hindawiorg

شارك على مواقع التواصل

شعرت بعد ذلك بشيء بارد يلمس يدي، ففزعت فزعًا شديدًا، ورأيت بالقرب مني شيئًا
لونه قرنفلي باهت، بدا تمامًا كما لو كان طفلًا مسلوخ الجلد. كان ذلك المخلوق يشبه
حيوان الكسلان تمامًا من ناحية الملامح الوديعة والمنفرة في الوقت نفسه، والجبهة
المنخفضة، والإيماءات البطيئة. وما إن استفقت من الصدمة الأولى لتغير الإضاءة حتى
تبينت المكان من حولي على نحو أكثر وضوحًا. كان الكائن الصغير الشبيه بالكسلان
يقف محدقًا فيّ. أما مرشدي، فقد اختفى.
كان المكان ممرٍّا ضيقًا بين جدارين عاليين من الحمم البركانية، وعلى الجانبين أكوام
متشابكة من طحالب حصيرة البحر، وسعف النخيل، وأعواد الخيزران، التي كانت تميل
على الصخرة، مكونة أوكارًا وعرة مظلمة منيعة. بلغ عرضالسبيل المتعرج إلى أعلى بين
هذين الجدارين نحو ثلاثة أمتار بالكاد، وكانت تشوِّهه كتل من لباب الفواكه المتحللة
وغيرها من النفايات الأخرى التي تفسر الرائحة النتنة للمكان.
كان الكائن الصغير ذو اللون الوردي الشبيه بالكسلان لا يزال يرمقني بنظراته
عندما ظهر الرجل القرد ثانيةً عند منفذ أقرب وكر من تلك الأوكار، وأشار إليّ بالدخول.
وعند قيامه بذلك خرج وحش أحدب من أحد الأماكن البعيدة في ذلك الطريق الغريب،
وظهر ظله بلا ملامح قبالة الضوء الأخضر الموجود خلفه، وأخذ يحدق فيّ. ترددت —
وكدت أفر من حيث أتيت — ثم أمسكت بعصاي ذات المسمار الناتئ من منتصفها،
عازمًا على خوضتلك المغامرة حتى النهاية، وزحفت داخل منحدر السطح الصغير كريه
الرائحة خلف مرشدي.
كان مكانًا شبه دائري يشبه نصف خلية النحل، وكانت توجد كومة من الفواكه
المتنوعة وثمار جوز الهند وغيرها قبالة جدرانه الصخرية الداخلية. كانت هناك أيضًا
أخشاب وأوعية قاسية على الأرضية، ووعاء واحد على كرسي غير مصقول بلا ظهر أو
مسندين. ولم تكن هناك نار. وفي الجانب الأكثر ظلمة للكوخ جسم بلا ملامح يجلس في
عند دخولي. وقف الرجل القرد في «! مرحبًا » : الظلام، قال صاحبه بصوت خفيض أجش
الضوء الخافت عند مدخل الباب، وأنا أزحف إلى الجانب الآخر وأجلس القرفصاء ناولني
ثمرة جوز هند مشقوقة، فأخذتها وبدأت أقضمها بهدوء قدر الإمكان، بالرغم من فزعي
الشديد، والضيق غير المحتمل للوكر. وقف الكائن الصغير وردي اللون الشبيه بالكسلان
عند منفذ الكوخ، وجاء كائن آخر له وجه أسمر وعيون براقة ليحدق من فوق كتفه.
وأخذ مرشدي يثرثر «! مرحبًا » : صدر صوت من الكومة الغامضة المواجهة لي يقول
«. إنه رجل! إنه رجل! رجل، رجل حي، مثلي » : قائلًا
ثم صدر صوت خفيض أجش. أخذت «! اخرس » : قال الصوت المنبعث من الظلام
أقضم ثمرة جوز الهند وسط هدوء مثير. أنعمت النظر جيدًا في السواد المحيط بي، لكنني
كان «؟ إنه رجل. هل جاء ليعيش معنا » : لم أتمكن من تمييز أي شيء. كرر الصوت
صوتًا أجش ينطوي على شيء ما، شيء كنغمة توافقية تشبه الصفير صدمتني لغرابتها،
لكن لهجته الإنجليزية كانت جيدة على نحو غريب.
