hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

وتَبقَى حقيقة مَشاعرِ الليدي ماري تجاه فيلمَر ورأيها فيه مَحلَّ التخمين؛ ففي سن الثامنة والثلاثين، ربما يكون المرء قد جمع الكثير من الحكمة، غير أنه لا يمتثل لها تمامًا، ويظل الخيال ناشطًا بما يكفي لِخَلق الفتن وتحقيق المُحال. لقد بدا لِعينَيها أنه رجلٌ مهم للغاية؛ وذلك أَمرٌ لا يُستهان به أبدًا، ثم إنَّه كان يتمتَّع بِقُدراتٍ مميزة في الهواء على أي حال؛ فقد كان لأدائه في تَجربةِ نُموذجِ الآلة لَمسةٌ تُشبِه في تأثيرها تَعويذةً سِحرية فعَّالة.
ولَطالَما أَظهَرتِ النساء مَيلًا مُفرِطًا في خيالهنَّ؛ فإذا رأين من رجل أنَّه يتمتَّع بقُدراتٍ معينة، فإنهنَّ يُسلِّمن بأنه يتمتَّع حتمًا بالقوة والنفوذ. وقد كان فيلمَر يتمتَّع بالكثير من المُميِّزات؛ فحتى ما يَفتقِر إليه في المظهر أو السلوك قد أصبح مَيزةً إضافية فيه. لقد كان رجلًا متواضعًا يكره الظهور، لكن حين يتطلَّب الأمر ظهور صفاته الحقيقية، فإنَّ المرء سيرى الكثير منه!
لقد رأتِ المرحومة السيدة بامبتون أن من الحكمة أن تُفضيإلى الليدي ماري برأيها في وقد ردَّت .« رَثُّ الهيئة » فيلمَر، وهو أنه إذا نظرنا إلى جميع الجوانب، فسنجد أنَّ فيلمَر رجلٌ إنه بلا شك رجلٌ مُختلفٌ » : عليها الليدي ماري بمُنتهى الهدوء والسكينة ورَباطة الجأش
بعد أن رَمقَتها السيدة بامبتون بنظرةٍ مُختلَسةٍ خَفيَّة، «. عن جميع مَن قابلتُهم من الرجال ورأت تلك السكينة، قَرَّرَت أنَّها قد أدَّت ما عليها وأَخبرتِ الليدي ماري بما يمكن أن تُخبرها به، لكنها قالتِ الكثيرَ والكثير لِغيرِها من الناس.
وفي النهاية بَزغَ فجر اليوم بهوادةٍ كما يليق به. إنه اليوم العظيم الذي وعد فيه بانهريست جمهوره، بل العالم بأكمله، بأنَّ البشر سيتمكَّنون أخيرًا من الطيران ومن
التغلُّب على أي مُعوِّقاتٍ تحول بينه وبين تحقيقه. وقف فيلمَر يُراقب بُزوغ الفجر، بل كان يُراقبه منذ الظلام قبل أن يَبزُغ الفجر؛ فشَاهَد النجوم وهي تخبو، لِترحل ألوانها الرمادية والوردية اللؤلُئيَّة، لِتحل مَحلَّها في النهاية سماءٌ زرقاءُ صافية لهذا اليوم المُشمِس الصحوِ الخالي من الغيوم. لقد شاهده من نافذة غُرفته الواقعة في الجناح الحديث البناء في منزل تيودور الذي يمتلكه بانهريست. وبينما راحتِ النجوم تتلاشىوراحت أشكال الأشياء والمَوادِّ تتَّضِح من بين هذا الظلام البَهيم، لا بد أنه قد رأى الاستعدادات الاحتفالية فيما وراء تكتُّلات أشجار الزان بالقرب من الجناح الأخضرفي الحديقة الخارجية بوضوحٍ أَكبرَ وأكبر:
المنصَّات الثلاث لِلمُتفرجِين المُميَّزِين، والسياج الخشبي الجديد المحيط بالحوشوالسقائف
والورش، وكذلك السواري الفينيسية والأعلام المُرفرِفة التي رأى بانهريست أنهاضرورية،
كل ذلك كان أسودَ ورَخوًا في ذلك الفجر الذي لمَّا يتخلَّلْه النسيم بعدُ، وبين كل هذه الأشياء
وَقَف جِسمٌ ضخم مُغطٍّى بالقماش المُشمَّع. كان هذا الجسم بمثابة نذيرٍ غريب ومُريع
للإنسانية، بداية ستُؤدِّي ولا شك إلى توسُّع وتغيُّر جميع شئون البشر والهيمنة عليها، أمَّا
بالنسبة إلى فيلمَر فمِن غير المحتمل أنه قد رأى فيه أَيَّ شيء سوى أملٍ شخصيٍّ ضئيل.
