدها؟ ثم فتحت الصفحة الأولى و أخذت في القراءة:

(..الملل يفتك بحياتي.. يحيطني من كل جانب.. يشل عقلي و يمحق وجداني.. و كلما أردت منه فكاكاً وجدته يكبلني بقيود الواجب.. الواجب تجاه بيتي ..عملي .. أسرتي، ألا يمكن للمرء أن يؤدي الفروض و الواجبات دون أن يقع أسيراً لها! ألا يمكن للفرد أن يحب من يحب من البشر دون أن يفقد قدراً من حريته! يبدو أن هناك تناسباً عكسيا بين الحب و الحرية، و قديماً قيل من المستحيل الجمع بين النقيضين، يحب الرجل امرأة فتمتلك قلبه، و يحب أصدقاءه فيمتلكون وقته، و يحب عمله فيمتلك عقله، و يحب أطفاله فيمتلكون حياته، و هكذا يحيا الواحد منا عبداً مملوكاً لمن يحب، و الحر منا من لا يحب، يا لها من مأساة.
فما المخرج؟ و أين المفر؟ كيف يمكن كسر هذا الطوق؟ لا بد أن هناك لحظة ما يستطيع الإنسان أن يفوز فيها بالحرية دون أن يخسر فيها الحب، لا بد أن هناك نقطة ما يمكن للإنسان عندها أن ينطلق دون أن يخل بالواجب، وقد انتظرت هذه اللحظة طويلاً و بحثت عن تلك النقطة كثيراً، و ها أنا قد وصلت أخيراً، وصلت إلى نقطة الانطلاق و أدركت اللحظة الفارقة، فقد فارقتني الحبيبة إلى ربها ، و وصلت إلى سن التقاعد، و أنهيت مهمتي تجاه أسرتي فابني الوحيد قد شق طريقه في الحياة بنجاح و ابنته الوحيدة أتمت العقد الأول من عمرها المبارك، و الأصدقاء تفرقوا في الدنيا و الآخرة، فاليوم لا حبيبة تؤنسني، و لا عمل يكبلني، و لا أسرة تشغلني، و لا صديق يجذبني، و هذا في نظر كثير من الناس علامة على اقتراب النهاية و لكني سأعتبرها فرصة للبداية، فصحتي على ما يرام و معي ما يكفيني من المال، فالآن أحيا ما أريد كما أريد لا كما يريد الآخرون، و إن كان هؤلاء الآخرون هم قرة العيون.

مذ ولدت و أنا كغيري من الناس أعيش أسيراً مقيداً، ففي طفولتي المبكرة عشت أسيراً لظروف والدي الاقتصادية و مكانتهما الاجتماعية و ثقافتهما الشرقية، و في طفولتي المتأخرة عشت أسير توجيهات المدرسين و الواجبات المدرسية، و في الصبا و المراهقة كنت أسير الرفاق والأصحاب و الهوايات و الألعاب، و في الشباب كنت أسير النظم و القوانين التي تحكم البلاد و العباد، و بعد التخرج كنت أسير سنن الحياة و ضروراتها و متطلبات المعيشة و ضغوطها، نعم تصادمت مع كل ما سبق و ركبت طبقاً عن طبق و حاولت أن أغير لون الشفق، لكن النتيجة في النهاية كانت مزيداً من الرهق، أما آن لهذا الأسير أن يتحرر؟ أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟ أما آن لهذا الطير أن يطير؟ بلى.. قد آن الأوان...)

توقفت "حورية" عن القراءة و تطلعت في حيرة إلى أبيها، فقال لها مداعباً: لماذا أطبقتِ شفتيكِ؟ و لما تطل الحيرة من عينيكِ؟

"حورية": هل كان جدي متشائماً؟

"الأب": لا. لكنه كان يميل إلى التجريد في نظرته للأمور.

"حورية": و هل من التجريد أن يحيل النعم إلى نقم؟

"الأب": ماذا تقصدين؟

"حورية": أقصد أنني أرى الأمور على العكس مما يراها، و ما يشكو منه أحمد الله عليه، ففي طفولتي المبكرة عشت أميرة على والدي، كل رغباتي مجابة و كل ما أرجوه أناله، و في طفولتي المتأخرة كنت محل تقدير و تشجيع المدرسات و المدرسين، و رغم ما كنت أجده من التعب في أداء الواجبات المدرسية كنت أجد فيها متعة التحدي و لذة الإنجاز، و في الصبا و المراهقة كان الرفاق و الأصدقاء و الهوايات و الألعاب مصادر لتبادل الخبرات و نوافذ للمرح و الانطلاق و فرصاً لمعايشة الاهتمامات المشتركة.

"الأب": و على هذا النحو أيضاً ترين النظم و القوانين التي تحكم البلاد و العباد؟
"حورية": نعم طالما خلت من الظلم، فلن يكون الهدف منها إلا حفظ الحقوق و ضمان تكافؤ الفرص و تسيير حياة الناس في يسر و انسجام.

"الأب": مهما يكن في السلطات الأسرية و المدرسية و المجتمعية و الحكومية من نفع و فائدة تظل للحرية مكبلة و مقيدة، و هذا هو التجريد الذي أجده في كلام جدك.

"حورية": إذن لكي يكون الإنسان حراً لا بد أن يعيش وحيداً.

"الأب": ربما.

"حورية": فلما يقولون في الأمثال الشعبية:( الجنة من غير ناس ما تنداس)؟

"الأب": تلك هي المشكلة، السعادة مع الوحدة معضلة، و الحرية مع الناس غير ممكنة.

"حورية": يا لكم من عائلة! الجد يرى أن الحر فينا من لا يحب، و الأب يري أن شرط الحر أن يكون وحيداً.

"الأب": اصبري حتى تنتهِي من قراءة ما كتبه جدك، ربما تتغير نظرتك.

"حورية": نعم لا بد أن أكمل القراءة، لكن ليس الآن، أريد أن أكون أكثر تركيزاً، هل تأذن لي بالاحتفاظ بمذكرات جدي إلى حين الانتهاء من قراءتها؟

"الأب" و هو يناولها الصندوق: بكل تأكيد، و لكن ضعيها دوما في هذا الصندوق.

"حورية": يبدو أن لهذا الصندوق عند جدي شأن.

"الأب": أجل.

"حورية": و ما شأنه؟

"الأب": عندما تختمين القراءة تعرفين.

"حورية": لا تزد شوقي فما عندي منه يكفيني.

"الأب": نلتقي ثانية بعدما تنتهين.

"حورية": حسناً. أراك على خيرٍ يا أبي.
"الأب": في أمان الله يا ابنتي.
* * *
وقف "هانئ السعيد" المدرس المساعد بالقسم أمام حجرة مكتب الدكتور "لبيب" و طرق الباب بلطف، و على الفور سمع صوت الدكتور قائلاُ: تفضل يا هانئ.

دخل "هانئ" إلى الغرفة و ألقى التحية على الدكتور ثم قال: طلبتني مبكراً هذا الصباح، يبدو أن الحوار الذي دار في المحاضرة الماضية يشغلك.

أومأ "لبيب" برأسه قائلاُ: استنتاجك في محله رغم أنك لم تكن حاضراُ معنا.

"هانئ": نعم لكني حصلت على الأسطوانة المدمجة و شاهدتها.

"لبيب": و ما رأيك؟

"هانئ": حضرتك خرجت عن المألوف و حولتها من محاضرة إلقائية لمحاضرة نقاشية استجابة لرغبة الطلبة، و كان ذلك رائعاً، لكن ماذا بعد؟

"لبيب": هذا ما طلبتك من أجله، الحوار داخل قاعات المحاضرات لا يكفي، لا بد من التجربة العملية.

"هانئ": و لما في هذه المرة بالذات؟ هذا شيء لم تفعله من قبل؟

"لبيب": هذه المرة مختلفة كما لاحظت، و استجابة الطلاب كانت متميزة، فهم يستحقون أكثر من الكلام النظري، و دوري كمعلم أن أرفع مستوى التعليم كلما كانت الفرصة سانحة، و حتى لو لم أفعل ذلك من قبل فلكل شيء بداية، و لكل حادث حديث.

"هانئ": و كيف ستُدَّرس الحرية من خلال التجربة العملية؟

"لبيب": الفكرة لم تتبلور لدي بعد، لكن على سبيل المثال القصائد الناتجة عن تجارب شعورية عميقة للشعراء تختلف عن القصائد النابعة عن الرغبة في استعراض القدرات البلاغية أو الصادرة عن رجاء منفعة عاجلة بمدح فلان أو رثاء أخر أو هجاء ثالث، لا شك أن النوع الأول أبقى أثراً و أعظم تأثيراً. هذا ما أبتغيه، دراسة المعاني الفلسفية و القيم الأخلاقية من خلال التجارب الفكرية و الوجدانية.

"هانئ": لكن التجارب الشعورية هي تجارب طبيعية و ليست اصطناعية.

"لبيب": بالنسبة لنا ستكون اصطناعية لكن بالنسبة للطلاب ستكون طبيعية.

"هانئ" معترضاً بحذر: و لكن في هذه الحالة قد نكون أخللنا بأخلاق المهنة.

"لبيب" في مزيج من الدهشة و الغضب: ماذا تقول! كل ما في الأمر أنني سأنقلهم من صفوف المتفرجين إلى أرض الملعب ليشاركوا في المباراة مشاركة حقيقية، أفبذلك أكون قد أخللت بالقيم الأخلاقية؟

"هانئ" بنبرة لا تخلو من التحذير: سيدي هؤلاء بشر و ليسوا حقول تجارب، و أنت أعلم مني بالضوابط العلمية و المهنية التي اعتمدتها الجامعة بهذا الشأن.

"لبيب" باستياء: طلبتك لتدعمني و تعاونني فإذا بك تحبطني و تعرقلني، ألم أشرف على رسالتك التي تقدمت بها لنيل درجة الماجستير؟ هل أضررت بك في شيء؟

"هانئ" بخجل: بل أفدتني و علمتني، و أحسب أنني أرد الجميل بموقفي هذا الذي يثير حنقك و استياءك، فغاية ما في الأمر أنني لا أريدك أن تتورط في أمر قد يؤثر على مكانتك العلمية، و مستقبلك الأكاديمي.

"لبيب" بعد برهة من الصمت و التردد: لا بأس. سأجعل التجربة اختيارية لمن يشاء من الطلاب، و ستجرى خلال إجازة نصف العام دون أن يكون لها شأن بالجدول الدراسي و الساعات المعتمدة و لن تدخل نتائجها ضمن معايير تقويم الطلاب، هل يريحك هذا؟

"هانئ": أحسب أنا هذا أفضل بالفعل، لكني لن أرتاح تماماً حتى أعلم طبيعة هذه التجربة.

"لبيب" في نفسه: لقد خدمتني يا "هانئ" من حيث لا تشعر، هذا أفضل بالفعل من العمل تحت قيود اللوائح و القوانين الجامعية المكبلة للعلم و الحرية، أخبرتكم أنها خدعة كبرى فلم تصدقوني.

لاحظ "هانئ" شرود أستاذه و عدم انتباهه لجوابه، فأعاد السؤال قائلاً: كنت استفسر عن نوعية التجربة التي تنوي إجرائها و طبيعتها؟

"لبيب": المعاني الفلسفية و القيم الأخلاقية تحتاج أن تلمس أطرافها القصوى لتتمكن من إدراكها و استيعابها و الإحاطة بها من جميع الجوانب، و لتتمكن أيضا من تحديد مساحة الاتزان بدقة بحيث يكون ما قبل هذه المساحة و ما بعدها خارجاً عن المعنى الذي تبحث عنه أو القيمة التي تدرسها.