نظر الرجل القرد إليَّ كما لو كان يتوقع شيئًا، فأدركت أن ذلك الصمت كان
«. لقد جاء ليعيش معكم » : استفهاميٍّا. قلت
«. إنه رجل. لا بد أن يتعلم القانون » –
بدأت أميز آنذاك سوادًا داكنًا وسط الظلام، كان مُخططًا مبهمًا لجسم أحدب.
ولاحظت بعد ذلك ظلين لرأسين آخرين في مدخل المكان، فأحكمت قبضتي على عصاي.
كانت قد فاتتني ملاحظته ،« قل هذه الكلمات » : كرر الشيء القابع في الظلام بصوت أعلى
«. محظور السير على أربع؛ هذا هو القانون » : الأخيرة. كرر بنغم رتيب
وردد الكائنان ،« قل هذه الكلمات » : أصابني الارتباك، وقال الرجل القرد مكررًا
الموجودان عند المدخل ذلك بشيء من التهديد في صوتهما. أدركت أنه يجب عليّ تكرار
هذه العبارة السخيفة. وبدأت بعد ذلك أكثر الطقوس جنونًا. أخذ الصوت الصادر من
الظلام يرنم ترنيمة مجنونة، سطرًا تلو الآخر، وأنا والآخرون نردد وراءه. وأثناء ذلك
كانوا يتمايلون من جانب آخر، ويضربون بأيديهم على ركبهم، ففعلت مثلهم. تخيلت
أنني توفيت وانتقلت إلى عالم آخر. كان ذلك الكوخ المظلم والكائنات المبهمة الكريهة
التي كانت تظهر هنا وهناك عندما يومضالضوء عليها، تتمايل جميعها في تناغم، وهي
ترنم:
«؟ محظور السير على أربع؛ هذا هو القانون، ألسنا بشرًا »
«؟ محظور امتصاصالمشروبات بالفم؛ هذا هو القانون، ألسنا بشرًا »
«؟ محظور تناول اللحم أو السمك؛ هذا هو القانون، ألسنا بشرًا »
«؟ محظور تمزيق لحاء الأشجار بالمخالب؛ هذا هو القانون، ألسنا بشرًا »
«؟ محظور ملاحقة البشر الآخرين؛ هذا هو القانون، ألسنا بشرًا »
انتقلوا بعد ذلك من حظر تلك الأفعال الحمقاء إلى حظر ما رأيته حينذاك أكثر
الأمور التي يمكن تصورها جنونًا واستحالة وبذاءةً. أصُبنا جميعًا بشيء من الحماس
المرتبط بالإيقاع؛ فأخذنا نثرثر ونتمايل أسرع وأسرع، مرددين ذلك القانون المذهل.
ظاهريٍّا انتقلت العدوى من هؤلاء المتوحشين إليّ، لكن كان في أعماقيصراع بين الضحك
والشعور بالاشمئزاز. أخذنا نردد قائمة طويلة من المحظورات، ثم تحولت الأغنية إلى
وتيرة جديدة:
«. داره هي دار الألم »
«. يده هي اليد التي تصنع »
«. يده هي اليد التي تجرح »
«. يده هي اليد التي تداوي »
استمروا على هذا الحال مرددين سلسلة طويلة من تلك العبارات، التي كان أغلبها
أيٍّا كان هو. كان بإمكاني التخيل أنني أحلم، لكنني لم أسمع ،« حوله » مبهمًا، وتدور
غناءً من قبل في الحلم.
«. له وميض البرق … له البحر المالح العميق » : أخذنا نغني
ورد على ذهني تصور رهيب بأن مورو، بعد أن حوَّل هؤلاء البشر إلى حيوانات،
أدخل في عقولهم المتضائلة نوعًا من التأليه لذاته. لكن تنبهي للأسنان البيضاء والمخالب
«. له النجوم في السماء » . القوية المحيطة بي جعلني أتوقف عن التفكير في ذلك الأمر
وصلت تلك الأغنية أخيرًا إلى نهايتها، ولاحظت وجه الرجل القرد يتصبب عرقًا،
وتبينت أيضًا على نحو أكثر تحديدًا الجسم الموجود بالزاوية التي يصدر منها الصوت،
فقد اعتادت عيناي الآن على الظلام. كان حجمه حجم رجل، لكن بدا مغطى بشعر
رمادي باهت. من كان ذلك؟ من كانوا هؤلاء جميعًا؟ تخيل نفسك محاطًا بأبشع صور
المعاقين والمخبولين، وسوف تدرك شيئًا مما كنت أشعر به مع هذه الصور الإنسانية
المشوهة الكريهة المحيطة بي.