سَمِعه العديد من الأفراد وهو يخطو في ساعات الصباح الأولى؛ إذ كان المكان الفسيح يَعجُّ
بضيوف صاحبِ مؤسسة النشر، والذي كان قبل كلشيءٍ يفهم معنى الإقناع. وفي الساعة
الخامسة، إن لم يكن قبلها، غادر فيلمَر غُرفته وخرج من منزل النوم إلى الحديقة، التي
كانت قد دبَّت فيها الحياة وقتها؛ إذ انسدل عليها ضوء الشمس وغرَّدَت فيها الطيور
واستَيقَظَت السناجب والإِيَّل الأسمر. التقى به ماك أندرو الذي كان يستيقظ مبكرًا كذلك،
بالقرب من الآلة، وذهب الاثنان لِيُلقِيا عليها نظرةً معًا.
الأرجح أن فيلمَر لم يتناول أيَّشيء للإفطار، بالرغم من إلحاح بانهريست على ذلك.
وبعدها بوقتٍ قليل، وبينما بدأ الضيوف يتجمَّعون وقد زاد عددهم يبدو أنه قد عاد إلى
غرفته، ثم في العاشرة تقريبًا ذهب إلى منطقة الشُّجَيرات، وذلك على الأرجح لأنه رأى الليدي
ماري إلكينهورن هناك. كانت تسير جِيئةً وذَهابًا وقد انهَمكَت في الحديث مع صديقتها
القديمة من أيام الدراسة، السيدة برويس كريفين. وبالرغم من أنَّ فيلمَر لم يلتقِ السيدة
الأخيرة من قبلُ، فقد انضم إليهما وسار بجوارهما لبعض الوقت، وقد تخلَّل ذلك عِدَّة
فتراتٍ من الصمت، بالرغم من براعة الليدي ماري وتألُّقها. كان الموقف صعبًا بِحق، ولم
تتمكَّن السيدة برويسكريفين من التغلُّب علىصعوبته، وقد قالت فيما بعدُ بتناقُضٍذاتيٍّ
إنه يبدو لي رجلًا تعيسًا للغاية، وقد كان لدَيهشيء يقوله، ولَشَدَّ ما أراد » : شديد الوضوح
«؟ أن يُساعده أَحدٌ على قوله، وأنَّى لنا ذلك ونحن لا نعرف ما هو
في الساعة الحادية عشرة والنصف كانت المَنطِقة المُخصَّصة لِلجمهور في الحديقة
الخارجية مُكتظةً للغاية. وعلى طول السياج المُحيط بالحديقة الخارجية ظَهرَ سَيلٌ مُتقطِّع
من العربات، وانتَشَر المَدعوُّون إلى الحفل في الفِناء ومنطقة الشجيرات ورُكْن الحديقة
الداخلية، في سلسلةٍ من الدوائر المُزخرَفة البديعة، وكلهم يندفعون نحو آلة الطيران. سار
فيلمَر في مجموعةٍ من ثلاثة رجالٍ مع بانهريست، الذي كانت تفيضملامحه بالسرور بكل
جلاءٍ ووضوح، والسير ثيودور هِيكِل رئيس جمعية الملاحة الجوية. أمَّا السيدة بانهريست
فقد كانت تقِف بالقرب خلفَهم مع الليدي ماري إلكينهورن وجورجينا هيكِل ورئيس
الكهنة في ستييز. تحدَّث بانهريست وكان حديثُه فَخمًا وجَزلًا، وأمَّا ما كان يتخلَّله من