"هانئ": تقصد مثلاً أن إدراكنا للكرم يتطلب معرفة التقتير و التبذير، و تعاطينا مع الشجاعة يحتاج منا الإلمام بالجبن و التهور، و هكذا. أليس كذلك؟

"لبيب": بلى.

"هانئ": فما طرفا النقيض بالنسبة للحرية؟
"لبيب": الفوضى و السجن.
* * *
أخرجت "حورية" مذكرات جدها من الصندوق و وضعتها في حقيبتها ثم خرجت إلى "حديقة الخالدين" لتلتقي بصديقتها، و أخذت تسير بين التماثيل الرخامية البيضاء المنتشرة في أنحاء الحديقة التي أقيمت لتخليد ذكرى الكثير من العلماء و الشعراء و الأدباء و الحكماء من أمثال الفارابي و البيروني و المتنبي و غيرهم، و توجهت إلى الأريكة التي اعتادت أن تجلس عليها، و عندما نظرت إلى ساعتها أدركت أن لديها متسعاً من الوقت قبل أن يحين موعد وصول الصديقة فأخرجت الورقات التي أحضرتها و بدأت تنصت لصوت جدها ينساب إلى عقلها من بين أصوات تغريد الطيور و خرير الماء، و هو يقول:

(..بلى. قد آن الأوان أن أحيا حيث أريد لا حيث ولدت، و أن أقول ما أحب لا ما يجب أن يقال، و أن أعمل من أجل المتعة لا من أجل المال، و أن أصحو فلا أنام و أرقد فلا أقوم، و أن أعيش الحاضر بلا أسفٍ على ماضٍ و لا خوفٍ من آتٍ، و عند هذه النقطة من التفكير قررت أنه قد حان وقت الرحيل، كل ما أرجوه هو الرحيل إلى مكان تتوفر فيه ثلاث خصال، أن يكون أهله على الفطرة، و ألا تكون قد دخلته التكنولوجيا، و ألا يعرفني فيه أحد، فالمجاهيل في نعيم، محررون منطلقون، و المشاهير في جحيم، مكبلون مقيدون، هذا ما أحسب أن أويس القرني قد أدركه، و لذلك كان يعيش في المكان حتى إذا ما اشتهر أمره و ذاع صيته غادره إلى غيره، فصار شعاره في الحياة (عُرفت فاهرب)، الكتب التي تروي سيرته ترجع هذا التصرف منه إلى رغبته في الإخلاص و البعد عن الرياء، و هذا ما كنت أعتقده في صباي أما الآن و بعد هذا العمر الطويل فأعتقد أنه كان ينتهج هذا النهج رغبة في الحرية و اجتناباً للعبودية، و هل الرياء إلا أخس أنواع الرق؟

و بعد القرار يبقى التنفيذ، و يطرأ السؤال: أين هذا المكان؟ و هل لتلك الخصال الثلاث وجود في هذا الزمان؟ يغلب على حدسي أني قد أجد المكان المرام في إحدى قرى جنوب شرق أسيا أو وسط افريقيا، سأجتهد حتى أجده، فإن لم أجده سأوجده، و هناك سأكمل كتابة هذه الورقات..).

- إلى أي البلاد رحلتِ؟ و بأي القرى حللتِ؟
خرجت "حورية" من الأوراق و عادت إلى الحديقة و التفتت باسمة إلى الصديقة و قالت: مرحباً "سارة". كأنكِ كنتِ معنا.
"سارة": معكم! من أنتم؟
"حورية": أنا و جدي، كان في طريقه إلى قرية ينعم فيها بالحرية و كنت برفقته حتى قدمتِ، فاعتذرت له و رجعت إليكِ.
جلست "سارة" بجانب صديقتها و قالت : قرية الحرية! يا لها من رومانسية. الحرية ليست قرية أو مكاناً ننتقل إليه، إنما هي كنز مدفون في صدورنا، فإن لم يجدها الإنسان في باطن النفس فلن يجدها على ظهر الأرض.
"حورية": و هذا الكنز الدفين كيف يصل إليه الإنسان يا فيلسوفة الزمان و حكيمة العصر و الأوان؟
"سارة": لن يصل حتى يتحرر من جميع القيود، من كل المعتقدات و الأفكار و المشاعر.
"حورية": و ماذا سيبقى له من إنسانيته بعد ذلك؟ إذا تحرر البشر من عقولهم و عواطفهم فلن يبقى لهم سوى الغرائز الحيوانية و العناصر المكونة للمادة الطينية.
"سارة": إنما عنيت بالتحرر من الأفكار و الأحاسيس أن نتحكم فيها لا أن تتحكم فينا.
"حورية": التحكم في الأفكار و المشاعر يتطلب خضوعها للإرادة، و طبقاً لهذا التصور لا يكون الإنسان مطلق الحرية إلا إذا كان مطلق الإرادة، أليس كذلك؟
"سارة": بلى. أعطني حريتي أطلق يدي، فلا حرية بدون طلاقة اليد.
"حورية": لا. طلاقة اليد تعني طلاقة القدرة لا طلاقة الإرادة، و كلنا يعلم مدى العجز المركب فينا.
"سارة": و ما فائدة طلاقة الإرادة مع العجز عن إنفاذها؟
"حورية": أنا أريد و أنت تريد و يفعل الله ما يريد.
"سارة": و تدَّعين أنكِ تؤمنين بالحرية المطلقة كما قلت في المحاضرة؟ العجز المركب فينا الذي ذكرتِه ما هو إلا أحد الأوهام التي يكبل بها الناس أيديهم بأيديهم، انظري إلى من سبقونا في سلم الحضارة، إرادتهم نافذة و أيديهم مطلقة، إذا أردوا تحرير بلد حرروها، و إذا أردوا احتلال أخرى احتلوها، و إذا شاءوا أن يعاقبوا ثالثة حاصروها و أجاعوها.
"حورية": العجز ليس وهماً، بل هو صفة كمال في الإنسان، فنحن نتعلم و نترقى من عجزنا و ضعفنا و جهلنا و خطئنا، إنما الوهم هو حلم القوة المطلقة و أن يظن أهل الأرض أنهم قادرون عليها و على من عليها، و الحقيقة في الصورة التي رسمتِها للتقدم الحضاري المزعوم ليست إلا الظلم و العدوان.
"سارة": الظلم سيختفي فقط حينما يختفي الضعفاء، و العدوان لن يتوقف طالما هناك مساكين، ألا ترين أن الحروب بين دول المتقدمة توقفت منذ الحرب العالمية الثانية و أصبحت فقط موجهة إلينا، بينما هم ينعمون بالسلام فيما بينهم.
"حورية": العدل الذي سيتحقق بقتل الضعفاء ليس عدلاً، إنما هو قمة الظلم لأنه يعني أنه قد تم ظلم كل من يمكن ظلمه بالفعل، و السلام الذي سيحل بذبح المساكين ليس سلاماً بل قمة العدوان لأنه يعني أنه قد تم العدوان على كل من يمكن العدوان عليه، هذا ليس ترقيا في سلم الحضارة الإنسانية كما تصفينه بل تدنياً في سلم الغابة الحيوانية.
"سارة": هل نقاشنا عن العدل و السلام أم عن الحرية؟
"حورية": بل عن الحرية.
"سارة": إذاً لنعد إلى قضيتنا و لا داعٍ للاستطراد.
"حورية": لا بأس . كما تشائين.
"سارة": هذه هي النقطة التي وصلنا إليها فعلاً، المشيئة أو الإرادة، معنى قولك: أنا أريد و أنت تريد و يفعل الله ما يريد أن الإرادة مقيدة، فأنى لصاحب الإرادة المقيدة أن ينال الحرية المطلقة؟
"حورية": العبارة المذكورة تتناول الفعل لا الإرادة، يعني الفعل هو المقيد لا المشيئة، نحن أحرار في أن نشاء ما نشاء، فحرية الإرادة لدينا مطلقة، و حرية الفكر كذلك، و حرية المشاعر أيضا، لكن حرية الإرادة لها اليد العليا لأننا من خلالها يمكننا التحكم في أفكارنا و مشاعرنا.
"سارة": اليد العليا دائماً للقوة، إذا توفرت القوة تحققت الإرادة و أثبتت حريتها، و لا وجود للحرية بدونها، و لذلك و على مر العصور كان العبيد من الضعفاء و الأسياد من الأقوياء.
"حورية": غير صحيح، أقصى ما يمكن أن ينال السيد من العبد أن يتحكم في جسده، لكن مهما أوتي من القوة فلا سلطان له على قلبه و روحه، و العبد مهما كان ضعيفاً فيمكنه أن ينال وراثة الأرض و الإمامة فيها، و علاقة العبد بالسيد علاقة مرتبطة بثقافة المجتمع و قوانينه من جهة و مرتبطة بالتفاعل الإنساني بينهما من جهة أخرى و بالتالي قد تكون إيجابية و قد تكون سلبية، و قد يكون السيد أشد دناءة و ضعفاً من العبد، بالله عليكِ أخبريني من أكثر قوة و تحرراً و أرفع قدراً و شرفاً و أجدر بالكرامة الإنسانية: بلال بن رباح أم أمية بن خلف؟
"سارة" في ثورة: إيجابية! العبودية قد تكون إيجابية! يعني إنسان يستعبد إنسانا فإذا بهذا الإنسان المستعبد يتقبل هذه العلاقة و يراها إيجابية و سنية و مُرضية و بهية! ما أبدع أفكارك المريخية!
"حورية" ضاحكة: ماذا لو أثبت لكِ أن ما ترينه مستحيلاً قد وقع، و أن الأفكار المريخية قد تحققت على كرتنا الأرضية؟
"سارة": المياه تكذب الغطاس و الغطاسة.
"حورية" وقد تقمصت دور "شهرزاد": كان يا مكان في قديم الزمان و سالف العصر و الأوان، طفل برئ رقيق اختطفه تجار الرقيق، فحملوه مع متاعهم على النوق و عرضوه في أم القرى للبيع في السوق، فاشترته سيدة مشهورة بالبر و السماحة و وهبته لزوجها المعروف بالصدق و الأمانة، فرباه و أكرمه، و علمه و أدبه، فتعلق قلب الفتى به فأحبه، و دارت الأيام و أهل الفتى يبحثون عنه حتى علموا أمره و جاء أبوه و عمه، و طلبا من الرجل الذي ملك ابنهما أن يتركه لهما، فجاء الرجل بالفتى أمامهما و قال له: " اخترني أو اخترهما ". فقال الشاب: " ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان الأب والعم ". فقالا له: " ويحك! أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ " فقال لهما: " ما أنا بالذي أختار عليه أحداً. وإني يا أبي رأيت من ذلك الرجل الشيء الحسن فما أنا بمفارقه ". فحينها فرح الرجل الكريم ووقف على صخرة أمام الكعبة وقال: " يا أهل قريش اشهدوا، هذا الفتى ابني يرثني وأرثه ". فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفسهما وانصرفا.
"سارة": قد أدركت ما تقصدين، و هذه الحادثة ليس لها في التاريخ مثيل، و لذلك لا يمكنكِ التعميم.
"حورية": لستُ في حاجة إلى التعميم، و هذه الحادثة العجيبة فيها إشارة فريدة هي جوهر القصيدة، مع الحب و الكرم و الإحسان و بعد اجتياز الفتى الامتحان ،تطورت العلاقة من العبودية إلى البنوة، فإذا كان هذا العطاء و تلك المكافأة قد وقعا من إنسان يوصف بأنه الرحمة المهداة لشاب اختاره دون سواه و فضله على أبيه و عمه، فما بالك بمن أهدى هذه الرحمة للعالمين كيف يكون عطاؤه و مكافأته لمن اختاره وحده و لم يرض بغيره؟
"سارة": المسلمات التي تنطلقين منها هي عندي ليست بمُسَلمة، و الأحلام الوردية لا تزيل التناقض بين الحرية و العبودية، و لا تحل المعضلات الفلسفية.
"حورية": يبدو أن الإشكالية التي طرحتِها في المحاضرة الماضية مازالت في ذهنكِ قائمة.
"سارة": أي إشكالية تعنين؟
"حورية": إن أردتني عبداً فلا تخيرني، و إن أردتني حراً فلا تحاسبني.
"سارة": أجل. بلا شك.
"حورية": ربما أراد من الحر أن يكون عبدا باختياره، أو أراد من العبد أن يكون حراً في عبوديته، و عندها تصبح العبودية قمة الحرية لأنه اختار بإرادته أن يمحو إرادته و يتحرر من جميع صفاته البشرية، و تصبح الحرية هي محض العبودية لأنه لم يبق له شيء يملكه حتى قلبه و روحه و بات مملوكاً لمعبوده بالكلية.
"سارة": و هذا هو موقفك من الحرية الذي ستعلنينه في محاضرة الدكتور "لبيب" القادمة؟
"حورية": لا. فرغم عشقي للحرية لم أتمكن حتى الآن من صياغة موقفي منها في عبارة موجزة محكمة.
"سارة": لا بأس. لا يزال في الوقت بقية قبل موعد المحاضرة.
"حورية": و ماذا عنكِ؟
"سارة": أنا أيضاً لم أصل إلى الصياغة النهائية، ثم أضافت باسمة: لكني مندهشة من اعتبارك لنفسكِ عاشقة للحرية، فما أراكِ إلا عدوة لها.
"حورية" مازحة: ما محبة إلا بعد عداوة، لكن إن كنتِ تُعدينني كارهة للحرية فما تُعدين دكتورنا المبجل الذي يراها خدعة كبرى.
"سارة": كلام الدكتور "لبيب" ينفي جوهر القضية فلا مجال فيه للكره و المحبة، فإذا كانت الحرية في جوهرها لا وجود لها، فكيف ستحبينها أو تكرهينها؟
"حورية": صدقتِ. هذه شخصيته و تلك عادته، أن يطرح الموضوعات و المسائل مجردة من الأحاسيس و المشاعر.
نهضت "سارة" مؤذنة بالانصراف، و قالت: أترككِ لتعودي إلى جدكِ، ثم غمزت بعينها و أضافت: لعله لا يزال ينتظرك ليصحبكِ إلى قرية الحرية.
"حورية": نعم، و عندما نصل سأرسل لك بالعنوان لتلحقي بنا.
"سارة": أحسب أن انتظاري سيطول.
* * *
بعد انصراف صديقتها عادت "حورية" إلى خلوتها، و غاصت في أعماق الأوراق لتُجلي منها حكمة اليُراق، و عندما وصلت إلى جدها وجدته يقول لها:

