hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

في أيام راحة البال عندما كانت الاحتياجات قليلة ومن السهل تلبيتها، وعندما كان شراب
الروم الذي تُشتهَر به نيو إنجلاندصافيًا ورخيصًا، وعندما كان الجيل القديم لا يزال يرتدي
السراويل القصيرة التي تصل إلى الركبة، ومعاطف أيام الاستعمار التي تشبه ذيولها ذيول
الديك الرومي، مات بيلي الذي كان يعمل في بوابة تحصيل الرُّسوم على طريق هارتفورد
وبروفيدنس. سكن بيلي أربعين سنة بعد الثورة في منزل الرُّسوم الصغير المنعزل بالقرب
من الجسرالذي يعلو نهر كوينبو المضطرب، وطوال هذا الوقت لم يعْيَ بإجابة استدعاءات
تحصيل الرسوم، لكنه في إحدى الليالي لم يُلبِّ الدعوة، ووجدوه جالسًا على كرسيِّه حاملًا
الكتاب المقدس على ركبتيه، وقد صعدت روحه إلى المكان الذي كان يقرأ عنه في الكتاب
المقدس.
بعد بضعة أيام أحضرت عربة الخيول الكبيرة شابٍّا طويلًا عند منزل الرُّسوم في
كوينبو ليحلَّ محل بيلي، وأَحضر هذا الشاب كل متعلقاته ملفوفة في صُرَّة من القماش.
أخبر سائقُ عربة الخيول الشابَّ أن هذا هو موقع عمله الجديد لصالح شركة الطرق،
اسمع » : وعندما رأى الشابَّ يحدِّق في اللوحة المجاورة للباب المسجَّل عليه الرسوم قال له
أيها العجوز سكويدز، من الأفضل أن تكتب بعض الأرقام الجديدة؛ فالأرقام القديمة على
«. وشك أن تنمحي
دعاه السائق بالعجوز سكويدز، وبعيدًا عن أن لقبًا كهذا لم يُسمَع مطلقًا في هذه
البلدة من قبل، كان غريبًا أن يُدعَى هذا الشاب بالعجوز؛ ففي الواقع، كان عمره لا يزيد
على اثنتين وعشرين سنة أو ثلاثٍ وعشرين سنة على ما يبدو، وعلى الرغم من أن بشرته
مسفوعة من الشمس، فإنها مشدودة، وعلى الرغم من أن لحيته كانت شعثاء، وكل شعرة
فيها متنافرة عن أختها، فإن الموسى لم يعرف طريقًا إليها قط؛ ولذلك كانت ناعمة. كان نحيفًا لكن مفاصله لم تكن بارزة، وكانت كتفاه العريضتان منحنيتين. لعلهم أطلقوا عليه العجوز بسبب طريقته المتأنية التي لا تنبع عن كسل بقدر ما هي طبيعته التي وُلد بها.
وعندما ابتعدت عربة الخيول، ظل سكويدز واقفًا يحدِّق مندهشًا في لوحة الرسوم
ويشدُّ لحيته وهو شارد الذهن. كان على اللوحة بقايا كلمات فحسب؛ لأن الأمطار محت
الدهان الذي كُتبت به الكلمات على نحوٍ فوضويٍّ مُربِك. لم يستطع فهم أي شيء من
اللوحة؛ ولذا كان أول ما فعله هو أن خلع اللوحة وحملها معه إلى الكوخ الصغير. ودون أن
يتفقد منزله الجديد، ألقى الصُّرَّة على السرير وبدأ يصلح ما أفسده الدهر في هذه اللوحة.
إلا أن الزمن قد أثَّر عليها تأثيرًا لا يُمحى، وبينما كان سكويدز يضع اللوحة على ركبتيه
سقطت من قبضته القوية وتهشَّمت إلى شظايا، كما لو أن التغيير السافر الذي طرأ عليها،
بعدما ظلت أربعين سنة في مكانها عند الباب لم تمتد لها يد العبث، كان أكبر من احتمالها.
نظر سكويدز في أسًىإلى البقايا الملقاة تحت قدميه، ثم جمعها بعناية، ودفنها مُكرِمًا
مثواها في صندوقٍ قديم. وطوال أسبوع ظل عاكفًا على صنع لوحةٍ جديدة. لم تتطلب
اللوحة نفسها كل هذا الوقت، بل إن ما استغرق الوقتَ كان الكلام المكتوب عليها؛ فعلى
الرغم من مهارة سكويدز في استخدام المطرقة والمنشار والمسامير، فقد كانت أصابعه لا
تُجيد استخدام القلم وفرشاة الرسم. وهكذا أمضىساعة تلو الأخرى يدرسبطاقة الرسوم
المطبوعة التي أعطتها له الشركة كي يتمكن من نقل هذه الأرقام والحروف على اللوحة
بطريقة يمكن قراءتها. وذات ليلة، راوده حلم عن طريقة صنع اللوحة، ومن تأثره بالحلم
استيقظ مبتهجًا وأشعل شمعة، وجثا على ركبتيه لينقل الحلم إلى اللوحة. إلا أن أصابعه
أَبتْ أن تستجيب للصورة الموجودة في مخيلته، فتنهد وعاد إلى الفراش.
