hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

حَقَّقَت رحلة الطيران التجريبية نجاحًا ساحقًا من جميع الجوانب؛ فقد نُقل الجهاز في
مَركبةٍ من ديمشِرشإلى جسربورفورد؛ حيث حلَّق على ارتفاع ثلاثمائة قدمٍ تقريبًا، واندَفَع
من هناك حتى كاد يعود إلى ديمشِرشمرةً أخرى، ثم غيَّر اتجاهه باندفاعٍ وسرعة، وارتفَع
مُجدَّدًا، وراح يدور، ثم هبط أخيرًا بسلامٍ في أَحَد الحقول التي تقع خَلْف نُزُل بورفورد
بريدج. وعند هبوطه، حدثشيءٌ غريب؛ فقد ترجَّل فيلمَر من فوق درَّاجته الثلاثية، وراح
يَتلمَّس طريقه في الخَندقِ الفاصل، ثم تَقدَّم ما يَقرُب من عشرين ياردةً نحو انتصاره،
وفَردَ ذِراعَيه في حركةٍ غريبة، ثم سَقطَ مَغشيٍّا عليه. وعندها، رأى الجميع علاماتِ الرعب
التي ارتَسمَت على مَلامِحه، وكذلك جميع علامات الإثارة التي لاحظوها خلال التجربة؛ وإلا
لَمَا تَذكَّروها لو لم تكن كذلك، لكنه حين دخل إلى النُّزُل، انتابَتهُ نوبةٌ غيرَ مُبرَّرة من النحيب
الهيستيري.
لم يَشهد هذا الحادثَ سِوى عشرين شخصًا على الأكثر، وقد كان مُعظمُهم من
البُسطاء الذين لم يَحظَوا بِفُرصةٍ في التعليم. أمَّا قائمة المُتعلِّمِين من الحضور، فلم تتمثَّل
إلا في الطبيب الجديد لبلدة نيورومني، الذي شَهِد الصعود، لكنه لم يشهد الهبوط؛ إذ إنَّ
حِصانه قد جَفَل من الجهاز الكهربائي الموجود على درَّاجة فيلمَر، وتعثَّر به في الطريق؛
وفَردَين من شرطة كِنت، كانا قد شاهَدا التجربة من عَربتهِما بصفةٍ غير رسمية؛ وكذلك
بائع كان يجول بين الحشد ببضاعته، مع سيدتَين تركبان درَّاجتَين. حضرالعرضاثنان
من المُراسِلِين؛ أحدهما يمثل صحيفة فولكستون، وقد كان صحفيٍّا من الدرجة الرابعة
وقد تكفَّل فيلمَر بدفع أَجْره الزهيد؛ فلطالما كان حريصًا على ،« الندوات » يختص بتغطية
التغطية الإعلامية المناسبة، ولمَّا توصَّل إلى طريقةٍ للحصول على تغطيةٍ إعلانية مناسبة
لجهازه، ها هو قد دفع أجرها. وأمَّا الآخر، فقد كان من هؤلاء الكُتَّاب الذين يمكنهم أن
يُضْفُوا على أكثر الأحداث مِصداقيةً وواقعيةً طابعًا خياليٍّا مُقنِعًا، وقد ظَهرَت روايته عن
الحدث، والتي كانت تحمل قَدْرًا من الجِدِّية وقَدْرًا من الطَّرافة، في صفحةٍ بإحدى الصحف
الشهيرة. ولِحُسن حَظ فيلمَر أنَّ ما يستخدمه هذا الشخص من طرقٍ ودِّيَّة، كان أكثر
إقناعًا؛ فقد ذهب ليعرضعلى بانهريست مقالةً إضافية عن الموضوع — وبانهريست هو
مالك صحيفة نيو بيبر، وهو أحد أَقدرِ الرجال في مجال الصحافة في لندن، ومن أكثرهم
افتقارًا إلى المبادئ الأخلاقية — وقد استغل بانهريست الموقف على الفور؛ فقد اختفى
المُراسِل من القصة بعد أن حصل على تعويض كافٍ بالطبع، وهو ما يثير الشكوك. أمَّا
بانهريست، فسوف يذهب بنفسه إلى ديمشرِش، بذَقَنه المزدوجة، وبَذلَته الرمادية المصنوعة
من القطن المُضلَّع، وبطنه وصوته وحركاته، متَّبعًا حاسَّته الصحفية التي لا مثيل لها. لقد
عرف حقيقة الأمر كلِّه من لمحةٍ واحدة، وعرف ما كان وما قد يُصبِح عليه.