فجوات، فقد كان هيكِل يملؤها بعبارات المديح التي يُوجِّهها إلى فيلمَر، الذي كان يسير بينهما دون أن يتحدث بكلمةٍ واحدة، إلا حين يُضطَر إلى الردِّ علىشيءٍ ما. وبالخلف، كانت السيدة بانهريست تستمع إلى مُحادثةِ كبيرِ الكَهَنة المُتناسِقة الجميلة بدرجةٍ تُثير الإعجاب، غير أنها لم تستطع أن تمحو من خيالها صُورته وهو لا يزال راهبًا صغيرًا، وهي الصورة التي لم تَتبدَّد من خيالها، حتى بعد سَنواتِه العشر التي تَرقَّى خِلالها حتى وصل إلى هذا المَنصِب. أمَّا الليدي ماري، فقد كانت تُشاهِد هذا الرجل ذا الكتفَين المُتهدِّلتَين، ذلك الرجل الذي لم تلتقِ مِثلَه من قبلُ، وهي تثِق ثقةً تامَّة في تَحريرِ العالم من الأوهام.
حين ظَهرَتِ المجموعة الرئيسة من بينِ الباحة المُسيَّجة صَفَّق الحاضرون، لكنه لم يكن تصفيقًا جماعيٍّا ولا حتى حارٍّا. كانوا على مَسافةِ خمسين ياردةً من الجهاز، حينما التفَتَ فيلمَر فجأة لِتقديرِ المسافة بينه وبين السيدات من خَلفِه، وقَرَّر أن يُفصِح عن أَوَّل تعليقٍ له منذ أن غادروا المنزل. كانصوته مبحوحًا قليلًا، وقد قاطَع بانهريست في مُنتصَف جُملةٍ كان لا يزال يتحدث بها.
ثم تَوقَّف. «… أرى يا بانهريست » : تَوجَّه فيلمَر بحديثه إلى بانهريست
«! أجل » : أجابه بانهريست
«. أتمنى لو … أَشعُر بأنني لَستُ على ما يُرام » : بلَّلَ فيلمَر شَفتَيه وقال
«!؟ ماذا » : تجمَّد بانهريست فجأةً في مكانه وصاح
تَمكَّن فيلمَر من أن يَتحرَّك، لكنَّ بانهريست ظلَّ واقفًا في مكانه بلا حَرَاك، وتَحدَّث
إنه شعورٌ غريب. لا أدري، رُبَّما أَشعُر بالتحسُّن بعد قليل، وإلا فربما … » : فيلمَر قائلًا
«… ماك أندرو
«؟ أَتشعُر بأنك لَستَ على ما يُرام » : تَحدَّثإليه بانهريست وهو يُحدِّق في وجهه الشاحب
عزيزتي! فيلمَر يقول » : ثم تحدَّث إلى السيدة بانهريست التي كانت قد انضمَّت إليهم
«. إنه ليس على ما يُرام
إنه شعورٌ غريب » : تَحدَّث فيلمَر مُتعجِّبًا وهو يُحاول أن يَتجنَّب عينَي الليدي ماري
«. قليلًا. ربما يزول بعد قليل
سادت فَترةٌ من الصمت.
وشَعَر فيلمَر بأنه الشخصالأكثر انعزالًا في العالم.
على أي حال، لا بد أن نقوم بتجربة الإقلاع؛ فربما إن » : تحدَّث بانهريست قائلًا
«… استرحتَ قليلًا
«. أعتقد أنه الزِّحام » : تَحدَّث فيلمَر
سادت فَترةٌ أخرى من الصمت، واستَقرَّت عينا بانهريست على فيلمَر تَتفحَّصان
مَلامِحه، ثم راح يَتفقَّد بهما الجمهور الموجود في الباحة.