(..ها أنا أعاود الكتابة بعد طول انقطاع، فلكي تكتب لا بد أن تنقطع و تتقطع، نعم – بعد رحلة بحث طويلة لكنها جميلة و مرهقة بيد أنها مشوقة - وصلت إلى القرية التي أردتها و وجدتها بالخصال التي حددتها، قرية الحرية - هكذا سميتها - حيث تتغلب فيها الفطرة الإنسانية على التقنية العصرية، و تعلمت من الحياة فيها أن الإنسان الأول كان أكثر تحرراً لأنه كان أشد تبسطاً، و على مر الأزمان صار الإنسان بل صارت الحياة كلها أشد تعقيداً، و هكذا أضحى الإنسان رقيقاً، الأجيال الأولى من البشرية كانت بلا جنسية، فجنسيتها كانت الإنسانية، و لم يكن لها وطن، فوطنها كان الكرة الأرضية، و بالتالي لم يكن هناك حدود بين البلاد و لا جوزات للسفر و لا تأشيرات، و لم يكن هناك صاحب عمل و عمال، بل كان الجميع من رجال الأعمال، من أراد أن يحتطب احتطب، و من ابتغى الصيد اصطاد، فلا تصريحاً للصيد مطلوب و لا سجلاً تجارياً للحطب مشروط، و كان الجميع سواسية، لا يوجد أحرار و مماليك و لا أسياد و عبيد، و لكن رغم أرض الله الواسعة و نعمه السابغة لم يعجز بنو آدم عن إيجاد الذرائع للحروب فيما بينهم، و أصبحت الحروب ذرائعاً لسفك الدماء ثم ذرائعاً للاسترقاق، و ذلك بعدما عرف البشر الزراعة فبدلاً من قتل المنتصرين لإخوانهم المنهزمين عمدوا إلى استعبادهم تحت ضغط الحاجة لليد العاملة لزراعة الأرض و بناء الحضارة، و العجيب أن العديد من الباحثين و المؤرخين يعدون هذا - التحول من سفك دم العدو أو أكل لحمه إلى استعباده - ترقياً في السلم الأخلاقي على اعتبار أنه أدى في النهاية إلى حقن الدماء نسبياً، رغم أن الدافع إليه لم يكن الرحمة بل الطمع، و هكذا نجح الإنسان - هذا الكائن الفريد الذي اجمعت الملائكة و الشياطين على سوء الظن به - في بناء أقدم الحضارات المعروفة في تاريخه على الاستعباد، فلم تخل واحدة منها سواءً كانت الفرعونية أو الأشورية أو الإغريقية أو الرومانية من نظام الرق، بل كان المعلم الأول الخواجة أرسطو يرى في هذا النظام الحكمة البالغة.

المهم أنني وجدت القرية، أعني وصلت إلى بغيتي و حصلت على حريتي، فلا أحد يقول لي لشيء فعلتُه لمَ فعلتَه و لا لشيء لم أفعله هلا فعلته، ثم ماذا بعد؟ في البداية كنت متحمساً لمعرفة أنماط الحياة فيها، مشغولاً بمراقبة عادات و تقاليد أهلها و تعلم لغتهم، و لكن بعد فترة عاد الملل و آبت الرتابة، وجدت الحرية لكني لم أجد السعادة، و ما فررت منه بالأمس أكاد أفر إليه اليوم، و من هجرته البارحة افتقده الليلة، الحرية لم تمنع الوحشة، و لم تسكن العبرة، و لم تُزل الجفوة، يحزنني أنني حزت الحرية لكنني لا أدري كيف أمارسها؟ كيف أسامرها؟ كيف أراقصها؟

يبدو أن رحلة البحث عن الحرية أجمل من الحرية ذاتها، و أن السير إليها أمتع من الحصول عليها، و الجهاد من أجلها أبدع من الوقوف عندها، و الرجاء فيها أنفع من نيلها، و العشق لها أحلى من الزواج بها.

لكن إن صح ما سبق فهذا يعني أن البحث عن الحقيقة أجمل من الحقيقة ذاتها، و أن السعي إلى النجاح ألذ من النجاح، و أن السباق إلى الجنة أكثر روعة منها، و يقيني أن ذلك ليس بصواب، و هكذا يتضح إما أنني لم أصل لها و إما أنها لا وجود لها. و هنا يولد السؤال في الوجدان و ينمو في الجنان عن ماهية سيدة الحسن و الجمال تلك المدعوة بالحرية؟ ما هي الحرية؟..)

توقفت "حورية" عن القراءة، فقد شغلها السؤال عن الاسترسال، فطوت الورقات و أخذت تفكر في الجواب، ثم بدأت تجول ببصرها في وجوه من حولها من العلماء و الحكماء و الشعراء و الأدباء الذين ينتشرون في أرجاء الحديقة، لكن لم يسعفها واحد منهم بالدواء، فنهضت من جلستها و عادت أدراجها في انتظار ما يتحفها به تعاقب الليل و النهار.