وبظهوره في المشهد حقَّقَت أبحاث فيلمَر، التي ظلَّت طيَّ الكِتمان لفترةٍ طويلة، شُهرةً
، عظيمة، وكذلك حقَّق هوشُهرةً كبيرة على الفور. وإذا تصَفَّحتَ مِلفَّاتالجرائد للعام ١٩٠٧
فستجدصعوبةً في تصديق مدى الشُّهرة والانتشار الذي حظي به هذا الاكتشاف. إنَّ جرائد
شهر يوليو من ذلك العام لم تكن تعرف أي شيءٍ عن الطيران على الإطلاق؛ فكأنها تُقرِّر
بأنجع درجات الصمت أنَّ البشرلا يستطيعون الطيران ولن يستطيعوا الطيران وما ينبغي
لهم. أمَّا في شهر أغسطس، فقد اجتاحت الصحفَالعناوينُ التي تتحدث عن الطيران وفيلمَر
والمناطيد الهوائية والتكتيكات الجوية والحكومة اليابانية، ثم فيلمَر والطيران مُجدَّدًا، حتى
إنَّ هذه العناوين قد أطاحت بأخبار الحرب في يونان ومناجم الذهب في أبَر جرينلاند
من الصفحات الرئيسية. أمَّا بانهريست فقد قدَّم عشرةَ آلافِ جنيه، ثم خمسةَ آلافِ جنيه
إضافية، كما أنه قد خَصَّصمُختبَراتِه الخاصة المُذهِلة والشهيرة (بالرغم من أنها لم تكن
قد وَطِئَتها قَدمٌ حتى ذلك الوقت)، وكذلك عِدَّةَ أفدنةٍ من الأرضالواقعة بالقرب من مسكنه
الخاصعلى تلالصَري هيلز؛ للانتهاء من آلة الطيران القابلة للتنفيذ بحجمها الفعلي، وهو
ما سيكون أمرًا شاقٍّا ومُرهِقًا، كما هي عادة بانهريست وطريقته. وفي هذه الأثناء، وعلى
مَرأى الجُموع من صَفوة القوم في الحديقة المُسَوَّرة لمنزل بانهريست الموجود في مدينة
فولهام، كان فيلمَر يُقدَّم في الحفلات الأسبوعية التي تُقام في الحديقة لِتجريبِ نُموذج
الآلة وبتكاليفَ ضخمةٍ آتت ثمارها في النهاية. قدَّمَت جريدة نيو بيبَر إلى قُرائها صورةً
فوتوغرافيةً تذكاريةً جميلة لأوََّل مناسبةٍ من هذه المناسبات.
ومرةً أخرى، تُسعفنا خطابات آرثر هيكس وصديقه فانس.
