hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

من الصعوبة بمكان أن نُعطي تعريفًا دقيقًا للجنون، لَكنِّي أتصور أنَّ أزُوما-زِي كان
مجنونًا. لرُبَّما كان لِضجيج السَّقيفة ودورانها غيرِ المنقطعَين أثرٌ على مَركز المَعرِفة الضَّئيل
في دماغه ومركزِ الخُرافات الضَّخم فاختَلَطا معًا ليَمَسَّهشيءٌ من الجنونٍ في نهاية المطاف.
وأيٍّا ما كان، عندما وَسوَستْ إليه نَفسُه بفِكرة تَقدِيم هُولرُويد قُربانًا لسيد المُولِّدات، اعتَرَته
حالةٌ غَريبةٌ من الانتشاء.
في تلك الليلة، لم يَكن يُرافق الرجلَين في السقيفة سوى ظلهما القاتِم، وكانت السَّقيفةُ
مُضاءةً بنُورِ مِصباحٍ قَوسِيٍّ كبير يومِضُ ويَخفِقُ بلونٍ أرجواني، وكانت الظِّلال السَّوداء
جاثمةً خَلف المُولِّدات، وكُراتُ تنظيمِسُرعة المُحرِّكات تروحُ وتجيء في دورانها بين الظلمة
والنُّور، كما كانت المَكابِستَخفِقُ خَفقانًا هادرًا ومطَّردًا. بدا العالَمُ في الخارج كما يُرَى من
نهاية السَّقِيفة المفتوحة بَعيدًا وباهِتًا، والصَّمتُ مُطبِقًا؛ فقد أَسكَتَت ضَجَّةُ الآلات ما دونها
من أصواتٍ خارجية. تَرى هُنالِك السِّياجَ الأسَود للفِناء وخَلفه مَنازلُ رَماديةٌ تكسُوها
الظِّلال، ومن فَوقِها تجثمُ السَّماء الزَّرقاء بَعِيدة الأغوار تَملؤها النُّجُومُ الشَّاحِبات. عَبَر
أزُوما-زِي فجأةً من مُنتَصَف السَّقِيفة حيث تعلُوها السيور الجِلدية الدَّوارة متوجِّهًا نحو
المُولِّد الكبير ومغمورًا في ظلاله. سمِع هُولرُويد صوتَ نَقِيرٍ تغَيَّرَت على إثِره وَتِيرةُ دَوران
قَلب المُحرِّك.
«… ما الذي تَفعَله بمِفتاح التَّحوِيل؟ ألم أحَذِّرْكَ » : صاح هُولرُويد في عَجَبٍ وقال
ثمَّ رأى نَظَراتِ عينَي أزُوما-زِي عندما خَرَج الآسيويُّ من الظِّل ماشِيًا قُبالتَه.
وفِي لحَظاتٍ، كان الرَّجلان يتَصارَعان بضراوة أمام المُولِّد الكبير.
أيها الغَبِيُّ ذو الوَجهِ الأشدِّ » : قال هُولرُويد متُحَشرجًا بينما يدٌ بُنِّيةٌ قابضةٌ على عنُقِه
ثُم ما لَبِث أن تعثَّرَت قَدماه وتَرَنَّحَ «! تفحُّمًا من القَهوة! حاذِرْ تِلك الحَلقات المُوَصِّلة للتَّيار
جسدُه إلى الخَلفِ فوق سيد المُولِّدات، ثُم سرعان ما أرخَى قَبضَته تلقائيٍّا مِن على غَريِمِه
ليُحاوِلَ النَّجاةَ من الآلة.
جاء المُفَتِّشُ الذي أرُسِل على عَجَل حانقًا من المحطة ليَقِفَ على ما حَدَث داخل سَقِيفة
المُولِّدات وقابَل أزُوما-زِي عِند كُوخِ حارس الفِناء بجانب البَوَّابة. حاول أزُوما-زِي أن
يشَرح له، لكنَّ المُفَتِّشَ لم يَفهَمْ شيئًا من إنجليزية هذا الزِّنجِيِّ المُتَهافِتة وأسرَع باتِّجاه
السَّقِيفة. كانت الآلاتُ كلُّها تَعمَل في صَخَبٍ وبَدا كلُّ شيءٍ في مَكانِه الصَّحيح. ومع ذَلِك،
كانت رائحةٌ غريبةٌ لشَعرٍ مُحتَرقٍ تَفُوح في المكان. ثمَّ رأى المفتشُكتلةً مكَوَّمةً غريبةَ المنظر
ملتصقةً بمُقدِّمة المُولِّد الكبير، وعندما دَنا مِنها، استطاع أن يتعرفعلى بَقايا جُثَّة هُولرُويد
المُشَوَّهة.