* * *
كان "عاصم" يمارس رياضة الركض بينما صديقه "عاطف" جالسٌ بالجوار يحتسي كوباً من الكاكاو و يتصفح بعض المواقع الإخبارية على جهاز الحاسوب، و يتابعه بنظراته بين الحين و الحين، و عندما انتهى "عاصم" من التمرين توجه بقوامه الرياضي الممشوق إلى الطاولة التي يجلس إليها صاحبه و ألقى عليه التحية ثم جلس على المقعد المقابل لينال قسطاً من الراحة.
"عاطف": ها أنا قد طلبت لك عصير البرتقال الطبيعي بدون سكر كما أردت.
تناول "عاصم" الكوب و شرب بعضه ثم قال مازحاً: بدون سكر لأنك حتماً قد أفرغته كله في كوبك أليس كذلك؟
أغلق "عاطف" جهاز الحاسوب و هو يقول: بلى. أليس ذلك بأفضل من الحرمان الذي تفرضه على نفسك؟
"عاصم": ما تعتبره حرماناً هو ما يجعلني أسعد بصحة جيدة و جسم رشيق.
"عاطف": معنى هذا يا صديقي أنك تتنازل عن قدر من الحرية لتحقق قدراً من السعادة، أما أنا فسعادتي في حريتي، أتناول ما لذ و طاب، و لا أحمل هم الغذاء الصحي و القوام الرياضي، ثم أضاف ضاحكاً: فالحياة بدون سكر لا طعم لها.
"عاصم": ستصاب بالسمنة يوماً، و عندئذ ستغير رأيك حتماً. حتى لو أمكنك الجمع بين السعادة و الحرية فلن يمكنك أن تضيف إليهما الصحة أيضاً.
"عاطف": أنا إلى الآن بصحة جيدة و وزن مناسب، فلما الدخول في معركة لست مضطراً لها؟ لا شك أن مشاهدة المعارك أكثر متعة من التردي فيها، أنا متأكد أنك أثناء التمرين كان همك ضبط عملية تنفسك و توفير الأكسجين اللازم لخلايا جسدك و ليس التمتع برشاقة الحركات و تناسق الخطوات، تماماً كما أشاهد فيلماً من أفلام الحركة، أجد أنا المتعة مع كل قفزة بينما يجد الممثل فيها المشقة، فكم مرة اضطر لإعادة المشهد و كم كانت نسبة التعرض للخطر فيه، كل هذا و القفزة على الشاشة فما بالك لو كانت على أرض الواقع، ابشر حينئذٍ بالتواء كاحله أو بكسر رقبته، الخلاصة أن المشاهد ينال الجمال و الممارس ينال الألم.
"عاصم": المشاهد ينال جمالاً موهوماً بينما الممارس ينال مجداً حقيقياً، و المشاهد للمعارك لا ينتصر أبداً بينما المحارب قد ينتصر و قد يهزم.
"عاطف": و قد يُؤسر المحارب فيفقد حريته بالكلية.
"عاصم": الخوف من الأسر لا يحقق الحرية، بل يكبلها بقيود مضاعفة، و إن أردت الحق فالواحد منا لا يتمتع بالحرية الكاملة أبداً إلا في بداية حياته حين يولد و يعيش الأيام الأولى من عمره و له حقوق عند كل أحد و ليس عليه واجبات تجاه أي أحد.
"عاطف": و ما قيمة الحرية في هذه المرحلة العمرية إن كنا لا نشعر بها؟
"عاصم": لست أدري لكني لم استطع أن أجد أفضل منها معبراً عن أقصى درجات الحرية، فبمجرد أن يبدأ الإنسان في الإدراك و التعاطي مع من حوله تظهر القيود من حيث يحتسب و من حيث لا يحتسب، أبسط مثال أنك إذا كنت في غرفة وحدك ثم لحق بك أخر، ففي هذه اللحظة ستفقد نصف حريتك في إشعال مصباح الإضاءة أو إطفائه، و في فتح الشباك أو إغلاقه، فما بالك و أنت تعيش على كوكب يشاركك فيه ما يقارب العشرة مليارات من البشر.
"عاطف": إن كنت لا تدري فأنا أدري، أتفق معك إن لحظة المولد فريدة في بيان الحرية و التعبير عنها، و لذلك كانت هي اللحظة التي استندت إليها المقولة التراثية الشهيرة: (متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) في إدانة استعباد البشر بعضهم البعض بكل صوره و أنواعه، و هذه اللحظة و إن كنا لا نعيها و لا نذكرها، فإنها قد غرست فينا شيئاُ لا نصل إلى الكمال بدونه، و من ثم يصبح سعينا في الحياة هدفه هو الرجوع إلى تلك اللحظة، لحظة البراءة التامة و التحرر الكامل، تلك اللحظة التي عشناها سابقاً بلا وعي و لا ذاكرة و لا إرادة سنعود إليها لاحقاً - إذا نجحنا في إتمام دورة حياتنا على الوجه الأكمل و استطعنا وصل البداية بالنهاية – لنعيشها كرة أخرى لكن مع الوعي و الذاكرة و الإرادة، و يمكنك اعتبار هذا الكلام جواباً على سؤالي السابق.
"عاصم": أراك لا تنفك عن الدوران في فلك الفردوس المفقود الذي أشرتَ إليه أيضاً في مناقشتنا أثناء محاضرة الدكتور "لبيب" الأخيرة، هل لاحظت كيف لمعت عيناه وقتها؟
"عاطف": نعم. و لا أدري أكان هذا استحساناً منه أم استنكاراً؟
"عاصم": تعلم أنه شخص يصعب أن تعلم ما يدور بخلده، على كل حال خلاصة قولك أن الإنسان يولد محرراً ثم تتوالى عليه القيود فتتحول حياته إلى سلسلة من المقاومة ليعود محرراً كما كان، فإذا تحرر عاد إلى البراءة الأصيلة التي هي شرط للعودة إلى الفردوس المفقود.
"عاطف": أجل. البراءة من الرذائل و المعايب تُحررنا فإذا تَحررنا انطلقنا إلى الفردوس فتفتح لنا الأبواب، و بقدر ما يقترب الإنسان من البراءة بقدر ما يمكنه النفاذ من الحجب و لذلك يتوارث أجدادنا مقولة: (خذوا فالكم من عيالكم) للإشارة إلى حداثة عهد الأطفال بالملأ الأعلى و قدرتهم على اختراق الحجب ببراءتهم التي يفتقدها الكبار و يسعون لاستعادتها قبل انتهاء الحياة و فوات الأوان، و السعيد من ينجح في ذلك، و بهذا النجاح ينتقل الإنسان من مصارعة الآفات و الأهوال و الظلام إلى معانقة الجمال و الجلال و الأنوار، و من مجادلة الملأ الأسفل إلى مناجاة الملأ الأعلى، و يستعيد دور أبيه آدم عندما كان للملائكة معلماً.
"عاصم": حالم أنت كعادتك، عاطفي كاسمك.
"عاطف": يبدو أنك أكثر ميلاً لرأي الدكتور "لبيب" و تظن أن الحرية لا وجود لها و ليست محجوبة و علينا إزالة الحجب عنها.
"عاصم": لا. أنا ما زلت مقتنعاً بالحرية النسبية المتاحة للبشرية، و لا أميل إلى نظرية الخدعة الكبرى التي يدعيها الدكتور و لا إلى نظرية الرومانسية المثلى التي تنادي بها.
"عاطف": ترى ماذا يعد لنا الدكتور في المرة القادمة؟
"عاصم": لا تعجل. ما تنتظره اليوم سيأتي غداً.
* * *
دخل الطلاب قاعة المحاضرات و لاحظوا أن المقاعد قد رتبت على شكل حرف "U" اللاتيني فعلموا أنهم بصدد حلقة نقاشية، فبدأوا في اختيار المقاعد للجلوس، و بعد لحظات وصل الدكتور "لبيب" يرافقه مساعده "هانئ" و اتخذ كل منهما مقعده على المكتب البيضاوي الموجود في مقدمة القاعة، و بعد التحية دخل "د. لبيب" في الموضوع مباشرة و قال:
اليوم سنطبق ما اتفقنا عليه في المحاضرة السابقة، و المطلوب أن يسجل كل واحد منا- أنا و أنتم- موقفه من الحرية في عبارة محكمة على الشاشة المثبتة في مقعده، و ستظهر له أيضاً العبارات التي سيكتبها الأخرون، و سيكون عليه أن يقيم كل عبارة منها بدرجة واحدة إن كان لا يتفق معها تماماً تتصاعد حسب مدى اتفاقه معها إلى خمس درجات إن كان يتفق معها تماماً، و بعدها سيقوم "د. هانئ" الذي بدوره ستظهر على شاشته أيضا مواقفنا من الحرية و تقييماتها بإعلان المواقف التي نالت أعلى الدرجات، ثم نبدأ في تلقي الأسئلة و التعليقات و المناقشة، ثم ابتسم ابتسامته المستفزة المعتادة وقال: واضح أم مفهوم؟
الطلاب في صوت واحد: لا واضح و لا مفهوم.
كاد "هانئ" أن يقهقه لكنه تمالك نفسه، بينما لم يبد على "لبيب" أي انطباع، فقد كان يدرك أن الطلاب إنما يحاولون الرد على استفزازه لهم، فنظر إليهم من فوق النظارات الطبية التي يرتديها رافعاً حاجبيه و قال: إذن فلنبدأ.
انهمك الطلاب في الكتابة و في نفس الوقت التي كانت العبارات تظهر على شاشاتهم كانت تظهر أيضاً على الشاشة الرئيسة الموجودة فوق مكتب المحاضرين في مقدمة القاعة، و لوحظ أن العديد من العبارات كانت تظهر لبرهة ثم تختفي، و كذلك الدرجات المسجلة أمام كل عبارة كانت تزيد و تنقص باستمرار مما يدل على أن العديد من المشاركين كانوا مترددين في تحديد المواقف و التقييم.
و بعد فترة أخذت التغيرات على الشاشة تتناقص بالتدريج حتى استقرت على الوضع النهائي لها، و عندها طلب "د. لبيب" من الطلاب غلق الشاشات الخاصة بهم و التركيز فقط على الشاشة الرئيسة، ثم بدأ "د. هانئ" في إعلان النتائج و تسجيلها على تلك الشاشة و هو يقول:
المواقف التي حازت أعلى الدرجات خمسة، و الغريب أنها جميعها متساوية، و سأقوم الآن بتسجيلها على الشاشة مع ملاحظة أن الترتيب لن يكون له دلالة إحصائية بالطبع.
ثم بدأت تظهر على الشاشة الرئيسة العبارات الآتية على التوالي:
العبارة الأولى: الحرية أن نكون آلهة لأن العبيد لا يكونون أحراراً.
العبارة الثانية: الحرية حق يقابله واجب.
العبارة الثالثة: الحرية الحقيقية أسمى معاني الحياة الإنسانية.
العبارة الرابعة: الحرية أجمل حلم في مسيرة البشرية.
العبارة الخامسة: الحرية أكبر خدعة في تاريخ البشرية.
انتظر الدكتور "لبيب" لحظات حتى يتأكد أن الطلاب قد وعوا الخمس عبارات ثم قال: يمكننا الآن أن نبدأ النقاش، و كما تعودنا يمكن لمن يريد أن يكون أول المشاركين أن يضغط زر المشاركة على شاشته و يلقي بدلوه، ثم تتوالى المشاركات بترتيب طلبات المداخلة آلياً.
افتتحت "سارة" النقاش بقولها: الحلم و الخداع كلاهما بعيد عن الحقيقة، و لذلك لا أجد فارقا جوهريا بين العبارة الرابعة و الخامسة بل أحسب أنهما مترادفتان.
"عاطف": لو كانت العبارتان مترادفتان لكان لكل من الحلم و الخداع نفس المعنى و هذا غير صحيح قطعاً، فالحلم قابل للتحقق و عندها يتحول إلى حقيقة أما الخداع فلا يخرج عن دائرة الكذب في جميع الأحوال. الفارق الثاني و الذي أعده جوهرياً، أن التاريخ معني بالماضي في المقام الأول، أما المسير فيصل الماضي بالحاضر بالمستقبل.
"عاصم": هذا يعني أن العبارة الخامسة تعبر عن موقف يائس من الحرية بينما الرابعة تعبر عن موقف متشوق إليها، أو يمكننا القول أن هذه تتبنى موقفاً سلبياً من الحرية و تلك تتبنى موقفاً إيجابياً منها.
