hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

اعتقدتُ أنه حِفظًا لسمعتي الشخصية والِمهنية ينبغي عليَّسرد هذه الوقائع قبل أن أتحدَّث
باختصارٍ عن شهادتي الأخيرة كخبير، في المحاكمة الخاصة بجريمة راتكليف؛ إذ إن طبيعة
علاقتي بالمُتَّهمة تعرَّضَت للتشويه باستمرار.
لا شكَّ أن مُلابَسات هذه القضية المشهورة لا تزال حيَّةً في ذاكرة الرأي العام؛ فقد
قَدِمَ السيد جون إل راتكليف، وهو تاجرٌ ثريٌّ في مُنتصف العمر من بوسطن إلى سانت
لويس مع عروسه الشابَّةِ في رحلة شهر العسل الخاصة بهما. وقد استرعى انتباه الرأي
العام، وجذَب اهتمام العامة لدرجةٍ استثنائية للغاية، موتُه المُفاجئُ في فندق بلانترز، ثم
اعتقالُ زوجتِه، التي كانت بلا أصدقاء ولا مَعارف على الإطلاق في المدينة، واتهامُها بالقتْل
بالتسميم، وما حدث من نِزاع حولَ الشهادة الطبية في المحاكمة، والطبيعة الظرفية تمامًا
للدليل ضِدَّ المُتَّهمة.
سيُذكر أن الادِّعاء أثبَتَ أن العلاقة بين السيد والسيدة راتكليف، كما لُوحظت من قِبل
الضيوف والموظَّفين في الفندق، لم تكن على ما يُرام؛ وأنه نادِرًا ما تحدَّث معها على طاولة
الطعام، وأنه كان دائمًا يتجنَّب النظر إلى وجهها في حضورها، وأنه قبل مرَضه كان يتجوَّل
بلا هدفٍ في الفندق لعدَّة أيام، وهو على ما يبدو نِصف مُخَدَّرٍ، كما لو كان يرزحُ تحت
وَطأة عبءٍ عقليٍّ هائل، وأنه عندما كان يُخاطبه أيُّ شخصٍ في الفندق، يَبدو كما لو كان
يحلم، وكان يُجيبه بكلام غير مُترابط. هذا لو أجابه على الإطلاق.
وقد اتَّضح أيضًا أن السيدة راتكليف، بعد وفاة زوجها، أصبَحَت الوريثة الوحيدة
لثروته الضخمة.
كانت الأدلَّة التي تُشير مباشرة إلى ظروفوفاة السيد راتكليفواضحةً غايةَ الوضوح.
فلمُدَّة أربعٍ وعشرين ساعة قبل استدعاء الطبيب، لم يَرَه أحد سوى زوجته. وفي عَشاء ذلك
اليوم، ردٍّا على الاستفسار المُهذَّب لسيدةٍ على الطاولة المُجاوِرة، قالت السيدة راتكليف،
برَبَاطة جأشٍ شديدة، إن زَوجها كان مُصابًا بوعكةٍ شديدة. وبعد الساعة الحادية عشرة
ليلًا بقليل، دقَّت السيدة راتكليف جرَسَها، ودون أدنى اضطرابٍ في السلوك، قالت إن
زوجها يبدو أنه يُحتَضر، وإنه ربما يكون من الأفضل استدعاء الطبيب. وجد الدكتور
كولبرت، الذي وصل في غضون دقائق قليلة، السيد راتكليف في سُباتٍ عميق، ويتنفَّس
بصعوبة. وأكد في المُحاكمة أنه عندما دخل الغُرفة للوهلة الأولى، قالت المُتَّهمة ببرود، مُشيرةً
«. أظنُّ أنني قتلتُه » : إلى السرير
بدا أن شهادة الدكتور كولبرت تُشير بنحوٍ لا لبْسَ فيه إلى التسمُّم بصبغة الأفيون
أو المورفين. كان نبضُ قلب الرجُل الغائب عن الوعي قويٍّا لكنه بطيء؛ وكان جلدُه بارِدًا
وباهتًا؛ وملامح وجهه تبدو هادئة، ولكنه شاحبٌ بنحوٍ مُخِيف؛ وكانت شَفتاه مُزرَقَّتَين.