إنه لأمَرٌ مؤسف؛ لكن من الممكن … مساعداك. هذا » : تحدَّث السير ثيودور هيكِل
«… بالطبع إن كُنتَ تشعر بأنكَ لستَ على ما يُرام أو كُنتَ لا ترغب في القيام بذلك
«. لا أظن أنَّ السيد فيلمَر سيسمح بذلك على الإطلاق » : تحدَّثتِ الليدي ماري
إن لم تكن أَعصابُ السيِّد فيلمَر بِخير، فقد تُمثِّل المُحاوَلة » : تحدث هيكِل وهو يَسعُل
«… خطرًا عليه
فشَعَرت بأنها قد «. ما أَقصِده أنَّ الأمر خطيرٌ فحسب » : بدَأتِ الليدي ماري في الحديث
أَوضحَت وِجهةَ نظرها ووِجهةَ نظَر فيلمَر كذلك بدرجةٍ كافية.
أمَّا فيلمَر فقد راحت تتصارع بداخله دوافعُ مُتضارِبة، وتَحدَّث وهو ينظُر إلى الأرض:
ثم رفع عينَيه فالتقتا عينَي الليدي ماري، وأكمل حديثه: «. أَشعُر بأنَّ عليَّ النهوض »
ربما لو » : ابتَسَم لها بِشُحوب، ثم التَفَتَ إلى بانهريست قائلًا «. إنني أرُيد أن أنهض »
«… استرحتُ قليلًا بعيدًا عن الزحام والشمس
تَفضَّل إلى غُرفتي الصغيرة بالجناح » : وأخيرًا بدأ بانهريست يفهم الموقف، فتَحدَّث إليه
ثم اصطحب فيلمَر مُمسِكًا بذراعه. «. الأخضر، إنَّ الجو رطبٌ هناك
سأكون على ما يُرام في غُضون » : التفَتَ فيلمَر بوجهه إلى الليدي ماري مُجدَّدًا وقال
«… خمس دقائق. إنني في غاية الأسف
ثم استسلم «. لم أستطع أن أفُكِّر » : ابتَسمَتِ إليه الليدي ماري، ثم تحدَّث إلى هيكِل
بعدها لِقبضة بانهريست التي كانت تَشُدُّه.
وظَل الباقون يُشاهدونهما وهما ينحسِران عن النظر.
«. إنه رقيقٌ للغاية » : تحدَّثتِ الليدي ماري
والواقع أنَّ نقطةضعف رئيس «. إنه عصبيٌّ للغاية ولا شك » : ثم تحدَّث رئيسالكهنة
الكهنة هي أنه ينظر إلى الجميع، فيما عدا رجال الدين المُتزوجِين ولديهم عائلاتٌ ضخمة،
.« عصابيون » على أنهم
بالطبع؛ لا شك في أنه لا يَلزَم أن يطير بالجهاز بنفسه لأنه قد » : تحدث هيكِل
«… اختَرعَه
وكيف يُمكِنه أن » : تساءَلَت الليدي ماري بنبرةٍ تحمل بين طياتها بعض السخرية
«؟ يتجنب ذلك
لا شك في أنه سيكون مُصابًا كبيرًا أن » : وردَّت السيدة بانهريست بنبرةٍ أكثرَ حِدَّة
«. يَمرَضالآن
«. إنه لن يمرض » : تحدَّثتِ الليدي ماري وقد التقت عيناها بالتأكيد عينَي فيلمَر
ستكون بخير، كل ما تحتاج » : تحدَّث السيد بانهريست في أثناء سيرِهما إلى الجناح
إليه هو رَشفةٌ من البراندي. أنت تعرف أنه عليك أن تطير بنفسك؛ فسوف يكون الأمر
«… صعبًا إن ترَكتَ رجلًا آخر
أوه، إنني أرُيد أن أقوم بذلك بالتأكيد. سأكون بخير. إنني أشعر بأنني » : قال فيلمَر
«. أصبَحتُ مُستعِدٍّا بالفعل. كلَّا! أعتقد أنني سأتناول رشفةً من البراندي أَوَّلًا
أَخذَه بانهريست إلى الغرفة الصغيرة، وراح يبحث فيها إلى أن عثَر على دَورقٍ زجاجيٍّ
فارغ، فتناوَلَه وخرج لِيأتي بالشراب، ثم عاد بعد خَمسِ دقائقَ تقريبًا.