"د. لبيب": لا يعنيني في مسألة الحرية اليأسٍ أو الأمل، إنما يعنيني مدى تحققها على أرض الواقع، و هنا تتفق العبارتان في نفيها عن الواقع، إلا أن إحداهما تضع احتمال التغيير مستقبلاً بينما الأخرى لم تتعرض لهذه النقطة لأنها لا تدخل في نطاق البحث العلمي.
"حورية": لا أحسب أن موضوع الحرية يندرج تحت العلم التجريبي حتى يقال إن المستقبل أو الغيب لا يدخل في نطاقه، و إنما هي من وجهة نظري تنطوي تحت البحث الفلسفي، و الفلسفة أوسع من العلم.
"عاطف": أريد الانتقال إلى العبارة الأولى لو أذنتم، ما معنى أن نكون آلهة؟
"عاصم": هذا ديدن الحداثة، عادة ما تصبو إلى تأليه الإنسان و أنسنة الإله.
"سارة": لم ألحظ هذا المعنى في العبارة، وواضح أمامي أنها عبارة رمزية، و المقصد أن التحرر الكامل المطلق غير متصور إلا لمن لا يُسأل عما يفعل، و هذا لا يعني خروج البشر عن مقتضى بشريتهم، و إنما يستلزم امتلاكهم لمقاليد القوة، من يستطيع مساءلة الدول العظمى عما تفعله في عصرنا؟
"عاطف": معنى هذا أن القوة هي السبيل إلى الحرية، و القوة جوهرها الإكراه، إذاً الحرية تقتضي الإكراه! ألا يعد ذلك تناقضاً؟
"سارة": لا تناقض. فحرية "ألف" تقتضي الانتقاص من حرية "باء"، و لا يمكن لدولة ما أن تحرز القوة إلا إذا أضعفت غيرها من الدول، ببساطة عندما تفرغ من دلوك في دلو أخيك، يزيد دلوه بقدر ما ينتقص من دلوك.
"عاطف": نعم هذا إذا نظرتِ إلى الدلو أما إذا أبصرتِ قلب من يُفرغ لوجدتِه يمتلأ بقدر ما يعطي.
"عاصم": حريتك لا تقتضي الانتقاص من حرية الآخرين، حريتك تنتهي حين تبدأ حرية الآخرين.
"سارة" بشيء من التحدي: إن كنت تؤمن بتلك المقولة فتيقن أن حريتك ستنتهي قبل أن تبدأ.
"د. لبيب": تجنبوا الانتقال من الموضوعية إلى الذاتية، وجهوا حديثكم إلى الأفكار لا إلى الأشخاص.
"حورية": أجل هذا ما سأفعله الآن. و بالعودة إلى العبارة محل النقاش - الحرية أن نكون آلهة – أجد أن التصور الذي تطرحه للألوهية غير مكتمل، فتعالي الألوهية على المساءلة لا يعني الحرية المطلقة لها.
لاحظت "حورية" تسلل أكثر من سبابة في محاولة للوصول إلى زر طلب المداخلة على شاشات الزملاء، فسابقتهم فسبقتهم فتمكنت من منعهم من مقاطعتها قبل توضيح فكرتها كاملة، وأضافت:
صحيح أنه لا يوجد في الكون مَن أو ما يمكن أن يحد من حرية القوة و القدرة و المشيئة الإلهية، و لكن تبقى الألوهية ذاتها، تفرض على ذاتها ما تشاء، فتحرم الظلم على نفسها كمثال، و هذا يعني أن الضوابط لا تتنافى مع الحرية المطلقة، بل إن كانت تلك الضوابط نابعة من الذات فهي دلالة ترقي في طلاقة و كمال الحرية، و ينبغي على البشر احتذاء هذا النموذج إذا أرادوا أن يكونوا أحراراً، و بقدر اقترابهم من الألوهية بقدر ما يحققون الحرية.
"عاصم": هذا يصل بنا إلى تمحيص العبارة الثالثة - الحرية الحقيقية أسمى معاني الحياة الإنسانية – لماذا تم وصف الحرية هنا بالحقيقية؟ و ليس بالكاملة أو المطلقة على سبيل المثال؟
"عاطف": ربما لأن الحرية الحقيقية ليست بالكاملة و لا المطلقة.
"سارة": بل إن لم تكن الحرية كاملة و مطلقة فهي ليست حقيقية.
"عاصم": كيف تكون الحرية كاملة و مطلقة لكائن ليس بكامل و لا مطلق، يجب ألا ننسى أننا بشر.
"حورية": صحيح أن الإنسان ليس بكامل و لكنه قابل للكمال، و ليس بمطلق و لكنه قادر على الاتصال بالمطلق.
"عاطف": يعني يمكننا القول أن الإنسان بقدر ما يقترب من الكمال و بقدر ما يتصل بالمطلق يجعل لحياته معنى سامياً، و بدون هذا السمو لا ينال حريته حقاً.
"حورية": المهم أن نصل للحقيقة في كل شيء، حقيقة الإنسان، حقيقة الحياة، حقيقة الحرية.
نظر "د. لبيب" إلى الساعة المعلقة في قاعة المحاضرات ثم قال: أوشك الوقت المخصص للمناقشة على الانتهاء. ثم ابتلع ريقه و أضاف: أرى أنكم قد تناولتم أربعة مواقف من خمسة، ألا يريد أحدكم التعليق على العبارة الثانية: (الحرية حق يقابله واجب)؟
"عاصم": لا اعتقد أنها بحاجة لتعليق، واضح أنها تتبنى الموقف التقليدي من الحرية باعتبار أنها نسبية و أنها مسؤولية.
"د. لبيب": هل توافقون على ما قاله "عاصم"؟
الطلاب: نعم.
"د. لبيب": إذن دعونا ننتقل للخطوة التالية. أرجو من كل واحد منكم أن يسجل أمام كل عبارة من العبارات الخمس كلمة واحدة تلخص الموقف الذي تتبناه تلك العبارة من الحرية، ثم يقوم "د. هانئ" مشكوراً بعرض ما توصلتم إليه.
انهى الطلاب المهمة المطلوبة خلال دقائق، ثم أخذ "د. هانئ" في تسجيل الخلاصة على الشاشة الرئيسة و هو يقول: لدينا الآن خمسة مواقف محددة من الحرية و معبر عنها بكلمة واحدة ستظهر أمامكم حالاً:
الحرية: نسبية
الحرية: إلحاد
الحرية: وهم
الحرية: حلم
الحرية: حقيقة
طلبت "سارة" المداخلة على عجل و قالت: اعترض وصف الحرية بالإلحاد، هذا تلخيص مخل للموقف الذي تتبناه إحدى العبارات، و نوع من الإرهاب الفكري.
"د. لبيب": لا يوجد مجال للإرهاب الفكري في قاعات العلم و الدراسة، نحن نناقش الأفكار و لا نحاكم من يطرحها.
"د. هانئ": ليس هناك إرهاب في الموضوع، إنما هو توصيف مجرد لما تنطوي عليه تلك العبارات من دلالات من خلال استيعابكم لها، دعيني أشرح لك. ما حدث هو أنني قمت بتجميع الكلمات التي كتبتموها أمام كل عبارة ثم عينت الكلمة التي حازت النسبة الأكبر من أصواتكم، و في حالة العبارة محل النقاش الآن – الحرية أن نكون آلهة – وجدت أن الكلمة التي جاءت في المرتبة الأولى هي (الإلحاد) تليها مباشرة (الفوضى) بفارق صوت واحد.
"د. لبيب": إن أردت أن تلقي مزيداً من الضوء على مفهوم العبارة من وجهة نظرك ثم نعيد التصويت فلا بأس.
"سارة": أظن أن الموقف الذي تعبر عنه العبارة هو أن الحرية انطلاق بلا حدود.
"عاصم": لا أظن أن هذا التعريف قد أضاف جديداً، فإن كان المقصود انطلاقاً بلا حدود من السماء فهو إلحاد، و إن كان انطلاق بلا حدود من الأرض فهي فوضى.
"عاطف": ألا يسعنا أن نقول إن الحرية انطلاق و كفى؟
"عاصم": بلى و لكن في هذه الحالة لن تكون العبارة محكمة ولا محددة.
"حورية": أحسب أن الموقف من الحرية على أنها إلحاد موقف حقيقي وواقعي، موجود عند نسبة لا بأس بها من البشر من كلا الفريقين: المحذرين من الحرية بعضهم يخشى أن تؤدي إلى الإلحاد، و الداعين إليها بعضهم يظن أنها لن تتحقق إلا بالإلحاد، و هذا يستحق البحث و الدراسة.
"عاصم": و بالتالي ليس هناك تلخيص مخل و لا إرهاب فكري، دعونا نمضي مع هذا الطرح و لننظر إلى أين سيمضي بنا.
"سارة": حسناً. اقتنعت و لا داعٍ لإعادة التصويت.
"د. لبيب" بأسلوب مسرحي نوعاً ما: جميل. و الآن أوشكت شمس المحاضرة على المغيب، و لم يعد لدنيا سوى دقائق معدودات، هذه الدقائق سأطرح عليكم فيها فكرة تجربة عملية اختيارية لن يترتب عليها تحصيل درجات إضافية في المادة الدراسية، لكن الهدف منها خلق مناخ يساعدكم على مناقشة قضية الحرية من منظور مختلف و من خلال موقف جديد.
بدأ التوتر يظهر على وجه "د. هانئ"، و بدأ أيضا حماس الطلاب يزداد و أخذت نسبة المشاركين منهم في الحوار تعلو، فبادر أحد الطلاب يدعى "ماجد" بالسؤال قائلاً: و ما طبيعة تلك التجربة؟
"د. لبيب": هي عبارة عن رحلة عبر "غابة الجبل"، تعلمون أن كثافة الأشجار هناك و الطبيعة الجبلية للتضاريس و رغبة الجهات المعنية في الحفاظ على تلك البقعة الفريدة كمحمية طبيعية بعيدة عن التلوث، كل ذلك سيجعل من أقدامكم وسيلة مواصلاتكم داخلها.
"ماهر": هذا جيد، و اضح أننا سنجمع بين الرياضة الذهنية و البدنية.
"د. هانئ": لكن هذه المنطقة بعيدة عن تغطية شبكات الهواتف المحمولة و هذا قد يؤثر على نسبة الأمان في تلك الرحلة.
"حنان": و لكنه أيضا سيزيد من نسبة الإثارة و التشويق فيها.
"د. لبيب" بشيء من الضجر المخفي و الحدة المستترة: ليس هناك خطر يا دكتور، فهذه ليست غابة للحيوانات المفترسة و إنما كما نعلم جميعاً أنها عبارة عن غابة من النباتات يتوسطها جبل و تسكنها بعض الحيوانات الأليفة، و كل من يصطحب معه وسائل الاتصال الحديثة في رحلاته فكأنه لم يرحل أصلاً.
"حورية" و قد تذكرت رحلة جدها: هذا صحيح.
"جميلة": و كم من الوقت يستغرق عبور "غابة الجبل"؟
"د. لبيب": إذا تمكنا من قطع عشرين كيلو متر يوميا يمكننا عبورها في ثلاثة أيام.
"عادل": متى موعد الرحلة؟
"د. لبيب": في الأسبوع الثاني من إجازة منتصف العام الدراسي.
"عاصم": و ما العلاقة بين تلك الرحلة الخلوية و بين مسألة الحرية؟
"د. لبيب": لو أخبرتك لفسدت التجربة، الفكرة أن تواجه في تلك الرحلة موقفاً يدفعك إلى التفكير و يضع أمامك عدة اختيارات.
"عاطف": أجدها تجربة شائقة، سأشترك في تلك الرحلة.
"سارة": و أنا كذلك.
"ليلى": و أنا أيضا.
تتابع الطلاب و الطالبات على تسجيل رغبتهم في الاشتراك حتى وصل عددهم إلى عشرة من الطلبة، و مع زيادة عدد المشاركين يزداد القلق على وجه "د. هانئ" و الارتياح على وجه "د. لبيب" الذي قال في النهاية : نسبة المشاركة تقترب من الخمسين بالمائة و هي نسبة جيدة، يمكننا أن نبدأ في الخطوات التنفيذية، يمكنكم الشروع في تجهيز الخيام و الأدوات و كل ما يمكن أن تحتاجونه في الرحلة، و سأرسل لكم من النصائح و المقترحات ما يساعدكم في الإعداد.
"د. هانئ" بشيء من التحدي: و هل يمكنني أيضا المشاركة في الرحلة يا دكتور؟
نظر "د. لبيب" إليه نظرة فاحصة ثم قال في اقتضاب: بالطبع.
* * *
استلقت "حورية" على فراشها و أخرجت مذكرات جدها، و قالت تخاطبه: يبدو أنني سأرحل إلى "غابة الجبل" كما رحلت أنت إلى "قرية الحرية"، لكن دعنا أولاً نرى إلى أين وصلت؟ و هل عرفت جواب سؤالك عن ماهية الحرية؟ ثم شرعت في إكمال القراءة من حيث انتهت المرة السابقة، و أصغت إلى صوت جدها و هو يقول:

(.. و هنا يولد السؤال في الوجدان و ينمو في الجنان عن ماهية سيدة الحسن و الجمال تلك المدعوة بالحرية؟ ما هي الحرية؟

بعد قدر من التفكير ليس بالقليل، و بعد هذا السير الطويل، اعترف أنني لم أجد جواباً يشفي العليل، و لكني و إن لم استطع معرفة ماهية الحرية، أزعم معرفة ما ليس بالحرية، فالحرية ليست في التخلص من الواجبات، و ليست في البعد عن المسئوليات، و ليست في ترك الوطن و الفرار في البلاد، ببساطة لأنني فعلت كل ذلك و ما زلت أشعر بالقيود داخلي، يعني و إن كنت قد حققت ما تمنيت ووطأت قدماي قرية الحرية، فقد وجدتها ظاهراً و لم أجدها باطناً، وجدتها حولي و لم أجدها في قلبي.

عند هذه النقطة من التفكير رأيتها، كنت جالساً على صخرة على شاطئ البحيرة التي تطل عليها القرية، و كانت هي تمشي الهوينى، مرت أمامي و لم تلتفت إلي، امرأة ربما في العقد الخامس من عمرها لكن نضرة الشباب لم تغب عن وجهها، لست أدري ما الذي جذبني إليها، ربما الملامح الصارمة على وجهها، ربما طريقة مشيها، ربما شيء ما في روحها، تابعتها ببصري حتى انتهت إلى قارب خشبي صغير قديم مربوط بحبل إلى سارية على المرسى، فقفزت داخله و فكت الحبل و بدأت في التجديف حتى وصلت إلى عمق مناسب في البحيرة ثم التقطت الشبكة من قاع القارب و ألقتها في البحيرة و ظلت تراقب المشهد في صبر و سكون، و بعد فترة أخذت في جمع الشبكة بمهارة و التقاط ما علق بها من الأسماك، و قفلت عائدة إلى الشاطئ.

رغم أنني أمضيت قرابة العام في تلك القرية إلا أنني لم أر هذه المرأة إلا اليوم، و أغلب الظن لأنني لم أكن أجلس على الشاطئ في هذا الوقت من قبل، نظرت إلى ساعتي و عزمت على المجيء في اليوم التالي في نفس الموعد، و فعلت و لكنها لم تفعل، و تكرر الأمر في اليوم الذي بعده، و في اليوم الثالث جاءت و كررت ما فعلته في المرة الأولى، و ظلت على هذا النحو تغرب يومين و تشرق في الثالث، تبدو كأنها لا تراني و أبدو كأني لا أرى سواها، حتى جاء اليوم الموعود، و جاءت هي فيه و بدأت في تنفيذ برنامجها الذي صرت أحفظه عن ظهر قلب، لكن هذه المرة ما أن استقرت في القارب و حلت الحبل الذي يربطه و بدأت في الابتعاد أمتار قليلة حتى وجدتها تستخدم الدلو في إفراغ الماء الذي تسرب إلى القارب و في نفس الوقت تحاول التجديف للعودة إلى المرسى الخشبي على الشاطئ، أدركت أنها في أزمة و انطلقت على الفور التقطت الحبل و ألقيت به إليها بأقصى ما استطعت من قوة، نجحت المحاولة و تمكنتْ من ربط الحبل في المكان المخصص له بالقارب، و أخذ كل منا يجذب طرف الحبل، و كلما جذبنا اقتربنا حتى وصل القارب إلى الشاطئ و لم يعد يفصل بيننا سوى خطوة واحدة خطتها المرأة و صعدت من القارب و وجدتني و إياها وجهاً لوجه، فنظرت إلي دون أن تتخلى عن صرامتها و قالت بلغة أهل القرية التي بدأت اتقنها: شكراً لك.

قلت و أنا أنزل إلى القارب الذي صعدتْ هي منه: لا شكر على واجب.

فحصتُ القارب و أدركت سبب تسرب المياه إليه، ثم قلت لها: يمكنني إصلاحه إن شئت.

قالت في توجس: هذا كرم منك أيها الشيخ الغريب.

يبدو أنها أرادت أن تذكرني بكبر سني حتى لا يلعب الشيطان برأسي، و الحقيقة أنها لم تكن بحاجة لذلك فأنا من ناحية لم أنس سني و من ناحية أخرى لم يخطر في ذهني و أنا أساعدها أنني أساعد امرأة في ورطة و إنما مجرد إنسان يحتاج من يمد له يد العون، صحيح أنني انجذبت إليها منذ أسابيع و كنت انتظرها و أراقبها لكن ليس لأنوثتها و إنما لغرابتها و غرابة شأنها، و أحببت أن أزيل توجسها فقلت: اسمي "نادر" تركت وطني بعد وفاة زوجتي منذ عامين و استوطنت قريتكم منذ عام.

قالت: كم من الوقت يستغرق إصلاح القارب؟

قلت: سأبدأ فيه اليوم و يمكنك استخدامه غدا.

قالت: لا بأس هذا جيد.

قلت: هل لديكم ما يكفيكم من السمك حتى الغد.

قالت: لديكم؟ أنا أعيش وحدي، ليس معي أحد.

قلت: أليس لديكِ عائلة؟
قالت: زوجي توفي منذ عقدين، و ابني الوحيد غادر القرية منذ عامين.

قلت باستنكار: غادر! إلى أين؟

قالت: المأفون ذهب يبحث عن الحرية.

شعرت أن دلواً من الماء البارد يصب فوق رأسي الساخن، و قلت: لا ينبغي له أن يبحث عن الحرية و يترك والدته و هي في حاجة إليه.

قالت: أنا لست في حاجة إليه، أنا اصطاد و ما أصطاده أطعم منه و أبيع لأشتري ما يكفيني لمدة يومين ثم أعود إلى الصيد في اليوم الثالث و هكذا.

قلت: ربما لو قمتِ بالصيد كل يوم أو يومين لزاد دخلكِ و ادخرتِ.

قالت: و لما الادخار و الرب موجود و البحيرة و ما فيها ملكه.

قلت: ليوم كهذا.

قالت: يوم بلا طعام لا يتعب بدناً و لا يقرب أجلاً.

أدركت أنها تتحدث بمنطق مختلف عن منطقي و أن لها رؤية مغايرة للحياة و بالتالي للحرية، فسألتها: طالما أن أمورك على ما يرام و لا تحتاجين لابنك فلما تعتبين عليه بحثه عن الحرية؟

قالت: لأنه الأحرى به أن يفر من الحرية لا أن يبحث عنها.

صحت: و لما؟

قالت: الحرية تعني الشقاء، تعني الذبول، تعني الحرمان، تعني البعد.

و قلت و أنا اشعر بمطارقها تحطم أحلامي: كيف؟

قالت: انظر إلى الجنين، انظر إلى الزهرة، انظر إلى الناي.

قلت: ما لها؟

قالت: الجنين كان يعيش في جنة الرحم، لا يحمل هم الجوع و العري، و لا الظمأ و الحر، ينصت إلى أعذب الألحان، لحن قلب الأم، ثم تحرر فانتقل من النعيم إلى الشقاء، و بدأت المعاناة فأخذ في الصراخ. و الزهرة كانت تحيا في جنة الأرض، بديعة الألوان تفوح بالعطر، فجاء من يحررها فقطفها فقتلها، ففقدت نضارتها، و بهتت ألوانها، و ذبلت أوراقها، و ذهب عبيرها، و في النهاية داستها الأقدام. و الناي كان في جنته كذلك حتى نزع منها منذ زمان سحيق فلا يزال إلى الحين، يعاني من الحرمان و يئن من الحنين. ألا يعني كل ذلك البعد عن النعيم؟ و عن الحياة؟ و عن السعادة؟

قلت: بل لولا تحرر الأجنة ما عرفنا الحياة، و لولا تحرر الزهور ما تهادى المحبون، و لولا تحرر الناي ما تذوقنا الألحان.

قالت و هي تهم بالانصراف: إذن أنت ترى أن الشقاء و الذبول و الحرمان ثمن مناسب للحرية، فاشبع بها.

غاظني أن تتركني في حيرتي و تنصرف فهممت أن أمسك بها لأمنعها، ثم انتبهت أن هذا لا يليق، فقلت مستعطفاً: أرجوكِ لا تذهبي. ما زال لدي سؤال. إذا كان هذا ما أراه أنا، فماذا ترين أنتِ؟ ألا تريدين للأجنة أن تولد؟

قالت: بلى أريدها أن تولد و لكن لكي تعود.

قلت: إلى أين؟

نظرت إلى نظرة من يتعجب من غبائي ثم قالت: إلى الجنة.

استدارت المرأة و أخذت في الابتعاد، و لم استطع أن أمنعها هذه المرة، لم يسعفني ذهني بحيلة، أقصى ما استطعته أن أصيح قائلاً بعدما ابتعدت بضعة أمتار: سيدتي. هل يمكنني أن أعرف اسمك؟

التفتت بوجهها الذي يجمع بين الصرامة و الطيبة و قالت: رحيمة.

صحت مرة أخرى و هي تبتعد: ستجدين القارب جاهزاً غداً في نفس الموعد يا سيدة رحيمة.

بمجرد أن غابت عن نظري انطلقت إلى مسكني لأحضر أدواتي ثم شرعت في إصلاح القارب، كنت أشعر بنوعٍ من الهمة و الحماس فارقني منذ عقود، و كنت سعيداً لا أعرف لماذا تحديداً، و لكن على الأقل لم أعد أشعر بالملل و الرتابة، و وجدتني استخدم المطرقة في تثبيت الألواح كمن يعزف مقطوعة موسيقية، و وجدت أنني كلما تناثرت حبات العرق على جبيني و جذعي تناثرت معها العديد من الأفكار و المشاعر السلبية التي كانت تعشعش في رأسي أو تسكن في صدري، فأخذت تغادر كياني و تسبح مبتعدة عني في الأثير من حولي..)

طوت "حورية" الورقات و أعادتها إلى الصندوق و هي تخاطب جدها بصوت مسموع قائلة: حيرت قلبي معك يا جدي! هل تبحث عن الحرية أم عن السعادة أم عن المغامرة؟ ثم وضعت رأسها على الوسادة و استسلمت للنوم، ذلك البرزخ بين الماضي و المستقبل، حيث يمكنها أن ترى من ذا و ذاك، فهي قبل النوم كانت بالأمس و بعده ستصبح في الغد، فرأت أنها حبيسة في مكان مظلم إلا من ضوء خافت لا تدري ما مصدره، صاحت تنادي من يساعدها فلم تجد من يسمعها، تحسست طريقها نحو الباب و أخذت تطرقه بيديها فلم تجد من يجيبها، و عندما يئست أن يأتيها العون من الخارج نظرت إلى الداخل فوجدت حجراً يزيد عن حجم قبضة اليد ملقى على بعد خطوات منها، تحركت نحوه و التقطته ثم عادت إلى الباب على أمل أن تتمكن من ثقبه أو كسره، و بدأت ضرباتها تتوالى حتى أصابها الإجهاد و انحدر على جبينها العرق، ثم سمعت صوتاً يوحي بقرب انهيار الباب فازداد حماسها، و لكن فجأة أضاءت الغرفة بضوء النهار فالتفتت تتفقد المكان فوجدت أن الغرفة محاطة بالجدر من ثلاث جهات فقط أما الجهة المقابلة للباب فمفتوحة و تطل على غابة من النباتات يتوسطها جبل في منظر بديع، فانطلقت تركض بسرعتها القصوى تجاه الغابة، حتى لم يبق بينها و بين النجاة إلا بضعة أمتار سمعت صوتا مألوفا لديها يحذرها، كان صوت جدها و هو يقول: احذري يا "حورية"، احذري و تذكري ما حل بطيرك، ربما قادتك الحرية الزائفة إلى حتفك. في التو مر بخيالها مشهد الطائر و هو يصطدم بالنافذة فيلقى مصرعه، لم تتوقف عن الركض لكنها ألقت بالحجر الذي كان لا يزال بقبضتها نحو الغابة بأقصى قوتها، فإذا به يصطدم بالجدار الزجاجي المضاد للكسر و يرتد بعنف تجاه وجهها، فرفعت يدها تحتمي بها، ثم استيقظت لاهثة.