لقد رأيتُ » : وفيها يكتب آرثر بِنبرةٍ لا تخلو من الحسَد المعهود من شاعرٍ أَفَل مَجدُه
فيلمر في أَوْج شُهرته، كان الرجل حليق الذَّقَن وقد مشَّط شَعَره وارتدَى ثيابًا على أحدثِ
طِرازٍ كمُحاضرٍ مَسائي بالمعهد الملكي؛ فقد كان يرتدي أحدث أشكال المَعاطفِ الرسمية
الطويلة وحذاءً طويلًا لامعًا، وقد شكَّل ذلك فيه مزيجًا استثنائيٍّا لرجلٍ يجمع بين العظمة
والرصانة من جانبٍ والخَجلِ الشديد من الظهور، وكأنه يُعرَّى بقسوة. كان وجهه شاحبًا
تمامًا وخاليًا من أي لون، ورأسه بارزًا إلى الأمام، بينما تدور عيناه الضيِّقتان بلونهما
الكَهرماني الداكن حوله، تنظران إلى ما حَقَّقه من شُهرة. كانت ثيابه تناسبه تمامًا، رغم
أنها كانت تبدو عليه كأنه قد ابتاعها جاهزة. كان لا يزال يتحدث بصوتٍ خفيض، لكن
يمكنك أن تتبيَّن في نبرته اعتدادًا شديدًا بالذات. وها هو يعود إلى مُؤخِّرة المجموعات تلقائيٍّا
حين يبدأ بانهريست في الحديث ولو لِلحظةٍ واحدة، وحين يمر من أمامه، تراه مسرعًا لاهث الأنفاس، قابضًا يديه الضعيفتَين الشاحبتَين. إنه يشعر بالتوتُّر، بل التوتُّر الفظيع، وهو المُكتشِف الأعظم في هذا العصر، بل المُكتشِف الأعظم على الإطلاق! وإنَّ أكثر ما يُدهِشك فيه هو أنه لم يتوقَّع ذلك بأي شكلٍ من الأشكال، ليسبهذا الشكل على أي حال. أمَّا بانهريست، المُضيفالمُتحمِّسلهذا الحفل الذي يحتفي بِصَيده الهائل الصغير، فهو يَتَجوَّل في كل مكان، وأقُسم أنه سيُحضِر الجميع إلى منزله قبل أن تنتهي عملية صنع المُحرِّك. لقد أركب فيه رئيس الوزراء بالأمس، وليُبارك لله قلبه؛ إذ لم يكن حجمه أكبر من اللازم، وذلك في أَوَّل محاولة. تخيل ذلك! فيلمَر! فيلمَر الغامضالمغمور، ها هو وقد أصبح فَخرَ العِلم والعُلماء في بريطانيا! تحتشد حوله الدُّوقات، وتَتجمَّع لديه النبيلاتُ ذواتُ الجمال والجرأة يتحدَّثنَ معه بأصواتهن الصافية الواضحة الجميلة — ألاحظتم كيف أنَّ السيدة العظيمة تُصبِح
««؟ أوه، أيها السيد فيلمَر! كيف تَمكَّنتَ من هذا » — ؟ أكثر فِطنةً هذه الأيام
إنَّ مُعظم الرجال حين يتملَّكهم التوتُّر لا يتمكَّنون من الإجابة، لكن يمكننا أن نتخيل
عَناءٌ قد بَذلتُه بسخاءٍ ودون توانٍ » : أنه سيُجيب في مثل هذه المُقابَلات بشيءٍ على غرار
«. يا سيدتي، وربما، لا أعرف، لكن ربما بعضالقُدرات المُميزة
حتى الآن، نجد أنَّ رواية هيكس والصورة التذكارية التي نشرتها صحيفة نيو بيبر،
تتسقان مع الوصف؛ ففي إحدى الصور تتمايل الآلة إلى الأسَفلِ نحو النهر، ويَظهَر تحتها
من خلال فَتحةٍ في أشجار الدَّرْدار بُرج كنيسةِ فولهام. وفيصورةٍ أخرى يظهر فيلمَر بجوار
بطاريات التوجيه، ويحُفُّ به كُل ما في الأرض من جمالٍ وعظمة، ومن خلفه بانهريست
وقد انضم إلى الصورة بهيئةٍ تَدُل على التواضُع غير أنها لا تنفي العزم والثبات، وقد
وقف في مقابل فيلمَر بشكلٍ غريب. وكذلك وَقفَت الليدي ماري إلكينهورن، والتي لا تزال
تحتفظ بجمالها بالرغم من الشائعات، وبالرغم من أعوامها الثمانية والثلاثين، تَحجُب من
بانهريست الكثير، وتنظر إلى فيلمَر بنظرةٍ مُتأمِّلة مُتفكِّرة، وقد كانت هي الشخصَالوحيد
الذي لم يُلقِ بالًا إلى الكاميرا التي كانت تلتقط صُورًا لهم جميعًا.