لا يمكن كتابةُ تاريخِ هذه الدقائقِ الخمس؛ فمِن وقتٍ إلى آخر، كان وجه فيلمَر يظهر
لِلموجودِين في أقصى شَرق المنصَّات بارزًا لِلمُتفرِّجِين وهو يُطِل من إفريز النافذة، ثم
يَنحسِر عن النظَر ويخبو. أمَّا بانهريست، فقد اختفى وهو يصيح خلف المنصَّة الكبيرة،
وها هو الساقي قد ظَهرَ الآن وهو يتجه إلى الجناح بِصينيةٍ في يده.
كان الجناح الذي استقر فيه فيلمَر أخيرًا عِبارةً عن حُجرةٍ صغيرة تحتوي على أثاثٍ
بسيطٍ أخضراللون ومكتبٍ قديم؛ إذ كان بانهريست يتسم بالبساطة في جميع شئون حياته
الخاصة، كما أنها كانت تحتوي على نقوشاتٍ صغيرة على طِراز مورلاند، ورَفٍّ من الكتب.
والواقع أنَّ بانهريست كان قد ترك فيها على سطح المكتب بُندقيةَ صيدٍ كان يصطاد بها
أحيانًا، وفي رُكن الرَّفِّ الموجود فوق المَوقِد تُوجد عُلبةٌ من الصفيح وبها ثلاثةُ خراطيشَ أو
أربعة. وبينما كان فيلمر يُمشِّط هذه الغرفة جِيئةً وذَهابًا وهو يُصارِع ذلك المَأزِق الذي
لا يُحتمل، سار أَولًا باتجاه البندقية الصغيرة الرفيعة المُقابِلة لنشَّافة الحبر، ثم اتجه إلى
العُنوان الأحمر المكتوب بخطٍّ رفيع وصغير:
«. طول ٢٢ »
لا بُد أنَّ الأمر قد تَبادَر إلى ذِهنه في الحال.
يبدو أنَّ أحدًا لم يربط بين الدويِّ وبينه، بالرغم من أنَّ البندقية قد أَصدَرَت صوتًا
عاليًا ولا شك؛ إذ انطَلقَت في مكانٍ ضيِّق، كما أنَّه كان هناك العديد من الأشخاصفي غرفة
البلياردو التي لا يفصله عنها سِوى حاجزٍ من الخَشب والجَص. وفورًا، كان الساقي الذي
يعمل لدى بانهريست قد فَتحَ الباب، واشتمَّ رائحة الدُّخان اللاذعة، وقد قال إنه عَرفَ ما
قد حدث؛ فقد خَمَّن الخَدَم الذين يعملون لدى بانهريست على الأقَلِّ شيئًا ما كان يدور في
عقل فيلمَر.