* * *
التقى الطلاب في إحدى ساحات الجامعة و جلسوا يرتبون أمورهم قبل الرحلة ببضعة أيام و هم يحتسون بعض المشروبات الساخنة، قال "ماجد": لماذا وقع اختيار الدكتور على هذا المكان في ظنكم؟

"عادل": غابة الجبل تبعد عن العاصمة مسيرة يوم بالسيارة، و هي منطقة نائية كانت فيما مضى مصدر جذب سياحي لجمال الطبيعة فيها، أما الآن فقليل من يذهبون إليها خاصة في هذا الوقت من العام، أي في الشتاء.

"ماجد": يقال أن سبب انصراف الناس عنها، وقوع عدة حوادث اختفاء بسبب المتاهات، فجبل الغابة يمتاز بالعديد من الممرات داخله التي تغري المغامرين بمحاولة الوصول إلى الجانب الآخر من الغابة عبر الجبل، فلا يصلون و لا يعودون و لكن يتيهون.

"ماهر": كل هذه مجرد إشاعات و حكايات كنا نسمعها من أمهاتنا و جداتنا، ربما حدثت واقعة ما منذ بضعة عقود، و أحسب أنه لا يمكن تكرارها الأن مع تقدم وسائل البحث و الاتصال.

"عاصم": ألم تسمع تحذير الدكتور "هانئ" بأن المنطقة خارج نطاق التغطية و أن الهواتف الحديثة لا جدوى منها هناك؟

"ماهر": إذا كانت الخطورة تكمن في المسالك داخل الجبل فنحن قطعاً لن نسلكها، فهي ليست رحلة مغامرة و استكشاف و إنما المفترض أنها رحلة تساعد على دراسة علم الاجتماع.

"عاطف": أجل و معنا خرائط واضحة للطرق المؤدية للجانب الأخر من خلال الممرات الممهدة بين ثنايا الجبل لا داخله.

"عاصم": لكن لا يزال السؤال قائما، لماذا هذا المكان بعينه؟

"ماهر": هذا السؤال لا طائل من ورائه، لأنه سيظل مطروحاً مع كل مكان آخر.

"عادل": صحيح و لكن في كل الحالات من الأهمية بمكان أن نكون على بصيرة من أمرنا.

"ماهر": لماذا لا تسألون الدكتور و تريحون أدمغتكم؟

"ماجد": قد فعلت.

نظروا إليه نظرات تجمع بين الغيظ و الاستنكار ثم قالوا:

- يا لك من مستفز!
- يعني حصلت على الإجابة ثم جئت تمتحننا!
- و لماذا جعلتنا نضرب الأخماس في الأسداس؟
- ثم تركتنا نقع في حيص بيص؟

"ماجد": رويدكم. نعم سألته و لكن لم تقنعني إجابته و لذلك أحلت السؤال إليكم في أول الجلسة.

"عاصم": و ماذا كانت إجابته؟

"ماجد": قال إن المكان مألوف بالنسبة له لأنه تردد عليه عدة مرات منذ الصغر، و أنه مناسب للمواقف التي يعدها لنا كحافز للتفكير و دافع للدراسة، كما أن عدم وجود رواد في هذا الوقت من العام سيمنع عنا التشويش و يعطينا المزيد من الحرية.

"ماهر": أجدها إجابة مقنعة.

"عاطف": و أنا كذلك.

"عاصم": حتى لو لم تكن مقنعة، فكما يقولون الماء سيكذب الغطاس، دعونا نخوض التجربة ثم نعيد التقويم لمدى مناسبة المكان للرحلة و الهدف منها.

"عادل": لا بأس و للننتقل الآن للتجهيزات، أنا لدي خيمة تكفي لخمسة أشخاص.
"ماجد": حسناً ما دمتم كلكم مقدمون فلن أحجم، يمكننا أن نستقل سيارتي الجيب فهي مناسبة تماما لتلك الرحلة، و نتناوب القيادة خلال الطريق.

"ماهر": و أنا سأوفر لكم ما طلبه الدكتور في الرسائل التي أرسلها إلينا من المصابيح الكهربائية المخزنة للطاقة و الحبال و غيرها.

"عاطف" و هو يشير إلى بطنه مبتهجاً: و أنا علي التموين من الماء و العصائر و الغذاء.

"عاصم": أظن أنه لم يعد ينقصنا شيء سوى أن يعد كل واحد منا حقيبته الشخصية و حذاءه الرياضي، لكن إذا تذكرتم أي شيء قد تحتاجونه فأنا على استعداد أن أوفره لكم.
* * *
قال والد حورية بحزم: لا أوافق.

"حورية" باستعطاف: و لمَ؟

"الأب": المكان بعيد و لا توجد جهة إشراف رسمية على الرحلة، إنما هي اجتهاد أحد الأساتذة عندكم.

"حورية": يا أبتي نحن جميعاً في سنة التخرج و قد قاربنا سن الرشد أو جاوزناه.

"الأب": المسألة ليست بالسن، فالمسافرون بحراً و جواً مهمها كانت أعمارهم، الجهة أو الشركة التي تنقلهم مسئولة عن أمنهم و سلامتهم و تخضع لمعايير دولية و إذا قصرت تتم محاسبتها، أين تجدين هذا في رحلتكم المزعومة.

"حورية": نحن لن نركب البحر و لن نطير في الجو، هي مجرد رحلة برية مثلها مثل أي رحلة تقوم بها عائلة أو مجموعة من الأصدقاء للاصطياف أو السياحة، هل هذه أيضا تحتاج جهة إشراف رسمية؟

"الأب": لا تجادلي.

لم تستسلم "حورية" و قررت أن تلقي بورقتها الرابحة، فقالت: و إذا كان سيصحبنا في هذه الرحلة شخص أنت تعرفه و تثق فيه؟

"الأب": من هذا الشخص؟

"حورية": الدكتور هانئ سعيد.

"الأب" و قد أخذت ثلوج حزمه في الذوبان: هانئ شخصية محترمة، أعرفه منذ صغره فوالده من أعز أصدقائي، ثم أضاف بنظرة ذات مغزى: و أعلم أنه لن يدخر وسعاً في حمايتك حتى لو ضحى بنفسه من أجلك.

"حورية" و هي تقاوم وصول حمرة الحياء من قلبها إلى وجنتيها: أفهم من ذلك أنك توافق؟

"الأب" و هو يبطئ في الإجابة متعمداً ليطيل انتظارها: قد.. قد أوافق.

قبلت "حورية" رأس أبيها و انصرفت مسرعة قبل أن يعيد التفكير و هي تقول: شكراً يا أبي. شكراً جزيلاً.

"الأب" مداعباً: انتظري أنا قلت قد. قد فقط. و لكنها كانت قد اختفت.
* * *
لحقت "حورية" بصديقاتها المجتمعات في بيت "سارة"، و دخلت عليهن و هي تشير بعلامة النصر و تقول: لقد نجحت في الحصول على الموافقة، فهل حصلتن عليها أيضاً؟

"حنان": بشق الأنفس.

"جميلة": نعم بشيء من الجهد.

"سارة": أما أنا فلم أجد مشقة في ذلك.

"ليلى": و أنا استخدمت طريقة الإلحاح على الأذان أمر من السحر.

"حورية": يعني كل شيء على ما يرام.

"جميلة": كيف سنسافر؟

"حنان": يبدو أنكِ لم تقرئي رسالة الدكتور حازم الأخيرة.

"جميلة": بالفعل فقد نسيت هاتفي بالمنزل، ماذا كتب فيها؟

"سارة": ذكر أن لديه سيارة ملحق بها مقطورة مجهزة بكل ما قد نحتاجه في الرحلة ما عدا الطعام و الشراب يمكننا استخدامها، و سيتناوب القيادة مع الدكتور "هانئ"، أما الطلاب فسيستقلون سيارة "ماجد" الجيب.

"ليلى": هذا رائع. ستكون رحلة مريحة، كأننا سنسافر في غرفة من غرف المنزل.

"حنان": صحيح. الطريق طويل و من الأفضل أن نكون في مكان مغلق لنكون على راحتنا.

"جميلة": مسألة الطعام و الشراب هينة يمكنني تدبيرها.

"ليلى": ما يشغلني هو كيف سيوظف الدكتور "لبيب" هذه الرحلة في دراسة قضية الحرية؟

"سارة": ربما من خلال مراقبة و مناقشة سلوك بعض الحيوانات في المواقف المختلفة، فهذه المنطقة مشهورة بالغزلان و الأرانب.

"حنان": ستكون رحلة صيد إذن.

"حورية": لا يوجد مثل الطيور في عشقها للحرية.

"جميلة": ما يهمني الرحلة ذاتها لا ما فيها من التجارب، فأنا بحاجة لتغيير الجو.

"ليلى" مازحة: المهم أن يكتفي الدكتور العبقري بالتجارب على الحيوانات لا أن يحولنا نحن إلى حيوانات تجارب.
* * *
عادت "حورية" إلى منزلها بُعيد العصر و كان الجو دافئاً رغم الشتاء، فشعرتْ بأن القراءة تناديها، فلبت النداء و أخذت مذكرات جدها و جلست تطالعها في الشرفة مع كوب من الشاي الساخن:

(..مرت ستة أشهر على حادثة القارب، و عادت السيدة رحيمة إلى عادتها و برنامجها، و عدت إلى مجلسي على الصخرة و مراقبتها، لم أتكلم معها طويلاً و لكني تعلمت منها كثيراً، و كان الصيد من ضمن ما تعلمته منها أو بسببها لأكون أدق و أضبط، لم تكن لدي رغبة في الأسماك بقدر رغبتي في رمي الشباك، و معالجة الصبر و الترقب، و كانت وسيلتي في التعلم المشاهدة عن بعد و لذلك ربما لم أحقق نتائجاً عظيمة، و لكني تمكنت من خلال ممارسة الصيد أن ألحظ المفارقة بين رؤيتي و رؤية السيدة رحيمة للأمور، فمن وجهة نظري كان الصيد تجسيداً للوقوع في الأسر و فقدان الحرية، و من وجهة نظرها كان تكريساً للتحرر في أوضح صوره، أليس هو بالنسبة للسمك الخروج من ماء البحيرة المحدود إلى الفضاء اللامحدود؟ يعني حياة الكائنات في بيئتها، على أرضها و تحت سمائها، صورة من صور الحرية أم العبودية؟ إذا نظرنا إلى رحلتي من وجهة نظر السيدة رحيمة فها أنا قد تحررت و هذا ما أدعيه، و إذا نظرنا لها من وجهة نظري فمعنى هذا أنني قد وقعت أسيراَ في قرية الحرية و هذا ما أنفيه، لقد جعلتني السيدة رحيمة أشعر بما أنا فيه من التناقض، فأنا أرى أن مغادرة الأسماك لموطنها وقوع في الأسر بينما مغادرتي أنا لموطني انطلاق نحو الحرية!

سألتني مرة: لماذا غادرت؟

صحيح، لماذا غادرتُ؟ لماذا تركتُ ما تركتُ؟ لماذا جئتُ إلى هنا و ماذا أدركتُ؟ و هل وجدتُ ما طلبتُ؟ تذكرتُ قولها عن ابنها: (المأفون يبحث عن الحرية)، فاستحييت أن أجيبها إجابة مباشرة، فقلت لها: هناك شيء ينقصني، أبحث عنه و أطلبه.