كان قد دخل في غَيبوبَةٍ بالفعل، وكان من المُستحيل إخراجه منها. وباءت مُحاولات إنقاذه
بالطرُق العادِيَّة بالفشل؛ إذْ فشلَ لطمُ راحتَي يدَيه وأخمَصَي قدمَيه واستخدام الكهرباء
على الرأس والعمود الفقري، في تحقيق أيِّ تأثيرٍ وإيقاظه من غيبوبته. وعندما فُتح جفناه
بالقوة، كَشفا عن بؤبؤي عينَيه المُتقلِّصَين اللذَين صار كلٌّ منهما في حجم رأس الدبوس،
وقد استَدارا بنحوٍ عنيفٍ إلى الداخل. بعد ذلك، تطوَّرت حدَّة التنفس الشَّخيري لتُصبحَ
حشرجةَ موتٍ عاليةَ النَّبرةِ صادرةً من المُخاط الموجود في القصبة الهوائية. هذا بالإضافة
إلى تشنُّجات، صاحَبَها إزبادٌ غزيرٌ من الفم، وتدلِّي فكِّه السُّفلي على صدره. وتَبِع ذلك شللٌ
ثُمَّ الوفاة، وذلك بعد أربع ساعاتٍ من وصول الدكتور كولبرت.
أَقسم العديد من أبرز مُمارِسي الطب في المدينة، الذين استدْعَتهم النيابة للشهادة في
المحكمة، بأن الأعراض التي أشار إليها الدكتور كولبرت — في رأيهم — لم تُشِر فقط إلى
تسمُّمٍ بالأفيون، بل أيضًا إلى أنها لا يُمكنُ أن تكونَ قد نجمَت عن أيِّ أسبابٍ أخرى.
على الجانب الآخر، فشل الادِّعاء تمامًا في إثبات شراء السيدة راتكليف للأفيون بأيِّ
شكلٍ من الأشكال في سانت لويس أو إثبات العثور على آثار الأفيون بأيِّ نحوٍ في الغرفة
بَعدَ الحدث. ورغم ذلك، سعى مُمثِّل الادعاء، في مُرافعته الخِتامية، إلى جعل الأمر الأخير
يُشير إلى تورُّط المُتَّهمة. فقال إن عدم وجود أيِّ عُبوةٍ تحتوي — أو كانت تحتوي — على صبغة الأفيون، في ضوء تأكُّد استخدامها، ساهم في إثبات وجود نيَّةٍ مُبيَّتة للقَتْل وهدَم أيَّ نظريةٍ للتَّسَمُّمِ العَرَضيِّقد يُحاول الدفاع بناءها، وطرَح العديد من الطرُق الافتراضية التي ربما تكون السيدة راتكليف قد تخلَّصَت بها مُسبقًا من هذا الدليل على جريمتها. حذَّرَت المحكمة، بطبيعة الحال، في نهاية حديثها، هيئة المُحلَّفِين من إعطاء وزنٍ لتلك الافتراضات من جانب مُمثِّل الادعاء.
غير أن المحكمة أولَت اهتمامًا كبيرًا للشهادات الطبية من جانب الادِّعاء، ولاعتراف
«. أظن أنني قتلتُه » : السيدة راتكليف الهادئ الذيسرَدَه الدكتور كولبرت
ونظرًا لقيامي بتشريح الجُثة، وإجراء تحليلٍ نوعيٍّ لمُحتويات مِعدَة الرَّجُل الميت، فقد استُدعيتُ إلى الِمنصَّة كشاهدٍ من جانب الدفاع.
حينذاك رأيتُ المُتَّهمة للمرة الأولى منذ أكثر من خمس سنوات. وعندما أدَّيتُ القَسَم وأجبتُ على الأسئلةِ الأوليَّةِ، أماطتِ السيدةُ راتكليف غطاء الوجه الذي ارتدَتْه منذُ بَدء المحاكمة، ونَظَرَت مُباشرةً إلى عينيَّ بعينَي الآنسة بورجير التي لا تُنسى.
أعترِف بأنَّ تصرُّفي خلال اللحظات القليلة الأولى من المفاجأة أفسح بعض المجال لما أشُيع فيما بعد فيما يتعلَّق بعلاقتي بالمُتَّهمة. لم تأسِر عيناها عينَيَّ فحسب، بل لساني أيضًا؛ فلقد رأيتُ القُدس مرَّةً أخرى، والوجهَ المؤطَّرَ في مُربَّعٍ من زُرقَةِ السماء المُشرِفَ من أعلى على مُدرَّج كلية الطب القديمة. إلا أنني تمكنتُ من مُتابعة شهادتي، وإن كان هذا بعدصراعٍ جذَب انتباه القاضيوهيئة المُحلَّفين والمُحامين والحضور.