وفي النهاية استسلم سكويدز، واكتفى بكتابةشيء من هذا القبيل على اللوحة:
رجل ١ سنت
حصان ٢ سنت
حيوان آخر اسألني
حصل على هذه الكلمات وهجائها بطريقة ماكرة من أحد المارة الغرباء حيث كتبها
لسكويدز على لافتة، وعلَّق اللوحة الجديدة في المكان القديم، وكلما رأى أحدًا، إنسانًا كان أو
حيوانًا، يقترب من البوابة كان يُخرج بطاقة تعريفة الرُّسوم في حالة لو سأله أي شخص
عن التعريفة.
في أثناء مرور مدير الشركة في عربة الخيول ابتسم عندما رأى اللوحة، وطمأن سكويدز
قائلًا إنه أبلى بلاءً حسنًا، ثم أخبر المدير رفاقه أن سكويدز غريب، لكنه أمين، وأثبت نزاهته
إنه لا يُعرَف له اسمٌ سوى سكويدز، ونحن نظن أنه » : لأحد رؤساء الشركة. فقال المدير
طفلشريد كان على متن إحدى سفن صيد الحيتان ألُقيَ على الشاطئ في نيو لندن، وتُرك
«. ليعتني بنفسه. لكنه أمين
بيد أن سكويدز لم يكن راضيًا على الإطلاق، على الرغم من أن استحسان المدير قد
في يوم » : أدخل إلى نفسه الطمأنينة. قال لنفسه وهو يحدِّق حزينًا في جهده الفاشل نسبيٍّا
«. من الأيام سأصنع لوحةً تستحق الثناء
بدا سكويدز سعيدًا بما يكفي في منزله المنعزل، وكوَّن صداقاتٍ قليلة؛ لأن المكان كان
بعيدًا عن مزارع البلدة. وكان سائقو عربات الخيول يحبُّونه؛ لأنه يعطيهم دائمًا كوبًا من
الحليب البارد؛ فقد كان لدى سكويدز بقرة، وكانت هي كل ما يملكه إلى جانب ملابسه.
اسمع يا سكويدز العجوز، منذ سنة أو أكثر وأنا » : ذات يوم قال له أحد السائقين
أشرب بين الحين والآخر اللبن الذي تقدِّمه دون أن أعطيك مقابلًا. ما الذي يمكنني أن
«؟ أحُضره لك إلى هارتفورد لأرد هذا الدين
يمكنك أن تُحضِرلي كتابًا للهجاء. إذا اشتريتَه وأحضرته فسأدفع لك » : قال سكويدز
«. تكلفته، أظن أنه لن يكلِّفك أكثر من دولار
وفي المرة التالية التي ارتحل فيها السائق سلَّم سكويدز كتاب هجاء ويبستر. لمعت
عينا سكويدز الزرقاوان عندما تسلَّمه، ولم يقُل شيئًا باستثناء تعبيرات الشكر. وعندما
ابتعدت العربة وأصبح سكويدز بمفرده فتح الكتاب عشوائيٍّا ثم وقف أمام اللوحة وقال
بهذا أستطيع كتابة وتعليق لوحة تستحق » : بنبرة ظافرة في صوته ولمعة انتصار في عينه
«. الثناء
كان يستطيع تهجِّي كلمات مكونة من حرفين وثلاثة حروف، لكن حين يزيد العدد
عن ذلك كان يجد نفسه غارقًا في صعوبات كثيرة في أغلب الأحيان. ثابر وكافح بشجاعة،
وإن اعتراه بعض اليأس من قراءة الكلمات المكونة من مقطعين في كتاب الهجاء، فكان
.« از » هذه خ بالتأكيد، وهذه ب، ونطقهما خب. لكني لا أفهم بعدُ هذين الحرفين » : يقول
«؟ هذا ا وهذه ز. لا بد أنهما از. إذن الكلمة هي خباز. من أي نوعٍ هذه الكلمة
وهكذا هزمته كلمة خباز وأصبح يائسًا جدٍّا. وذات ليلة، بينما كان راقدًا في فراشه،
مفتوح العينين، يعتصر ذهنَه الشقاءُ الذي سببه له لغز كلمة خباز، راودته فكرةٌ نيِّرة؛
فنهض وأشعل شمعة، وأخرج من حقيبة الخيش عشرة بنسات نحاسية وضعها على
الطاولة على نحوٍ واضح. ولم يكد يلمس الوسادة حتى غط في النوم.