قالت: ما تظن أنه ينقصك إنما ينقصك نقيضه، و ما تبحث عنه بالسفر إلى الخارج لن تجده إلا بالسفر إلى الداخل، و ما تطلبه أمامك.

يبدو أنها لم تكتفِ بإشعاري بالتناقض فأحبت أن تشعرني بالحيرة، فنظرت لها نظرة تجمع بين البلاهة و الاستفسار و قلت: ماذا تقصدين؟

قالت: أتنصت إذا حكيت لك حكاية؟

قلت: بالطبع.

قالت: كان هناك رجل من العابثين اللاهين غير الآبهين لشيء، وفي ليلة كان يلهو مع رفاقه يشربون ويمرحون، فمرَّ بهم رجل صالح، فدقَّ الباب، فخرجَت إليهِ جارية، فقال لها: صاحب الدار حرُّ أم عبد؟ قالت: بل حُرّ، قال: صدَقْتِ، لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية، فَسَمِعَ الرجل مُحاورَتَهُما، فسارع إلى الباب حافياً حاسراً، و قد ولَّى الرَّجُل الصالح، فقال للجارية: ويحك! من كلَّمكِ وماذا قال لكِ؟ فأخبَرَتْهُ بما جرى، فقال: أي ناحية أخَذَ هذا الرّجُل؟ قالت : كذا، فَتَبِعَه حتّى لَحِقهُ، فقال له: يا سيدي أنت الذي دققت الباب وخاطبت الجارية؟ قال : نعم، قال: أعد علَيَّ الكلام، فأعَادَهُ عليهِ فَمَرَّغَ خدَّيهِ على الأرض و قال: بل عبد! بل عبد! ثمّ هام على وجهه حافياً حاسراً، حتى عُرِفَ بالحَفاء فقيل له: لِمَ لا تلبسُ نعلاً، قال: لأنّي ما صالَحَنِي مولاي إلاّ وأنا حافٍ فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات.

أدركتُ ما رمتْ إليه لكني لم أوافقها عليه، نعم، ما قالته كان صحيحاً في جملته لكنه لا ينطبق على حالتي، مشكلة السائرين و السالكين و المسافرين و الراحلين تكمن في تداخلات و تشابكات و تقاطعات محطات السير و مقامات السلوك و مسافات السفر و اتجاهات الرحلات، فما يقع على يمين أحدهم قد يقع على شمال الآخر، و ما يكون أمام بعضهم قد يكون وراء البعض الآخر، و من يسلك طريق الحرية قد يتجاوز طريق الرضا، و من يسير نحو الرحمة قد يصطدم بالعدل، و من يتجه نحو المحبة قد يتعثر في الأدب.

مضت الأيام على نفس الوتيرة، تغيب يومين ثم تشرق في الثالث السيدة رحيمة، لكن دوام الحال من المحال، ففي يوم جاء الموعد و لم تأتِ هي، انتظرت و ترقبت و تمنيت لكن لم يأت المنتظر و لم يظهر المرتقب و لم تتحقق الأمنية، و في اليوم التالي عاودت الكرة فلم تعد، شعرت بالقلق و ضاعفه معرفتي أنها تأكل رزقها يوماَ بيوم، و تذكرت قولها: (يوم بلا طعام لا يتعب بدناً و لا يقرب أجلاً)، و الآن مر يومان مما يعني انتهاء صلاحية مقولتها، و ضرورة الاطمئنان على حالتها.

كانت القرية مكونة من حيين كبيرين: الحي الشرقي و الحي الغربي، توجهت إلى سوق الحي الشرقي أولاً و سألت عنها، و بعد قليل من الجهد وصلت إلى مسكنها، فالناس في القرى يعرفون بعضهم بعضاً و كان تقدمي في العمر و سمعتي الحسنة عندهم بعد فترة طويلة من الإقامة بين ظهرانيهم طاردة للريبة عني، لم استطع طرق الباب لأنني أعلم أنها لا عائلة لها، فتجولت حول المنزل استفسر من الجيران فأخبروني أنها لم تظهر منذ ثلاثة أيام و أغلب الظن أنها في بيتها الثاني في الحي الغربي، فهنا منزل والدها رحمه الله و هناك بيت زوجها رحمه الله، و هي تقيم هنا أحياناً و تستقر هناك أحياناً أخرى، فكررت المحاولة في سوق الحي الغربي، فوصلت إلى نفس النتيجة، و جاءني نفس الجواب، كل حي يزعم أنها في الحي الأخر، أهل الشرق يحسبونها قد غَرَّبت و أهل الغرب يظنونها قد شَرَّقت، أخبرتهم أنني جئت لتوي من الحي الشرقي و أنها ليست هناك و طلبت منهم التأكد من وجودها ببيتها، فانطلقت معي عائلة من جيرانها و بدأوا يطرقون بابها و ينادون اسمها لكن لا الباب فتح و لا النداء سمع، حاولت أن أقنعهم بالدخول فربما أصابها مكره، فرفضوا بشدة أن يقتحموا على السيدة رحيمة دارها في غيابها، و عندما جادلتهم سألوني: هل طرقت بابها في الحي الشرقي؟ هل تأكدت من عدم وجودها؟ فقلت: لا.
قالوا: إذن عد من حيث أتيت و تأكد من عدم وجودها قبل أن تطالبنا باقتحام دارها.

كان منطقهم محكماً ففعلت ما أمروني به، و تكرر الموقف على الجانب الشرقي، فلم تفتح الباب و لم تسمع النداء، تصاعد توتري و ازددت تعصباً كلما تعنتوا في إجابة مطلبي، فقد كانوا يرون أن دخول الدار عنوة كبيرة الكبائر، لكني كنت متيقن من وجودها في أحد الدارين، فطالما لم تذهب للصيد و لم تظهر في السوق فأين يمكن أن تكون؟
تخطيت الجيران و توجهت نحو الباب الخشبي و انهلت عليه بقبضتي و قدمي، فسارع جارها ليمنعني خشية أن ينكسر الباب و جذبني إلى الخلف ليبعدني، تراجعت عدة خطوات فوقع نظري على حجر كبير نسبياً ملقى على الأرض، فالتقطته و رميت به نحو الباب بقوة فأحدث ضجة عالية، غضب الجار غضباً شديداً و تقدم نحوي مسرعاً حتى ظننت أنه سيفتك بي لولا أننا سمعنا صوت وعاء أو إناء يكسر داخل البيت، عندها فقط اقتنع الجيران أنني على حق، و بدلاً من أن يهاجمني الرجل تجاوزني و انطلق إلى بيته المجاور للسيدة رحيمة و عاد مسرعاً معه معوله فضرب به الباب ضربة واحدة ففتحه، انتظرت أنا و الرجل و دخلت زوجته و ابنتيها، لحظات و عادت المرأة بوجه يعلوه الفزع و طلبت منا إحضار الطبيب و أخبرتنا أنها ستقوم بعمل ما في وسعها بمساعدة ابنتيها لحين وصول الطبيب.

عدنا و معنا الطبيب، فرافقته الجارة إلى حجرة السيدة رحيمة، و بقيت أنا و زوجها في الصالة، كان بيت السيدة رحيمة عبارة عن غرفتين، الغرفة التي تقيم فيها، و غرفة مغلقة استنتجت أنها تخص والديها رحمهما الله، و الصالة التي جلسنا ننتظر فيها الطبيب، كانت الصالة بلا أثاث تقريباً، مجرد سجادة أنيقة نظيفة و بعض الوسائد حولها للجلوس، و في زاويتها قطعة من الخشب المزخرف على شكل قوس ارتفاعه متر واحد يبدو أنه محراب للصلاة، و في الجانب الأيمن من المحراب طاولة صغيرة عليها صندوق خشبي بديع الصنع على شكل جزء من جذع شجرة طوله يزيد عن الشبر قليلاً و عرضه و ارتفاعه يقل كل منهما عن الشبر قليلاً.

خرج الطبيب و أخبرنا أنها تعاني من الحمى بسبب الالتهاب الرئوي و كونها لم تذق طعاماً منذ ثلاثة أيام قد زاد من وطأة المرض عليها، ثم أصدر لنا التعليمات و التوجيهات التي أخذنا في تنفيذها على الفور، فبدأت البنتان في نقل كل ما يمكن أن تحتاجه السيدة رحيمة من بيتهما إلى بيتها، و ذهبت أنا مع الأب لشراء الأدوية و الأعشاب المطلوبة، و في الطريق اعتذر لي الرجل و اعتذرت له، وصدقنا فتصادقنا، و كان يشعر بالذنب تجاه تفريطه في حق جارته و يؤكد لي أنهم كانوا يظنونها في بيتها في الحي الغربي، و أنها المرة الأولى التي يصيبها فيها المرض منذ سفر ابنها، و كنت أحاول أهون عليه لما شعرت به من صدقه، و تناوبنا على خدمة السيدة رحيمة طوال الأسبوعين التاليين، كنت في كل زيارة أحضر معي شيئاً من الأطعمة و الفواكه و كل ما من شأنه أن يساعد السيدة رحيمة في مرضها و أن يخفف المؤنة عن جيرانها، فهم لم يكونوا من الأغنياء و لكنهم كانوا من الأسخياء.

بعد مرور الأسبوعين تماثلت السيدة رحيمة للشفاء و أخذت تسترد عافيتها فأذنت لي في زيارتها، دخلت برفقة جارتها السيدة حليمة فوجدت حجرتها أيضا خالية من الأثاث إلا بعض الوسائد و صندوق أحسب أنه للملابس و سجادة كبيرة على جزء منها قماش محشو بالقطن تستخدمه كسرير لها، و على يمنها طاولة خشبية صغيرة عليها جرة ماء، جلست السيدة رحيمة و عليها غطاء من الصوف على سريرها و جلست بجانبها جارتها السيدة حليمة، بينما جلست أنا على وسادة في الجهة المقابلة لهما و قلت: حمداً لله على سلامتك.

قالت: شكراً لك للمرة الثانية.

قلت: في خدمتكِ يا سيدة رحيمة.

قالت جارتها السيدة حليمة: كانت تسمع نداءنا و طرقنا على الباب لكن لم تكن تستطيع الحركة أو الصياح.

أضافت السيدة رحيمة: أجل. حتى قذفتَ بالحجر على الباب و أحدث تلك الجلبة العالية، فانتبهت بعدما كاد أن يغمى علي، و شعرت أنها فرصتي الأخيرة للنجاة فاستجمعت ما بقي من قوتي و أطحت بجرة الماء القديمة من على الطاولة فانكسرت.

قلت: أما زلت تصرين أنكِ في غنى عن ابنكِ؟

قالت بإصرار: بلى. ما كان وجوده ليمنع موتي كما لم يمنع غيابه نجاتي.

قلت: كعهدك تتكلمين بمنطق غير منطقي.

أطرقت برهة ثم رفعت رأسها ببطء و سألتني: هب أنني أخبرتك بحاجتي إليه، ماذا أنت صانع؟

قلت بأكبر قدر من الصدق شعرت به في حياتي: أسافر إليه و أحضره إليك.

نظرت إلي نظرة لم و لن أنسها، ثم قالت: إذا احتجت إليه سأبلغك...)

طوت "حورية" مذكرات جدها و هي تقول: يا لك من فارس نبيل أيها الجد! يبدو أنك ستضيف لبحثك عن الحرية البحث عن الابن الضال للسيدة رحيمة.
* * *
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.