إنه رجل بخمسة أصابع، رجل بخمسة أصابع، رجل بخمسة » : قال الرجل القرد
«. أصابع … مثلي
محظور » : مددت يدي للأمام، ومال المخلوق الرمادي الموجود في الزاوية للأمام، وقال
ومد برثنًا مشوهًا تشوهًا غريبًا ليمسك «؟ الجري على أربع؛ هذا هو القانون، ألسنا بشرًا
بأصابعي. كان البرثن أشبه بحافر الغزال بما فيه من مخالب. كنت سأصرخ من الدهشة
والألم. اقترب بوجهه للأمام، وأنعم النظر في أظافري، وظهر في ضوء مدخل الكوخ،
فلاحظت ما جعل فرائصيترتعد من الاشمئزاز؛ فكان له وجه ليس ببشري ولا حيواني،
بل كتلة كثة من الشعر الرمادي، وثلاثة تقوسات ظليلة تميز العينين والفم.
«. لديه أظافر صغيرة، هذا جيد » : قال ذلك المخلوق المروع بلحيته كثيفة الشعر
ألقى بيدي تاركًا إياها من بين يديه، ووجدت نفسيعلى نحو غريزي أمسك بعصاي.
«. نتناول الجذور والأعشاب، هذه مشيئته » : قال الرجل القرد
أنا الناطق بالقانون. يأتي إلى هنا كل وافد جديد ليتعلم » : فقال الكائن الرمادي
«. القانون. أجلس في الظلام، وأنطق بالقانون
«. هو كذلك بالفعل » : قال أحد الوحوش الموجودين عند المدخل
«. ومن يخالف القانون عقابه عظيم. ولا أحد يهرب منه » –
«. لا أحد يهرب » : ردد البشر الحيوانات وبعضهم يرمق بعضًا بنظرات خاطفة
لا أحد، لا أحد يهرب. ارتكبت خطأ صغيرًا ذات مرة؛ أخذت » : قال الرجل القرد
أثرثر على نحو غير مفهوم، وتوقفت عن الكلام. لم يفهمني أحد. كُويت بالنار، ووُسِمْت
«! بها في يدي. إنه عظيم، إنه صالح
«. لا أحد يهرب » : قال المخلوق الرمادي القابع في الزاوية
لا أحد » : وردد البشر الحيوانات، وهم ينظرون بعضهم لبعض بطرف أعينهم
«. يهرب
لكل شخص رغبة في فعل أمر سيئ. ماذا » : قال الكائن الرمادي الناطق بالقانون
ترغب أنت. لا نعلم، لكننا سنرى. فالبعض يرغب في ملاحقة الأشياء التي تتحرك،
والمراقبة، والتسلل خلسة، والانتظار، والانقضاض، والقتل، والعض؛ العض بوحشية
وشراسة لمصالدماء … هذا أمر سيئ. محظور ملاحقة البشر الآخرين؛ هذا هو القانون،
«؟ ألسنا بشرًا؟ محظور تناول اللحم أو السمك؛ هذا هو القانون، ألسنا بشرًا
«. لا أحد يهرب » : قال حيوان أرقط يقف عند المدخل
لكل شخص رغبة في فعل أمر » : عاد الكائن الرمادي الناطق بالقانون للحديث
«. سيئ. البعضيرغب في تمزيق الجذور بأسنانه ويديه، وتشمم الأرض… هذا أمر سيئ
«. لا أحد يهرب » : قال الرجال الواقفون عند الباب
البعض يرغب في تمزيق الأشجار بالمخالب، في حين ينبش آخرون قبور الموتى. » –
البعض يرغب في العراك بالجباه أو الأقدام أو المخالب، وآخرون يعضون فجأة دون أي
«. داعٍ، والبعض يحب القذارة
«. لا أحد يهرب » : قال الرجل القرد، وهو يحك ربلة ساقه
«. لا أحد يهرب » : وردد الكائن الصغير ذو اللون الوردي الشبيه بالكسلان
العقاب شديد ومحتوم، لذا عليك تعلم القانون. » : عاود الكائن الرمادي الحديث
ثم بدأ — على نحو يفتقر إلى التحكم بالذات — في التغني بترنيمة ،« قُل هذه الكلمات
القانون الغريبة ثانيةً، وأخذت في الغناء والتمايل من جديد مع تلك الكائنات. أصابتني
تلك الثرثرة — إلى جانب الرائحة النتنة للمكان — بالدوار. لكنني واصلت ثقةً مني في
محظور السير على أربع؛ هذا هو القانون، » . أن أجد عما قريب فرصة ما لتطور جديد
«؟ ألسنا بشرًا
وصلت الضوضاء التي كنا نحدثها درجة لم ألحظ معها أي ضجيج بالخارج، إلى
أن دفع أحدهم — أظنه كان أحد الرجلين الخنزيرين اللذين سبقت لي رؤيتهما — برأسه
من وراء الكائن الصغير ذي اللون الوردي الشبيه بالكسلان، وصاح بشيء متحمسًا. لم
أتمكن من فهم ما قال. اختفى في التو من كانوا يقفون عند مدخل الكوخ، واندفع الرجل
القرد إلى الخارج، ولحق به الكائن الذي كان يجلس في الظلام — لم ألاحظ حينذاك
سوى أنه كان ضخمًا وأخرق ومغطى بشعر فضياللون — ولم يبق سواي في المكان.