على مَدى هذا العصر العسير كان بانهريست يَتَصرَّف وفقًا لما كان يراه على أنه
التصرُّف السليم الذي يجب أن يقوم به الرجل في المَصائب الشِّداد، وقد نجح ضيوفه
بدرجةٍ كبيرة في ألا يُركِّزوا على الواقعة — بالرغم من ذلك فقد كان من المُحال أن يُخفوا
إدراكَهم لها بالكامل—وهي أنَّ المُتوفىَّ قد خَدعَ بانهريست تمامًا وبكل وضوح. وقد أخبرني
ويبدو ،« كجماعةٍ تتهرب من موقفٍ عسير » هيكس أنَّ الجمهور الموجود في الفِناء قد تَفرَّق
أنه لم يكن هناك شخصٌ واحد في القطار المُتجِه إلى لندن لم يكن يعرف منذ البداية أنَّ
لكنه كان من الممكن أن يُجرِّب » : الطيران أَمرٌ مستحيل على البشر، غير أنَّ الكثيرِين قد قالوا
«. ذلك، لا سيَّما بعد أن قطع كل هذا الشوط
وفي المَساء، عندما استطاع بانهريست أن يختلي بنفسه بعض الشيء، انهار وسَقَط
كرجلٍ من الفَخَّار. عَرفتُ بأنه راح يَنتحِب، ولا شك في أنَّ ذلك كان مَشهدًا جليلًا، ولا بد
أيضًا أنه قال إنَّ فيلمَر قد دَمَّر حياته، وعَرَضآلة الطيران بأَكملِها على ماك أندرو وباعها
ثم «… لقد كنت أفُكِّر » : إليه مُقابل نصف كراون. وقد قال ماك أندرو في نهاية الصفقة
توقَّف عن الكلام.
في الصباح التالي، ولِلمرَّة الأولى، كان اسم فيلمَر في جريدة نيو بيبر أَقلَّ بروزًا منه في
أي صحيفةٍ يومية أخرى. أمَّا بقية الصحف، فوَفقًا لِما تتمتَّع به من نزاهة، ووَفقًا لِدرجةِ
الفشل التام » تنافُسها مع نيو بيبر، فقد اختلف ما أَوْلَته من تركيزٍ للأمر، وصرَّحت بأنَّ
أمَّا في مقاطعة نورث .« انتحار المُخادِع » وكذلك نَشَرَت عن «. يلحق بآلة الطيران الجديدة
صَري، فقد خَفَّف من وَقْع استقبال هذه الأخبار وجودُ ظواهرَ جويةٍ غيرِ عادية.
على مدى الليل اشتبك ويلكينسون وماك أندرو في جدالٍ عنيف بشأن الدوافع الفعلية
التي أَدَّت بمديرهما إلى ارتكاب مثل هذا الفعل المُتهوِّر.
لا شك في أنَّ الرجل كان جبانًا وهَزيل الجسم، أمَّا فيما يتعلق بما » : تحدَّث ماك أندرو
أنجزه في العلم، فهو ليس بالمُحتال على الإطلاق، يا سيد ويلكينسون، وأنا مُستعِد لإثبات
هذا الرأي بالأدلة العملية، حالما استطعنا أن نحوز على بعض الخصوصية في هذا المكان؛
«. إذ إنني لا أثق على الإطلاق في كل هذه الدعاية التي تُحيط بالمُحاوَلات التجريبية
وتحقيقًا لتلك الغاية — بينما كان العالم بأكمله يقرأ عن الفشل المؤكَّد لآلة الطيران
الجديدة—عكفماك أندرو على آلة الطيران، وراح يُحلِّق ويقفز باقتدارٍ وبراعة على ارتفاعٍ
كبير فوق منطقتَي إبسوم وويمبلدون. أمَّا بانهريست، الذي استعاد الأمل والنشاط مرةً
أخرى، فبِغض النظر عن الأمن العام وغُرفة التجارة، فقد راح يُتابعه في تَجواله ويُحاول
أن يسترعي انتباهه؛ فراح يقود سيارةً مُرتديًا منامته — فقد تمكَّن من رؤية الإقلاع بينما
كان يفتح سِتارةَ النافذة في غُرفة نومه — إذ كانت تلك النافذة مُزوَّدةً مع غيرها من الأشياء
بكاميرا فيلم، عَرفَ فيما بعدُ أنها لا تعمل. أمَّا فيلمَر، فقد كان مُمدَّدًا على طاولة البلياردو
في الجناح الأخضر، وقد انسَدلَت على جسده مُلاءةٌ تُغطِّيه.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.