حدَّق الرَّجل للحظاتٍ مترددًا، ثمَّ نَظَر إلى الوجه فأغمضعينَيه مختلجًا واستدار قبل
أن يفتحَهما لكيلا يَقَعا على جُثَّة هُولرُويد مرةً أخرى، وغادر السَّقِيفة يَنشُدُ النَّصِيحة
والمُساعَدة.
عندما رأى أزُوما-زِي هُولرُويد في قَبضة المُولِّد العَظَيمصريعًا، دَهَمَهشيءٌ من الخوف
بشأن عَواقِب فَعلَتِه هذه، ومَع ذلك شَعَر أنصَدرَه قد مُلِئ حُبُورًا لم يَعهَدْه، وأيقَن أنَّ فَضَلًا
من سيد المُولِّدات قَد أصابَه. كانت خطَّتُه قد اكتَمَلت عِندَما قابَل الرَّجُل المُبعُوث من المَحطَّة،
ثمَّ المُدِير العِلمِي الذي وَصلسريعًا إلى مَسرَح الحادِث وخَلصسريعًا إلى التَّفسيرِ البديهيِّ
القائل بأنَّ هُولرُويد قد مات مُنتَحِرًا. لَم يكد ذلك الخَبيرُ يلتفت إلى أزُوما-زِي مُطلقًا، اللَّهُمَّ
إلا ليَطرح عليه بضعةَ أسئلة. هَل رأي هُولرُويد وهو يَنتَحِر؟ أجاب أزُوما-زِي بأنَّه كان
غائبًا عن مسرح الحادث عند فُرنِ المُحرِّك إلى أن لاحَظ تَغَيُّرًا في ضَوضاء المُولِّد. لم يَكن
استِجوابًا عَسيرًا كَونَه شخصًا بعيدًا عن الشُّبُهات.
بالنسبة إلى بَقايا جُثَّة هُولرُويد فقد غَطَّاها الحارسُ على عَجَلٍ بمِفرَشِ طاولةٍ مُبَقَّعٍ
بالقَهوة، بعد أن أزالها فَنِّيُّ الكَهرباء من الآلة، واستَدعى شَخصٌ ما، بنَفسٍ آمِلةٍ، طَبِيبًا.
كان الخَبِيرُ مَهمُومًا باستِعادة عَمل الآلة مرةً أخرى، فلقَد تَوَقَّفَت سَبعةُ أو ثَمانيةُ قِطاراتٍ
في منتصف الطَّريق داخِلَ أنفاقِ السِّكة الحَديد الكَهربائية الرديئة التهوية. أما أزُوما-زِي،
الذي كان تارةً يُجِيب عن أسئلة الوافدِين إلى السَّقِيفة بحكمِ سُلطاتهم أو بدافعِ الوقاحة
وتارةً يُسيءُ فَهمها، فقد أرسَله المُدِيرُ العِلمي في الحال إلى فُرن المُحرِّك. وبِلا رَيبٍ، كان هُنَاك
حَشدٌ مُتجَمهِرٌ خارج بَوَّابات الفِناء؛ هذا الحَشدُ الذي دائمًا ما يَحُوم ليومٍ أو يَومين — دون
سَبَبٍ مَعروف — بالقرب من مَسرَح أيِّ وفاةٍ مفاجئة تَقَع في لَندَن؛ منهم صحفيَّان أو
ثَلاثةٌ تَسَلَّلوا بطريقةٍ ما إلى داخلِ سَقِيفةِ المُحرِّك، بل وَصل أحد الصحفيَّين إلى أزُوما-زِي نفسِه، إلا أنَّ الخَبِيرَ العَلمِي طَرَدَهم خارجًا؛ فهو يعرف تِلك الألاعيبَ جيِّدًا لأنَّه صحفِيٌّ هاوٍ هو الآخر.