قبل أن أصل إلى الفتحة سمعت نباح أحد كلاب الصيد.
وفي غضون لحظة أخرى كنت أقف خارج الكوخ والعصا — التي نزعتها من
الكرسي — في يدي، وكل عضلة بجسمي ترتعد. رأيت أمامي الظهور القبيحة لنحو
عشرين من هؤلاء البشر الحيوانات، ورءوسهم المشوهة شبه مختفية بين عظام أكتافهم.
كانوا يلوحون بأيديهم على نحو متحمس، في حين برزت وجوه شبه حيوانية من الأكواخ
مستفسرة عما يحدث. عندما نظرت إلى حيث ينظرون، رأيت مورو بعبوسه ووجهه
الشاحب القبيح يأتي من بين السديم تحت ظلال الأشجار الموجودة في نهاية الممر المحتوي
على الأوكار. كان مورو يمسك بظهر كلب الصيد الذي يثب، ومن ورائه مونتجومري على
مسافة قريبة منه، يحمل مسدسًا في يده.
وقفت لحظة مدهوشًا من شدة الرعب.
استدرت، فرأيت الممرات خلفي مسدودة بحيوان آخر ضخم رمادي وله وجه كبير
وعينان صغيرتان براقتان، كان يتقدم نحوي. نظرت حولي، ورأيت عن يميني، وعلى
بعد نحو ستة أمتار أمامي، فجوة ضيقة في جدار صخري يميل فيه شعاع ضوئي
فالتفت «! قف! أمسكوا به » : بين الظلال. عند سيري سريعًا إلى ذلك المكان صاح مورو
ناحيتي وجه واحد من بين هذه الوجوه، ثم تلاه آخرون. كانوا أغبياء لحسن الحظ.
دفعت بكتفي مسخًا دميمًا كان يستدير ليرى ما يعنيه مورو، وقذفت به للأمام
نحو مسخ آخر. شعرت بيديه تتحركان نحوي محاولًا الإمساك بي، لكنه أخفق. اندفع
أيضًا الكائن الصغير ذو اللون الوردي الشبيه بالكسلان نحوي، فجرحته جرحًا بليغًا
في وجهه القبيح بالمسمار الناتئ من عصاي. وفي خلال دقيقة أخرى كنت في طريقي
صاعدًا ممرٍّا جانبيٍّا عاليًا أشبه بمدخنة مائلة تؤدي إلى خارج الوادي. سمعت نباحًا
ظهر المخلوق ذو الوجه الرمادي «! اقبضوا عليه! أمسكوا به » : خلفي، وأحد يصيح
تسلقت «! استمر! استمر » : خلفي، وحشر جسمه الضخم في الصدع. أخذوا يصيحون
بجهد الصدع الضيق في الصخرة، وخرجت إلى الكبريت الذي يغطي الجانب الغربي
لقرية البشر الحيوانات.