وفي الصباح أعطى العملات النحاسية العشر للسائق، وطلب منه أن يقايضها في
هارتفورد بحلوى النعناع المخطَّطة بالأحمر والأبيض. وعندما تسلَّم سكويدز الحلوى
وضعها بعيدًا في طبق في خزانة الطعام، وانتظر الوقت المناسب الذي كان في عصرالسبت
التالي، في ذلك الوقت، وقبل ساعة من الغروب، بدأ يراقب الطريق المؤدي إلى المنحنى؛ لأنه
علم أن في ذلك الوقت من كل سبت يأتي ولدٌ صغير يحمل بضائع ذات قيمة من مزرعة
والده ليقدمها للكاهن في مسكنه من أجل عشاء الأحد، وهذا المسكن يبعد ميلًا وهو على
الجانب الآخر من نهر كوينبو. وأخيرًا رأى سكويدز الفتى الذي كان يحمل على ذراعه سلة
تبدو ثقيلة؛ فأخفى نفسه في منزل الرُّسوم بسبب خجله الناجم عن إحساسه بالخزي.
وسرعان ما نادى الولدُ الواقف على البوابة على سكويدز ليخرج ويجعله يمر.
مرحبًا، أنت إبينيزر! أليس كذلك؟ أأنت ذاهب إلى بيت الكاهن؟ لا بد أن هذه السلة »
«. ثقيلة، أعتقد أنك ترغب في أن تستريح قليلًا
«. إنها ثقيلة، تحتوي على ضلوع الخنزير » : رد الصبي
تعالَ واجلس. ربما » : فقال سكويدز وهو يفتح عينيه متصنِّعًا الدهشة والتعاطف
«. أستطيع أن أعطيك شيئًا أفضل
وأدخل سكويدز إبينيزر المنزل وسأله وهو يحمل الحلوى المغرية للغاية أمام عينَي
«؟ أتعرف ما هذا » : الولد قائلًا
«. إنه حلوى النعناع » : فقال الولد في ابتهاج
وهنا بداسكويدز على وشك أن يعطي إبينيزر الحلوى، «. أنت تحبها. سأعطيك واحدة »
«؟ انتظر. يجب أن تكسبها. آه! هل تذهب إلى المدرسة » : لكنه امتنع فجأةً قائلًا
«. نعم، في الشتاء »
«؟ إلى أي مدًى وصلتَ »
«. وصلتُ إلى الكسور، وإلى كتاب القراءة الثاني »
هنا أخرج سكويدز كتاب ويبستر للهجاء من مكانه من «. حقٍّا! لا أصدق. أرني إذن »
حسنًا. لنرَ. الآن انظر هنا، إذا استطعتَ أن تقرأ هذا العمود » : تحت الوسادة، وفتحه قائلًا
الموجود بالأسفل مباشرة فسوف تحصل على قطعتَي حلوى. أريد أن أعرف فقط قدر ما
«. تعرف
«. هذا سهل. لنقرأ بعضالأعمدة الأصعب » : فقال إبينيزر
لنجرِّب السهل أولًا. سيكون ربح الحلوى » : بدا سكويدز محتارًا قليلًا، وقال في النهاية
ووضع سن مطواته على كلمة خباز. «؟ أسهل. ألا تظن ذلك
«. هذه خباز » : فقال إبينيزر
خباز. بالتأكيد إنها » . وصوته يمتزج بلكنة غاية في الغرابة «! خباز » : ردد سكويدز
وهنا مشط سكويدز لحيته بالمطواة فيشرود. «. كذلك
إنها خباز بالطبع. حرف الألف في وسط الكلام لا يُنطق همزة. الأحمق فقط هو من »
«. لا يعرف ذلك. سأكتبها يا إبينيزر
،« خ ب ا ز » : ثم أخرج لوحًا وكتب على ناحيته البيضاء الناعمة بقلم فحم متهجيًا كلمة
أمام عين إبينيزر المندهشتين.
«؟ لماذا تكتبها يا سكويدز » : فسأله الولد
لماذا؟! آه، لأعرف كم عدد الكلمات التي قرأتها على نحو » : فأجاب سكويدز الماكر
«. صحيح
وهكذا تعلَّم سكويدز عشر كلمات أو اثنتي عشرة كلمة، وتلقَّى الولد قطعتين من
الحلوى، وأبرم معه اتفاقًا يقضيبأنه إن جاء عصركل سبت وأثبت لسكويدز أنه يستطيع
قراءة الكلمات التي يُريها له في كتاب ويبستر للهجاء قراءة صحيحة، فسوف يحصل على
قطعتين من الحلوى أو أكثر.
وبهذه الطريقة تعلم سكويدز كل ما هو مكتوب في كتاب الهجاء، على يد صبي تلقى
الرشوة ولم يعرف أنه معلِّم، وبدأ يحضِّر لعمل لوحة رُسوم جديدة أراد أن يكتب عليها
تعريفة الأسعار بطريقة جديرة بالثناء.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.