لقد أسهبتُ في ذِكر الكثير من الحقائق الظاهرية في القصة، لكنها مُجرَّد حقائقَ
ظاهريةٍ على أي حال، أمَّا جوهر الأمر فهذا مما نجهله تمامًا. ما شعور فيلمَر وقتها؟
ما مدى التوتُّر والقلق اللذَين كان يحملهما ذلك الجسم المُتدثِّر بهذا الِمعطَف العصري
الجديد؟ كان لا يزال يظهر في جميع الجرائد، سواءٌ كان ثمنها نصف بنس أم بنسًا واحدًا
أم ستة بنسات، وكذلك الجرائد الأغلى ثمنًا على حَدٍّ سواء، وقد عَرفَه العالَم بأَسْره على
لقد اخترع آلة طيرانٍ يمكن تنفيذها «. أَعظمُ مُكتشِف في هذا العصر وكل العصور » أنه
على أرضالواقع، ويوميٍّا فيصَري هيلز كانت الاستعدادات تَجري للانتهاء من تنفيذ هذه
الآلة بحجمها الحقيقي. وحين تم الانتهاء من تنفيذ هذه الآلة أصبَحتِ النتيجة البديهية
والحتمية هي أنَّ فيلمَر قد اختَرعَ آلة طيرانٍ وصَنعَها، وقد افترض الجميع دون أدنى
ذَرَّةٍ من الشك، ولا أي ثَغرة بين كل هذا الزَّخَم والتلهُّف أنه سيَصعَد على مَتْنها بكل فَخرٍ
وابتهاج، وسوف يُقلع بها ثم يُحلِّق.
غَيْر أننا نعرف الآن بكل وضوحٍ أنَّ الفَخر البسيط والابتهاج في مثل هذه الحالة لا
يتفقان على الإطلاقِ مع تكوين فيلمَر الخاصِّ، ولم يَخطرْ ذلك ببال أَحدٍ وقتها، لكنَّ تلك
هي الحقيقة. يمكننا الآن أن نُخمِّن ببعضالثقة أنَّه كان يُفكِّر في الأمَر أغلب النهار، ومن
الرسالة القصيرة التي أَرسلَها إلى طبيبه يشكو فيها من الأرََق المستمر، لدينا كل الحق في أن
نفترضأنه كان يَستَحوِذ على تفكيره في الليل. لقد كان يُفكِّر أنه بالرغم من مُقوِّمات الأمان
النظرية التي صمَّمها، فإنَّ الآلة لا تزال خطيرةً وغيرَ مُريحةٍ ومقلقة للغاية؛ فلا يمكنه أن
يركبها ويُحلِّق بها في الهواء على ارتفاعٍ يَقرُب من ألفِ قَدَم. لا بد أنَّ الفكرة كانت تطرأ
على ذهنه منذ البداية، منذ أن أصبح المُكتشِف الأعظم في هذا العصروكل العصور، وكان
يَتَصوَّر نفسه وهو يقوم بهذا وذاك، وهذا الفضاء الشاسع من تحته. ربما يكون قد نَظَر
إلى الأسَفلِ من فوق ارتفاعٍ شاهق، وهو في شبابه، أو سقط بشكلٍ مُريع، أو ربما يكون
قد اعتاد النوم على الجانب الخطأ، مما تَسبَّب له في كابوس السقوط المُزعِج الذي نعرفه،
وتَشكَّل لدَيه ذلك الرعب، الذي لا يُمكن أن نَشُك في قُوَّته الآن، ولو بمقدار ذَرَّة.
والواضح أنه لم يُفكِّر قَطُّ في ضريبة الطيران تلك حينما بدأ في إجراء أبحاثه؛ فقد
كانت الآلة هي غايتَه على أي حال، لكنْ ها هي الأمور قد صارت الآن أَبعدَ من غايته،
لا سيَّما ذلك الدوران المائد بالأعَلى. لقد كان مُكتشِفًا وها هو قد قام باكتشافه، لكنه ليس
بِطيَّارٍ، ولم يبدأ في إدراك أنَّهم يتوقَّعون منه الطيران بالآلة إلا الآنَ فحسب. وبالرغم من
أنَّ ذلك كله كان يدور في ذهنه، فإنه لم يُفصِح عن ذلك إلا في نهاية الأمر، أمَّا قبل ذلك
فقد كان يروح ويغدو على مُختبَرات بانهريست الرائعة، وقد سُلِّطَت عليه أضواء الشهرة
وظهر في الكثير من المُقابَلات. كان يرتدي ثيابًا جيدة ويأكل طعامًا جيدًا ويعيش في شقةٍ
أنيقة، مستمتعًا بتلك الوليمة الوفيرة من الشهرة والنجاح، وقد كانا في غاية الجودة والنقاء
والسطوع؛ لا سيما بعد أن قضىكل هذه السنوات من الحرمان؛ لذا فمن الطبيعي جدٍّا أن
يرغب في الاستمتاع.