سرعان ما حُمِلَت الجُثَّة بعيدًا ورَحَل مَعها فُضُولُ الجُمهور. ظَلَّ أزُوما-زِي هادئًا عند فُرِن المُحرِّك يَرى المَرَّة بَعد الأخرى شيئًا يتَلَوَّى في الفَحمِ أمامه ثمَّ يَسكُن. بَعدَ أن مَرَّت ساعةٌ على جَريمة القَتلِ، عادَت السَّقِيفة في نَظَر أيِّ إنسانٍ يَدخُل إليها تمامًا كما كانَت وكأنَّ شَيئًا لم يَحدثُ فيها. استرقَ الزِّنجِيُّ النَّظَرَ من غُرفَته، غُرفةِ المُحرِّك، فرَأى سيد المُولِّدات يَدور ويَلُفُّ إلى جانب أخَوَيه الصَّغيرَين، والدَّوالِيب تَندَفِع في دَورانِها، وبُخار المَكابِسيعلو مُجلجلًا تمامًا كما كان الحال قَبلًا في المَساء. برغمِ كلِّ ما حدث، كان الحادِث من وِجهةِ نَظَرٍ ميكانيكيةٍ بَحتة أمرًا لا يُعتَدُّ بِه مطلقًا؛ فَما هو إلا انحرافٌ عارضٌ في مَسار التَّيار. لكن حَلَّتِ الآن بِنيةُ المُدِير العِلمِي النَّحِيفة وظِلُّه النَّحِيلُ مَحلَّ جَسد هُولرُويد القوي البنية، وصار يَذرَع المَمَرَّ المُضِيء بين غُرفة المُحرِّكات وسَقِيفة المُولِّدات جِيئةً وذهابًا، ويَخطو على الأرضية المُرتَعِشة تحت وَطأة السُّيور الدَّوَّارة.
«؟ ألم أخدمْ سيدي حَقَّ الخِدمة » : قال أزُوما-زِي هامِسًا من مكانه وسط الظِّلال
وتعالت نَغمة دَوَران المُولِّد الكبير تامةً واضحة. ولمَّا أمعن النَّظَر إلى أجزاء تِلك الآلة
الضَّخمة وهَي تَدور في تَناغُم، وجد فيها سِحرًا غريبًا يأسِرُه؛ ذلك السِّحرُ الذي خبتْ
جذوتُه قليلًا منذ أن قُتِل هُولرُويد، ولكنَّه استَعاد بَريقَه من جديد.
لم يَشهَد أزُوما-زِي في حياته رجلًا قُتِل بهذه السرعة وبهذه الدرجة من القسوة؛ فلقد
أجهَزَت الآلة الطَّنَّانة الضَّخمة على ضَحيَّتِها دون أن يَتغَيَّر إيقاعُ ضَوضائها ولو لثانيةٍ
واحدة. كانت الآلة بلا رَيبٍ إلهًا عَظِيمًا جَبَّارًا.
وقف المُدِير العِلمي شاردَ الذهن وظَهرُه تِجاه أزُوما-زِي وراح يخُطُّ شيئًا على ورقة.
كان ظِلُّه مُمتَدٍّا عند قَدمِ الوَحشِ الكبير.
«. هَل ما زال سيد المُولِّدات تَوَّاقًا لقُربانٍ آخرَ؟ إنَّ خادمَه مُستَعدُ »
خطا أزُوما-زِي خُطوةً إلى الأمام خِلسةً ثمَّ تَوقَّف. فَجأةً، تَوَقَّف المُدِير العِلمِي عن
الكِتابة وتَمَشَّى في السَّقِيفة حتَّى وصل إلى الطَّرَف الأقصىللمُوَلِّدات وأخذ يَفحَصُالفُرَش.
تَرَدَّد أزُوما-زِي، ثمَّ انسَلَّ في صَمتٍ تامٍّ إلى بُقعةِ ظِلٍّ بجانبِ مِفتاح التَّحوِيل، وانتَظر
هُناك. سرعان ما سَمِع صوتَ خَطَوات المُدِير عائدةً، ثمَّ تَوقَّف في مكانه السَّابِق غافِلًا عن
ذلك الوَقَّادَ الذي يَربِضُفي الظِّلِّ على بُعد عشرة أقدامٍ منه. أصدر المُولِّدُ الكبير أزيزًا مفاجئًا،
وفي اللحظة التالية انقضَّأزُوما-زِي من تحت جُنحِ الظَّلام واثِبًا على المُدِير.