كنت سعيد الحظ بدخولي إلى تلك الفجوة، فالطريق الضيق المنحدر بميل إلى أعلى
اعترضبالتأكيد سبيل من كانوا يطاردونني ويقتربون مني. ركضت بالمساحة البيضاء،
ثم نزلت من منحدر شديد الانحدار عبر مجموعة متناثرة من الأشجار، ووصلت إلى
أشجار خيزران طويلة ممتدة على ارتفاع منخفض. شققت طريقي عبر تلك الأشجار إلى
شجيرات كثيفة مظلمة كانت سوداء وغضَّة تحت قدمي. بينما كنت أندفع بين أشجار
الخيزران إذ ظهر أول من كانوا يطاردونني من الفجوة. أخذت أسير بين تلك الشجيرات
بضع دقائق. وسرعان ما ملأت صيحات التهديد المكان من حولي. وسمعت ضجيج من
يطاردونني في الفجوة الموجودة على الشاطئ، ثم صوت تحطم أشجار الخيزران، ومن
حين لآخر كنت أسمع صوت انكسار أحد فروع الأشجار. كان بعض تلك الكائنات يزأر
كحيوانات ضارية مهتاجة. سمعت كذلك مورو ومونتجومري يصيحان في الاتجاه نفسه.
استدرت إلى أقصى اليمين. وبالرغم من كل ما يحدث بدا لي أنني سمعت مونتجومري
يصيح فيّ لأنجو بحياتي.
صارت الأرض تحت قدمي طينية خصبة؛ لكنني كنت يائسًا، فخضتها مسرعًا
ليصل الطين إلى ركبتيّ، ثم وصلت إلى طريق متعرج بين أشجار خيزران طويلة. اختفى
صوت الملاحقين عن يساري. وفي إحدى البقاع اندفعت أمامي ثلاثة حيوانات غريبة
وردية اللون تشبه القطط في حجمها. امتد ذلك الممر إلى أعلى عبر مكان مفتوح آخر
مغطى بنباتات بيضاء، ودخلت في مأوى من أشجار الخيزران مرة أخرى.
صار الطريق فجأة موازيًا لحافة فجوة مسوَّرة شديدة الانحدار ظهرت دون سابق
إنذار كالخنادق الموجودة في المتنزهات الإنجليزية، تبدت على نحو مباغت غير متوقع.
ظللت أركض بكل ما أوتيت من قوة، ولم ألاحظها مطلقًا إلى أن وجدت نفسي أطير في
الهواء.
سقطت على ساعديّ ورأسي بين الأشواك، وعندما نهضت كان شق بأذني ونزيف
بوجهي. سقطت في وادٍ شديد الانحدار مليء بالصخور والأشواك، ويخيم عليه ضباب
غائم يتدافع حولي في صورة خيوط دخانية، وبه نهير ضيق ينبعث منه ذلك الضباب
ويجري متعرجًا في المنتصف. تعجبت من وجود ذلك الضباب الرقيق أثناء وهج النهار،
لكن لم يكن لدي من الوقت ما يسمح لي بالوقوف لأتساءل. توجهت يمينًا نحو النهير،
آملًا في أن أصل إلى البحر من هذا الاتجاه، ومن ثم تُتاح لي الفرصة لإغراق نفسي. ولم
أكتشف إلا لاحقًا أنني قد أضعت عصاي ذات المسمار الناتئ عند سقوطي.
صار الوادي في ذلك الوقت أكثر ضيقًا. خطوت بلا مبالاة إلى النهير، ثم قفزت
خارجه ثانيةً بأقصى سرعة، إذ كاد الماء يغلي. لاحظت أيضًا طبقة رقيقة من الزبد
الكبريتي تطفو على سطح مياهه المتموجة. ظهر بعد ذلك مباشرة منعطف في الوادي
وأفق أزرق غير واضح. كانت أشعة الشمس تومضعلى سطح البحر ببقع لا حصرلها.
رأيت نهايتي أمامي، لكن جسمي كان ساخنًا، وكنت ألهث، ووجهي متورد بالدم الدافئ
الذي كان يسري بلطف في عروقي. تملكني في تلك اللحظات شعور بالغبطة لابتعادي
عمن يلاحقونني. ولم أشعر حينها بالرغبة في التقدم وإغراق نفسي، فأخذت أحدق في
الطريق الذي أتيت منه.
أنصت، فلم أسمع سوى طنين البعوض وصرير بعض الحشرات الصغيرة التي
كانت تثب بين الأشواك. فيما عدا ذلك كان الهدوء يخيم على المكان. سمعت بعد ذلك
صوت نباح أحد الكلاب، كان خفيضًا للغاية، وثرثرة وتمتمة، ثمضربة سوط وأصوات
أخرى، أخذت تعلو، ثم تخبو ثانيةً. أخذت تلك الضوضاء تبتعد باتجاه النهير، ثم
اختفت. وتوقفت المطاردة بعض الوقت.
لكنني أدركت حينذاك قدر المساعدة التي يمكن أن آمل في الحصول عليها من البشر
الحيوانات.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.