بعد فترةٍ تَوقَّفَت اللقاءات الأسبوعية في فولهام. وفي أحد الأيام لم يَستجبِ النُّموذج
لِلحظةٍ لتوجيه فيلمَر، أو ربما تَشتَّت فيلمر إِثْر ما تَلقَّاه من إطراءِ كبيرِ الأساقفة. على أي
حال فقد اندَفعَت مُقدِّمة الآلة في الهواءِ بميلٍ أَكثرَ من اللازم قليلًا، بينما كان كبيرُ الأساقفة
يُفسِّر للجميع اقتباسًا باللاتينية، وذلك كما يليق بأسقفٍ تمامًا، وسَقطَت الآلة على طريق
وَقفَتِ الآلة لِثانيةٍ تقريبًا، .« حِصان كان يَجُر حافلة » فولهام على بُعدِ ثلاث يارداتٍ من
وقد كان ذلك مُدهِشًا، وربما كانت الآلة نفسها مُندهِشة كذلك، ثم تَكوَّمَت وتناثَرَت منها
بالطبع. « حِصان الحافلة » الشظايا، وقُتل
لم يحظَ فيلمَر بالجزء الأخير من إطراءِ كبيرِ الأساقفة، وقد وَقَف مُحَدِّقًا إلى اختراعه
وهو يختفي من مَدى بَصَره ومن مُتناوَل يدَيه. كانت يداه البيضاوان الطويلتان لا تزالان
تُمسِكان بآلته التي أصبَحَت بلا قيمةٍ ولا فائدة، أمَّا كبير الأساقفة فقد راح هو الآخَر يُحَدِّق
تجاه السماء بِتخوُّف لا يليق بأسقف.
ثم جاءصوت الاصطدام والصُّراخ والصَّخَب من الطريق لِيُخفِّف من توتُّر فيلمَر الذي
ثم جلس. «! يا إلهي » : همس
راح الجميع يُحَدِّقون بحثًا عن المكان الذي اختفَت فيه الآلة، أو تجدهم قد انطَلَقوا
مُسرعِين بالدخول إلى المنزل.
وبسبب ما حدث ازداد مُعدَّل التقدُّم في عملية صُنع الآلة الكبيرة بصورةٍ أكبر. كان
فيلمَر يدير عملية صُنع الآلة ويُشرف على كل شيء ببطء وحَذرٍ شديد، ودائمًا ما كان
ذِهنُه منهمكًا ومشغولًا بشكلٍ متزايد. كان يهتم بقوة الجهاز ومدى الأمان فيه اهتمامًا
استثنائيٍّا؛ فكلما ساوَرَته أدنى درجة من الشك، كان يُؤجِّل كل شيء حتى يمكن استبدال
ذلك الجزء الذي يَشُكُّ فيه. كان أكبر مساعدِيه، ويلكينسون، يُعبِّر عن غضبه أحيانًا من
بعض حالات التأجيل، التي كان يصرُّ على أنها تكاد تكون غيرضرورية؛ أمَّا بانهريست
فقد أكَّد في جريدته نيو بيبر ما يتمتَّع به فيلمَر من صبر وأناة، لكنه انتَقَد سلوكه بِشدَّةٍ إلى
زوجته؛ وأمَّا مساعده الثاني، ماك أندرو، فقد كان يستحسن حكمة فيلمَر، وكان يقول:
«. إننا نريد أن نَتجنَّب الفشل يا رجل. إنه مُحِقٌّ تمامًا »
وكلما سَنحَت أي فرصة كان فيلمَر يستفيضفي الشرح إلى ويلكينسون وماك أندرو،
ويُوضِّح لهما كيفية التحكم في كل جزءٍ من أجزاء آلة الطيران وتشغيله؛ وذلك حتى يكونا
على القَدْر نفسه من المهارة، بل ليكونا أكثر مَهارةً وجَدارةً في توجيهه في السماء، حين
تحين تلك اللحظة أخيرًا.