في البِداية، التفَّتْ ذِراعا أزُوما-زِي حول جَسَد المُدِير العِلمِي دافعًا إياه إلى الأمام
باتِّجاه المُولِّدِ الكبير في تَرَنُّح، فأخَذ المُدِيرُ يَرفُسُ برُكبتَيه جاذبًا رأسَ مُهاجِمِه إلى أسفلَ
حتى استَطاع أن يُرخِيَ قَبضَتَه حول خَصرِه وانتَفَضمُبتَعِدًا عن الآلة، لكنَّ الزِّنجِيَّ هاجمه
مرةً أخرى واضعًا رأسَه ذا الشَّعر المَعقُوص في مواجهة صَدرِه، وظلَّا يترنَّحان ويَلهَثان
مدةً طويلة، ثمَّ لم يَجد المُديرُ العِلمِي بُدٍّا من أن يُطبِقَ أسنانَه على إحدى أذُُنَي الزنجي
السوداوَين وعَضَّعليها بشَراسة، فصَرَخ الزِّنجِيُّصُراخًا مُروِّعًا.
وَقَعا على الأرضوتَدَحرَجا، وإذا بالزِّنجِيِّ — الذي تساءل المُدِير حينها كيف تَمَلَّصَ
ونهض، أيكون قد أفلَت أذُُنَه من بين فَكَّيه المُطبَقَين أمضَحَّى بنِصف أذُنٍ ليُحَرِّر نفسَه؟ —
يحاول أن يَخنُقَه. بذل المُدِيرُ بعضَ المحاولات غير المجدية لكي يلتقطَ شيئًا يُدافعُ به عن
حياته حين سُمِعَ صَوتٌ مبشِّرٌبالنجاة وهو قَرْعُ نِعالٍ مُسرِعةٍ على الأرض. أفلَتَه أزُوما-زِي
من فَورِه وألقى بنَفسِه في أحضان المُولِّد الكبير الذي أصدَر بَقبقةً وسَط زَئيره الهادِر.
تَسَمَّر أحد مسئولي الشَّرِكة، الذي دَخل عَلَيهِما لتَوِّه، مُحَدِّقًا في أزُوما-زِي وهو مُمسِكٌ
بالأسَلاك المَكشُوفة بيَدَيه. انتَفَضجَسَد أزُوما-زِي انتِفاضةً واحدة مُرعِبة، ثم خَرَّتْ جُثَّتُه
هامِدةً متدليةً من الآلة. كان وَجهُه مُشوَّهًا على نحوٍ فظيع.
كم أنا سَعِيدٌ بقُدُومكَ في هذا » : قال المُدِير العِلمِي وهو ما زال جالسًا على الأرض
«! التَّوقِيت
نَظَر إلى الجُثَّةِ التي كانت ما تَزال تَرتَجِف.
«. ليست مِيتةً رحيمة كما هو واضحٌ، لكنَّهاسَرِيعة »
كان المسئول ما زال يُحدِّق في الجُثَّة؛ فقد كان رجلًا بطيء الفَهم.
ثمَّ ساد الصَّمت.
نَهَضالمُدِير العِلمي واقِفًا وهو مُحرَجٌ بعضَالشيء، ثمَّ مَرَّر أصابِعه بعِنايةٍ على طول
ياقة قَمِيصِه ليُسَوِّيَها، وحَرَّك رَأسَه إلى الأمام والخَلف عِدَّة مراتٍ.
ثمَّ ذهَب بطَريقةٍ تكادُ تكون آليةً باتِّجاه «. يا لهُولرُويد الِمسكِين! لقد فَهِمتُ الآن »
مِفتاح التَّحويل القابِع في الظِّل ليُعيدَ التيَّار الكَهربائي إلى دائرة السِّكة الحَدِيدية مَرةً
أخرى. وعندما عاد التيَّار، أَرختِ الجُثَّة المحروقة قَبضتَها مَن على الآلة وسَقَطَت مُكبَّةً على
وجهها. زَأر لُبُّ المُولِّدِ زَئيرًا عاليًا صافيًا وأخذ يَخفِق ضاربًا الهَواءَ من حَولِه.
وهكَذا وُئِدت عِبادةُ المُولِّد في مَهْدِها. رُبَّما كانت أقصرَالديانات عُمُرًا، ومع ذلك فَلَها
أن تَفتَخِرَ باثنَين؛ قُربانٍ بَشَريٍّ قُدِّم لها، وخادِمٍ مُخلِصٍاستُشهِد في سَبِيلها.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الأول الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.