كانت تلك الشهادة تُقوِّي موقف المُتَّهمة. كان أول معرفتي بالقضية عند فحص الجثة بعد الوفاة، وبدأت مع تشريح الجثة. لم يُعثَر على أيِّشيءٍ يُشير إلى التسمُّم بصبغة الأفيون أو أيِّ عُنصرٍآخر. لم يكن هناك مظهرٌ مَرَضيٌّللقناة المَعَوِيَّة. ولم يكن هنالك امتلاءٌ للأوعية الدِّماغية، ولا ارتشاحٌ مَصلي. كلُّ أثرٍ قد يكون ناتجًا عن الموت بالتسمُّم كان مفقودًا في الجثة المُشرَّحة. هذا، بالطبع، كان مُجرَّد دليل نفي. ولكن، علاوة على ذلك، فقد أثبت التحليل الكيميائي الذي أجريتُه عدم وجود السمِّ في جسده. ولم يُمكن العثور على أثرٍ لرائحة الأفيون. أجريتُ اختبارًا حثيثًا للتأكُّد من وجود المورفين في الجثة من عدَمِه مُستخدِمًا في ذلك حمض النيتريك، وبيرهيدروكلورات الحديد، وكرومات البوتاس، والأهم من ذلك كله، الحمض اليودي. وقد بحثتُ مرةً أخرى عن حمض الميكونيك باستخدام بيرهيدروكلورات الحديد. لقد فحصتُ بطريقة لاسين، ودوبلين، وفلاندين. وبقَدْر ما تستطيع مصادر الكيمياء العضوية أن تُخبِرنا، فقد أثبتُّ أنه على الرغم من أعراض حالة السيد راتكليف قبل الوفاة، فإن الموت لم يكن ناتِجًا عن صبغة الأفيون أو أيِّ سُمٍّ آخر معروف للعلم. وتمكنتُ من الإجابة بصدق، وبطريقة لم تهُزَّ قوةَ شهادتي الطبية، على الأسئلة التي طرحها مُمثِّل الادعاء بشأن معرفتي السابقة بالمُتهمة. وعلى أساس قوَّة هذه الشهادة أصدَرَت هيئة المحلَّفين، بعد مداولاتٍ قصيرة، حُكمًا بالبراءة.
هل حنثتُ في القَسَم؟ لا؛ لأن العلم يؤكد صحة كلِّ زعم قدَّمتُه. كنتُ على يقين من أن راتكليف لم يتجرَّع عبر شفتَيه ولو قطرةً واحدة من صبغة الأفيون أو ذرَّة من المورفين.
هل كان يجِب أن أعُلِن عن اعتقادي بشأن السبب الحقيقي لوفاة الرجل، وأحكي قصة مُلاحظاتي السابقة عن قضية الآنسة بورجير؟ لا؛ لأنه لن تُنصِت أيُّ محكمةٍ لتلك القصة ولو للحظةٍ واحدة. كنتُ أعرف أن المرأةَ لم تَقتلْ زوجها. ومع ذلك، كنتُ أوُمِن وأعلم — كتأكُّدي أننا نستطيع أن نعرِف أيَّ شيءٍ يكون فيه قوام الحقيقة المُؤكدة ضعيفًا والقوانين غامضة — أنها سمَّمَتْه؛ سمَّمَتْه بعينَيها حتى الموت.
أعتقد أنه سوف يؤكِّد أهل الِمهنة بوجهٍ عام أنني لستُ شخصًا مُروِّجًا للأخبار المُثيرة ولا أجنح إلى فُقدان ثباتي الانفعالي في مَتاهات التخمينات النفسية الفيزيائية. ولكنني أؤكِّد على ما ذكرته آنِفًا بكلِّ رَويَّة، مُدركًا بالكامل لكلِّ ما ينطوي عليه.
ما سرُّ التأثير المؤذي الذي مارسَتْه هذه المرأة عبر عينَيها؟ وما سِجِلُّ أسلافها، وما سِرُّ الاستعداد الوِراثي في حالتها؟ وبأيِّ عمليةٍ غامضة في التطوُّر تستمدُّ نظرتها التأثير السُّمِّيَّ لبذور الخشخاش المُنوِّم؟ وكيف أصبَحَت المرأة الخشخاش؟ لا أستطيع حتى الآن الإجابة على هذه الأسئلة. وربما لن أكون قادِرًا على الإجابة عليها على الإطلاق.
ولكن إذا كانت هناك حاجةٌ إلى مزيدٍ من الإثبات لصِدق إنكاري لأيِّ دافع من جانبي ربما يكون قد قادني إلى حماية السيدة راتكليف عن طريق الحَنث باليمين، فيُمكنني أن أقول إن لديَّ الآن في حَوزَتي رسالة بخطِّ يدِها كتَبَتها بعد تَبرئتها، تعرِض عليَّ فيها أن تمنَحني ثروَتها ونفسها؛ فضلًا عن نُسخةٍ من ردِّي، الذي رفضتُ فيه العرْضَ بأسلوبٍ مُهذَّب.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

فصول العمل

الفصل الثاني
اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.