والآن يمكنني أن أتخيل أنه لو رأى فيلمَر أنه من المناسب أن يُحدِّد ماهية شعوره
تحديدًا في هذه المرحلة، وأن يتخذ موقفًا واضحًا بشأنصعوده، لكان قد تَجنَّب هذه الِمحنة
المؤلِمة بسهولةٍ أكبر. ولو كان ذهنه صافيًا، لكان قد تمكَّن من القيام بالكثير والكثير من
الأشياء؛ فلا شك في أنه لم يكن لِيجدَ صعوبةً في أن يعرضحالة قلبه الضعيف على طبيبٍ
مختص، أو أن يَدعَ أي مشكلةٍ مَعِدية أو رئوية أن تقف في طريقه — وذلك هو الاتجاه
الذي يُدهِشني أنه لم يَسلُكْه — وكذلك كان بإمكانه أن يَتَحلَّى بالشجاعة الكافية، وأن يُعلِن
أنه لن يقوم بالأمر. وبالرغم من أنَّ الرعب كان يستحوذ على عقله، فالواقع أنه لم يكن
يُدرِك ذلك بوضوحٍ على الإطلاق. أعتقد أنه ظَل يُخبِر نفسه طَوال هذه المدَّة بأنه حين يحين
الوقت سيجد أنه مُستعِد لِلفرصة. لقد كان كرجلٍ أصابه مَرضٌخطير، ويشكو بأنه ليس
على ما يُرام، غير أنه لا يزال ينتظر أن يَتَحسَّن في وقتٍ قريب. وأمَّا في هذه الأثناء فقد أَجَّل
الانتهاء من الآلة، وترك الافتراض بأنه سيطير بها ينتشر ويزدهر ويَتَرسَّخ بشكلٍ كبير،
حتى إنه صار يَقبَل عِباراتِ الإطراء المُبكِّرة عن شجاعته. ولأنه على ما هو عليه من التدقيق
الذي يصل إلى حَدِّ الوسوسة، فلا شك في أنه قد وجد كل هذا الثناء والتمييز والجلَبة التي
تدور بشأنه جرعةً مُبهِجة، حتى إنها تَخلُب الألباب.
غير أنَّ الليدي ماري إلكينهورن زادت من تعقيد الأمور بالنسبة له.
أمَّا عن بداية هذا الأمر، فقد وجد هيكس هذا الموضوع مَحلَّ تخمينٍ لا يَنضب. كانت
لما تتسم به من محاباةٍ نزيهة، ،« اللطف » البداية على الأرجح في أنها كانت تُعامِله بالقليل من
وربما استطاعت أن ترى بعينَيها، إذ وقف هو بارزًا يُوجِّه ذلك الوحش الذي اختَرعَه في
السماء، أنَّ به صفةً مميزة لم يكن هيكس أهلًا لأن يَكتشِفها. وبطريقةٍ ما لا بُد أنهما قد
حَظِيا بِلحظةٍ أتُيحت لهما فيها فرصةٌ كافية من العُزلة، وحَظِي المُكتشِف الأعظم بِلحظةٍ
تمتَّع فيها بالقَدْر الكافي من الشجاعة لِيُعبِّر فيها عن شيءٍ شخصي قليلًا، فيُغمغِم به أو
يتلفَّظه بسرعة. بالرغم من ذلك، فقد بدأ الأمر، ولا شك في أنه قد بدأ، وها هو قد أصبح
ملحوظًا لِمجتمعٍ قد اعتاد أن يجد في حياة الليدي ماري إلكينهورن وأفعالِها موضوعًا
للتسلية. وقد أدَّى ذلك إلى تعقيد الأمور؛ إذ إنَّ حالة الحب في عقلٍ غَضٍّوخامٍ كعقل فيلمَر
يجب أن تُعزِّز من تصميمه على مُواجَهة الخطر الذي يخشاه، ولو بدرجة معقولةٍ حتى
وإن لم تكن كافية، وكذلك أن تمنعه من مثل هذه المحاولات في التهرُّب، وهو الأمر الذي ما
كان لِيحدُث في أي ظروفٍ أخرى طبيعيةٍ ومُلائمة.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.